27‏/01‏/2010

فرنسا ومؤتمر سلام الشرق الأوسط

فرنسا ومؤتمر سلام الشرق الأوسط
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
www.drkhalilhussein.blogspot.com

مفارقة سياسة فرنسا الخارجية دوام اهتمامها بقضايا الشرق الأوسط، وتحديدا ما يتعلق بلبنان وسوريا،رغم عدم قدرتها الفعلية والعميلة الابتعاد عن إستراتيجية الولايات المتحدة في هذه المنطقة.ذلك يعود للعديد من الاعتبارات والأسباب.ففي وقت كان المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط جورج ميتشل، ينهي جولته في الشرق الأوسط بفشل موصوف،أو بالأحرى بتملص أمريكي من الوعود السابقة،كان الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي،يعلن عن نية باريس الدعوة لعقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط خلال استقباله رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري،فما هي حدود القدرة الفرنسية؟وما هي خلفيات الإعلان في هذه المرحلة؟ وهل بالإمكان الانطلاق في بيئة مفاوضات عربية إسرائيلية في غياب شركاء سلام حقيقيين؟
في الواقع لم تؤدِ سلسلة الجولات الأمريكية التي قام بها ميتشل،إلى شيء يذكر في سنة اوباما الرئاسية الأولى،رغم الزخم الإعلامي المعلن باتجاه تحريك المفاوضات العربية "الإسرائيلية".فاقتصر الأمر على المسار الفلسطيني "الإسرائيلي" الذي كان مجمل السقف الأمريكي إقناع تل أبيب بوقف عمليات الاستيطان وغيرها من القضايا ذات الصلة بآلية المفاوضات لا المشاريع والاقتراحات التفاوضية. في مقابل ذلك بدت السياسة الخارجية الفرنسية جزءا من السياسة الأمريكية غير القادرة على تمييز نفسها أو إعطائها نكهة سياسية مختلفة في الفترات الماضية.
إن القراءة الدقيقة للموقف الفرنسي خلال الفترة السابقة، تظهر محاولة لحجز موقع في الساحتين اللبنانية والسورية دون الدخول في تفاصيل ما يتعلق بالصراع العربي "الإسرائيلي" ومفاوضاته المقترحة، المباشرة وغير المباشرة.ويعود ذلك لاعتبارات كثيرة من بينها، ترك الوساطة التركية تأخذ دورها بين سوريا و"إسرائيل" بصرف النظر عن حدود نجاحاتها وإمكاناتها العملية،إضافة إلى تهيئة الوضع اللبناني داخليا وخارجيا لإمكانية الدخول في بيئة المفاوضات لاحقا. في المجال الأول من الواضح أن الوساطة التركية في المفاوضات غير المباشرة غير قادرة على الوصول إلى نتائج محددة بفعل حجم الدور المعطى لها إقليميا وقدرته على فتح ثغرات في جدار الأزمات الكبرى.أما في الشأن الثاني فقد تمكن لبنان من إغلاق العديد من الملفات الداخلية ويبدو انه بات مهيئا للدخول في مشاريع إقليمية في ظل حراك قابل للبناء على نتائجه إذا نضجت ظروفه وشروط نجاحاته.
إن إطلاق المبادرة الفرنسية باتجاه مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط ينبع من الرغبة الفرنسية بإكمال ملفات عدة من بينها، الرعاية الناجحة لإعادة دمشق في موقعها الطبيعي المفترض إقليميا ودوليا،وقد ساعد في ذلك وبشكل أساسي عمليا تعثر الحوار الأمريكي السوري في بعض المفاصل،ما جعل باريس ودمشق تقرأان في كتاب واحد وبخاصة في الملفات ذات الاهتمام المشترك.علاوة على ذلك التأثير الفرنسي في مستوى العلاقات اللبنانية السورية المستجدة على قاعدة احتواء وإعادة تموضع القوى السياسية اللبنانية باتجاه دمشق،ما يوحي بأن إعادة ربط المسارين التفاوضيين اللبناني والسوري مع "اسرائيل" بات ممكنا ولو بحدود وشروط وآليات جديدة تراعي بعض المتغيرات الداخلية اللبنانية والإقليمية.
وإذا كانت هذه المعطيات واضحة،فهل يمكن البناء عليها والمضي بها إلى نهايات محددة المعالم؟ في واقع الأمر ثمة جزء كبير من البيئة السياسية الإقليمية يمكن أن تساعد في ذلك،على قاعدة إعادة النظر "الإسرائيلي" بالدور التركي بعد انفلات العلاقات التركية "الإسرائيلية" من عقالها مؤخرا واقتراب أنقرة من دمشق بشكل لافت،ما يمهّد السبل للمبررات الفرنسية للدخول في هذا الملف،في وقت تراجع الزخم الأمريكي بشكل واضح، وفي ظل حديث بأن جولة ميتشيل في المنطقة كانت وداعية الطابع والكلام عن آليات وبيئة جديدتين تحضر لهما واشنطن قريبا لملفات المنظفة.
وعلى الرغم من هذه الأرضية التي تبدو وردية الآفاق والآمال،فثمة شروط أخرى لانطلاقها بشكل ناجح،فتعليق الآمال على الدور الفرنسي وقدرتها على استثمارها بشكل ايجابي ليس كافيا،بخاصة إذا تمّت مراجعة السوابق الفرنسية في هذا المجال؛فحدود القدرة الفرنسية لا تعدو كونها دورا في إطار إستراتيجية أميركية ،الأمر الذي لم تتمكن باريس من تغييره ليصيح فاعلا وقادرا على فرض استراتيجيات محددة وواضحة المعالم.من هنا إن الدعوة لمؤتمر سلام وان ظهرت بعض شروطه،فان القسم الآخر من شروطه لا تبدو بيد الاليزيه تحديدا،ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر الموقفين الأمريكي والإسرائيلي تحديا.
فإذا كان موقف الإدارة الأمريكية منفتح باتجاه فسح المجال لباريس أن تجتهد في مقترحاتها ،إلا أن التجارب الأمريكية في هذا المجال غير مشجعة عندما تصل الأمور إلى مفاصل حاسمة،علاوة على ذلك إن الموقف "الإسرائيلي" غير واضح حتى الآن من مجمل مفاوضات السلام المقترحة،رغم الحديث عن أن المواقف "الإسرائيلية" المتشددة في ظل حكومة نتنياهو ووزير خارجيته ليبرمان لا يعدو كونه رفعا للسقف السياسي التفاوضي في حال المضي به،
إن الرغبة الفرنسية تحتاج إلى العديد من قواعد الدعم الإقليمية والدولية، لتأمين إطلاقها الناجح قبل الحديث عن مستوى نجاحاتها وفشلها.ومن بينها مثلا الانطلاق من البيئة التي انطلق منها مؤتمر مدريد وما ترك من مندرجات لاحقة تحفظ على الأقل المتطليات السورية في حدها الأدنى لكي لا يصار إلى تصوير الموضوع وكأنه حراكا سياسيا في الوقت الضائع الذي تستهلكه بعض ملفات المنطقة.علاوة على وضع حدود واضحة لعلاقة المسارين اللبناني والسوري في المفاوضات،لجهة وضع الضوابط والآلية لتي تحفظ على الأقل مستقبلا، النتائج المحتملة والتي ينبغي أن تكون مترابطة ومتزامنة لا منفصلة ومتباعدة.
إن جدية وإمكانية النجاح يمكن أن تكونا متوفرتين في حال صَدَقت النيات الأمريكية و"الإسرائيلية"، وعدم اعتبارها أو استغلالها في ملفات أخرى،كوسيلة لإغراء سوريا بهدف إبعادها مثلا عن إيران أو دفعها لاتخاذ مواقف محددة من أحزاب المعارضة اللبنانية وبالتحديد من المقاومة.وبالمقارنة والمقاربة بين ظروف بداية التسعينيات من القرن الماضي عند انطلاق مؤتمر مدريد واليوم،ربما تكون الظروف متشابهة ومتقاطعة في بعضها،ومتباينة ومتباعدة في بعضها الآخر؛الأمر الذي ينبغي التدقيق والتمحيص في كافة شروط ومعطيات المبادرة الفرنسية التي لا تعدو كونها حتى الآن نوع من أنواع جس النبض السياسي لأميركا و"إسرائيل "والجواب عندهما تحديدا وليس في أي مكان آخر.
إن سوابق المشاريع والمقترحات بشأن مؤتمرات السلام في الشرق الأوسط كثيرة ومتعددة ومتنوعة،وهي في العادة مرتبطة بمحطات الفشل المتكررة التي حدثت سابقا،علاوة على كونها كانت في معظمها عدة سياسية لتقطيع الوقت بهدف تمرير ملفات إقليمية ساخنة.فكيف يمكن استيعاب وتصديق هذه الدعوات في وقت لا زالت اسرائيل تحضِّر للاعتداء على لبنان وغزة وإيران،فهل تكون هذه الدعوة من باب التمويه أو التأجيل أو حتى تفعيل هذه المعطيات؟ إن الشرق الأوسط بكل ملفاته ومكوناته بات جاهزا للانفجار،فهل تستدرك باريس في اللحظة الأخيرة وتنزع فتيله قبل فوات الأوان؟

18‏/01‏/2010

اسرائيل تعتذر ونحن العرب ننتظر

اسرائيل تعتذر ونحن العرب ننتظر
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية


إهانة السفراء في الأعراف والقوانين الدبلوماسية،توازي في جرأتها قرارات قطع العلاقات الدبلوماسية وإعلان الحروب،وما جرى بين أنقرة وتل أبيب،يبدو إصرارا تركيا على الدفع بما أوتي لها من القوة للرد على جملة مواقف وأوضاع تعرّضت لها ليس في هذه الحادثة فقط، بل تعود جذورها أيضا للعلاقة الدونية التي يتعاطى بها الغرب مع الأتراك كقومية في الظاهر وإسلاميا في الباطن.وربما جاءت إهانة السفير التركي لتتوج أزمة عمرها من عمر وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة حيث لم تتوانى أنقرة، على إظهار موقعها الطبيعي المفترض في شرق حكمته لقرون، هربا من غرب لم يتحملها عقود كمشروع.
وعلى جسامة الخطأ الدبلوماسي الفادح الذي ارتكبته "اسرائيل"، فانه لا يوازي شيئا يذكر عما فعلته بالعرب والمسلمين،فأين نحن وماذا ننتظر؟كراماتنا ذُلت وأرضنا استبيحت وحقوقنا انتهكت ،وما زلنا ننتظر وساطة من هنا أو هناك، أو اقتراحا أو مشروعا يتكرم علينا أحد به، أو توصية أو قرارا تتكرم هيئة دولية علينا به.
آلاف الاعتداءات الموصوفة نفذتها "اسرائيل" ،ومئات القرارات صدرت،وعشرات الوساطات قُدمت،ولم يرمش الجفن السياسي الإسرائيلي،بل ظلت العيون "الإسرائيلية" شاخصة وقحة باتجاه العرب ومقدساتهم،وفي المقابل لا زلنا ننتظر عشرات السنوات،ولم نفكر مرة واحدة كيف ينبغي التعامل مع قضايانا.
في المقابل، لم تعط أنقرة الفرصة سوى لساعات حتى كان الاعتذار "الإسرائيلي" مدويا، فماذا ينقصنا،أهي النخوة الموصوفون أصلا بها،أم الكرامة التي نتغنى بها، أم العزة التي نغرق بأحضانها. قبل عام بالتحديد علا صوت رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان في منتدى دافوس استنكارا واحتجاجا على السكوت العربي قبل الغربي على ما كانت ترتكبه اسرائيل من مجازر في غزة، فماذا يخبئ العرب "لإسرائيل" التي تحُضِّر علنا عدوانا جديدا آخرا على غزة،هل سيتجرأ العرب هذه المرة وينبثون ببنت شفة، أم سينتظرون غيرهم كالعادة للصراخ عنهم.انه فعلا زمن الانتظار!
لا شك إنها هزيمة دبلوماسية مدوية لإسرائيل،توازي في أهميتها ودلالاتها،هزيمتها العسكرية في لبنان عام 2006.في كلا الحالتين سجلت المقاومة في لبنان سابقة الانتصار الأول الموصوف على أكبر جيوش المنطقة، وفي الثاني تمكّنت أنقرة من تسجيل سابقة دبلوماسية هي الأولى من نوعها ترضخ لها اسرائيل بهذه الطريقة وبالشروط والكيفية.
ولنكن منصفين، لجهة هبَّات المطالبة بالاعتذار ولكن بصورة مقلوبة، فقبل عام أيضا هبَّ العرب بكلهم وكلكلهم،طالبين الاعتذار من بعضهم،على الإساءات التي ارتكبوها بحق بعضهم وعلى حساب قضاياهم، فدبّت النخوة والعزة والكرامة أيضا،لأدق التفاصيل المملة في قضاياهم القطرية ونسوا قضاياهم المركزية،فلسطينهم احتلت وقدسهم دُنِست وشعوبهم جُوزِرت، وكرامات ابنائهم انتهكت، ولا زلنا نحن العرب ننتظر الغيث الذي نبعده نحن بأيدينا.
قبل قرن من الزمن،كان الأتراك يحكمون الشرق كله،وكنا نغرق نحن العرب بمجاهل التاريخ والجغرافيا، ساعدتنا ظروف كثيرة على الاستقلال عن السلطنة العثمانية،لكننا عدنا وأغرقنا أنفسنا باستعمار واحتلال داخلي وخارجي أسوأ، جاءت "اسرائيل"،وجلبنا أميركا وغيرها،فماذا ننتظر بعد؟
سجلنا أرقاما قياسية في الهزائم والانتظار امتدت لأكثر من نصف قرن، جاءت مؤتمرات السلام ومفاوضاتها،ونسينا لاآتنا الثلاثة،ولهثنا وراء أوهام وسراب،معاهدات واتفاقات ومشاريع سلام لم تحترمها ولم تُعبِرها "اسرائيل" أصلا، ولا زلنا ننتظر رضاها على فتات من حقوقنا المسلوبة.
اليوم استفادت تركيا كثيرا من مصاعبها مع الغرب،وأدركت عمقها وموقعها وحجمها ودورها،ورغم الاتفاقات الإستراتيجية التي وقعتها مع اسرائيل تخطت واقعا كانت تعتبره لمصلحتها،واتخذت المواجهة أسلوبا علها تعوّض بعضا من المهانة النفسية لعدم قبول الغرب بها،فارتدت إلى عمقها وموقعها الطبيعيين علها تجد ما يخفف كظمها.فماذا ننتظر نحن العرب من هذه الدروس المستفادة تركيا؟.
رب الإصرار التركي على الاعتذار، كان في زمانه و مكانه ذات دلالات فارقة، فهو في زمن فاق التغطرس "الإسرائيلي" كل حدود ، وفي مكان اكتظت فيه عوامل الانفجار،فجاء الاعتذار "الإسرائيلي" هذه المرة ليعبر عن ضعف غير مسبوق، فهي عاجزة عن الدفاع دبلوماسيا،كما غير واثقة عسكريا،وفي كلا الحالتين مناسبة لنا نحن العرب للتعبير ولو في الحدود الدبلوماسية إن لم نقل العسكرية، علنا نسجل نقطة بحثنا عنها طويلا .
رب موقف يغيّر مصير امة، لكن عدم اتخاذه يقتلها إلى الأبد،فنحن العرب لا تنقصنا القضية،ولا العقل ولا القدرة لاتخاذ الموقف والقرار، ولا الكيفية للمواجهة،ولا الإمكانات, انتظرنا كثيرا ولم يُقدم لنا حتى اعتذار،انتظرنا كثيرا ولم يُنفذ لنا قرار.فقط ينقصنا قرار واحد هو التخلي عن الانتظار.
جلوس على كرسي غير مناسب دبلوماسيا،وكلمات غير مفهومة لدى سامعها،ألهبت مشاعر امة للثأر عن كرامتها وعنفوانها،وإذا كان مسلسل "وادي الذئاب" قد أعطى رمزية خاصة لتدهور العلاقات التركية "الإسرائيلية"، فالذئاب تسرح وتمرح بيننا أفلا تستحق منا نحن العرب تحركا؟ لقد انتظر نبي الله يعقوب ردحا من الزمن ليؤكد زيف قول أبنائه في قصة أخيهم يوسف مع الذئب، فهل يستلزم الأمر الكثير من الأودية والذئاب للانتظار أكثر؟
غريب المفارقات ما تعلمه العرب من الأتراك من مصطلحات شاعت وترسّخت في لغاتهم العامية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر"يا واش يا واش"،أي مهلا مهلا،ويبدو أنها أخذت موقعا في الذاكرة الجماعية،فبات الانتظار سلوكا وعادة. وربما يصل الأمر بالإسرائيليين إلى حثنا نحن العرب على مطالبة الأتراك بالاعتذار منا على هذا الإرث اللغوي الذي لم يسعفنا أبدا.

16‏/01‏/2010

موسوعة التنظيم الدولي المجلد الأول النظرية العامة والمنظمات العالمية

موسوعة التنظيم الدولي المجلد الأول
النظرية العامة والمنظمات العالمية

إذا كان بالإمكان القول، أنَّ الصراعات وجدت منذ وجود البشرية ، فذلك يستتبع القول أنَّ الصراعات متلازمة مع الحياة البشرية ومجتمعاتها، ومردُّ ذلك إلى العديد من الأسباب والاعتبارات المتعلقة بشبكة المصالح المتقاطعة أو المتباينة فيما بينها، والعودة إلى التاريخ تُثبت ذلك بشكل واضح।ففي القرون الخمسة الماضية نشب ما يقارب الخمسة عشر ألف حرب،وما يقارب المائة حرب خلال النصف الثني من الألفية الثانية।وما يزال الإنسان يبحث عن سبل رأب الصدع بين المجتمعات والدول بهدف تقليل المشاكل وبالتالي النزاعات فيما بينها
لقد جرَّبت المجتمعات القديمة والحديثة كما المعاصرة،الوصول إلى هياكل وبرامج ومنظمات ، حاولت من خلالها قدر المستطاع تنظيم أوضاعها ووضع قواعد وقوانين تحدِّد سلوك تعاملها وحل خلافاتها،وبصرف النظر عن الإخفاقات أو النجاحات ثمَّة محاولات جادة،لتأسيس بيئة قابلة للحياة للحد من نكبات الحروب وآلامها.
هذه المحاولات،لا تعتبر حديثة العهد بل لها جذور ضاربة في التاريخ القديم،ورغم هلامية أفكارها وركاكتها،إلا أنَّها تُعبِّر عن شعور بالمرارة لما يحل بالمجتمعات جرَّاء النزاعات،فكانت المقترحات والأفكار مرورا بالتوصيات وصولا إلى المنظمات.فقدم المفكرون والعلماء العرب والمسلمون كما الغربيون،العديد من المشاريع التي شكّلت اللبنات الأولى لنشأة ما يسمى في عالمنا المعاصر بالمنظمات العالمية أو الدولية.
وكما أسلفنا،راودت فكرة التنظيم الدولي العلماء والمفكرين والحكام منذ أقدم العصور، ويمكن العودة بجذورها إلى الشعوب القديمة والعصور التاريخية التالية. ومع ذلك لم تظهر الفكرة إلى حيّز الوجود سوى في مراحل لاحقة؛ فلم تكن قد اكتملت أسبابها الموجبة لوضعها موضع التنفيذ ، وجوهر فكرة التنظيم الدولي يكمن في أنَّ العلاقات بين الدول تكون أكثر سلما وأعمق أمنا وأشمل تعاونآ، إذ كانت هذه العلاقات تجرى عبر قنوات منتظمة، أي أجهزة منظّمة ، وإلا ستظهر قوانين الغاب، سواءً تمثل ذلك في فوضى عالمية أو في إمبراطورية عالمية، حيث أنَّ العالم تردّت أوضاعه بين هاتين الصورتين دون أن يتمكن أيهما من تحقيق السلم أو التعاون الدوليين.
وبهذا المعني، يظهر التنظيم الدولي كوسيلة لحلِّ المشاكل وتحقيق التعاون، ولا يتصور قيامه بهذا الدور على وجه فعَّال، إلا بوجود هيئة أو منظمة دائمة، يتم من خلالها وعن طريقها العمل على تحقيق ذلك . وانطلاقا من ذلك، فالمنظمة الدولية هي جوهر فكرة التنظيم الدولي إضافة إلى أنها تقدم الدليل الخارجي أو الظاهري على وجود هذا التنظيم . ومع ذلك فإذا كانت المنظمة الدولية ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي وسيلة لتحقيق التنظيم لدولي باعتبار أنَّه لا يتصور تحقيق ذلك بدون وجود منظمة أو منظمات دولية . وهكذا تصبح الوسيلة غاية كما هو الحال تماما داخل الدول حيث لا يتصور تحقيق الأمن والعدل داخل أي إقليم ما لم يكن ثمَّة تنظيم ما في هذا الإقليم.
ومن أهداف التنظيم الدولي، الحيلولة دون تغيير الواقع الدولي، أو الإخلال بأوضاعه، والعلاقات فيه، أو تبديلها بما يلائم مصالح دولة ما، عبر اتخاذ إجراءات دولية جماعية ضاغطة، أو مانعة لمحاولات هذه الدولة أو مجموعة الدول. كما أنَّ نظام الأمن الجماعي ينكر استعمال وسائل العنف المسلح لحلّ النزاعات والخلافات القائمة في مصالح الدول، وسياساتها، بل يؤكد على استعمال الطرق والأساليب السلمية.
ولمَّا كانت القوة، لا تزال الأساس في تحديد إطار استراتيجيات الدول، كما المحرك لأنماط العلاقات الخارجية وتقرير طبيعة أهداف سياساتها، فإن الأقوى كان وما زال يستغل القوة لفرض مصالحه على الآخرين من دون اعتبار لمصالحهم، وبغضّ النظر عمّا يسببه من أضرار للمصالح؛ من هنا كانت فلسفة "الحق للقوة" هي السائدة في المجتمع الدولي منذ القديم. وحتى اليوم، وعلى الرغم من النظريات المثالية الحالمة، فإن القوة هي الواقع في التعامل الدولي، أمَّا الأخلاقيات فتقع في مكان ما بينهما .
انطلاقاً من هذا الواقع ونتيجة الحروب التي لم تتوقف عبر التاريخ، قام منظرو السياسة الدولية بوضع النظريات لإقامة السلام العالمي، ونظام الأمن الجماعي لردع المعتدي ، بهدف تمكين المجتمع الدولي من العيش بسلام وكرامة، وفق مبادئ وأسس تلتزم باحترامها الدول كافة، وعلى قدم المساواة كبيرها وصغيرها، فهل تحقق ذلك فعلاً؟
يعتبر منظرو السياسة الدولية، أنَّ اعلي منافع البشرية وتقدمها يوجد في سيادة القانون: القانون الدولي، والقانون الخاص، وضرورة تطبيق القوانين التي اتفق عليها، ولكن الواقع التطبيقي، والممارسة الفعلية في العلاقات الدولية يسمح بطرح التساؤل: أي قانون؟ وقانون من؟ فالقانون ليس شيئاً مجرداً، كما لا يمكن فهمه بمعزل عن مكوناته السياسية التي أوجدته، ولا عن المصالح السياسية والاقتصادية التي يخدمها، ذلك أن القوانين الدولية والتنظيم الدولي، والنظام الدولي المنبثق عنها، إنما هو تعبير عن إرادة ورغبات ومصالح القوى التي صاغت هذا القانون، ووضعت قواعده وهو يعمل في الحقيقة وبنسبة كبيرة من الواقع لخدمتها وتحقيق أهدافها.
هكذا، فالتنظيم الدولي لم يظهر بقفزة واحدة ، ولكن مثله مثل كل التنظيمات الاجتماعية الأخرى ، أخذ صورة التطور . وإذا كان هذا التطور بطيئا بشكل عام ، إلا أنه لا يزال مستمرا.وعليه فإنَّ نظرة سريعة إلى الفكر السياسي في القرون الماضية، تظهر الملامح العامة التي نظر إليها بعض المفكرين للنظام العالمي الأمثل وللتنظيم الدولي الذي يستوعبه ويديره، والسبل الآيلة إلى سعادة البشر ورفاه حياتهم وعلاقاتهم ، وان كان تضارب الأفكار والمعتقدات شيئا ظاهرا وبارزا بين هذه الأفكار، إلا أنَّ كل منها، سعت جاهدة إلى إظهار نفسها البديل الملائم والصحيح للحياة الكريمة والرقي والازدهار الذي يحلم فيه جميع بنو البشر.

ثمَّة العديد من المؤلفات التي عالجت ونظَّرت للتنظيم الدولي ومنظماته،فعالج كل منها الموضوع من زاوية خاصة ومنهج محدد،ويمكن رصد العشرات بل المئات منها، إلا أننا أخذنا على أنفسنا الخوض في غمار كتابة التنظيم الدولي، لما له من خصوصية المتابعة والتطوير.فالتنظيم الدولي ومنظماته العالمية منها والإقليمية تنفرد بخصوصية التّغيّر والتبدّل، للعديد من الاعتبارات.ولم يقتصر عملنا هذا على المتابعة وتطوير المعلومات وتحديثها،بل سلكنا منهجا علميا وموضوعيا اتّسم بالطابع الموسوعي والشمولي،علنا نكون قد أحطنا بالموضوع من غالبية جوانبه.
لقد قسَّمنا الكتاب الأول إلى خمسة أجزاء، عالجنا في الأول منه النظرية العامة للمنظمات العالمية الذي أشتمل على إحدى عشرة فصلا،بدءا من الملامح العامة للتنظيم الدولي في العصور القديمة والمتوسطة وصولا إلى المعاصرة منها.وعالجنا في هذا الجزء ماهية المنظمات وتكييفها القانوني،كما البيئة التي تحكم عملها ومقرراتها وفعاليتها.
أما الجزء الثاني فخصصناه لعصبة الأمم حيث عالجنا أسباب نشأتها والإطار القانوني الذي حكم عملها وصولا إلى انجازاتها وأسباب فشلها.فيما خصصنا الجزء الثالث لدراسة هيئة الأمم المتحدة التي عالجناها في ستة أبواب عبر أثني عشرة فصلا،فضمَّ الباب الأول النشأة والمبادئ والغايات،فيما الثاني حلَّلنا فيه الميثاق والعضوية،أما الثالث فخصصناه للأجهزة ومهامها وسلطاتها وتأثيراتها في المجتمع الدولي.فيما الرابع تمَّ تسليط الضوء فيه على نشاط المنظمة لجهة النجاحات والإخفاقات.أما الخامس فقد عالجنا فيه التحدّيات التي واجهت الأمم المتحدة ومشاريع ومقترحات الإصلاح التي ظهرت من غير طرف.فيما السادس أفردناه إلى دراسة الوكالات والبرامج المتخصصة التابعة لعمل الأمم المتحدة.
أما الجزء الرابع فقد خصصناه للمنظمات الدولية غير الحكومية، لما لهذه المنظمات من دور فاعل في أدوات التنظيم الدولي ووسائله،عبر أربعة فصول، الأول للاتحاد البرلماني الدولي،والثاني للاتحاد الدولي للنقابات الحرة،والثالث للجنة الدولية للصليب الأحمر،أما الرابع فعالجنا فيه منتدى دافوس.
أما الجزء الخامس والأخير فقد خصصناه إلى الملاحق الذي ضمَّ عددا من الوثائق ذات الصلة بموضوع الكتاب كميثاق عصبة الأمم والأمم المتحدة والنظم الداخلية للأجهزة الرئيسة للأمم المتحدة،إضافة إلى عدد من الخرائط والجداول.
إننا إذ نضع هذا المؤلف الموسوعي، بين يدي المختص كما المهتم،نأمل أن نكون قد أسهمنا بعملنا المتواضع هذا،في وضع لبنة صغيرة لسدِّ حاجة مجتمعاتنا العربية وغيرها، لهذه المعرفة التي باتت جزءا من حياتنا اليومية المعاشة.

موسوعة التنظيم الدولي المجلد الثاني المنظمات القارية والإقليمية


موسوعة التنظيم الدولي المجلد الثاني
المنظمات القارية والاقليمية

صدر المجلد الثاني من موسوعة التنظيم الدولي "المنظمات القارية والإقليمية؟للدكتور خليل حسين،عن دار المنهل اللبناني في بيروت،
اعترف ميثاق الأمم المتحدة بفكرة الإقليمية ونظر إلى المنظمات التي تحمل هذه السمة باعتبارها إحدى وسائل تحقيق الأمن والسلم الدوليين ، لذا أخذت فكرة الإقليمية في التبلور في شكل العديد من المنظمات الإقليمية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام الأمم المتحدة عام 1945، مثال ذلك منظمة الدول الأمريكية وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي وغيرها، الأمر الذي يعود إلى العديد من الأسباب أبرزها:
1. أن الدولة لم تعد بشكل عام قادرة بمفردها على الوفاء باحتياجات شعبها خاصة فيما يتعلق بمجالات الأمن.
2. وجود تكتلات وتجمّعات معينة فرض على الدول الأخرى ضرورة مواجهتها بذات المستوى الجماعي. فالتكتل يخلق التكتلات المضادة.
3. تعاظم درجة الاعتماد الدولي المتبادل لتعزيز القوة التفاوضية لمجموعة من الدول في مواجهة مجموعة أو مجموعات دولية أخرى.
وبذلك باتت المنظمات الإقليمية جزءا أساسيا من التنظيم الدولي، الذي يعتبر من الدعائم المركزية لتنظيم الخاصيات المتعلقة بالفواعل الإقليمية ومصالحها واطر تنظيم علاقاتها.إنَّ التدقيق في معظم المناطق الجغرافية للعالم في عصرنا الحاضر ،يظهر التوجّه نحو إقامة المزيد من التجمعات والمنظمات والروابط الإقليمية لدواعي متعددة ومتنوعة، وعليه يمكن رصد العشرات بل المئات من هذه الأطر التنظيمية؛ بعضها تراجعت فعاليته ودوره،وبعضها الآخر أنجز ويستمر في انجاز العديد من مهماتها.ونظرا لطبيعة التطور الذي تشهده علاقات الدول ببعضها من جهة،ونظرا لظهور مفاهيم جديدة في تكويناتها ووسائلها وأدواتها من جهة أخرى،ينتظر ان يشهد العالم المزيد من هذه التجمعات مستقبلا.
ويأتي الكتاب الثاني المنظمات القارية والإقليمية من موسوعة التنظيم الدولي،ليكمل ما بدأناه في العمل الأول المتعلق بالتنظيم العالمي.فقسمناه إلى خمسة أجزاء،بدأنا الجزء الأول منه بفصلين مركزين فيهما على تعريف الإقليمية والمنظمات الإقليمية،ومن ثم خصائصها ومميزاتها وأنواعها بشكل مختصر،ولم نتوسع كثيرا لجهة دساتيرها وقراراتها وموظفيها وفعاليتها والتكييف القانوني التي تتمتع به في إطار القانون الدولي العام، نظرا إلى بعض أوجه التشابه بين المنظمات الإقليمية والعالمية التي عالجناها في الكتاب الأول.
أما الجزء الثاني،فقد أفردناه إلى النظام الإقليمي العربي الذي ضم ثلاثة أبواب،عالجنا في الأول منه جامعة الدول العربية عبر سبعة فصول،بدءا بمحاولات الوحدة العربية والتصورات والمشاريع التي طرحت لذلك،مرورا بنشأة الجامعة وأهدافها ومبادئها،عارضين لعضويتها والأجهزة الرئيسة والفرعية التي تمارس وظائفها من خلالها،وصولا إلى وكالاتها المتخصصة وتقييم عملها.
ثم انتقلنا في الجزء الثالث لإلقاء الضوء على التجارب التكاملية القطرية بين بعض البلدان العربية،فعالجنا تجربتين لا تزالان مستمرتين كمجلس التعاون لدول الخليج العربية واتحاد المغاربي العربي،ولم نتطرق إلى غيرهما كمجلس التعاون العربي أو الجمهورية العربية المتحدة نظرا لحلها أو تجميد إعمالها.فيما خصصنا الباب الثالث إلى المنظمات العربية غير الحكومية كالمنظمة العربية للهلال الأحمر والصليب الأحمر والاتحاد البرلماني العربي والبرلمان العربي الموحد.
أما الباب الثالث الذي خصصناه للمنظمات القارية والإقليمية فقد قسمناه إلى سبعة أبواب،الأول منه للمنظمات الأوروبية،والثاني للمنظمات الأسيوية والهادئ،فيما الثالث ضم المنظمات الإفريقية بينما الرابع حوى المنظمات الأمريكية،أما الخامس فتنوع بن المنظمات السياسية والروابط اللغوية والثقافية والمنظمات الدينية. فيما البابين السادس والسابع فقد عالجنا فيهما المنظمات النفطية والعسكرية على التوالي.
أما الجزء الرابع فقد خصصنا للائحة المنظمات الإقليمية التي لم ترد في الفصول السابقة،وحصرنا عملنا في إحصائها وتعريف أهدافها بشكل مختصر جدا،مع ذكر التأسيس والدول الأعضاء في كل منها.
أمَّا الجزء الخامس والأخير فقد جمعنا فيه بعض الوثائق المتعلقة بالنظام الإقليمي العربي، كميثاق الجامعة ومعاهدة الدفاع العربي المشترك،والنظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي واتحاد المغاربي العربي.ولائحة باختصارات المنظمات الإقليمية والدولية.
إننا بهذا الكتاب الثاني نكون قد أنجزنا عملا موسوعيا شاملا،نأمل من خلاله أن نكون قد أضفنا جديدا إلى اختصاص لطالما اتسم بالتحوّل والتغيّر والتبدّل،لذا فقد حرصنا على التنقيب والبحث على آخر المستجدات والمعلومات.آملين أن نكون قد وفقنا بعملنا هذا بما فيه خير البشر ومجتمعاتها ودولها ومنظماتها.

د.خليل حسين

10‏/01‏/2010

الموقع السياسي للطائفة الشيعة في لبنان

الموقع السياسي للطائفة الشيعة في لبنان
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي
في كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية

دراسة مقدمة إلى
منتدى الفكر والأدب - صور
الكيان اللبناني إلى أين؟
الطوائف دورها ومستقبلها
صور- 9/1/2010

للطائفة الشيعية في لبنان، حكاية مختلفة عن باقي الطوائف التي ارتضت العيش في كنف الدولة، يعود ذلك للعديد من الأسباب المرتبطة بوضع الطائفة الشيعية نفسها،أو لعلاقاتها مع باقي الطوائف.وعلى الرغم من اشتراك بعض الطوائف فيما بينها ببعض الخصائص،إلا أنَّ للطائفة الشيعية وضعاً خاصاً في معرض المقارنة أو المقاربة بين وضعها ما قبل اتفاق الطائف وبعده.
وبالعودة إلى الأسباب الحقيقية والمباشرة للأحداث التي مرَّ بها لبنان، يتبيّن أن من ابرز أسبابها الداخلية تكمن في الحرمان المزمن لمناطق الأطراف وضواحي بيروت، إضافة إلى الخلل القائم بين القوى السياسية والطائفية المكوِّنة للسلطة آنذاك.وقد شعر أبناء هذه المناطق التي طغى عليها التواجد الشيعي بالغبن والحرمان والتهميش،وأسهم هذا الوضع في تأجيج أفكار التغيير في محاولة للخروج من هذا الوضع المأساوي؛ومن الصعب تجاهل حقيقة أنَّ الجماهير الشيعية وجدت بداية أحزاب الحركة الوطنية وفصائل المقاومة الفلسطينية مجالا للتعبير عن حالة الرفض والاعتراض على الوضع القائم ولو تحت شعارات متنوعة لا تعبر بالضرورة عن مطالبها المباشرة.
وفي ظل وضع لا تُحسد عليه جماعة أو طائفة في أي نظام سياسي، ظهرت حركة الإمام المغيب السيد موسى الصدر بخطابها الفكري والعقائدي والسياسي، ليعبّر عن منطلقات مغايرة لما هو سائد، انطلق من حاضر مأزوم إلى مستقبل واعد،على قاعدة رفع الغبن والحرمان في لبنان، وبكلام آخر كان خطاباً عابراً للطوائف متوجها لكل المحرومين في لبنان بصرف النظر عن دينهم أو مذهبهم. فكانت شعارات وبرامج الإنماء والتوازن في السلطة ، مدخلا لبناء دولة تؤمن بحقوق مواطنيها. إضافة إلى ذلك، لقد أعطى الأمام الصدر بُعداً إضافياً للصراع مع اسرائيل،واعتبرها "شر مطلق والتعامل معها حرام".ومن خلال هذين المبدأين، عرف الأمام الصدر ما يطمح إليه أبناء الطائفة الشيعية، بناء الدولة العادلة التي تحفظ حقوق أبنائها، وإعادة التوازن في إطار شرعية الدولة ، والحفاظ على الوحدة الوطنية أولا، وتأكيد الانتماء العربي ومفاعيله لجهة متطلبات الصراع العربي - الإسرائيلي ثانيا.
لقد شكّلت هذه البيئة، المنطلق الأساس للطائفة الشيعية في بناء منظموتها السياسية والاجتماعية ،كما كانت قاعدة انطلاق لمرحلة انتقالية كانت بدورها داعما رئيسا لموقع الطائفة بمختلف مكونتها، إلى عهد الجمهورية الثانية الذي كان اتفاق الطائف احد مكوناتها الدستورية والسياسية.
طبعا، لقد دفعت الطائفة الشيعية أثماناً كبيرة،لحجز حيّز سياسي لها بين باقي الطوائف والجماعات السياسية في التركيبة السياسية للدولة اللبنانية، ويظهر ذلك من خلال العديد من البرامج والمشاريع التي كان لقياداتها السياسية دور بارز فيها في مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي، من خلال مشاركتها الفعالة في مؤتمرات الحوار الوطني التي انعقدت في لبنان وخارجه،لا سيما مؤتمر لوزان على سبيل المثل لا الحصر،ومن بعدها ما تمَّ التوصل إليه في الاتفاق الثلاثي عام 1985.
أولا: دور الطائفة الشيعية في الصراع العربي الإسرائيلي
إن المنطلقات العقائدية الدينية والفكرية والسياسية في الذاكرة الجماعية لأبناء الطائفة الشيعية ،علاوة على التوزيع الديموغرافي، جعلها موئلا لانطلاق شعلة المقاومة عبر أفواج حركة أمل، فكانت الحاضن الذي رفد كل ما يتطلبه الصراع مع اسرائيل من رجال ومال وسلاح. وإن كانت القرى الشيعية وطبعا مع أخواتها من القرى الأخرى في الجنوب اللبناني، قد نالت نصيبها من الاعتداءات الإسرائيلية منذ العام 1948، إلا أن سلسلة الاعتداءات الواسعة بين الأعوام 1967 و1978 ، شكّلت مرتعا خصبا لنضال الشيعة ضد اسرائيل،وجاء احتلال اسرائيل لما سميَّ الشريط الحدودي، الحافز المباشر لتقوية هذه المشاعر،فجاء عدوان 1982 واحتلال العاصمة بيروت،ليشكل العلامة الشيعية الفارقة في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي وإجباره آنذاك على الانسحاب من مناطق واسعة من جنوب لبنان، بعدما تمكنت انتفاضة 6 شباط 1984 التي قادتها حركة أمل من إسقاط اتفاق 17 أيار 1983 الذي تمَّ التوصَّل إليه في بداية عهد الرئيس أمين الجميل.
لقد انتقلت دائرة الصراع العربي الإسرائيلي بكل تداعياتها ومندرجاتها إلى عهد الجمهورية الثانية،وعلى الرغم من بيئة السلام التي انتقلت عبر مؤتمر مدريد في العام 1991 ومشاركة العرب فيه ومن ضمنه لبنان، تابعت الطائفة الشيعية عبر دائرتيها حركة أمل وحزب الله في أعمال المقاومة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان وبقاعه الغربي.واستمرت دوائر الصراع على أشدها رغم اتفاقية أوسلو ووادي عربة مع الفلسطينيين والأردنيين.
لقد نالت الطائفة الشيعية تحديدا، النصيب الأوفر من أذى العدوانين الإسرائيليين الواسعين في العامين 1993 و1996،لكن صمود المقاومة والحنكة السياسية لرئيس المجلس النيابي الأستاذ نبيه بري بنسجه تحالفات سياسية قوية مع رئيس الوزراء آنذاك المرحوم رفيق الحريري، أنتج اتفاقا إقليمياً - دولياً شرعن المقاومة عبر"تفاهم نيسان 1996"،الذي يعتبر غطاءً قانونيا وسياسيا لأحد المبادئ التي قامت عليها الحركة السياسية للطائفة الشيعية المتمثلة بحركة أمل وحزب الله.
لقد تمكَّنت المقاومة في العام 2000، من تسجيل سابقة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي،حيث أجبرت اسرائيل على الانسحاب من معظم الأراضي اللبنانية دون قيد أو شرط،باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا،الأمر الذي يبرر وجود المقاومة وسلاحها طالما الاحتلال والخروق الإسرائيلية قائمة، مع عدم وجود إستراتيجية دفاعية لحماية لبنان وشعبه.
لقد جاء عدوان 12 تموز 2006، ليعيد خلط الأوراق الداخلية اللبنانية في مواجهة اسرائيل، إذ انقسم اللبنانيون في مواجهة الطائفة الشيعية باعتبارها من وجهة نظر الفريق الآخر، السبب في قيام اسرائيل بالعدوان على لبنان، وهذا ما انكشف عدم صحته لاحقا،.وعلى قاعدة امتلاك الطائفة الشيعية عبر المقاومة وحزب الله لقرار الحرب والسلم، وعلى خلفية اغتيال الرئيس الحريري تم التصويب مباشرة على الشيعة عبر المقاومة وحزب الله.
لقد أعطى الصراع مع اسرائيل للطائفة الشيعية حجما معنويا وازنا في الحياة السياسية اللبنانية، واعتبره بعض خبثاء السياسة اللبنانية،أن هذا الصراع لا يعدو كونه ذراعا من أذرع السياسات الخارجية لسوريا وإيران،وغاب عن وعيهم أو تناسى هذا البعض، أنَّ المقاومة في لبنان كانت نتيجة لاحتلال اسرائيل قسما من أراضيه حتى قبل قيام الجمهورية الإسلامية في إيران.

ثانيا: الموقع السياسي للطائفة الشيعية في تركيبة الجمهورية الثانية
تمكّنت الطائفة الشيعية،من حجز موقع رئيسي لها في التركيبة الدستورية - السياسية للجمهورية الثانية.فبعدما كان ممثلو هذه الطائفة في المواقع الدستورية والتشريعية والإدارية مجرد ملحقين ؛ باتوا في مواقع القرار السياسي الفاعل، بل من متخذي القرارات الفاصلة.
لقد دخلت حركة أمل ورئيسها الندوة النيابية في أول مجلس بعد اتفاق الطائف بقسمه المعين، ومن ثم المنتخب في العام 1992،وتمكَّن رئيسها الأستاذ نبيه بري من الوصول إلى رئاسة المجلس النيابي.ومن ثم لحق به حزب الله في الندوة النيابية وكذلك تمثيلا في الحكومات اللبنانية المتعاقبة.وبذلك بات الطرفان السياسيان الشيعيان حركة آمل وحزب الله مشاركين أساسيين في تركيبة النظام ومندرجاته.
لقد ساعد الطائفة الشيعية في إثبات وجودهما في المواقع الدستورية والسياسية أمران أساسيان:
- الأول موقع رئيس المجلس النيابي من الناحية الدستورية لجهة الصلاحيات وآليات الانتخابات والمسؤوليات.فبعدما كان رئيس المجلس في عهد ما قبل الطائف يُنتخب سنويا ،بات انتخابه يتم لأربع سنوات ويمكن طرح الثقة به بعد مرور سنتين، بقرار من ثلثي أعضاء المجلس النيابي، الأمر الذي يوازي بين إعادة الثقة به وتعديل الدستور لجهة العدد وبالتالي صعوبة التحقيق،الأمر الذي أعطاه ميزة في التحرك وفي سياساته التشريعية بمعزل عن ضغوط الآخرين. علاوة على الشخصية الكارزيمية التي يتمتع بها، بدليل استمراره في رئاسة المجلس لخمس ولايات مجلسية متتالية.
- الثاني انتقال السلطة التنفيذية بمفاصلها الأساسية والرئيسية إلى مجلس الوزراء مجتمعا،حيث الطائفة الشيعية ممثلة بعدد متساوٍ مع الطائفتين الكبيرتين الأخرتين السنية والمارونية.وحيث مجلس الوزراء مجتمعاً هو الذي يرسم ويقرر السياسات العامة للدولة ومؤسساتها،وبالتالي إن وزراء الطائفة الشيعية في الحكومة هم مشاركون ومسئولون على قدم المساواة مع غيرهم من ممثلي الطوائف.
علاوة على ذلك،إنَّ التركيبة الإدارية وتوزيعها بعد اتفاق الطائف،أعطى للشيعة فرصة لافتة للدخول في مؤسسات الدولة ومرافقها العامة. حيث تبوأ البعض مناصب ومراكز كانت حكرا على بعض الطوائف الأخرى.
وإذا كان للطائفة الشيعية مكانتها الوازنة في البيئة الدستورية والإدارية في عهد الطائف،فإن علاقاتها مع باقي الطوائف اتسمت بالمرونة والبعد الوطني الجامع، من منطلق الإيمان بلبنان كوطن نهائي لجميع أبنائه. ولقد أمّنت الطائفة الشيعية هذا الاسترخاء في العلاقات الداخلية خلال العقد الأخير من القرن الماضي (1990 – 2000).إلا أن بداية التصويب على سلاح المقاومة ومن بعدها مجموعة القرارات الدولية ذات الصلة بالقرار 1559،ومن بعدها اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما أعقبه من تداعيات،سلطت الضوء على الطائفة الشيعية مجددا.فهل المستهدف هم الشيعة وقواهم الوطنية أصحاب التحرير والتنمية ؟ وبالتالي من المستفيد من ذلك؟.
قبل الإجابة،ينبغي التذكير بأنَّ، الطائفة الشيعية في لبنان من أكثر الجماعات تعلقا بعمقها العربي والإسلامي،والأشد تعلقا بالدولة ككيان وحاضن،وهي من الجماعات التي عملت على ذلك بدليل مشاركتها ووجودها الفعال في الحياة السياسية الداخلية والخارجية، وهي من اشد الحريصين على بقاء لبنان ضمن سلطة شرعية ديموقراطية عبر تطبيق دستور الطائف قولا وفعلا، أي إن الوحدة الوطنية هي المطلب والهدف لدى مختلف أطياف القوى السياسية الشيعية ،وهذا ما هدفت إليه حتى في عز الأزمة التي عاناها لبنان إبان الاعتكاف في حكومة السنيورة، بهدف عدم الاستفراد والهيمنة وأخذ لبنان إلى غير موقعه الطبيعي.كما أنَّ ثمة استهداف حقيقي لقوى المقاومة في لبنان ومحاولة تحييده عن الصراع العربي - الإسرائيلي، وإبعاده عن عمقه العربي عامة والسوري خاصة،الأمر الذي يشكل تحدّيا استراتيجيا للكيان اللبناني وللطائفة الشيعية فيه التي تعتبر احد مكوناته الرئيسة.
من هنا نرى بوضوح عمق الاستهداف الموجه ضد الخط السياسي للبيئة السياسية للطائفة الشيعية، وبالتالي من حق هؤلاء كما في الماضي الدفاع عن وجودهم في الدولة ومؤسساتها وقراراتها.
إن خطورة المرحلة التي مر بها لبنان تكمن في أنها حداً فاصلا بين الدولة القائمة على الوحدة الوطنية، أو الفتنة الطائفية وبالتالي التقسيم والتوطين وغيرها.الأولى الوحدة الوطنية وهذا ما عملت وانصرفت له الطائفة الشيعية عبر مواقفها المعلنة إبان فترة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى،حتى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بعد اتفاق الدوحة، والحكومة الحالية التي يرئسها سعد الحريري.
أما الثانية، الفتنة الطائفية،وهذا ما تنبّه إليها دولة الرئيس الأستاذ نبيه بري،من خلال طرحه البحث في تشكيل هيئة إلغاء الطائفية السياسية،باعتبارها داء لبنان،وان درء مخاطرها يكمن في إلغائها،وهذا ما ينص عليه دستور الطائف في المادة (95).
لقد تمكنت الطائفة الشيعية عبر حركة آمل وحزب الله، من تشكيل ثنائية سياسية،تميّزت بقيادة سياسية واعية وحكيمة في إدارة الملفات السياسية الداخلية والخارجية.وتمكّنت من إيجاد شكل من أشكال،التعاون يصل إلي حد الاندماج في الأهداف الإستراتيجية،الأولى مقاومة عسكرية دافعت عن الأرض قادها حزب الله وعلى رأسها سماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله، ،والثاني مقاومة دبلوماسية وعلى رأسها حركة أمل ورئيسها الأستاذ نبيه بري،أنتجت قرارات حمت المقاومة وشعبها لا سيما تفاهم نيسان 1996،والقرار 1701 .
ثالثا: ثوابت الطائفة الشيعية في الكيان ودولة الطائف
إن القراءة الدقيقة لمواقف الشرائح السياسية في الطائفة الشيعية من مختلف القضايا الإستراتيجية المتعلقة بالكيان اللبناني ونظامه السياسي والدستوري،تظهر ثوابت لم تتغير أو تتبدل بشكل جذري،وان وجد بعض المتغيرات في بعض الحقبات التاريخية، ذلك يعود إلى طبيعة الأمور المتعلقة بالأطراف الأخرى داخلية كانت أم خارجية،ومن ابرز هذه الثوابت:
- أولا: تعتبر الطائفة الشيعية أنَّ الكيان اللبناني، وطن نهائي لها،بصرف النظر عن بعض المظاهر المتعلقة بالسياسات أو المواقف أو الإبعاد العقائدية الدينية.وهي تعتبر بشكل عام أن تواجدها في لبنان في الأساس هو سابق أصلا على نشأة الكيان اللبناني ومتطلباته المادية والمعنوية.وإذا كان ثمَّة بعض التعتيم على موقف الطائفة كغيرها من الطوائف الإسلامية من الكيان والاندماج والاستمرار فيه،فذلك لا يلغي حقيقة أن الطائفة الشيعية كما غيرها وافقت وارتضت أن تكون جزءاً لا يتجزأ من تركيبته السياسية - الاجتماعية،وتخلت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي عن فكرة الوحدة مع سوريا،ذلك بفضل هضم واستيعاب مواقف الكتلة الوطنية في سوريا التي ساعدت في ثني المسلمين اللبنانيين عن فكرة الوحدة ،علاوة على اقتناع الطوائف اللبنانية ومن بينها الشيعية، أنَ خصوصية الواقع اللبناني، تتطلب الابتعاد عن كل ما يثير حساسية الشريك الآخر في الوطن. كما أن التدقيق في الوثائق السياسية للتنظيمات السياسية الشيعية،تظهر مساحات واسعة وواضحة حول الكيان اللبناني كوطن نهائي لها.وأخص بذكر موقفي حركة أمل وحزب الله في هذا الخصوص الذي بدا واضحا في الوثيقة السياسية للمؤتمر الأخير لحركة أمل وكذلك في الوثيقة السياسية الأخيرة لحزب الله.
- ثانيا : وإذا كان الكيان يشكل مرتكزا سياسيا أساسيا في برامجها،فإن البعد العربي في الذاكرة الجماعية للمسلمين الشيعة في لبنان،يشكل مرتكزا وجوديا،ذلك بحكم النشأة والتواصل.وعلى الرغم من وجود بعض المتغيرات ذات البعد السياسي للأنظمة العربية،ظلَّ الشيعة في لبنان تواقون للبحث عن البعد العربي الذي يحمي قضايا العرب والمسلمين بمواجهة اسرائيل ؛ فمثلا بعدما كانت مصر عبد الناصر القبلة السياسية للشيعة كما المسلمين الآخرين،تحوّلت البوصلة السياسية باتجاه دمشق.
- ثالثا: إن الموقع والحيّز الذي اتخذته سوريا في دائرة الصراع العربي الإسرائيلي بعد انكفاء مصر،أعطى للشيعة في لبنان حافزا إضافيا لتمييز العلاقات مع سوريا،وقد برز هذا التوجه من خلال الموقف السياسي للشيعة في لبنان الداعم للبيئة التي أخرجت الوثيقة الدستورية في العام 1976 والاتفاق الثلاثي عام 1985 واتفاق الطائف عام 1989.
- رابعا: وبحكم العقيدة الدينية والفكر السياسي الذي تختزنه الطائفة الشيعية في مواجهة اسرائيل،باتت دوائر الصراع مع اسرائيل متأصلة في السلوك الاجتماعي والسياسي أينما وجدت شرائح هذه الطائفة.وما عزَّز من هذا السلوك التوزيع الديموغرافي الذي جعلها على تماس مباشر مع الكيان الإسرائيلي وبالتالي نيلها القسم الأكبر من آثار اعتداءاته وتداعياته.
- خامسا: ونتيجة للثابت السالف الذكر،باتت المقاومة ضد اسرائيل جزءا من الحياة اليومية المعاشة، وثابتا ملازما فكرا وممارسة. وإذا كان ثمة من يطلق من خبثاء السياسة، لبنانيين وغير لبنانيين على هذه الحركة، على أنها أصبحت "قضية شيعية" على مستوى لبنان والوطن العربي والإسلامي من باب خطورتها على تلك الأنظمة،وعلى واقع الطائفة الشيعية في بعض الدول؛فإن ذلك لا يعدو كونه تهربا وتنصلا من القضايا المحقة للعرب والمسلمين بمواجهة اسرائيل.إذ بات الحق عند الشيعة هو باطل بنظر الأنظمة التي تتلطى وراء شعارات محاربة الإرهاب وغيره من العناوين بدعم غربي واضح.
- سادسا: لقد شكَّل البعد الإسلامي للطائفة الشيعية في علاقاتها الخارجية محط تساؤلات لدى بعض الأطراف اللبنانية والعربية، وبخاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران،من باب كيفية التوفيق بين الولاء للوطن والكيان اللبناني وبين بعض مسائل العقائد الدينية كولاية الفقيه. وفي واقع الأمر يعتبر هذا الموضوع تحديدا مسالة عقائدية لا دخل للسياسة اللبنانية وتفاصيلها المملة فيها،وحتى ثمة تباين بين فقهاء ومراجع الطائفة الشيعية تاريخيا بين ما سميَّ بمرجعية النجف ومرجعية قم، فهي موجودة قبلا ولم تكن تشكل حساسية تذكر مع بعض الطوائف اللبنانية الأخرى.وإذا كان ثمة من طروح في هذا المجال فمن الحق التساؤل لماذا لم تثر نفس القضايا جدلا أيام إيران الشاه وعراق صدام حسين مثلا.فبصرف النظر تبقى للطائفة الشيعية ثابت البعد الإسلامي في علاقاتها الخارجية من منطلق الموقف من قضايا الأمة العربية والإسلامية بمواجهة اسرائيل تحديدا.
- سابعا: وبالعودة إلى الثوابت الداخلية في الحياة السياسية والدستورية للطائفة الشيعية،نرى مثلا طرح إلغاء الطائفية السياسية مطلبا بارزا من ضمن آلية توافقية بين مختلف شرائح المجتمع اللبناني.ويسجل في هذا الإطار إعادة طرح رئيس المجلس النيابي الأستاذ نبيه بري، لهذه القضية من منطلق الواجب الدستوري أولا،ومن ثم تداعيات الطائفية السياسية على الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية ثانيا؛ لا من منطلق أي حسابات أخرى كالعدد والحجم والكم والنوع والتأثير؛بقدر ما أثرت الطائفية السياسية على الذاكرة الجماعية للسلوك الاجتماعي في مختلف الحقبات السياسية في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر.
- ثامنا: لقد ظلت قضية المشاركة ثابتة من ثوابت الحياة السياسة والإدارية،انطلاقا من كونها حقا وواجبا في إطار بناء الدولة القوية العادلة.وان تأمّنت مشاركة الطائفة الشيعية بقدر أبرز واكبر في ظل جمهورية الطائف، فإن بعض المواقف التي ظهرت مؤخرا كالاعتكاف الحكومي وما تبعه من مواقف متبادلة،لا يعدو كونه طريقة لمنع أخذ لبنان إلى مواقع أخرى تؤثر على الكيان والدولة.فالمطالبة بحكومة وحدة وطنية كانت عنوانا تمكّنت الطائفة الشيعية من إعادة تصويب الكثير من الثغرات الهفوات والهنات التي ظهرت في تطبيق اتفاق الطائف على الصُعد الدستورية والسياسية والإدارية.
- كما أنَّ تأمين المشاركة في الإدارة اللبنانية كمؤسسات ومرافق،ظلت بارزة في مطالب الطائفة، مع دوام تسجيل مواقف لافتة للرئيس نبيه بري في هذا الإطار، من باب المحافظة على كمية ونوعية المناصب والمواقع، وبخاصة الفئة الأولى التي ظلت موزعة ضمن حصص محددة؛ إلا أن الجديد فيها المطالبة بآلية للانتقاء قبل التعيين ومن بينها الطرح بإنشاء لجنة قضائية للاختيار والانتقاء، حفاظا على الحد الأدنى من الكفاءة بين مرشحي مختلف الطوائف.كما يُسجل موقفٌ لافتٌ لدولة الرئيس من موضوع المداورة في وظائف الفئة الأولى، وهو تحييد قيادة الجيش عن هذه السلة إذا اتبعت،بمعنى دوام أخذ خصوصيات بعض المواقع في الحسبان وحساسيتها تجاه بعض الطوائف حفاظا على ما يمكن أن يؤثر على الوحدة الوطنية وما يتعلق بها.
أخيرا، وُضعت الطائفة الشيعية وأبنائها خارج التاريخ والجغرافيا للنظام السياسي – الاقتصادي اللبناني،وبدت في أغلب الأحيان نموذجا للحرمان والتهميش؛ إلى أن ظهرت قيادات وظروف ذاتية وموضوعية ساعدت في إعادة قراءتها بين الجماعات السياسية اللبنانية وطوائفها في ظل الجمهورية الثانية؛ وما ميَّز هذه الحقبة خاصة، وجود قيادات سياسية واعية عرفت ما تريد جماهيرها،كما عرفت كيف تدير علاقاتها وتحالفاتها فحققت في فترة وجيزة قضايا ومسائل هامة، فدخول السلطة من بابيها التشريعي والتنفيذي علاوة على الإداري، كان حافزا لإكمال ملفات هامة أخرى،كالتحرير في العام 2000 ، ومتابعة التنمية.بكلام آخر لقد امتزج عمل المقاومة والتحرير، بعمل الدبلوماسية البرلمانية والتنمية، فكان انجاز الطائفة الشيعية تحريرا للوطن، وإنماء لمناطقه المحرومة.
إن مستقبل هذا الموقع والدور للطائفة الشيعية، مرهون بدوام التمسّك بهذه الثوابت السالفة الذكر، علاوة على تماسك وحدتها الداخلية المتمثلة أولا وأخيرا بالتكامل الحاصل بين طرفيها الأساسيين حركة أمل وحزب الله، وما بينهما من مساحات للتعبير عن الرأي الآخر، الذي حرص الطرفان على احترامه في عز الهجمة على السياسات والمواقف التي تعرَّضت لها الطائفة الشيعية مؤخرا.

03‏/01‏/2010

كل عام ... وعدوان إسرائيلي جديد

كل عام ... وعدوان إسرائيلي جديد
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
www.drkhalilhussein.blogspot.com

لا يكاد يمر تصريح لرئيس الوزراء "الإسرائيلي"، بنيامين نتنياهو،إلا ويكون بين طياته تهديدا مبطنا أو صريحا لغزة ولبنان وإيران، والمفارقة انه ينتقي أسلوب التهديد وتوقيته وهدفه، بحسب ما تقتضي ظروف سياساته الداخلية بأكثر منها الخارجية.ورغم انه أسلوب اعتاد عليه الساسة "الإسرائيليون"على قاعدة الهروب إلى الأمام وبالتحديد إلى الخارج من مآزقهم الداخلية، فإن ما يميّز هذه التهديدات في هذه الفترة تحديدا، تفلّت القادة "الإسرائيليين" من الضغط الرمزي للإدارة الديموقراطية،والبدء في ممارسة الضغط المعاكس على الإدارة الأمريكية من قبل "الإسرائيليين" عموما،وهذا ما برز في الاستدارة الملحوظة للرئيس الأمريكي باراك اوباما في العديد من مواقفه تجاه قضايا المنطقة، وتحوّله عن شعارات محدَّدة رفعها سابقا ،إلى سياسة غض الطرف عن الآليات التي تحبط تنفيذها.
في الواقع الأراضي الفلسطينية لا زالت محاصرة، وفي الذكرى الأولى للعدوان على غزة،هدية الجدار الفولاذي عله يفرج ويثلج صدر "الإسرائيليين"، بعد مأزق تقرير غولدستون ومتابعات مجلس حقوق الإنسان.وكأن القادة "الإسرائيليين" يخططون وينظمون حفلات القتل الجماعي القادمة هذه المرة بإعلانات صريحة وواضحة لا محل للاجتهاد أو التأويل فيها، فلا رادع ولا وازع قانوني أو أخلاقي أو إنساني يثني ما تختزنه الذاكرة الجماعية للقيادات السياسية والعسكرية "الإسرائيلية". فقبل عام شنّت "اسرائيل" ما اعتبرته حفلة للقضاء على حماس في غزة،في وقت كان الرئيس الأمريكي يتسلم مهامه رسميا، واليوم كل المؤشرات تدل على أن اسرائيل ربما تلعب ورقتها التكتية في غزة في الوقت الضائع من عمر البرنامج النووي الإيراني وفقا للتوقيت الأمريكي.
والمفارقة الأغرب في السياسة "الإسرائيلية" ارتباط ملف حماس وغزة،توقيتا وتقريرا وربما تنفيذا بالمداورة،مع حزب الله والمقاومة في لبنان. فوتيرة التصعيد الإعلامي لم يتوقف منذ تشكيل الحكومة اللبنانية واعتبار إشراك حزب الله فيها علامة عدائية لبنانية تجاهها،ما يستوجب تحميل لبنان مسؤولية نتائج أي عمل قد تقرر اسرائيل مسؤولية حزب الله عنه.علاوة على ذلك إن التركيز الإعلامي على النوعية والكمية التي تمتلكها المقاومة من الصواريخ دليل آخر على تهيئة البيئة المناسبة للاعتداء على لبنان مجددا،بعدما تمكّنت المقاومة من هضم نتائج عدوان تموز ومندرجاته. "فإسرائيل" تشعر وكأنها قد أكلت طعم القرار 1701،ولم تتمكن من الاستفادة منه كما يحلو لها، فإن تمكنت من تجميد عمليات المقاومة ضدها، فلم تتمكن من إيقاف تعاظم قدرة صواريخ المقاومة،بل اعتبرتها تهديدا لآليات الردع الاستراتيجي التي تمتلكها.علاوة على ذلك،إن بقاء الوضع على ما هو عليه في الساحة اللبنانية،أمر من شانه تثبيت توازن الرعب الذي لا تطيقه العقلية العسكرية الإستراتيجية "الإسرائيلية"،باعتبار أن مصدر تفوّق القوة لديها تكمن في حالة الرعب التي امتلكتها لفترات طويلة في تاريخ الصراع العربي "الإسرائيلي".
في الجهة المقابلة من التهديدات المتصلة المعلنة منها وغير المعلنة،التهديد بتوجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني، باعتباره أم المخاطر التي تواجهها من الناحية الإستراتيجية وبالتحديد كونه عنصرا يهدد الكيان.فمع بداية العام تكون المهلة الأمريكية قد استنفدت وقتها لتقديم ما أسمته واشنطن أجوبة واضحة على الأسئلة والمقترحات التي تم تداولها في مجموعة التفاوض الستة مع طهران. وبصرف النظر عن التطابق أو التباين "الإسرائيلي" الأمريكي حول كيفية معالجة الملف عسكريا أو دبلوماسيا ،ثمة رأي واضح للإدارة الأمريكية مفاده عدم استبعاد الحل العسكري،بل الاقتراب من كونه احد وسائل علاج الكي،الأمر الذي لم تتوانى يوما تل أبيب في دفع واشنطن باتجاهه.
طبعا خيارات ليست سهلة أن تقدم عليها "اسرائيل" والولايات المتحدة معها،فدونها عقبات كثيرة،منها الاقتصادي ومنها المالي،ومنها السياسي،ومنها الرأي العام العالمي، لكن تبقى في النتيجة خيارات قائمة بصرف النظر عن حسابات الربح أو الخسارة، فالقادة العسكريون يمشون إلى الحرب ويجروا ورائهم السياسيون، والجميع ينطلقون وفي اعتقادهم أن الحرب لمصلحتهم.في الواقع ثمة أسباب عديدة يمكن أن تدفع المنطقة إلى مواجهات كبيرة كانت أم صغيرة من بينها:
- إن الإدارة الأمريكية في سنتها الأولى، وهي تُعتبر فترة الزخم في تحريك الأوضاع الإقليمية والدولية ،لم تتمكن حتى الآن من تقديم شيء يذكر لملفات المنطقة،عملية السلام مجمدة مع الفلسطينيين،والاستيطان وتهويد القدس مستمرين،فيما آلة الحرب "الإسرائيلية" تفعل فعلها بالفلسطينيين.في المقابل زيارات ووفود إلى دمشق لم تصل إلى مكان محدد،مزيد من جس النبض السياسي،وقعقعة بلا طحين،لا مفاوضات ولا اقتراحات سلام، ورقة تركية ضمن إطار الوساطة لن تنتج خيارات هامة.
- وضع إيراني داخلي مرتبك، يخلق فرصا تاريخية لقلب النظام بدفع خارجي سياسي كان أم عسكري،فإن لم تنجح خضَّات الداخل وحراك المعارضة،فخيارات العسكريين جاهزة،وان ارتفعت كلفتها كثيرا تبقى بالنسبة إلى اسرائيل خيارا لا بد منه.
- وان كانت الحروب وجها آخر لتعثر السياسة،فان للاقتصاد كلام أخر،فرغم عمليات الإفلاس العالمي الموصوفة، تبقى الحروب ومستلزماتها محركا للدورات الاقتصادية،فأهم الحروب الإقليمية كان الدافع ورائها تحريك الاقتصاد والهروب من الركود.
إن التدقيق في المسار التي مشت فيه اسرائيل، منذ إنشائها وحتى يومنا هذا،من الصعب أن نجد سنة واحدة لا تخلو من عدوان "إسرائيلي" مباشر أو غير مباشر على العرب والمسلمين، فهل يصح القول ،أن كل عام وعدوان إسرائيلي جديد؟

عام جديد وعدوان "إسرائيلي" جديد الخليج الاماراتية 3-1-2010

عام جديد وعدوان "إسرائيلي" جديد الخليج الاماراتية 3-1-2010