24‏/12‏/2011

التاريخ السياسي للوطن العربي

التاريخ السياسي للوطن العربي


المؤلف: الدكتور خليل حسين

اسم الكتاب :التاريخ السياسي للوطن العربي

دار النشر: منشورات الحلبي الحقوقية،بيروت ، 2011

جاء في تقديم الدكتور محمد المجذوب للكتاب:
صدر للدكتور خليل حسين ، المجلد الأول للتاريخ السياسي للأقطار العربية، وحمل عنوان "التاريخ السياسي للوطن العربي"،عن منشورات الحلبي الحقوقية في بيروت،وهو يؤرخ لتاريخ الوطن العربي الحديث والمعاصر، بمنهج أكاديمي،يتسم بالموضوعية والتجرّد في قراءة الأحداث واستخلاص عبرها.بقع المؤلف في 766 صفحة من القطع الكبير الفاخر، شكلا ومضمونا.تضمن جزأين،الأول يغطي تاريخ لبنان من زاوية الحروب المتواصلة فيه وعليه.أما الثاني فأرّخ لمجمل الدول العربية منذ نشوئها وحتى يومنا هذا. قدَّم للكتاب المفكر القومي العربي، البروفسور محمد المجذوب، رئيس الجامعة اللبنانية الأسبق،ونائب رئيس المجلس الدستوري اللبناني الأسبق،ورئيس المنتدى القومي العربي. ومما جاء في تقديم البروفسور المجذوب:
يتميز الباحثون في العلوم السياسية، إلى جانب اهتمامهم بالتقميش والتجميع والعرض، بنزعة التعليل والتحليل، ومحاولة الربط بين الأحداث، والتعرّف إلى المسبّبات، واستنتاج الدروس والعِبر. وتلك ميزة تلازم زميلنا الدكتور خليل حسين، صاحب المجلدين عن التاريخ السياسي لأقطار الوطن العربي، وعن القضايا والمشكلات والهموم وعوامل التغيير والصراع في هذا الوطن.
فالوطن العربي كان قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من خضوعه للإمبراطورية العثمانية، شبه موحّد، تراثياً وجغرافياً واجتماعياً. غير أن عوامل التفكيك والتشتيت والتجزئة عمّته بعد ذلك وفرّقته وباعدت بين أقطاره.
وإذا كانت القيادات والزعامات العربية تتحمل قسطاً من المسؤولية المترتّبة على هذا التخلف أو الانحطاط أو التقهقر المزري، فإن أصحاب الحملات والمؤامرات والأحقاد والأطماع الاستعمارية الغربية تتحمل معظم الأقساط الباقية. فالغرب الاستعماري الذي فوجئ بوصول الجيش العثماني إلى أسوار مدينة ڤيينا، وبتمدّد العرب في الأندلس بجامعاتهم ومراكزهم العلمية ومبادئهم وتعاليمهم الروحية والإنسانية، تناسى ثمار الرسالة الحضارية التي حملها العرب إليه لتكون مدماكاً وحافزاً لنهضته وتطوره، وقرر الانتقام ممّن أحسن إليه ونقل إليه علوم الدنيا آنذاك. وكانت نتيجة نكران الجميل سلسلة من الحروب الصليبية الغاشمة، وحملات طرد وتعذيب وإبادة في الأندلس، ومحاولات تدمير وتشويه وتسفيه للمبادئ والقيم واللغة العربية.
وكانت الحرب العالمية الأولى الفرصة المناسبة للإفصاح عن المكنون والمضمر من الأحقاد، وإنجاز ما استُعصي على الغرب، من قبل، من احتلال وهيمنة ونهب للثروات. وتمثل كل ذلك في وعد بلفور، واتفاقيات سايكس - بيكو، وتعزيز نظام الحماية والوصاية، وفرض نظام الانتداب. وكلها، في النهاية، أنظمة مستمدة من أحشاء الاستعمار والإذلال.

ودراسة الزميل الدكتور خليل حسين تشير،إلى المؤامرة الكبرى التي شنّها الغرب الاستعماري على الأمة العربية، والتي أثمرت تجزئة وانقسامات وخلافات ومنازعات بين الأقطار العربية. وكان هذا العرب، كلما لاحت في الأفق بارقة أمل في تحقيق وحدة عربية، شاملة أو جزئية أو مرحلية، يتصدّى لها بكل ما يملك من قوة للحؤول دون قيامها. ولعلَّ التفسير المبسّط لهذا الموقف أو التصرف الغربي إزاء كل محاولة أو مبادرة وحدوية عربية يكمن في فكرة واحدة، هي الخوف أو الهلع من وحدة العرب.
والحقيقة أن فكرة قيام اتحاد يضم الأقطار العربية في إطار تنظيم فدرالي سياسي واحد ليست سوى رغبة تتجاوب مع طموح العرب، وترتبط بفكرة التلاحم الطبيعي والعضوي والقومي الذي يجب أن يسود بين دول تعيش في وطن مشترك، وتنتمي إلى قومية واحدة، وتتحدث لغة واحدة، وتملك تراثاً فكرياً وحضارياً وروحياً مشتركاً، وتتقاسم مصالح مشتركة، وتواجه مصيراً وعقبات وأخطاراً مشتركة.
والوحدة العربية، كمشروع وهدف، تعرّضت لحملات من التجريح أو التنكيل أو الإحباط تستهدف التشكيك في إمكان تحقيقها. غير أن الشعب في كل الأقطار العربية لم يتخلَّ يوماً، على الرغم من المؤامرات والتجارب المريرة، عن هذا الأمل المرتجى، ولم يتوقف يوماً عن المطالبة بإنجازه. والعواطف الجياشة التي يُبديها، في كل المناسبات والأزمات وإزاء الحركات والتيارات والأغنيات والأناشيد القومية (ومنها نشيد «بلاد العرب أوطاني»، وأغنية «الحلم العربي») شاهد إثبات على مشاعره وآماله وتطلعاته الصادقة.
وتطلّع الشعب أو المواطن العربي إلى الوحدة ينطلق من عدة مفاهيم أو حقائق تُمثّل في وجدانه القومي مكاسب وفوائد من شأنه مساعدته على استعادة الأمجاد، وإثبات الذات، ومواكبة التطورات العلمية والحضارية والتقدمية في العالم، والإسهام في ضخّ المزيد من الروحانيات والأخلاقيات والقيم السامية في العلاقات والمعاملات الدولية. ويتجلّى كل ذلك في أمور عدة، أهمها:
1 - إن كل قطر عربي عاجز، بمفرده، ولو ملك الثروات الطائلة والكفايات الهائلة، عن مواجهة الأخطار والصعوبات الداخلية والخارجية، وتحقيق التنمية الكاملة والشاملة، والاستفادة من العقول المبدعة والاختراعات المتلاحقة.
2 - إن البعث الحضاري للأمة العربية، في عصر الدول والتكتلات والأطماع العملاقة، لا يمكن أن يتم ويُؤتي أُكله إلاَّ بالوحدة، فقوى الغرب، المتمثّلة بتجمعاته الإقليمية الواسعة، تسعى دائماً لإجهاض كل نهضة عربية ووأد كل وحدة عربية، لأنها تدرك أن الوحدة تعني قيام دولة عربية قادرة، بما تملك من كثافة سكانية وطاقات إبداعية وثروات طبيعية ومواقع إستراتيجية وتراث فكري وحضاري، على تطوير قدراتها وتجنيد طاقاتها وتعزيز مكانتها وتغيير موازين القوى في العالم.
3 - إن الوحدة ليست عودة إلى ذكريات الماضي المجيد، وليست عملاً نضالياً مرحلياً، وليست مجرد تعاون بين الأقطار العربية في بعض الميادين، وإنما هي عمل ثوري يُعبّر الأوضاع والعقليات ويتفاعل مع هدف ثوري آخر، هو الانخراط في عالم الديمقراطية التي تهدف إلى تركيز السلطة في يد الشعب، وضمان الحقوق والحريات للجميع دون أي تفرقة أو تمييز، واعتبار أن الديمقراطية لم تعد ذات مضمون سياسي فقط، بل أصبحت أيضاً ذات مضمون اقتصادي واجتماعي وثقافي.
4 - إن الوحدة ليست تحرّراً مادياً أو اقتصادياً فقط، وإنما هي أيضاً تحرر نفسي وأخلاقي، وانطلاق حضاري وإبداعي مناقض لآفة التجزئة وما أفرزته من عقليات متحجرة وعلاقات متوترة وأوضاع سياسية واجتماعية متخلّفة.
5 - إن الوحدة ليست، في النهاية، وحدة الدول العربية فقط، وإنما هي في الدرجة الأولى وحدة المواطنين العرب في هذه الدول، الذين يرغبون في التواصل والتعاون والمشاركة في رسم السياسة واستشراف المستقبل وحماية الوجود والعزة والشرف، والتصدي مجتمعين للمخاطر التي تتعرض لها أمتهم.
6 - إن التجارب علّمت الشعب العربي عدم الإصرار على تحقيق الوحدة الفوريّة الشاملة، لأن الظروف والأوضاع والرواسب التي خلفتها عصور الانحطاط والقهر ورعتها قوى الاستعمار، لم تعد تسمح إلاَّ بوحدة على مراحل وفي إطار اتحادي (فدرالي).
7 - إن الوحدة، في الظروف القاسية التي تمر بها الأمة العربية، أصبحت ضرورةً تاريخيةً وانتفاضةً مصيريةً، فإستراتيجية المستعمرين كانت تهدف دوماً إلى منع قيام أية وحدة عربية، لأن هذه الوحدة، إن تحقّقت، ستكون ثورة مزدوجةً: ثورة في الوجود العربي من شأنه إيجاد الحلول الجذرية لمعظم التناقضات المحلية أو الطائفية أو العرقية التي تعرقل تقدمه، وثورةً على أطماع القوى الاستعمارية والصهيونية، من شأنها قلب موازين القوى في العالم، والإسهام في تغيير الواقع العربي المتردي، محلياً ودولياً.

وتحدث زميلنا في دراسته عن الحرب الأهلية التي اكتوى لبنان بنارها مدة خمس عشرة سنة، والتي أذهلت العالم بفجورها وأهوالها، والتي انتهت بتوقيع وثيقة الطائف وتوقّف العمليات الحربية. ويمكننا، في هذه المناسبة، إبداء بعض الملاحظات السريعة:
1 - إن وثيقة الطائف لم تأتِ بحل نهائي للأزمة الكبرى التي عصفت بالبلاد، بل كانت تسويةً سياسيةً تتضمن إطاراً عاماً أو مدخلاً صالحاً للبحث السلمي في الحل النهائي. ومع ذلك فإن البعض يخشى أن تشكّل الوثيقة هدنةً توفّر لمن أضناهم التقاتل فرصةً لالتقاط الأنفاس والإعداد لجولات دموية أخرى. والخشية نابعة من أن النظام السياسي في لبنان قائم على توازنات في الحكم ولا ينطوي على قواعد وآليات وضوابط، ثابتة ومحددة، تسمح بإقامة دولة ترتكز على مؤسسات وأجهزة وشخصيات عادلة ونزيهة.
2 - إن الوثيقة صيغة لا تخلو من بصمات أو خلفيات طائفية. بل إن البعض يرى فيها عملية تكريس دستوري للوضع الطائفي في لبنان. وسئل أحد الزعماء السياسيين يوماً عن رأيه في وثيقة الطائف فأجاب بسرعة بأنها تكرّس الطائفية أكثر من ميثاق العام 1943. وصحيح أن الوثيقة تضمنت وعداً بإلغاء الطائفية السياسية بعد فترة غير محددة من الزمن، وبعد نجاح خطة مرحلية غير واضحة المعالم والنتائج، إلاَّ أنها ناقضت نفسها عندما دعت إلى استحداث مؤسسة كبرى (مجلس الشيوخ) تتمثل فيها جميع العائلات الروحية (أي الطوائف) وتنحصر صلاحياتها في القضايا المصيرية (دون إيراد تحديد لهذه القضايا).
3 - إن الوثيقة لم تحظَ بالتأييد الكامل من كل الأطراف. لقد كانت منذ البداية موضع اعتراض أو تحفّظ ما لبث أن انقلب إلى موضع شكوى وتذمّر على صعيد التطبيق والممارسة. فهناك فئات نكتفي، عند تحليلها لها، بالمآخذ والسلبيات وهناك فئات أخرى تُجري مقارنةً بين المكتوب والمطلوب، فتُقرّ بأهمية الصيغ والنصوص المكتوبة، ولكنها ترى أن أهميتها لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تُعادل أهمية الوفاق النابع من القلب، والمرتكز على حسن النيّة وإرادة العيش المشترك والدائم والخالي من العصبية الطائفية. وفي رأيها أن السوابق في مجال الوفاق الوطني لا توحي بالثقة والاطمئنان.
4 - إن الوثيقة لم تُرضِ طموح الأجيال الصاعدة. فمتطلبات القوى الشابة في كل مجتمع لا تنسجم، غالباً أو بالضرورة، مع تطلعات الأجيال الماضية أو الهرمة. إن لكل جيل همومه وآماله وآفاقه. والصيغ التي يضعها ساسةً لم يكونوا في ماضيهم على مستوى المسؤولية تأتي بعيدةً وغريبةً عن تطلعات الشباب، وحافلةً بالمصالح الشخصية. ولهذا لم يكن من المستغرب وقوف القوى الشابة الواعية من وثيقة الطائف، أو من أي وثيقة أخرى مماثلة، موقف الرافض، أو موقف اللامبالي على الأقل.
إن الشاب اللبناني عانى من شتّى ضروب الإهمال والحرمان، وخصوصاً خلال الحرب الأهلية وهو يعيش اليوم في عصر التحوّلات السريعة والعميقة والمتلاحقة، وفي خضمّ القلق النفسي والوجودي الرهيب الذي أصبح سمةً من سمات العصر، وهو يسمع ويشاهد ما يجري في مختلف أقطار الدنيا من انتفاضات وثورات ضد القهر والظلم، ومن مظاهرات صاخبة تطالب بالمزيد من الحقوق والحريات والضمانات الاجتماعية (وما يجري حالياً في بعض الأقطار العربية من انتفاضات واحتجاجات ثورية يثبت ذلك).
ثم إن المجتمع الذي يتحرك فيه شباب اليوم ليس سوى مجتمع مضطرب، حافل بالتناقضات والتحديات والمآسي، ويتناوب على حكمه جيلٌ بعد جيل من الزعامات التي لا تريد أن تتطور، ولا تسمح للأجيال الشابة بأن تتطور. فكيف بعد ذلك، نريد من هذه الأجيال أن تُبارك صيغةً وفاقيةً تحدّ من طموحها وتُعَزّم أحلامها؟ وإذا كانت الحرب الأهلية قد اتّسمت (أو أريد لها أن تتسم) بطابع طائفي، فلماذا تبدو فترة ما بعد الحرب عاجزةً عن إنقاذ نفسها من هذه الآفة والاتجاه نحو الهموم والمعضلات الاجتماعية والأخطار الخارجية، ما دام الجميع يعترفون بأن الصراع الاجتماعي والخطر الخارجي أخطر من أيّ صراع سياسي؟.

وتحدث الزميل أيضاً في دراسته القيمة عن القضايا العربية المعاصرة. وأهم قضية فيها هي قضية الصراع العربي - الإسرائيلي ومحاولات إجراء مفاوضات مع العدو الإسرائيلي بغرض الاعتراف به ومساومته على إنشاء دولة فلسطينية مصغّرة بحدود العام 1967، أي على جزءٍ يسيرٍ من أرض فلسطين.
نحن نعتقد أنها مناورة أو حيلة أو خدعة مدبّرة للوصول إلى إنهاء القضية الفلسطينية والاعتراف الواضح والصريح بالكيان الصهيوني، أي التخلّي الكامل عن الأجزاء المتبقية من فلسطين التي اغتصبها ذلك الكيان بالتواطؤ والعنف والمجازر والتشريد.
وهنا يُطرح تساؤل: هل يحقّ لأية دولة أو منظمة أو حكومة أو جماعة عربية الإقدام، بإرادتها المنفردة، على مثل هذا التصرف؟.
إن الصراع القائم بين العرب، أصحاب الحق الطبيعي في الأرض الفلسطينية كلها، وبين الإسرائيليين المغتصبين لجزء عزيز من هذه الأرض، ليس نزاعاً عادياً بين دولة ودولة، أو بين أنظمة عربية وكيان إسرائيلي. إنه صراع قومي تمثل الأمة العربية، بتاريخها الطويل وتراثها الحضاري وثقلها البشري وثرواتها الطائلة، الطرفَ الأصيل والأوحد فيه.
وعندما تكون الأمة العربية بأسرها هي الطرف الأصيل في هذا الصراع المتعلق بمصيرها القومي، فإن كل محاولة لإدخال أي تعديل على أساس هذا الصراع أو مساره يجب أن تتم برضاها الكامل. وهذا يعني أن ليس في وسع أي زعيم أو حاكم أو نظام عربي، مهما يقلّ شأنه وتتكدّس إنجازاته وتضحياته، أن يتصرّف بمصير أية قضية قومية دون الرجوع إلى الأمة.
إن الأمة العربية، وليس الحكام وحدهم، هي التي رفضته منذ البداية وحتى الآن، زرع الوجود الصهيوني في قلب الوطن العربي. إن هذه الأمة، وليست الأنظمة السياسية وحدها، هي التي رفضت الهزيمة والاستسلام، وضحّت بالشباب والثروات، وتحمّلت بصبر أيوب في أيام الشدائد، ورضيت بالصمود في أحلك الساعات إن هذه الأمة الواحدة، ضميراً ومصيراً، وليست دولها المتعددة، هي التي فرضت، في مؤتمر الخرطوم الشهير للعام 1967، شعار اللاءات الثلاث بعدم الاعتراف. ولهذا فإن التخلّي عن هذا الشعار القومي الثابت لا يُمكن أن يتمّ (إذا قُدّر له أن يتم) إلاَّ بمحض إرادتها.
إن التخلّي عن جزء من أرض الأمة ليس عملاً من اختصاص الحكام، إنه من صميم صلاحيات الأمة. والتخلّي لا يصبح عملاً مشروعاً ومقبولاً إلاَّ عندما توافق عليه الأمة بمحض إرادتها وكامل وعيها القومي، ولهذا فإن كل اعتراف بحق الصهيونيين في احتلال أرض عربية هو خروج على إرادة الأمة.
إن الأمم أو الشعوب تُستفتى عادةً لتقرير أمور في غاية البساطة، كتغيير السير من اليمين إلى اليسار، أو إجراء تعديل في مادة دستورية، أو إدخال تغييرات طفيفة على تقسيمات إدارية. وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يحق للأمة التي اغتُصبت جزء عزيز من أرضها أن تُفصح، في استفتاء ديمقراطي حرّ، عن رأيها في دعوة البعض إلى الاعتراف بعدوها والتخلّي له عن جزء من أرضها؟.
في العام 1972. تحدث المناضل القومي المرحوم فايز صايغ عن موضوع التنازل فكتب يقول: «إن سلطة التنازل عن أي أرض عربية لا يملكها أي شعب عربي، أو أي جيل من أجيال الأمة العربية. بل إن الشعب الفلسطيني لا يملك سلطة التنازل عن أرض فلسطين (ناهيك عن أيّ أرض عربية)، لأن أرض كل قطر في الوطن العربي هي ملك الأمة العربية جمعاء ،على امتداد أجيالها مدى التاريخ،وبالتالي ان ادعاء أي قطر عربي ،بحق مقايضة مصير جزء من الأرض العربية بمصير جزء آخر إنما هو اعتداء على تراث الأمة العربية جمعاء، وعلى حقوق أجيالها المتعاقبة في كامل التراب العربي، فضلاً عن كونه اعتداءً على حقوق أبناء الجزء المتنازل عنه».
وعندما زار الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، إسرائيل في العام 1977، وأعلن اعترافه بالعدو القومي للعرب، أذاع قادة فصائل الثورة الفلسطينية وثيقةً تضمنت، أولاً مناهضة جميع الحلول الاستسلامية الصهيونية الرجعية، وثانياً رفض قراريٍ مجلس الأمن 242 و338، وجميع قرارات المؤتمرات الدولية التي تقوم على أساس هذين القرارين. وثالثاً التركيز على حق إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أي جزء يتم تحريره من الأرض الفلسطينية المحتلة، دون صلح أو تفاوض أو اعتراف.

إن الإصرار الدائم لبعض العرب، أنظمةً وباحثين، على اللجوء إلى المنظمة العالمية (الأمم المتحدة) للبحث في أروقتها ودهاليزها عن حلّ عادل لقضايانا القومية، وفي طليعتها القضية الفلسطينية دليل واضح على أننا لا نريد أن نتعظ ونعتبر ونقتنع بأن القرارات الصادرة عن هذه المنظمة ليست سوى توصيات عابرة وعاجزة كلياً عن حلّ أيّ صراع قومي ومصيري، وبأن حسم كل صراع يتوقّف، أولاً وأخيراً، على مدى ما يملكه الطرف الراغب في الحسم والحل من إرادة وعزم وقوة.
لقد أصدرت الأمم المتحدة، حتى الآن، عدداً هائلاً من القرارات المتعلقة بقضية فلسطين، فبقيت كلها تقريباً حبراً على ورق. ولم يحدث يوماً أن تمكن قرار دولي من فرض حلّ عادل. فالمقاومة الصامدة الحافلة بالإيمان كانت وما زالت أصدق أنباءً من أي قرار دولي، ولو صدر بالإجماع.
والدرس الذي تعلّمته الجماهير العربية، بعد كل تجاربها المريرة مع أجهزة الأمم المتحدة، هو أن القوانين والأحكام والقرارات والاجتهادات الدولية عاجزة كل العجز، في عالم يسوده منطق القوة والهيمنة ومعيار النفاق والتحيّز، عن تحقيق أي شرط من شروط الحق والعدالة.
ألم تتجاوز الجمعية العامة صلاحياتها الميثاقية في العام 1947 عندما اتخذت قراراً بتقسيم فلسطين؟ فماذا كانت النتيجة؟،
ألم تتحمس تلك الجمعية في العام 1948 وتصدر قراراً بعودة اللاجئين والتعويض عليهم؟ فماذا حلّ بهذا القرار؟،
ألم يتخذ مجلس الأمن بالإجماع في العام 1967 القرار 242؟ فماذا كان مصير هذا القرار بعد أكثر من أربعة عقود؟.
ألم تتخاذل الجمعية العامة وتتراجع في العام 1991 عندما أقدمت، لأول مرة في تاريخها، على اتخاذ قرار، دون حيثيات أو ذكرٍ للمبررات، بإلغاء قرار سابق صادر عنها في العام 1975، ينصّ على أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري؟ فماذا كان موقف الدول الكبرى والصغرى. وخصوصاً الدول العربية، من هذا التصرّف المشين والتلاعب المزاجي بالقرارات الدولية؟.
ألم تتبنَ الجمعية العامة، بأغلبية ساحقة في العام 2004، الفتوى التي صدرت بطلب منها عن محكمة العدل الدولية، وأوصت بوجوب هدم الجدار العنصري الفاصل في فلسطين باعتباره عملاً مخالفاً لأحكام القانون الدولي؟ فماذا كان موقف الأمم المتحدة من إسرائيل (العضو الوحيد فيها الذي قُبلت عضويته بشروط) بعد أن رفضت الاستجابة واستمرت في ارتكاب المخالفة؟،
إن الاعتماد على العوامل الخارجية أو المساعدات الدولية أو المتغيرات المفاجئة لا يحسم وحده أمراً ولا يحل مشكلة. واللجوء إلى الأمم المتحدة، في الظروف والأوضاع الدولية الراهنة، دليل عجز وفقدان ثقة بالنفس، فليس بوسع هذه المنظمة، إن حسُنت النيات، إلاَّ القيام بمحاولة التوفيق بين الأطراف المتنازعة. والتوفيق، إن تمَّ برضانا، لن يعني إلاَّ التسوية. والتسوية ليست حلاً عادلاً للمعضلات القومية والحقوق الثابتة.
والحق في المجالات الدولية لا يتحقق إلاَّ من خلال النضال والصمود والانتصار. والعدالة لا تخرج من زنزانتها الدولية إلاَّ على رؤوس الحراب. وإذا كنا نعتقد أن قرارات الأمم المتحدة هي التي كرّست وجود إسرائيل وأضفت عليها الشرعية، فنحن واهمون. إن إسرائيل وُجدت بإرادة الإمبريالية العالمية ومساندتها المستمرة لخدمة مصالحها. وبين إسرائيل وهذه الإمبريالية، المجسّدة اليوم بالولايات المتحدة، ارتباط عضوي ومصير مشترك. ولنتذكّر دائماً أن الشعب الفلسطيني قد استمدَّ شرعيته من كفاحه المسلح ومناصرة الشعوب المحبة للسلام والعدالة، لا من قرارات المنظمات الدولية. وحرية الجزائر المستقلة وُلدت في ساحة المعركة وليس فوق منابر الهيئات الدولية. والفيتناميون الذين حاربوا، دون كللٍ أو مللٍ، لمدة ثلاثين سنة، عمالقة الإمبريالية والطغيان في العصر الحديث لم يشعروا يوماً بأدنى حاجةٍ إلى تكريس شرعية حقوقهم وكفاحهم عن طريق الأمم المتحدة.
إن الصراع القائم بيننا وبين الصهيونيين وأسيادهم هو، في الحقيقة والواقع، صراع مصير ووجود لا يمكن أن ينتهي، إذا تصفّحنا كتاب التاريخ، إلاَّ بهزيمة إحدى القوتين المتصارعتين، قد يهدأ الصراع حيناً، كما جرى في الحروب الصليبية، لالتقاط الأنفاس وإعادة النظر في المخططات. وقد تتخللّه هدنات ونكسات، وقد يتنكّر له بعض المسؤولين العرب فيتخاذلون وينسحبون من دائرة الصراع. ولكن جذوة الصراع ستبقى ملتهبة ما دام هناك كيان عنصري غريب في أرضنا يهدد وجودنا الحضاري بالخطر، وما دام هناك عربي واحد قادر على التصدّي ومؤمن بحق أمته في العيش بكرامة.
يستسهل البعض بسذاجة عملية الاعتراف والصلح مع الكيان الصهيوني، ويعتبرها مسألة شكلية وموقتة باستطاعة العرب أن يتجاهلوها ويتعايشوا معها إلى أن يصبحوا قادرين على إزالة إسرائيل من الوجود.
إن هذا التفكير مجرد وهم خادع، أولاً لأن إصرارنا حتى الآن على رفض الاعتراف بإسرائيل هو العنصر الشرعي والقانوني والمعنوي الوحيد المتبقي لنا للدفاع عن حقنا والكفاح من أجله. وثانياً لأن توقيع معاهدة صلح مع إسرائيل سيُسفر عن ظهور وثيقة دولية مكتوبة تطلع عليها دول العالم. وهذه الدول ليست على استعداد في المستقبل لتقبّل مبرّراتنا إذا ما عنّ لنا أن نُخلّ بالتزاماتنا الدولية. ثم أنه ليس من الشهامة والفروسية في شيء أن نعترف اليوم بحق إسرائيل في الوجود بيننا وفوق أرضنا ثم نتنكّر غداً لهذا الاعتراف، معلنين ندمنا على ما بدر منًا.
إن أجدادنا مروا بظروف مشابهة، ولكنهم لم يفرطوا في حق ولم يتخاذلوا أمام الصعاب. لقد اضطروا أحياناً إلى الجلاء عن أرضٍ، ولكنهم لم يفكروا أبداً في توقيع وثيقة رسمية تُثبت تنازلهم عن حقهم في الأرض. والمؤرخون يروون عن آخر الملوك العرب في الأندلس أنه، بعد هزيمته واستسلامه، رفض التوقيع على وثيقة يعلن بموجبها تخلّي سلالته العربية عن كلّ حق لها في هذه البلاد. لقد أبى، في الحقيقة، أن يتنازل عن حق ليس من صلاحياته التصرف به. ولعل فكرة الاحتكام إلى الأجيال القادمة والاعتماد عليها في استرداد ما قصرّ جيله في الاحتفاظ به هي التي خامرته عندما فضّل عدم إلزام بني قومه بوثيقة مصيريّة ترهن مستقبلهم.
ومن ناحية ثانية، وكما كتب المرحوم الدكتور هشام شرابي، فإن «مصير الشعوب لا تقرره العلاقات وموازين القوى الآنية، بل القوى الموضوعية وجدلية التاريخ على مراحل زمنية معيّنة. إن حجم إسرائيل في حقيقته الموضوعية أصغر بكثير ممَّا يبدو في هذه اللحظة العابرة. وما يحدّد هذا الحجم ليس العلاقات الخارجية، ولا التقنيّة المتفوقة مؤقتاً، بل الموارد البشرية والمادية والمحيط الذي توجد فيه».

... والمواضيع التي تطرق إليها الزميل الكريم في المجلدين من كتابه أكثر وأشمل من المسائل التي اخترناها وألقينا نظرة عجلى عليها. ولا يسعنا، بعد الإطلاع على الكتاب، إلاَّ أن نُثني على الجهود الحميدة التي بذلها من أجل إعداد كتاب يشتمل، ولو باختصار أحياناً، على التطور السياسي الذي مرَّ به الوطن العربي. وعلى القضايا العربية المعاصرة والملحة التي تؤرق جفون العرب وتهدد وجودهم ومستقبلهم بالخطر في حال تهاونوا أو قصّروا في إيجاد الحلول الحاسمة والعادلة.
ومرة أخرى نُوجّه إلى زميلنا تحية إكبار لحرصه الدائم على معالجة القضايا العربية والدولية بموضوعية وتجرّد، وبأسلوب يتّسم بالمرونة والبساطة. وكل ذلك من أجل تقديم معلومات، واستخراج عبر، وخدمة قضايا الوطن، والدفاع عن الحقوق والحريات في كل بلد. ورجاؤنا أن يستمر في هذا النهج القويم والسليم لإغناء المكتبة العربية بالمزيد من الدراسات الفكرية المفيدة.
محمد المجذوب
بيروت في 11/11/2011










23‏/12‏/2011

من التعاون الى الاتحاد

من التعاون إلى الاتحاد
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 22/12/2011
بين العام 1945 والعام 2011،زمن طويل يختصر أحلام وأحداث لا تعدى ولا تحصى.لكن ما يميزها تجمعان عربيان،جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي.الأول يختصر أزمات نظام إقليمي عربي يكاد يتهاوى بعد فرقة السياسة وتباين المصالح بين اللاعبين الإقليميين من غير العرب الذين أثروا على مسار أمة ،حلمت دائما بالانتقال من التعاون إلى الوحدة. والثاني تجمع خليجي لا زال صامدا رغم الأعاصير التي هبّت على المنطقة ولا يزال يكافح في وجه تحديات كثيرة.
اليوم كلام آخر، ينطلق من القمة الـ 32 لدول مجلس التعاون الخليجي عبر الدعوة السعودية للانتقال من التعاون إلى الوحدة، وهي دعوة تستشعر مخاطر الأمة العربية وتحدياتها التي تحيط بها من كل حدب وصوب. وهي دعوة ينبغي أن تحث العرب جميعا بنقل هذه الدعوة أيضا إلى جامعة الدول العربية،التي انطلقت أساسا في العام 1945 على قاعدة التعاون لا الوحدة.
مخاطر اليوم تحيط بالعرب جميعا، وتتطلب دعوات ومبادرات من هذا النوع الذي يجمع ولا يفرق،في ظل تحديات ذات طابع قطري وجماعي على السواء.وربما ثمة من يقول، ان مشاريع الوحدة العربية لم تكن يوما غائبة عن برامج تجمعاتها القطرية واتحاداتها الإقليمية، لكنها لم تصل لنهاياتها السعيدة،لكن مستجدات اليوم هي مختلفة عن سابقاتها.
اليوم نظام إقليمي عربي يتهاوى في وجه تحديات يصعب مواجهتها بأطر وسياسات تقليدية.فاعلين إقليميين غير عرب ،باتوا هم من يقرر وينفذ،في وقت نحن العرب لا زلنا نختلف على جنس الملائكة، بل ونعيش خارج هذا الكوكب اذا جاز التعبير.
تهديدات وهواجس أمنية شرقا وشمالا وقلبا،باختصار تبلعنا ضغوط هائلة، من الصعب كبح جماحها منفردين غير متحدين.شرقا ملفات وبرامج نووية،ذات أبعاد إقليمية،وشمالا حيث المنافسة لإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وفي قلب أمتنا وأرضنا دولة مغتصبة لرمز ديننا وقوميتنا،فمن أين تبدأ المواجهة؟
تجارب الشعوب والنظم كثيرة التي تحدثت عن نجاحات واعدة وباهرة،من خلالها تمكنت من وضع نفسها بين مصاف الدول المقررة على الصعيد العالمي.ثمة اتحاد أوروبي يحتذى بآليات عمله،كما الكثير من الاتحادات الأخرى،اليوم ربما هذه الآليات والوسائل هي الأكثر معقولية لبناء وحدة عربية لا تبدأ بالضرورة من السياسة ،فماذا لو بالاقتصاد والمال مثلا.وهما ملفان قطعت دول مجلس التعاون أشواطا لافتة فيهما.
لقد تمكن مجلس التعاون الخليجي من انجاز ملفات ذات شأن لافت في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية،في فترات قياسية من عمره،وتأتي الدعوة اليوم لتشكل أحد الوسائل الناجعة لمواجهة المخاطر ليست الخليجية لوحدها بل أيضا لمجمل الدول العربية.
دول مجلس التعاون الست مدعوة اليوم،لاتخاذ مواقف وقرارات ذات بُعد استراتيجي،فثقلها السياسي والاقتصادي يسمحان لها للعب أدوار مؤثرة في حياة المنطقة ومستقبلها.فربما التعاون كان مفيدا في السابق،لكنه لم يعد كافيا اليوم،فالوحدة تبدو سبيلا للقوة،والقوة تبدو وسيلة لإعادة إنتاج موقع يلبي الطموحات.
ربما كانت للملفات التقليدية صورة بارزة في اجتماعات القمم الـ 31 الماضية، لكن أسئلة اليوم تبدو من نوع التحدي.البرنامج النووي الإيراني في حالة تصعيد وتأزيم مستمرين،وثورات شعبية في غير مكان من الدول العربية،وإسرائيل القابضة على الزناد تنتظر الفرصة للانقضاض،وتركيا التي تراهن على تغيرات دراماتيكية سريعة لدى الشعوب، تنتظر لتكسب ثمن مواقفها.
في العام 1945 نأى الزعماء العرب المؤسسون لجامعة الدول العربية أنفسهم،عن ضغوط الوحدة العربية آنذاك والتي كانت تمثل حلما في الذاكرة الجماعية للمجتمعات العربية، والقمة الخليجية تطرح اليوم ضرورة الانتقال من التعاون إلى الوحدة، وكأنها تعيد تصويب المسارات، بعد التيه العربي الكبير.
ان فكرة التكتلات والاتحادات قد أثبتت جدواها وغاياتها حتى بين الدول والمجتمعات غير المتقاربة قوميا، فكيف والعرب يملكون من المقومات والأسباب التي ينبغي ان تجبرهم على تلقف الدعوة والبناء عليها،في ظروف هي الأخطر التي نمر بها بين شعوب المعمورة كافة! المطلوب اليوم احتضان هذه الدعوة وتعميمها على كل التجمعات الفرعية العربية، باعتبارها شأنا عربيا خالصا، وقضية محورية صعب التملص منها.ثمة من يقول،خير ان تأتي متأخرة من ان لا تأتي أبدا.

19‏/12‏/2011

تحديات العراق ما بعد الاحتلال

تحديات العراق ما بعد الاحتلال
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 19/ 12 /2011
تمثل الحالة العراقية تحديا واضحا ليس للعراق وحده،وإنما لمجمل البيئة السياسية المحيطة به وفيه.فبعد الانسحاب الأمريكي المفترض يقف العراق أولا على مفترق طرق،إما باتجاه عراق جديد زاخر وواعد،وإما عراق تسوده الفوضى التي ستغرقه بمزيد من الظلمات، التي ستطول كثيرا وتتمدد إلى غير مكان.
ثمة تحديات داخلية كثيرة لا تقل قسوة عن الخارجية. أولى التحديات الداهمة الوضع الأمني غير المستقر في الأساس ،ومع الانسحاب ثمة أسباب وحوافز لا تعد ولا تحصى لانفلاته باتجاهات مختلفة منها الطائفية والمذهبية ،ومنها المناطقية والعرقية، ومنها أيضا المكونات الاقتصادية والاجتماعية.باختصار ثمة عجز عراقي واضح لمسك الملفات الأمنية في ظل بيئة عسكرية أمنية وطنية مفككة وإمكانات لوجستية معدومة نسبيا. فالجيش والقوى الأمنية الداخلية لا تعكس مؤسسات وطنية هدفها الرئيس مصلحة العراق عامة، بل يطغى على تركيبتها بعد طائفي واضح، ما يضعها كجزء من مسببات العنف وليس مواجهته، كذلك ضعف الإمكانات المادية لمنع اندلاع مواجهات طائفية يمكن ان تشتعل عقب الانسحاب ، كما أن الجيش غير قادر على مواجهة التحديات والتهديدات الخارجية بخاصة بعد قرار الحاكم العسكري الأمريكي للعراق بول بريمر بحل الجيش وأجهزة الشرطة، والتي لم تقم الولايات المتحدة بإعادة بناء الجيش وفقا لعقيدة احترافية تمكنه من الدفاع عن البلاد.
أما التحدي السياسي الأخطر، فيكمن في استيعاب حالة المحاصصة الطائفية والمناطقية – الفدرالية، الذي يهدد بتقسيم البلاد الناجم عن اختلال العلاقة بين الحكومة المركزية والأقاليم التي تنحو باتجاه الاستقلالية في جميع مسائل الإدارة والاقتصاد والأمن والسياسات العامة، المعزز والمحصن بقانون الأقاليم الذي تم إقراره والذي يعطي للأقاليم اليد الطولى في مواجهة المركز. وما يعزز تلك التوجهات الحالة الكردية التي كوّنت أسس الكيان السياسي القادر على الانطلاق بعيدا عن العراق الموحد حين توفر الظروف الموضوعية لذلك.

كما يعطي الانسحاب الأمريكي فرصة قوية للاعبين الإقليميين الآخرين في العراق من أخذ مواقع أكثر حساسية،من بينها إيران وتركيا على سبيل المثال لا الحصر. حيث يعزز هذا الاتجاه مجموعة المصالح المتقاربة للعديد من الكيانات السياسية الداخلية مع مصالح هاتين الدولتين،حيث يتم تبادل المنافع والمصالح الإستراتيجية كما التكتية. في وقت تسعى طهران لتوظيف أوراقها العراقية بمواجهة الولايات المتحدة في برنامجها النووي.
أما التحدي الاقتصادي فلا يقل خطورة عن غيره من الملفات التي تنتظر العراق،فثمة بطالة حقيقية ومقنعة تصل إلى 40 في المئة وهي أرقام قياسية على المستوى العالمي،كما حالات التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي تصل معددلات خط الفقر فيه إلى أكثر من 45 بالمئة،إضافة إلى مظاهر الفساد وانتشارها في كل مفاصل السياسة والاقتصاد العراقيين.علاوة على ذلك ثمة ملف المهجرين والمهاجرين إلى الخارج الذي يناهز عددهم الخمسة ملايين،معطوفا عليهم موجة التهجير الداخلي التي شاعت بين المناطق العراقية في الأعوام ما بين 2006 و2008.
ان التحدي السياسي الأكبر، يكمن في إمكانية صياغة سياسة خارجية،تحكم وتضبط العلاقات العراقية مع دول الجوار الجغرافي،والتي بمجملها لها من الأهداف والغايات والمصالح، ما يجعلها لصيقة بالعراق وإمكاناته،وبالتالي ان قراءة العراقيين الدقيقة لمستقبل علاقاتهم العربية والإقليمية هي ضرورة ولازمة لبناء عراق قوي، يعيد دوره الفاعل في وسطه العربي والإقليمي.
ثمة صور قاتمة وسوداء لمختلف تداعيات هذه التحديات،لكن التجارب السابقة التي مرَّ بها العراقيون منذ حرب الخليج الأولى والثانية وصولا إلى مرحلة الاحتلال والانسحاب، يُفترض ان تكون من الدروس المستفادة لشعب يصنف على أنه القارئ الأول بين المجتمعات العربية.فالعراق اليوم أمام اختبار حقيقي، فالانسحاب يمكن ان يكون خطوة أولى نحو استعادة العراق لسيادته الكاملة ودوره العربي والإقليمي عبر تعاضد العراقيين وتعاونهم جميعا في تقرير مستقبل بلدهم عبر حوار وتوافق وطني هادف ، ونبذ الطائفية والمذهبية ، وبناء العراق المرتكز على قواعد وأسس الديمقراطية والمواطنة التي تساوي بين جميع العراقيين بصرف النظر عن التنوع والتعدد السياسي والديني والعرقي واللغوي
ان استمرار الغرق في أتون المذهبية والعرقية والمناطقية،وهيمنة فئة على فئات أخرى،أمر سيقود العراق إلى مرحلة أخرى من التقاتل، لن يكون أحد رابحا فيها، يل ستكون مرحلة ما بعد الانسحاب أشد وطأة من المراحل التي سبقت،الأمر الذي يعزز ضرورة التوحد في الوجهة والاتجاه بين مختلف مكونات بلاد الرافدين التي صدّرت الحضارات والثقافات إلى مختلف أصقاع العالم.

18‏/12‏/2011

ماجستير علاقات دولية ودبلوماسية / حيدر عبد

الاسم : حيدر سامي عبد
الموضوع إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العراق (2001- 2009)
الشهادة : الماجستير في العلاقات الدولية والدبلوماسية

التاريخ: 16/ 12 / 2011
الدرجة :ممتاز
مثل احتلال العراق في العام 2003 تحديا للشرعية الدولية،لكن القضية لا تقف عند هذا الحد،بل تعدته لتغييرات ذرية في استراتيجيات الولايات المتحدة،وبرزت في عدة أشكال وتطبيقات،هذا ما حاولت الرسالة توضيحه وإبرازه.
تتمثل أهمية الموضوع في الكشف عن الجوانب الحقيقية لاحتلال العراق، بعيداً عن الأوهام والتخمينات، وذلك من خلال دراسة وتحليل الإستراتيجية الأمريكية تجاه العراق، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وحتى انتهاء فترة حكم الرئيس بوش الابن (2009). كما تتمثل الأهمية في محاولة الكشف عن الوسائل والأدوات التي استعملتها الولايات المتحدة بهدف تحقيق مآربها في العراق ومدى تأثير ذلك في مجمل العلاقات الإقليمية والدولية.
لقد عالج الطالب البحث بالدراسة والتحليل الإستراتيجية الأمريكية تجاه العراق خلال الأعوام (2001-2009)، حيث استحوذ العراق على مكانة محورية في الاهتمامات الأمريكية، لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001 بصورة فاقت كل التوقعات، الأمر الذي جعل من العراق مسرحاً للعمليات العسكرية للرئيس بوش الابن وبلا منازع. غير إن الجموح في المسعى للوصول إلى الهدف عطل الوضوح في الرؤية، لما تؤول إليه تداعيات المشهد، فظهرت الإشكالية على صورة تناقض فاضح بين الإدعاءات الأمريكية وواقع الحال، وبين زيف التهم التي وجهت للعراق بامتلاكه أسلحة محرمة دولياً واعترافات المحققين أنفسهم، وبين الادعاء بحماية الحقوق والحريات وهمجية الممارسات على ارض الواقع، وبين نشر الديمقراطية ونشر الفرقة والكراهية بين قوميات وطوائف ومذاهب البلد الواحد، وبين تعزيز الأمن والسلم في المنطقة والتهديد بالانفجار في كل لحظة.
اعتمد الطالب على مجموعة من مناهج البحث العلمي ، فاعتمد على المنهج التاريخي لأهميته في إعطاء خلفية تاريخية للإستراتيجية الأمريكية، فضلاً عما يوفره من إمكانية دراسة التطور التاريخي للمتغيرات ذات الأهمية. وكذلك على المنهج الوظيفي كأحد المناهج الرئيسة في دراسة مؤسسات ومقومات وأهداف الإستراتيجية الأمريكية ووسائل تنفيذها. كما استخدم المنهج التحليلي، عند دراسة مراحل تطور الإستراتيجية الأمريكية تجاه العراق قبل وبعد الاحتلال. واعتمد كذلك على المنهج الوصفي بغية الوقوف على تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.

اشتملت الدراسة فضلاً عن المقدمة والخاتمة على فصلين يسبقهما فصل تمهيدي، في الفصل التمهيدي تناول مفهوم الإستراتيجية الأمريكية ومؤسسات صنعها.وتطرق في الفصل الأول إلى دراسة الإستراتيجية الأمريكية (المقومات والأهداف والوسائل) من خلال ثلاث مباحث رئيسية، بين في المبحث الأول أهم المقومات التي تستند إليها الإستراتيجية الأمريكية، وأوضح في الثاني أهداف الإستراتيجية الأمريكية، واستعرض في الثالث وسائل تنفيذ هذه الإستراتيجية.
أما الفصل الثاني فقد عالج فيه مراحل تطور وتداعيات الإستراتيجية الأمريكية تجاه العراق(2001-2009) عبر ثلاثة مباحث أيضاً، تناول في المبحث الأول تطورات الإستراتيجية الأمريكية تجاه العراق قبل الاحتلال، وسلط الضوء في المبحث الثاني على تطورات الإستراتيجية الأمريكية بعد الاحتلال، وخصص المبحث الأخير للكلام عن ابرز تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق ، محلياً وإقليميا ودولياً.استند الطالب في رسالته إلى مجموعة واسعة من المراجع العربية والأجنبية ما أعطاها إضافة علمية فارقة.
ناقش الطالب رسالته بتاريخ 16-12-2011،أمام اللجنة المكوّنة من الدكاترة محمد المجذوب وجورج عرموني ومحمد وليد عبد الرحيم،حيث قبلت الرسالة ومنحته شهادة الماجستير في العلاقات الدولية والدبلوماسية بدرجة ممتاز.


بيروت 16/12/2011 أ.د.خليل حسين

روسيا وسياسة ملء الفراغ

روسيا وسياسة ملء الفراغ
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الشرق الأوسط من بابه العريض في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي،على قاعدة ملء الفراغ الناجم عن أفول النجمين الفرنسي والبريطاني،بعد سلسلة ثورات عربية أطاحت بأنظمة وبأحلاف إقليمية. اليوم تخرج الولايات المتحدة نفسها من العراق،وان بظروف مختلفة، لكنها متطابقة لجهة الثورات وإعادة تركيب التحالفات،فهل ستنتهج روسيا بوتين،الفراغ المحتمل لإعادة ترتيب أوضاعها؟
في المبدأ،تعتبر روسيا كأي دولة كبرى ذات توجهات عالمية،وقد أعاد الرئيس فلاديمير بوتين، إليها هذه الميزة في خلال الفترتين الرئاسيتين التي قضاهما في الرئاسة،وأودع روسيا فيما يشبه الأيدي الأمينة عبر الرئيس ميديدييف.اليوم وبعد فوز حزب بوتين في الانتخابات التشريعية،بات جاهزا للعودة إلى برنامجه القديم – الجديد،بأوجه وأساليب متعددة،من بينها،اتحاد اورو آسيوي يضم مجمل الدول التي انضمت سابقا إلى اتحاد الدول المستقلة،أو ما سميَّ آنذاك بالكومنولث الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
طبعا،تمتلك روسيا اليوم من المقومات ما يجعلها تمد نفوذها في تلك المناطق الحيوية، لكن بالعودة إلى الكثير من نظريات الجغرافيا السياسية، أو بشكل أدق إلى نظريات"الجيوبولتيك" التي اعتبرت المناطق الأورو آسيوية،المجال الحيوي الأول للسيطرة على العالم،مع إضافات أخرى إليها ممتدة باتجاه الجنوب وبالتحديد منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر وفقا لهذه النظريات قلب العالم،فإن روسيا لن تترك فرصة التطلع إلى منطقة يُعاد تشكيلاتها السياسية بعد مخاض الثورات والانسحابات الأمريكية.
ثمة وقائع ومعطيات متنوعة، تعزز الرؤية - الخيار الروسي،بصرف النظر عن إمكانات النجاح أم الفشل،وبغض النظر أيضا اذا ما كان الانسحاب الأمريكي من العراق سيولد فراغا استراتيجيا يمكن استغلاله روسيا.في المجال الحيوي الأمني خاصة،ثمة تحوّل تركي واضح، تجلى بنشر جزء من الدرع الصاروخي على أراضيها،ما يعطي مزيدا من الأسباب الروسية للتطلع جنوبا حيث الممر الممسوك تركيا باتجاه المياه الدافئة في البحر المتوسط الحلم الدفين لموسكو.علاوة على ذلك وان كان نشر المنظومة قد بُرر تركيا على أنه غير موجه لا ضد موسكو ولا ضد طهران،إلا انه في القراءة الروسية يعني مد يد الناتو وعينه إلى منطقة، تعتبر الأشد حساسية في العالم، لما تختزن من موروثات الاقتصاد والسياسة وغيرها من الدوافع لإشعال حروب باردة ان لم تكن ساخنة.
في المقلب الآخر من القراءة الروسية للمنطقة، ثمة حراك شعبي سوري مربك لموسكو،حاولت في الفترات السابقة التعامل معه بحذر شديد على قاعدة عدم قطع الوصال مع أي من أطرافها،لكن سُجل في الأسبوعين الماضيين تحوّلٍ لافت يرقى إلى مستوى المواقف الإستراتيجية في السياسات الخارجية الروسية، عبر إرسال تعزيزات عسكرية نوعية إلى البحر المتوسط وبالتحديد إلى قاعدة طرطوس،علاوة على تسليم دمشق منظومة صواريخ"ياخون" ذات الأبعاد العسكرية الإستراتيجية في مواجهة احتمال تدخل عسكري من قبل الناتو ضد دمشق.
في المقلب الآخر من منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد في أفغانستان،حسمت واشنطن والناتو وجودهما في أفغانستان حتى العام 2020 في مؤتمر برلين،الأمر الذي سيعزز الإرباك في العقل الباطني الاستراتيجي للقيادة الروسية، لما تحمله هذه المنطقة أيضا من أبعاد كانت محط أنظار موسكو في الحقبة القيصرية مرورا بالسوفيتية وبالتأكيد"البوتينية" اذا جاز التعبير.
يبقى المسرح العراقي وهو بيت القصيد في حفلة الأحلام والأطماع الإقليمية والدولية.فقد كانت موسكو الخاسر الأكبر من احتلال أميركا للعراق في العام 2003،خسارة عقود نفطية قدرت آنذاك بـ 200 مليار دولار،علاوة على إخراجها عنوة من منطقة تعتبر تقليديا إبان فترة الحرب البارد، مسرحا مريحا لها، ومجالا للإطلالة السريعة على الخليج وما يعنيه أميركيا.وما يعزز هذا السلوك الروسي المحتمل، الخروج المدوي لموسكو من شمال أفريقيا وبخاصة لجهة الكعكة النفطية الليبية.
لقد عزز الرئيس فلاديمير بوتين، موقع روسيا في تركيبة النظام العالمي في الفترة الأولى لولايته 2000 – 2004، ثم ما لبث ان نقل موسكو في سياسات هي أشبه بمواجهة واشنطن في بعض تفاصيل السياسات الإقليمية والدولية في الفترة الثانية 2004 - 2008، وحاول انتزاع دور مفترض لموسكو بين الكبار، اليوم يأتي عبر انتخابات ليجدد رؤيته باتحاد قابل للحياة ،بعدما تمكنت روسيا من تركيز اقتصادياتها وتمكنها من إمكانية استيعاب متطلبات هذا الاتحاد بعدما افتقدته في الاتحاد الأول بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وكتلته. فهل ستتمكن من ذلك؟أم ستحتاج إلى أدوات وأذرع أخرى في السياسات الخارجية؟
من حيث المبدأ، وبصرف النظر عن مجمل نظريات الجيوبولتيك التي لم يكن يؤمن بها الاتحاد السوفيتي سابقا،بل حاربها باعتبارها العقل الباطني للنازية الألمانية والشوفينية الايطالية، اليوم تلجأ إليها كل الدول الطامحة والطامعة للعب أدوار عالمية،فكيف اذا كانت منطقة الشرق الأوسط تعتبر من الناحية العملية قلب العالم وعصبه النفطي،فهل ستترك المنطقة لقدرها؟ أم ستكون لكل دولة قراءتها الخاصة؟ .لقد حاربت موسكو السوفيتية بكل ما أوتيت من قوة لمجابهة واشنطن في الشرق الأوسط بعد خروج الفرنسيين والبريطانيين، واليوم ليس لموسكو البوتينية خيارات كثيرة،بل أبرزها إعادة التموضع في منطقة كانت وستظل محركا للغريزة السياسية الروسية.هذا ما لمّح به أكثر من مرة بوتين نفسه في معرض شرح برامجه الرئاسية القادمة!

06‏/12‏/2011


القراءة الإسرائيلية لما هو آتٍ
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 6/12/2011
ثمة إجماع لدى صانعي القرار في إسرائيل،ان متغيرات دراماتيكية سريعة تتفاعل في المنطقة،وأنها ستؤثر بشكل جدي على موقعها ودورها ومستوى فعاليتها، وصولا إلى تصورات تلامس وجود الكيان،في حال وصلت هذه التغيرات إلى مستويات يصعب ضبطها وتداعياتها.ولا تبدو هذه التغيرات حديثة العهد،بل تعود إلى انقلاب المشهد والدور التركي في المنطقة، ومحاولتها التأثير في مسار بعض القضايا ومنها العربية تحديدا،كما على مستوى العلاقة الإستراتيجية التي كانت تربط أنقرة بتل أبيب. وليس بخاف على احد ان إسرائيل تتوجس خيفة من تصاعد احتمالات تشكل محاور جديدة، أو اقله إعادة بناء فواعل ومحاور قديمة تسهم بزيادة تراجع نفوذها وسطوتها في المنطقة.
وما يعزز هذه المخاوف الإسرائيلية، تخبط الولايات المتحدة الأمريكية بمشاكلها الداخلية والخارجية، وتنامي الدور التركي في المنطقة، وتصاعد عوامل التوتر في المنطقة بعد سلسلة الثورات العربية،وغياب الصورة الواضحة لدى الإسرائيليين عن احتمالات المرحلة القادمة.
ففي الجانب الأول، تعتقد إسرائيل ان واشنطن لم تعمل بما يجب ان تفعله لمنع سقوط نظام حسني مبارك، الأمر الذي عزز ولو نسبيا جبهة إيران وسوريا وحزب الله وحركة حماس والذي سيزداد تماسكا بعد إكمال الانسحاب الأمريكي من العراق هذا الشهر، حيث أعطت فرصا واضحة لاهتزاز صورة العرب المعتدلين في تفاعلات المنطقة.وما ضاعف من تنامي هذه التصورات السياسات التركية التي اعتبرتها تل أبيب عملية انتقال من ضفة سياسية إلى أخرى، في ظل غزل سياسي واضح بين طهران وأنقرة سابقا وتدني نسبه حاليا،مفاده العمل على عدم عزل إيران في المنطقة مقابل،قيام قاعدة ثلاثية الأبعاد تجمع كل من تركيا وإيران ومصر،وفي ذلك عملية حصار من وجهة النظر الإسرائيلية. فإسرائيل لم تخف قلقها من التحولات الحادة في السياسة الخارجية التركية، والتي سعت في فترة من الفترات إلى تهميش الدور الإسرائيلي، ومحاولتها إقناع الغرب بقدرتها على تشكيل محور إقليمي بقيادتها لا يؤدي بالضرورة إلى الإضرار بالمصالح الإستراتيجية له، ولا يعتمد على إسرائيل أيضا. وما عزز الاعتقاد الإسرائيلي،تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ، بعد زيارته لطهران في ديسمبر عام 2009 ، قائلا "إن التعاون التركي - الإيراني قادر على ملأ الفراغ في المنطقة، ويظل هذا الجهد غير كاف، ما لم تنضم مصر إليه لتصبح الضلع الثالث في مثلث القوة في الشرق الأوسط". ووفقا لبعض السيناريوهات الإسرائيلية عن توجهات السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 25 يناير، قد يكون ما قاله أردوغان حلما تحاول مصر ترجمته واقعيا، وعندها ستجد إسرائيل نفسها في حالة عزلة وفي مواجهة تهديد امني ووجودي.
إلا ان ما يقلص هذه المخاوف، أن الثورات العربية ، وبالتحديد المصرية،لم تنتج حتى الآن صورا واضحة يمكن البناء عليها، كما أن كافة المحاور الإقليمية الجدية المحتمل التفكير في تكوينها ،ستعاني من مظاهر الضعف والتوترات، الناجمة عن عدم التجانس الثقافي والمذهبي، وحتى العرقي والقومي بين أطرافها. كما أن ما يحدث في سوريا حاليا، لا يقود بالضرورة إلى تقوية المعسكر الذي تقوده إيران، بل قد يؤدي نتائج معاكسة. وفي مطلق الأحوال، ترى إسرائيل أن من مصلحتها حاليا، وفي المدى المنظور وفي ظل عدم قدرتها على التأثير في مجريات الأحداث الراهنة، حماية حدودها بقوتها الذاتية . وفي الجانب الآخر، تحاول الضغط على كل من تركيا وإيران لضرب تحركاتهما الهادفة لبناء محاور إقليمية تحت قيادتيهما، عبر العمل على تقوية العلاقات الإسرائيلية مع اليونان، وبلغاريا، وقبرص، وأذربيجان، أو بدعم التحركات الانفصالية للأكراد في تركيا وإيران وسوريا. وربما تمتد محاولات إسرائيل للتضييق على فرص إقامة محاور معادية لها بواسطة تركيا وإيران إلى ضرب طموحات البلدين لتوسيع أنشطتهما التجارية في إفريقيا أيضا.
هذه الصور الافتراضية اذا جاز التعبير، لا يلغي بالضرورة التحسّب الإسرائيلي الدائم لما هو أسوأ، وبالتالي دوام جهوزيتها لشن الحروب الاستباقية،في الزمان والمكان الذي يناسبها طبعا،دون مراعاة أي ظرف طالما ان مصالحها الحيوية مهددة وبخاصة الوجودية منها. ورغم ذلك ثمة كوابح في العقل الباطني اليهودي الجماعي القائم على الترقب والانقضاض.
فمنذ العدوان الثلاثي على مصر،ثمة قناعة تامة لدى اليمين الإسرائيلي، بشقيه العلماني والديني، أن الأزمات الدولية، الناجمة عن صراع إقليمي في الشرق الأوسط، ينبغي ان يجبر إسرائيل الانكفاء على نفسها رغما عنها، وهذا الموقف يتماهي بالأساس مع أحد مكونات الشخصية اليهودية تاريخيا، القائمة على أن العالم غالبا ما ينقسم بشكل واضح إلى معسكرين: اليهود والجوئيم / الأغيار. ، وليس ثمة خيار أمام اليهود في هذا الوضع إلا المراقبة لما يجري والاستعداد لما هو أسوأ: أي البقاء على الحدود، يد للبندقية، وعين للمراقبة. إنها الرموز الأقوى لحركة الاستيطان التي تأسس عليها الكيان.




04‏/12‏/2011

عوامل التغيير في الوطن العربي

عوامل التغيير في الوطن العربي
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
محاضرة ألقيت في كلية القيادة والأركان / الجيش اللبناني

شهدت المنطقة العربية في شهور ما لم تشهده في عقود طويلة. فبعد أن ظل العالم العربي خارج موجات التغيير والتحول الديمقراطي المتتابعة -مما دفع البعض إلى الحديث عن وجود استثناء عربي في هذا المجال أو عن وجود تناقض بين الثقافة العربية وقيم الديمقراطية، بدأ العالم العربي يشهد بدايات تفكك بنية النظم السلطوية بفعل انتفاضات شعبية بداية في تونس ومصر، ثم في ليبيا، والأردن، وسوريا ،والبحرين، واليمن، والعراق، وعمان. وأيا كانت أسماء ساحات الاحتجاجات ورمزيتها، فالهدف ظل واحدا وهو سقوط الأنظمة السلطوية، سواء كان كليا عن طريق تغيير شامل للنظام، أو جزئيا عبر إدخال بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية.
وبالرغم من الاختلافات المهمة بين النظم العربية، خاصة بين النظم الملكية والنظم الجمهورية، وبين الدول المنتجة للنفط والدول المصدرة للعمالة، فإن هذه النظم كانت تتفق في الكثير من السياسات والخصائص، ولذلك كانت مطالب القوي الثائرة متشابهة إلى حد بعيد. وقد تركزت هذه المطالب على إطلاق الحريات السياسية، وتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. تشابهت أيضا استجابة النظم العربية لهذه الثورات بشكل كبير، حيث اتهم الثوار بالخيانة والعمالة، وتم استخدام العنف والترهيب. كما تشابهت تصريحات المسؤولين العرب التي أكدت أن كل دولة عربية لها خصوصيتها،. ولكن واقعا ، ما حدث في تونس تكرر إلي حد كبير في مصر، وبدأت تحركات على الطريق نفسه في ليبيا واليمن، مما قد يشكل بداية نحو التحول الديمقراطي والحرية والعدالة الاجتماعية. كما بدأت بعض دول الخليج العربي، مثل عمان والبحرين، تشهد حراكا اجتماعيا واسعا ومطالبات بإصلاح أو إسقاط النظم الحاكمة.
فقد أسهمت عدة عوامل في ظهور الانتفاضات والثورات الشعبية في العالم العربي، علي رأسها أن الشباب (الفئة العمرية بين 15 و29 سنة) يشكل أكثر من ثلث سكان العالم العربي بما يعرف بالطفرة الشبابية. وتعاني تلك الفئة أشكالا متعددة من الإقصاء والتمييز جعلتها ساخطة علي الأوضاع الراهنة. وبالرغم من الثروات البشرية والطبيعية الهائلة التي تتمتع بها المنطقة العربية، فإنها شهدت في العقود الأخيرة خللا كبيرا في منظومة توزيع الثروة، حيث استأثرت نخب ضيقة ذات ارتباط وثيق بالسلطة بمقومات الثروة، بينما همشت قطاعات واسعة من المجتمعات العربية. وقد تزايدت تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، مع التوجه لتبني آليات السوق والتجارة الحرة، وتراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة. كما تعاني المنطقة العربية القمع، والاستبداد، وغياب الحقوق والحريات، وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، مع تركيز السلطة في يد نخب ضيقة مرتبطة بالحزب أو الأسرة الحاكمة.
كما أدت حالة الاختناق السياسي الذي تشهده المنطقة العربية إلى ظهور عدد كبير من الحركات الاحتجاجية، بعضها ذات صبغة سياسية أو اجتماعية، وبعضها ذات صبغة دينية أو عرقية. من ناحية أخري، فشلت معظم الدول العربية في تحقيق الاندماج الوطني بين الجماعات الدينية والعرقية والإثنية المختلفة، وتعرضت معظم الأقليات أو الأغلبيات المهمشة في الوطن العربي لمظاهر الإقصاء والتمييز الديني والثقافي والاجتماعي. وفي السنوات الأخيرة ومع تزايد مظاهر القهر السياسي والاجتماعي في العديد من الدول العربية، وتصاعد دور قوي إقليمية وخارجية، بدأت هذه الجماعات تتحرك للمطالبة بحقوقها الثقافية والسياسية، أو للمطالبة بالانفصال بشكل جزئي أو كامل عن الدولة الأم. وأخيرا، أسهم التدخل الخارجي المتصاعد لقوى إقليمية وخارجية في الشؤون الداخلية للمنطقة العربية في تعميق حالة الضعف والانقسام التي تشهدها دول المنطقة.
أولا: لطفرة الشبابية
شهد الوطن العربي ما يعرف بالطفرة الشبابية، حيث يمثل الشباب في المرحلة العمرية من 15 إلي 29 سنة أكثر من ثلث سكان المنطقة. وتعاني هذه الفئة العمرية مظاهر إقصاء اقتصادي واجتماعي وسياسي، جعلتها في مقدمة الفئات المطالبة بالتغيير والمحركة له. وتعد البطالة من أهم المشاكل التي يعانيها الشباب في العالم العربي، حيث ترتفع مستويات البطالة إلى 25% بين الشباب مقارنة بالمتوسط العالمي 14.4%. وتتركز نسب البطالة بشكل كبير في أوساط الشباب المتعلم الحاصل علي تعليم عال، حيث يمثل الشباب المتعلم نحو 95% من الشباب العاطل عن العمل في الوطن العربي. كما ترتفع نسب البطالة بشكل كبير في أوساط الشابات المتعلمات، حيث يشغل الوطن العربي موقعا متدنيا بين مناطق العالم من حيث إدماج المرأة في سوق العمل. يعاني الشباب أيضا تدني مستويات الأجور، وسوء ظروف العمل، حيث يعمل نحو 72% من الشباب في القطاع غير الرسمي. وقد أثر كل ذلك سلبا في الظروف الاجتماعية للشباب في الوطن العربي، حيث تفشت ظاهرة العنوسة، وتأخر سن الزواج بشكل كبير. ووفقا للتقارير الدولية، فإن أكثر من 50% من الذكور في المرحلة العمرية من 25 إلي 29 لم يسبق لهم الزواج، وهي النسبة الأعلى بين الدول النامية. ومن ناحية أخري، يعاني الشباب في الوطن العربي إقصاء سياسيا واضحا، حيث أدى غياب الحريات السياسية والمدنية، وضعف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان إلي انصراف الشباب عن المشاركة السياسية من خلال القنوات الشرعية.
ولكن في السنوات الأخيرة، ومع انتشار وسائل الإعلام البديلة وأدوات الاتصال الحديثة، والقنوات الفضائية، والهواتف المحمولة والإنترنت، بدأ الشباب في العالم العربي يؤسسون لأنماط مشاركة جديدة مكنتهم من تجاوز العديد من القيود التي فرضتها النظم العربية علي حريات التعبير والتنظيم. لجأ الشباب إلي شبكات التواصل الاجتماعي وإلي المدونات للتواصل مع بعضهم بعضا، وللتعبير عن عدم رضائهم عن الأوضاع القائمة، وكذلك لتنظيم فعاليات احتجاجية نجحت في كسر حاجز الخوف الذي فرضته النظم العربية علي شعوبها لعقود طويلة.
ثانيا : التهيمش الاجتماعي والاقتصادي
على الرغم من الثروات البشرية والمادية الهائلة التي يتمتع بها الوطن العربي، فإن النظم العربية أخفقت في تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. لا تزال قطاعات واسعة من الشعوب العربية تعاني الأمية، والبطالة، وتدني مستويات الدخل، وغياب الخدمات والمرافق، كما أن الفجوة بين الطبقات والمناطق في الدولة الواحدة في اتساع مستمر. وقد أدى تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وتفشي الفساد بشكل واسع، واستئثار نخب ضيقة مرتبطة بالسلطة بعوائد التنمية إلى تزايد حالة السخط السياسي والاجتماعي، وظهور حركات احتجاجية على نطاق واسع في العديد من الدول العربية. ومع اتجاه عدد من الدول العربية إلى تبني سياسات التحرير الاقتصادي واقتصاد السوق في السنوات الأخيرة، تراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدول العربية بشكل ملحوظ، مما أثر بالسلب في قطاعات واسعة كانت تعتمد بشكل كبير على دعم الدولة. وقد تزايدت بالتالي مظاهر الفقر والتهميش، واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل ملحوظ، وشهدت عدة دول عربية تصاعدا في وتيرة الاحتجاجات العمالية والفئوية المطالبة برفع الأجور، ومحاربة الفساد، والغلاء، وتحسين الظروف المعيشية للعمال.
ثالثا: غياب الديموقراطية وحقوق الإنسان
تتعرض الدول العربية منذ نهاية الحرب الباردة، خاصة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، لضغوط داخلية وخارجية متزايدة لتبني إصلاحات سياسية وديمقراطية حقيقية تؤدي إلى إطلاق الحريات السياسية والمدنية، وحرية تشكيل الأحزاب والجمعيات والاتحادات، وإلى وضع ضمانات تضمن نزاهة الانتخابات وحرية الصحافة والإعلام. إلا أن الدول العربية لم تستجب لهذه الضغوطات، واكتفت بإدخال بعض الإصلاحات الشكلية التي لم تغير من مضمون المنظومة السلطوية. وحتى الدول التي سمحت بقدر أكبر من التعددية السياسية، مثل المغرب والكويت ومصر، فقد اعتمدت على سلة واسعة من الأدوات القانونية والأمنية والإدارية لتقييد الحريات والأحزاب والإعلام ومنظمات المجتمع المدني. وقد أدي امتناع الدول العربية عن تبني إصلاحات سياسية حقيقية إلي انصراف المواطنين عن المشاركة في العملية السياسية، وإلي ضعف وترهل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.
كما نتج عن انغلاق المجال السياسي اتجاه المهتمين بالشأن العام، خاصة من أبناء الطبقة الوسطي المتعلمة، إلي المشاركة من خلال قنوات بديلة، وفي مقدمتها الحركات الدينية والعرقية والمناطقية، والتي تحولت إلي أهم فاعل سياسي في مواجهة النظم المستبدة في معظم الدول العربية. وفي السنوات الأخيرة، ظهر أيضا العديد من الحركات الاحتجاجية ذات أرضية سياسية ومطلبية نشأت خارج الأطر المؤسسية وخارج الشرعية القانونية، ورفضت تلك الحركات أن تشارك في المنظومة السياسية التي فرضتها الدولة علي معارضيها، وتبنت خطابا يتجاوز مطالب الإصلاحي التدريجي، وطالبت بالتغيير الشامل من خلال تعبئة الشارع في مواجهة النخب الحاكمة. كما لجأ الشباب في السنوات الأخيرة إلى استخدام الفضاء الإلكتروني، والمواقع الاجتماعية لتأسيس حركات احتجاجية شبابية أصبحت محركا مهما للتغيير في العديد من الدول العربية. وظهر في الآونة الأخيرة نمطان رئيسيان للتغيير في المنطقة. النمط الأول يقوم على نجاح حركات ذات طابع عرقي أو طائفي أو ديني في تحدي سلطة الدولة المركزية، وفي الانفصال عنها بشكل كامل، كما حدث في حالة السودان، أو في تأسيس مناطق حكم ذاتي لا تخضع لسيادة الدولة المركزية، كما حدث في حالة الصومال، ولبنان، والعراق، واليمن، وفلسطين. أما النمط الثاني، فيقوم على نجاح حركات احتجاجية ذات طبيعة أفقية لا مركزية تجمع بين فئات مجتمعية وسياسية مختلفة في إسقاط النخب الحاكمة، من خلال تعبئة شعبية واسعة النطاق. وقد ظهر هذا السيناريو في مصر وتونس، وهو مرشح لأن يتكرر في عدد من الدول العربية، ومنها المغرب والجزائر، وربما بعض دول الخليج. ويبدو لنا أن سيناريو الانتقال التدريجي والمنظم نحو الديمقراطية، الذي طرحه العديد من المحللين في سنوات سابقة، أصبح غير مطروح، وأن سيناريوهات التغيير من خلال الثورة أو الانفصال هي المطروحة الآن.
رابعا: غياب الاندماج الوطني
شهدت الدول العربية في السنوات الأخيرة تصاعد الهويات الفرعية علي حساب الهوية الوطنية، خاصة في تلك الدول التي تتمتع بقدر عال من التنوع العرقي والديني والإثني. وقد نتجت هذه الظاهرة عن عدة عوامل مختلفة، في مقدمتها قيام النظم السلطوية لعقود طويلة بحجب الحريات الثقافية والدينية، وبحرمان جماعات مختلفة من حق التعبير بحرية عن هويتها وعن ثقافتها وعن عقيدتها، كما حدث في حالة الأمازيغ في شمال إفريقيا، أو في حالة الأكراد والشيعة في العراق. كما حاولت النخب الحاكمة في الوطن العربي أن تفرض الهوية الثقافية العربية السنية علي الجماعات الأخرى من خلال المنظومة التعليمية والإعلامية المهيمنة. وكثيرا ما تعرضت الأقليات العرقية والدينية والإثنية في العالم العربي إلي ممارسات تمييزية أثرت ليس فقط في وضعها الثقافي، ولكن أيضا في وضعها السياسي والاقتصادي، كما حدث في حالة مسيحيي جنوب السودان، والشيعة في العراق والخليج ولبنان. وأخيرا، فإن انسداد قنوات المشاركة السياسية وتقييد الحريات السياسية والمدنية منعا هذه الجماعات من التعبير عن مطالبها بشكل شرعي وقانوني. وقد دفعت مظاهر التمييز الثقافي والسياسي والاقتصادي بعدد من الجماعات الفرعية في العديد من الدول العربية إلى الانسلاخ عن الجماعة الوطنية، والالتفاف حول هوياتها الفرعية، واتجاهها إلى الانفصال عن الدولة المركزية، وتكوين دول جديدة، كما حدث في حالة السودان، أو مناطق حكم ذاتي كما نشهد الآن في العراق. ومن المرجح أن تنتشر هذه الظاهرة في المنطقة العربية بشكل أوسع في السنوات القادمة، وقد تشهد المنطقة تفكك عدد من الدول القائمة، وقيام دويلات جديدة تعبر عن تطلعات الفئات والجماعات التي عانت التهميش والإقصاء لعقود طويلة.
خامسا:تأثير قوى خارجية وإقليمية
التطور الأخير الذي أثر بشكل كبير في استقرار المنظومة السلطوية في الوطن العربي مرتبط بتصاعد دور الفاعلين الدوليين والإقليميين في السياسات الداخلية لدول المنطقة في السنوات الأخيرة، فالتدخل الخارجي ليس بجديد على المنطقة العربية، ولكنه كان في فترات سابقة مرتبطا بالأساس بترسيخ النظام الإقليمي الذي وضعته القوى الاستعمارية في النصف الأول من القرن العشرين، وبدعم النظم السلطوية الموالية للغرب. ولكن في السنوات الأخيرة، دعمت قوى دولية وإقليمية مبادرات تخل باستقرار النظام العربي القائم وبالنظم السلطوية في المنطقة، خاصة تلك التي تبنّت مواقف مناهضة للولايات المتحدة. وقد تجلى هذا التوجه في سياق التدخل الأمريكي في الصومال، والاحتلال الأمريكي في العراق، ودعم مبادرات الانفصال في جنوب السودان، ومحاولات عزل حماس في قطاع غزة، وحزب الله في لبنان. وحتى النظم المعتدلة تعرضت لضغوط خارجية متزايدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، والربط بين الإرهاب وغياب الحريات لإدخال إصلاحات سياسية، وإطلاق الحريات السياسية والمدنية.
كما شهدت الفترة الأخيرة تصاعدا في نفوذ قوى إقليمية صاعدة، مثل إيران وتركيا، بدأت تؤثر بشكل ملحوظ في مجريات الأمور في الوطن العربي. وبالنسبة لإيران، فقد توّلت ريادة المعسكر المناوئ للسياسات الأمريكية في المنطقة، وقامت بدعم نظم وحركات ، مثل سوريا، وحزب الله في لبنان، وحماس في فلسطين، و الحوثيين في اليمن. مما دفع البعض للتحدث عن بدء حرب باردة جديدة في المنطقة بين المعسكر الممانع بريادة إيران وسوريا، والمعسكر المعتدل بريادة مصر والسعودية، والمدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد عزز هذا الصراع بين المعسكرين من نفوذ فاعلين مثل حركة حماس وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن.
سادسا: القوى المحركة للانتفاضات الشعبية
شاركت أربع قوى رئيسية في الانتفاضات الشعبية التي شهدتها عدة دول عربية: الحركات الاحتجاجية الشبابية، والأحزاب والقوي السياسية المعارضة، وقوى عمالية ومهنية، وأخيرا قوى ذات أرضية طائفية وقبلية ومناطقية.
فقد شهدت الدول التي تتمتع بقدر عال من التجانس السكاني، مثل تونس ومصر، حراكا علي أرضية سياسية وطبقية، شاركت فيه قوى شبابية وسياسية ونقابية، بينما شهدت دول تعاني استقطابا طائفيا أو قبليا أو مناطقيا، مثل ليبيا والبحرين واليمن، حراكا أوسع علي أرضية مناطقية أو طائفية. ورغم وجود اختلافات مهمة في طبيعة القوى التي قادت هذه الانتفاضات الشعبية ومثلت قوامها الرئيسي، فإن مطالبها تشابهت إلى حد بعيد. ركز الثوار والمتظاهرون على مطلبين رئيسيين هما الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وغابت المطالب ذات الصبغة الطائفية والمناطقية، ذلك بالرغم من محاولة النظم الحاكمة قولبة هذه الثورات في إطار طائفي، كما حدث في اليمن والبحرين، أو في إطار مناطقي كما حدث في ليبيا.
وكان الشباب في مقدمة القوى التي دعت إلى انتفاضات شعبية في مواجهة الفساد والاستبداد، حيث لعب دورا مهما في إدارة وقيادة هذه الانتفاضات. وليس من قبيل المصادفة أن تكون واقعة إشعال الشاب محمد بوعزيزي النار في نفسه هي التي أطلقت الثورة في تونس والمنطقة العربية، حيث تجسّد قصته مأساة فئة واسعة من الشباب المتعلم والعاطل عن العمل في الدول العربية.
أما الأحزاب والقوى السياسية، فقد أعلنت تضامنها والتحامها مع الانتفاضات الشعبية، لكن من الملاحظ أنها لعبت دورا تابعا لدور القوى الشعبية الشبابية. فلم تبادر النخب السياسية بالدعوة إلى هذه الانتفاضات الشعبية، بل في بعض الأحيان تأخرت في الإعلان عن تأييدها للقوى الشبابية، كما حدث في الحالة المصرية والحالة التونسية. ولكن مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات وانضمام كتل اجتماعية مهمة إليها، تراجعت الأحزاب عن حذرها، وأعلنت التحاقها بالحراك الشعبي. وقد رأي البعض في موقف الأحزاب والقوى السياسية محاولة ركوب موجة الاحتجاجات الشعبية، واختطافها لصالح مصالحها الخاصة.
كما لعبت القوى العمالية والمهنية، دورا مهما في تأييد الثورات الشعبية وتأجيجها. ففي الحالة التونسية، كان لاتحاد الشغل، وهو التنظيم العمالي الوحيد في تونس، دور رئيسي في إنجاح الثورة، حيث أعلن في مرحلة مبكرة عن انضمامه للانتفاضة الشعبية التي اندلعت بشكل عفوي. وقد أسهم انضمام الاتحاد بشكل كبير في تغيير موازين القوى، وفي تشجيع قوى سياسية ونقابية أخرى، مثل الأحزاب والنقابات المهنية، ومنظمات حقوق الإنسان، على إعلان تأييدها للثورة، مما دفع الجيش التونسي في النهاية إلى الانشقاق عن الرئيس بن علي وإجباره على مغادرة البلاد. وفي الحالة المصرية، كان الحراك العمالي والفئوي الذي شهدته البلاد في السنوات الخمس الأخيرة من المحركات الرئيسة للثورة، وكان لانضمام قوى عمالية ومهنية دور مهم أيضا في دفع المؤسسة العسكرية للانشقاق على مبارك، وإرغامه على التنازل عن السلطة.
وفي الدول التي تعاني مظاهر الانقسام القبلي والطائفي، كان لقوى ذات أرضية طائفية أو قبلية أو مناطقية دور مهم في الحراك الشعبي ضد النظم الحاكمة. ففي اليمن، كان للحراك الجنوبي والتمرد الحوثي دور كبير في إضعاف الدولة وتحجيم شرعيتها، مما فتح المجال أمام قوى أخرى، مثل الشباب الجامعي وأحزاب التحالف المشترك، الانضمام للقوى المطالبة بإسقاط النظام. وكذلك في ليبيا، كانت المناطق الشرقية التي تعاني التهميش والاستبعاد أول من تحرك ضد نظام القذافي. وأخيرا في البحرين، اتخذ الحراك الشعبي صبغة طائفية، حيث مثلت الطائفة الشيعية ،التي تعاني الإقصاء السياسي والاقتصادي والتمييز الثقافي، وذلك بالرغم من أنها تمثل الأغلبية السكانية القوام الأعظم للحركة الشعبية ضد بينة النظام السلطوية.