07‏/08‏/2018

روسيا وأولوية الأمن الإسرائيلي
بروفسور خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

        ثمة لقاءات إسرائيلية روسية جرت على مستويات عالية مؤخرا، وأفضت إلى تفاهمات ذات دلالات نوعية وذات صلة بأولوية الأمن الإسرائيلي في سياسات روسيا الشرق أوسطية وبخاصة القضايا ذات الصلة بالأزمة السورية.  ففي وقائع اللقاءات أسس اجتماع كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الحادي عشر من تموز/ يوليو الماضي في موسكو إلى مروحة محددة من الأهداف تتصل بالتواجد الإيراني في سوريا وكيفية التعامل معه. إذ لكلا الطرفين مصالح تبدو متباينة في بعض الأحداث الأمنية والعسكرية ذات الطابع الحساس، والتي لطالما بحثت إسرائيل عن أجوبة محددة لها في ظل حيرة روسية محرجة في بعض الأحيان.
         فموسكو ظلت منذ العام 2011 تحتفظ بنوع من التوازن الدقيق في تحديد علاقاتها بكل من دمشق وطهران وتل أبيب، إلا أن مجريات التدخل الروسي العسكري المباشر في الأزمة السورية وقضاياها الفرعية المتصلة، اجبرها على تعديل بعض أجنحة سياساتها الخارجية وبدت في كثير من الحالات تغض النظر عن إسرائيل وبخاصة في الأعمال الأمنية والعسكرية التي تنفذها داخل الأراضي السورية وبالتحديد ضد القوات الايرانية وحلفائها، وبدت في بعض الأحداث تعتبر نفسها غير مضطرة إلى التوضيح لا تلميحا ولا تصريحا إزاء بعض الاعتداءات الإسرائيلية التي تستلزم مواقف روسية محددة.
       وتعزيزا لسلوك غض الطرف الذي كرسته موسكو في تعاملها مع أي اعتداء إسرائيلي، أنشأت قنوات اتصال محددة على مستويات رفيعة ، كان آخرها لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ، ورئيس الأركان العامة الروسية فاليري غيراسيموف، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال اجتماعهما به في القدس المحتلة.وما يعزز فرضيا هذا الاحتمال، ما صرح به سفير موسكو لدى تل أبيب فكتوروف على أن بلاده تعطي أولوية خاصة لضمان أمن إسرائيل، وهي بطبيعة الحال ليست مواقف عابرة أو من نوع العلاقات العامة في العلاقات الدولية ، كما أشار إلى أنّ موسكو لن تتدخل لمنع إسرائيل من شن مزيد من الغارات الإسرائيلية ضدّ أهداف إيرانية في العمق السوري، محددا في موقف رسمي واضح أن بلاده لا تستطيع أن تملي على إسرائيل كيفية التصرف، وليس من شأن روسيا أن تمنح إسرائيل حرية القيام بأي شيء أو منعها من القيام بأي شيء. وإذا كانت محددات السياسة الخارجية الروسية إبان ولاية فلاديمير بوتبن لم تخرج عن هذا المبدأ الخاص بأمن إسرائيل أو غض الطرف عن غاراتها المتواصلة في الأراضي السورية ، فإن تأكيد ذلك على هذا النحو الصريح عبر سفيرها لا يعتبر تطوراً عابراً ؛ وثمة أسبابا كثيرة تدفع موسكو إلى إعطاء أمن إسرائيل أولوية غير معتادة في هذه المستويات. وما يعزز من ذلك السلوك الروسي أولوية تأمين سياساتها الخاصة في سوريا وعدم  تعرضها لانتكاسات كبيرة في هذه المرحلة بالذات ، فموسكو تؤيد مثلا الوجود الإيراني في سوريا لدعم النظام، وفي نفس الوقت توافق الرأي الإسرائيلي الداعي إلى تحجيم الوجود العسكري الإيراني لمستويات لا تهدد الأمن القومي، وهذا ما حرصت موسكو على التوصل إليه مع نتنياهو تحديدا عبر إمكانية سحب القوات الايرانية من الجنوب السوري لمسافة 100 كيلومترا ، إضافة إلى سياسة غض الطرف عن الغارات التي تنفذها إسرائيل على مواقع إيرانية محددة وعلى شحنات الأسلحة النوعية التي يمكن أن تشحن إلى لبنان على سبيل المثال لا الحصر، إضافة إلى نوع من الضمانات بعدم رد إيران أو سوريا على هذه الغارات.
      إن أولوية الأمن الإسرائيلي في سياسات موسكو الشرق الأوسطية تنبع من  مصالح بينية متطابقة في كثير من الحالات، وقد تمكنت موسكو من نسج الكثير من المواقف التي تتلاءم مع تلك التوجهات مع الأطراف الأخرى المتضررة مثال طهران ودمشق وغيرها من الأطراف غير الدولية، وقد عززت من تلك السلوكيات في العديد من المناسبات التي بدت للأطراف الأخرى مواقف غير قابلة للبلع والهضم، ورغم ذلك لا زال الوضع قائم وبوضوح لصالح أولوية الأمن الإسرائيلي دون غيره.
       

12‏/06‏/2018

الصين والقمة الأميركية الكورية
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي الدبلوماسي في الجامعة  اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية 12.6.2018

      تعتبر الأزمة الكورية من الأزمات الدولية الممتدة منذ منتصف القرن الماضي، حيث قًسمت وظلت مركز شد وجذب اقليمي ودولي، ومع تبدل القوى الفاعلة فيها مرة بعد أخرى، ظلت موسكو وبكين لاعبين أساسيين في علاقة بيونغ يانغ مع واشنطن، وتأتي القمة المزمع عقدها بين الرئيسين الاميركي دونالد ترامب زالكزري كيم جونغ اون لتلقي العديد من الأسئلة المحورية ، والتي ستظهر لاحقا  مدى الأثر الصيني على سبيل المثال لا الحصر في مستقبل العلاقات بين واشنطن وبيونغ يانغ.
      فعلى الرغم من إعلان مواعيد القمة سابقا، ظهر لغط شديد حولها، وكادت أن تلغى قبل أسابيع عمليا، وثمة مؤشرات كثيرة تحوم حول الدور الصيني في توجيه دفة القمة والمتغيرات المتسارعة التي رافقتها،ذلك من منطلق تقاطع المصالح الأميركية والصينية في المسارات المستقبلية للعلاقات البينية الأميركية الكورية.  
      فكوريا الشمالية التي شهدت تقاربا شديدا مع موسكو إبان الحقبة السوفياتية ، جعلت من بكين طرفا مراقبا يتحين الفرص لاستيعاب واحتواء الحالة الكورية، بما لها من مكانات جيوسياسية إقليمية، وامتدادات ذات طبيعة إيديولوجية رغم ضمورها حاليا، علاوة على الشق التجاري والاقتصادي الذي تتنفس منه حاليا بيونغ يانغ عبر بكين.
       في مقابل ذلك أيضا، لا يشكل القلق الأميركي من البرنامج النووي الكوري حالة منفردة، بل تشاركها الصين أيضا التي لها حساباتها الإستراتيجية في المنطقة، فهي وان أسهمت بشكل واضح في تسيير شؤون المفاوضات الأميركية الكورية ضمن مجموعة الستة في العام 2007 لإيجاد حل مناسب وعادل كما يطلق عليه، إلا أن التوجّس الصيني دائم الظهور، لدى ربطه بعلاقات واشنطن مع سيول مثلا ، وما تم نشره من شبكة صواريخ في كوريا الجنوبية ردا على تجارب الشمالية، وما تمثل تلك الحيثية من خطر داهم على الصين الذي تترجمه بشكل دائم عبر مواقف حادة في علاقتها مع واشنطن.
      وفي أي حال من الأحوال، وان بدا السقف عاليا في لقاء القمة الأميركي الكوري المرتقب، إلا أن المطالب الأميركية يمكن أن تخفف ، ذلك بفعل التأثير الصيني في الاتجاهين الأميركي والكوري، وبالتالي إن موضوع النزع الكامل والفوري ، ربما يكون امرأ غير قابل للتطبيق، علاوة على البرامج الصاروخية التي شهدت تطورا لافتا والذي يعتبر أكثر توجسا بالنسبة لواشنطن ، وبالتالي إن هذا الملف يعتبر أولوية في جدول اللقاء.
       ربما تجارب المفاوضات الأميركية الكورية السابقة ليست مشجعة، بفعل المطالب ذات السقف العالي بين الطرفين، فواشنطن مثلا تهدف إلى إنهاء البرنامج النووي والصاروخي، وهو أمر تعتبره بيونغ يانغ أمراً وجوديا بالنسبة إليها، فيما تحاول هذه الأخيرة الحصول على فك العزلة الاقتصادية والسياسية بأقل التكاليف؛ وهنا يمكن لبكين أن تلعب دورا متمايزا عن اللاعبين الآخرين في هذا الملف كموسكو وطوكيو مثلا ، كما حاولت أن تفعل ذلك في مفاوضات العقد الماضي التي لم تصل إلى نتيجة محددة بفعل الوعود التي لم تنفذ أصلا من كلا الجانبين.
      صحيح أن كل من واشنطن وبيونغ يانغ تسعيان للقاء القمة والاثنتان لهما مصلحة في إنجاحه، لكن العين الصينية بالمرصاد عمليا، وتحاول جاهدة التحكّم بمساراتها اللاحقة قدر الإمكان، وربما ظروف العلاقات الأميركية الصينية التجارية حاليا ، والتي يسعى الطرفان إلى الحفاظ عليها من بوابة الاعتماد المتبادل، ستسهم في إيجاد مخارج مناسبة ومقبولة للأطراف الإقليمية المعنية بهذا الملف.
      لقد تعامل الطرفان الأميركي والكوري عبر سياسة حفة الهاوية في الرسائل الدبلوماسية والعسكرية بينهما، ذلك في ظل ظروف دولية متأزمة لا تحتمل القراءة الخطأ في الوقت الضائع، فهل ستتمكن بكين حسن التدبير والقراءة الدقيقة لظروف الطرفين، وبالتالي إيجاد نقطة الانطلاق المناسبة من سنغافورة؟ ربما الإجابة على هذا التساؤل مرتبط بمدى دقة القراءة للبرغماتية الصينية التي برعت في استعمال أدواتها في سياساتها الدولية والإقليمية ومن بينها في إدارة الأزمة الأميركية الكورية.

بروفسور خليل حسين .. الصين والقمة الأميركية الكورية.. صحيفة الخليج 12.6.2018 http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/f0a950a4-41ee-41b4-a688-9797c56e2f86

03‏/06‏/2018

أذربيجان وإطلاق ممر الغاز الجنوبي
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

        تمكنت أذربيجان ولثلاثة عقود من نسج علاقات جيوسياسية ممتازة مع محيطها، فتجاوزت الهواجس الروسية لجهة علاقاتها مع الغرب، مما حيّدها عن الكثير من المشاكل لا سيما موجة الثورات الملونة. تلك السياسات مكنتها من إطلاق خط الجنوب الغازي باتجاه أوروبا، الذي سيعيد خلط أوراق كثيرة، بخاصة ما يجري في المنطقة من صراعات حول الطاقة وما لروسيا من سياسات إستراتيجية تعمل عليها من خلال توسعها في بعض أزمات الشرق الأوسط. فهل ستتمكن أذربيجان من تثبيت توازن دقيق بين اللاعبين الإقليميين والدوليين وبالتالي المواءمة بين المصالح الغربية، والهواجس الروسية؟.
      لا تخفي أذربيجان ارتياحها لهذا المشروع في ظل دعم غربي واضح، فالأوروبيون يرون فيه كسرا للاحتكار الروسي لجهة توريد الطاقة، في وقت يمكن لموسكو أن تكون شريكا فيه في المدى المنظور، باعتباره لا يشكل واقعا تنافسيا ذات جدوى اقتصادية كبيرة. فبالنسبة للروس، أن ممر الغاز  الجنوبي سيخصص لنقل الغاز من حقول أذربيجان، وبكميات لا تتجاوز عشرة مليارات متر مكعب سنوياً إلى أوروبا، وستة مليارات متر مكعب سنوياً إلى تركيا، مقارنة بالحجم الهائل لصادرات الغاز الروسي المقدرة 194.4 مليار متر مكعب سنوياً.كما تشير التوقعات في سوق الطاقة إلى أن الاستهلاك الأوروبي سيرتفع من 541 مليار متر مكعب سنوياً إلى نحو 546 - 572 مليار متر مكعب بحلول العام 2035، وهو محل متابعة شركة (غاز بروم) الروسية، التي راكمت حصتها في السوق الأوروبية من 33.1 إلى 34.7 في المئة العام 2017، وهي تتوقع نمو تلك الحصة إلى ما بين 35 و38 في المئة بحلول العام 2030. ورغم ذلك ثمة مخاوف جدية من أن يؤدي الممر الجنوبي إلى منافسة مشروع تورك ستريم الروسي التركي الذي سينقل خطه الأول 15.75 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى تركيا، وإلى جنوب أوروبا ذات الكمية لاحقا. ورغم ذلك فموسكو ليست قلقة من أي تأثير جدي على شركتها (غازبروم)، لجهة الجدوى الاقتصادية فكلفة إنتاج (شاه دنيز) الاذرية تصل إلى 35 دولاراً للألف متر مكعب فيما حقول (غازبروم ) لا تتجاوز 15 دولاراً للألف برميل مكعب.
       وعلى الرغم من ذلك، ثمة توجسا روسيا من إمكانية انضمام تركمانستان إلى الخط الجنوبي، الذي سيشكل عنصرا منافسا بالنسبة إليها، إلا أن ما يبعد هذا الاحتمال الوضع السياسي في المنطقة وعدم قدرة تركمانستان على الإقدام على ذلك ، خشية على وضعها الداخلي وعدم إثارة الغضب الروسي.
       ثمة عناصر أخرى يمكن ربطها بهذا الخط وهو ما أشير إليه سابقا من أن أذربيجان وتركيا على استعداد لاستخدام الممر الجنوبي لنقل الغاز من العراق وإسرائيل وقبرص، وهو ما أكدته أيضا تل أبيب وأنقرة، حين تحدثتا عن إمكانية بناء خط تصدير يربط حقل الغاز الإسرائيلي (لفيتان) بخط أنابيب (تاناب).وهذا الآمر مرتبط بطبيعة الحال بما ستؤول إليه الأزمة السورية والواقع الروسي فيها.
        بعد 13 عاماً على تشغيل خط أنابيب باكو - تبليسي - جيهان النفطي  في أيار 2006، تحاول أذربيجان اليوم عبر خط غاز الممر الجنوبي إعادة تجربة لعبة التوازنات الدقيقة في المنطقة في ظل وضع دولي معقد، اعتمادا على الجذب الاقتصادي للاعبين الإقليمين والدوليين، وما يعزز ذلك ما قاله الرئيس الأذري إلهام علييف، في حفل تدشين الممر، من أن أوروبا هي السوق الأكثر جاذبية ، وإضافة إلى طمأنة اللاعبين الآخرين، اعتبر أن المشروع الجديد "يأخذ في الحسبان مصالح الجميع من مورّدي الغاز ودول الترانزيت إلى المستهلكين".
       إن الدور الذي انتزعته أذربيجان إقليميا وتمكنت من موازنة علاقاتها بأطراف إقليمين ودوليين كثر،قد ساعدها في ذلك تقاطع المصالح الاقتصادية وبخاصة الطاقة، واليوم تبدو تلك الفرضية أكثر واقعية لإمكانية التطبيق في المراحل القادمة،سيما وأن طاقة الشرق الأوسط لا زالت في حالة إعادة النظر في السياسات الإقليمية والدولية القائمة.
   


     





   

13‏/05‏/2018

ضوابط السجال الصاروخي في الجولان
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية
 نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية 13.5.2018
         عجت المنطقة بالكثير من أسباب تفجير الوضع القائم، وكان آخرها خروج الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي الإيراني، ورغم نشوء حالات توتير حادة، لم ينفجر الوضع كما ظهر في السجال الصاروخي الأخير في الجولان،فما هي خلفياته وضوابطه؟ وهل يشكل بداية لإعادة رسم قواعد اشتباك محددة في المنطقة؟أم سيضاف عليه عوامل أخرى لتوسيع الاشتباك؟.
        على الرغم من تصنيف نوعية الاشتباك ووسائله ،لجهة المكان والزمان والفاعلين المباشرين وغير المباشرين بالمواجهات التقليدية، إلا انه يعتبر سابقة لم تظهر منذ 44 عاما اثر نشر قوات الاندوف في الجولان السوري المحتل. ورغم أن هذه السابقة مرتبطة بكيفية التعاطي السوري المستجد في الرد على الاعتداءات الإسرائيلية ، أخذت أبعادا وخلفيات وتفاسير شتى، نظرا لدخول عوامل أخرى من بينها العامل الإيراني في سوريا وما يرتبط به من ملفات إقليمية ودولية متصلة.
       عمليا، نفذت سوريا هجمات صاروخية على مواقع عسكرية إسرائيلية في الجولان السوري المحتل وليس خارجه، واعتبرته ردا على الاستهداف الإسرائيلي قبلا لمطار (T4) العسكري الذي ذهب بنتيجته ضباطا إيرانيين آنذاك؛ فيما نفذت إسرائيل اعتداءً جويا عبر 28 طائرة فوق مناطق عدة ، استهدفت فيها كما أعلنت مواقع إيرانية محددة معتبرة أن هذه الهجمات قضت على البنية التحتية للقوات الايرانية في سوريا. وبصرف النظر عن دقة هذه الوقائع من عدمها، فإنها تشكل في الحد الأدنى بؤرة توتر قابلة للتفجير في أي لحظة،وبصرف النظر هل هو اشتباك سوري إسرائيلي أم إيراني إسرائيلي على الأرض السورية.
        في الجانب الإسرائيلي ثمة أهداف محددة هي الإضاءة مجددا على الملف النووي الإيراني من باب الاتفاق الذي تنصلت منه واشنطن ، لكن هذه المرة جرًّ طهران إلى طاولة المفاوضات للبحث في البرنامج الصاروخي الذي رفضته طهران خلال مفاوضات الاتفاق والذي كاد أن يطيح المفاوضات برمتها في العامين 2013 و2014، وهو أمر تعتبره إيران قضية سيادية لا يمكن الدخول فيها. وفي المقابل إن تنصل واشنطن من الاتفاق النووي المغطى بقرار دولي ذات الرقم 2231 ووفقا للفصل السابع، خلق أوضاعا جديدة، من بينها زيادة الضغط الإسرائيلي على إيران والذي تعتبره نصرا يجب أن يًترجم سياسيا في المنطقة ولو عبر جداول استفزاز مبرمجة ضد القوات السورية والإيرانية.
       لقد حددت إسرائيل في المواجهة الأخيرة البيئة العسكرية الايرانية في سوريا، فيما أصرّت دمشق أن الاشتباك هو سوري إسرائيلي، وبصرف النظر عن حيثية الاشتباك ومقرره الفعلي، تمّ بناء ضوابط اللعبة بدقة متناهية، أولا الصواريخ الأولى التي استهدفت منطقة الكسوة السورية تمت بصواريخ ارض ارض،أطلقت من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ذلك لتحييد روسيا ولعدم إحراجها في إمكانية التدخل الجوي ، وثانيا التركيز أن هذه الصواريخ استهدفت منشآت إيرانية وليست سورية وبالتالي يمكن ان تخرج عن نطاق الالتزام الروسي السوري. فيما الرد الصاروخي على الجولان أيا يكن مقرره ومنفذة تم في الأراضي السورية المحتلة في الجولان ولم يتعد تلك المناطق، ذلك فتح الباب مواربا لإسرائيل لعدم التصعيد والتوسّع في الرد. ذلك السيناريو استفادت منه جميع الأطراف، طهران هي بحاجة لرد محدود في المكان والزمان في وقت يتم البحث فيه عن مخارج الاتفاق النووي، الأمر ذاته ينسحب على سوريا ويدم صور الاشتراك القائم، فيما موسكو المستفيد الأكبر التي استقبلت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكأنها أدارت حدود الاشتباك وضوابطه.
        طهران ستنطلق نحو أوروبا المستفيدة اقتصاديا من الاستثمارات بهدف الحصول على ضمانات بعد التنصل الأميركي، إسرائيل ستلعب في الوقت الضائع لزيادة الضغوط على البرنامج الصاروخي الإيراني، واشنطن ستشدد الضغوط على طهران وموسكو بالعقوبات الاقتصادية ،وممسكو ستحاول جني المكاسب من الاشتباك الإسرائيلي الإيراني والسوري، ذلك في الوقت الذي تحتاج تلك المحددات إلى عمليات شد وجذب سياسي وأمني وعسكري في مستويات محددة سلفا، أي بمعنى قواعد اشتباك منضبطة نسبيا ،لا تصل في المرحلة الحالية إلى حدود حرب إقليمية واسعة.
       تلك السياقات مرتبطة أساسا بأوضاع الفواعل الإقليمية والدولية لجهة الوضع الاقتصادي غير الجاهز لفتح حرب ستكون مكلفة جدا وبخاصة على الطاقة وهو احد ابرز أسباب الأزمة في المنطقة أولا، وثانيا لأن أي طرف غير قادر على كبح جماح الحرب إن انطلقت. لذا سيظل السجال الصاروخي هو الأبرز في المرحلة المنظورة، إلا إذا ركبت الرؤوس الحامية قراراتها في بعض الدول.
       

29‏/04‏/2018

القوانين والأعراف الناظمة
لإقامة العلاقات القنصلية وانتهائها

بروفسور خليل حسين
أستاذ القانون الدولي ورئيس قسم العلاقات الدولية
في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية

        ثمة قوانين وأعراف ناظمة لإقامة العلاقات القنصلية ، كما أن هناك أسبابا يمكن معها انتهاء مهام البعثة القنصلية.

الفصل الأول
إقامة العلاقات القنصلية وإنشاء البعثات


        يعتبر إنشاء العلاقات القنصلية بين دولتين إقرارا  لمبدأ مباشرة العلاقات، فيما افتتاح البعثات القنصلية في أراضي الدولة المضيفة هو وضع للمبدأ في حيّز التنفيذ العملي، والاتفاق بالتالي على مكان هذه البعثات ونطاق صلاحياتها.

أولاً: إقامة العلاقات القنصلية
 Establishment of Consular Relations
       يقر القانون الدولي لكل دولة الحق في ممارسة العلاقات القنصلية . وهو الحق نفسه الذي تتمتع فيه الدول لجهة إنشاء العلاقات الدبلوماسية وتبادل البعثات الدبلوماسية مع الدول الأخرى ، وهو ما يعرف بحق التمثيل The Right of Legation, jus Legationis( )
كما أن تعزيز العلاقات الدولية السلمية يستوجب إنماء التعاون الدولي وتطوير علاقات الصداقة بين الدول ما يستوجب إقامة العلاقات الدبلوماسية والقنصلية بينها. وقد أبرز زوريك في الفقرة الأولى من المادة الأولى من مشروعه القنصلي، المتعلقة بإنشاء العلاقات القنصلية، هذا الحق بقوله: "لكل دولة الحق في إقامة علاقات قنصلية مع الدول الأجنبية". وبيّن في تعليقه على هذه الفقرة أن هذا الحق ينبع من سيادة الدولة ويتجلى بوجهين: وجه إيجابي يتمثل بإيفادها القناصل إلى الخارج. ووجه سلبي يتمثل باستقبالها قناصل الدول الأخرى( ).
     إلا أن حق الدول في إقامة علاقات قنصلية، لا يعني بالضرورة  إلزام الدول الأخرى قبول افتتاح بعثات في أراضيها. فوجود الحق لا يعني فرضه على الغير، وممارسته يستوجب الاتفاق المتبادل بين الدولتين الموفدة والمضيفة .
      وبسبب تضارب الآراء حول وجود حق في إقامة العلاقات القنصلية خلت اتفاقية فيينا القنصلية من أية إشارة لهذا الحق( )، كما خلت سابقتها الاتفاقية الدبلوماسية من أية إشارة إلى حق التمثيل. إلا أن هذا لا ينفي وجود الحقين، فهما مظهران من مظاهر سيادة الدولة لا يختلفان عن حقها في عقد المعاهدات. وهكذا فإن الرفض المطلق وغير المبرر من قبل أية دولة لإنشاء علاقات قنصلية مع الدول الأخرى التي تربطها بها علاقات سلمية، يشكل إخلالاً بمبادئ القانون الدولي التي تفرض على الدول واجب التعاون مع غيرها من الدول( ).
      إن حق الدول بتبادل العلاقات القنصلية موجود، غير أن ممارسته يتوقف على مراعاة حق آخر يرتبط بالسيادة ، ويقضي بعدم فرض إرادة دولة ما على دولة أخرى وإلزامها بتبادل العلاقات القنصلية معها. وهكذا يتضح مفهوم الفقرة الأولى من المادة الثانية من اتفاقية فيينا القنصلية ،التي تنص على "أن إنشاء العلاقات القنصلية بين الدول يتم بالرضا المتبادل". وهو نص مماثل لنص المادة الثانية من اتفاقية فيينا الدبلوماسية التي جاء فيها: "تُقام العلاقات الدبلوماسية وتنشأ البعثات الدبلوماسية الدائمة بالرضا المتبادل". وتقوم الدول، عادة، بإعلان موافقتها على إقامة العلاقات القنصلية، عن طريق تضمين معاهدات الصداقة والتعاون أحكاماً تنظم العلاقات القنصلية بينها، أو عن طريق عقد معاهدات قنصلية، ثنائية أو جماعية، تنص في مقدمتها على أن الهدف منها هو تنظيم هذه العلاقات( ).
       كما يتضمن إنشاء العلاقات الدبلوماسية بين دولتين توافقاً ضمنياً بينهما على إنشاء العلاقات القنصلية ما لم يتفقا على خلاف ذلك. ومرد ذلك التلازم القائم بين هذين الفرعين في مفهومهما الحديث، الذي جعل المهام القنصلية جزءاً لا يتجزأ من المهام الدبلوماسية في مفهومها الواسع. وهكذا فإن افتتاح دولة ما لبعثة قنصلية في أراضي دولة أخرى تقيم معها علاقات دبلوماسية، لا يستلزم حصولها على موافقة الدولة المضيفة عن طريق عقد معاهدة قنصلية بينهما، ما دام مجرد إقامتهما للعلاقات الدبلوماسية قد حمل ضمناً توافقهما على إنشاء العلاقات القنصلية. وما يتبقى هو الحصول على موافقة الدولة المضيفة على مكان افتتاح البعثة ونطاقها الجغرافي ( ).
     إن حق ممارسة العلاقات القنصلية، هو حق من حقوق الدول ذات السيادة التامة. أما الدول ذات السيادة الناقصة، كالدول المحمية أو المشمولة بالوصاية، فلا تقوم عادة بممارسة العلاقات القنصلية بوجهها الإيجابي، إذ تقوم الدولة الحامية أو الوصية بتولي علاقاتها الخارجية ورعاية مصالح مواطنيها عبر بعثاتها في الخارج، إلاّ إذا كان في العلاقات بين الدولتين المحمية والحامية ما يجيز خلاف ذلك( ). ويحق للدول ذات السيادة الناقصة أن تستقبل البعثات القنصلية وهذا ما حدث في لبنان قبل الاستقلال. وهناك حالات خاصة قامت فيها علاقات قنصلية بين مناطق تابعة لدولة واحدة، فالولايات المتحدة أوفدت إلى الفيليبين رئيس بعثة قنصلية في وقت كانت فيه الفيليبين جزءاً من الكومنولث الأميركي الخاضع للسيادة الأميركية. أما الدولة الفدرالية فيحدد دستورها مدى حق ولاياتها في ممارسة العلاقات الخارجية وبينها العلاقات القنصلية( ). والقاعدة هي قيام الحكومة المركزية للاتحاد بممارسة العلاقات الخارجية من دبلوماسية وقنصلية، واستقبال مبعوثي الدول الأخرى ومنح القناصل منهم الإجازات القنصلية. أما بالنسبة إلى الدول المتعاهدة التي يحتفظ كل منها بكيانه وشخصيته الدولية، فممارسة العلاقات الخارجية الدبلوماسية والقنصلية بوجهيها السلبي والايجابي، تبقى حقاً لكل منها، ما لم يتفق على خلاف ذلك( ).

ثانياً: إنشاء البعثات القنصلية
 Establishment of consular Posts
      يخضع إنشاء البعثات القنصلية لموافقة الدولة المضيفة باعتبارها صاحبة السيادة الكاملة على أراضيها. وهذه الموافقة قد تتم في وقت واحد مع الموافقة على إقامة العلاقات القنصلية. إلا أن ثمة حالات يتم فها إنشاء العلاقات القنصلية أولاً ويترك موضوع إنشاء البعثات إلى وقت لاحق. ومن هذه الحالات مثلاً، حالة إقامة العلاقات الدبلوماسية التي تتضمن حكماً، إلا إذا اتفق على خلاف ذلك، موافقة الدولتين على مباشرتهما للعلاقات القنصلية التي تتولاها البعثة الدبلوماسية عينها. وقد ترغب إحدى الدولتين أو كلاهما في وقت لاحق في افتتاح بعثات قنصلية لها في أراضي الدولة المضيفة، في مدن أو مرافئ أو مناطق تقع خارج العاصمة السياسية وتشكل وحدات مستقلة عن السفارة، فيستلزم ذلك حصولها على موافقة هذه الدولة.
      وقد تكرَّس مبدأ الموافقة المسبقة للدولة المضيفة على افتتاح البعثات القنصلية في أراضيها في اتفاقية فيينا، وفي المعاهدات القنصلية السابقة واللاحقة لها. واتبعت هذه المعاهدات طريقتين مختلفتين في النص على المبدأ: فبعضها ،وهو في غالبيته سابق لاتفاقية فيينا، افترض موافقة الدولة المضيفة لمجرد عدم اعتراضها على إنشاء البعثة، وبعضها الآخر "وهو في غالبيته لاحق لاتفاقية فيينا  افترض عدم موافقتها إن لم تستحصل الدولة الموفدة على هذه الموافقة صراحة .
     لقد اعتمد مؤتمر فيينا للعلاقات القنصلية الحالة الثانية فأقر بالإجماع الفقرة الأولى من المادة الرابعة من الاتفاقية التي نصّت:"لا يمكن إنشاء بعثة قنصلية في أراضي الدولة المضيفة إلا بموافقة تلك الدولة".
     وبذلك إن الاتجاه الحديث، يشترط الحصول على موافقة الدولة المضيفة المسبقة على إنشاء البعثات القنصلية في أراضيها. ولهذا الاتجاه مبرراته المبدئية والعملية.
- فمن الناحية المبدئية، يتلاءم هذا الاتجاه مع مبدأ أساسي من مبادئ القانون الدولي هو مبدأ حق الدولة في السيادة الكاملة على أراضيها، فلها أن تقرر بملء إرادتها قبول إنشاء بعثات قنصلية أجنبية في مناطق محددة من أراضيها أو رفض ذلك( )، شرط أن لا تتعسف في استعمالها لهذا الحق كالإجازة  لبعض الدول بافتتاح قنصليات في مدينة أو منطقة معينة، ورفضها معاملة الدول الأخرى بالمثل دون أسباب تبرر ذلك( ). ولقد لحظت عدة معاهدات قنصلية هذه الناحية، فنصت الفقرة الأولى من المادة الثالثة من المعاهدة الأميركية – البريطانية لعام 1951 على "حق كل من الفريقين المتعاقدين باقامة قنصليات في أراضي الفريق الآخر في أي مكان تقوم فيه قنصلية لدولة ثالثة، أو في أي مكان توافق الدولة المضيفة على إقامة قنصلية فيه"، واشترطت الفقرة الثانية من المادة /14/ من المعاهدة اللبنانية – اليونانية لعام 1948، أن يشمل رفض الدولة المضيفة إقامة قنصليات في منطقة ما، جميع الدول. وفي رأي العلامة أوبنهايم أن يحق للدولة رفض استقبال قناصل أجانب في منطقة معينة، كما فعلت روسيا عندما رفضت لفترة طويلة السماح بإقامة قنصليات أجنبية في مدينة وارسو التي أصبحت فيما بعد عاصمة بولندا، إلا أن مجرد منح الحق لأية دولة بإقامة قنصلية في هذه المنطقة يجعل من الصعب على الدولة المضيفة رفض أي طلب لاحق تتقدم به دولة أخرى من أجل إقامة قنصلية لها في المنطقة عينها( ).
- ومن الناحية العملية، ظروف سياسية وأمنية وعسكرية معينة تدفع الدول إلى الحد من إنشاء القنصليات الأجنبية في مناطق محددة من أراضيها وبخاصة المناطق الإستراتيجية منها .        
     وقد تلجأ الدول إلى تضمين المعاهدات القنصلية نصّاً يحدّد عدد البعثات القنصلية التي يجوز لكل منها افتتاحها في أراضي الدولة المتعاقدة الأخرى، ولا يجوز زيادة عدد هذه البعثات إلا بموافقة الدولة المضيفة( ). وقد لا ترغب إحدى الدول في الإنشاء الفوري لقنصليات لها في أراضي الدولة المتعاقدة الأخرى فتنص المعاهدة القنصلية على حقها في ذلك مستقبلاً على أن يتم الإنشاء في مكان تتفق عليه الدولتان.وثمة حالات معيّنة تبدي فيها الدولة المضيفة رغبتها في أن تفتتح دولة أجنبية معيّنة، قنصلية لها في منطقة ما من أراضيها لأسباب سياسية أو اقتصادية. إلا أن هذه الدولة ترفض ذلك لأسباب خاصة بها .
       إن تطبيق شرط الحصول على موافقة الدولة المضيفة، لا يقتصر على إنشاء البعثة القنصلية في مركز معين، إذ أن الحصول على هذه الموافقة ضروري أيضاً في الحالات التالية التي نصّت عليها المادة الرابعة من اتفاقية العلاقات القنصلية:
1. تحديد درجة البعثة ومنطقتها، فقد نصّت الفقرة الثانية من المادة الرابعة على "ان الدولة الموفدة هي التي تحدد مقر البعثة القنصلية ودرجتها ومنطقتها القنصلية، ويخضع ذلك لموافقة الدولة المضيفة".
2. كل تعديل لاحق في مقر البعثة أو درجتها أو منطقتها القنصلية( ). فقد نصّت الفقرة الثالثة من المادة الرابعة على أنه "ليس بإمكان الدولة الموفدة إلا بموافقة الدولة المضيفة إجراء تعديلات لاحقة في مقر البعثة القنصلية ودرجتها ومنطقتها القنصلية". وقد ترغب الدولة المضيفة في تعديل مقر البعثة أو درجتها أو منطقتها القنصلية لأسباب خاصة بها ( ).
3. ان خلو اتفاقية فيينا من أي ذكر لهذه الحالة، لا يعني إطلاق حرية الدولة المضيفة في إجراء هذا التعديل. بل كل ما في ذلك، أنه يحق لهذه الدولة، في حالات استثنائية أن تطلب من الدولة الموفدة القيام بهذا التعديل. وهذا ما أوضحته لجنة القانون الدولي في تعليقها على الفقرة الثالثة من المادة الرابعة من مشروع الاتفاقية القنصلية.
4. إنشاء نيابة قنصلية أو وكالة قنصلية من قبل قنصلية عامة أو قنصلية، خارج مقرها وفقا لنص الفقرة الرابعة من المادة الرابعة.
5. افتتاح مكتب تابع لقنصلية قائمة، خارج مقرّها وفقا للفقرة الخامسة من المادة الرابعة( ).

الفصل الثاني
نطاق صلاحيات البعثات القنصلية

        تقوم البعثات القنصلية بحماية ورعاية مصالح الدولة الموفدة ومصالح مواطنيها داخل منطقة قنصلية معيّنة، تحددها الدولة الموفدة وتوافق عليها الدولة المضيفة. إلا أن الصلاحية الشخصية للبعثة القنصلية يمكن أن تتسع لتشمل حماية ورعاية مواطني دول أخرى ومصالحها، كما أن صلاحيتها المكانية يمكن أن تتسع لتشمل مناطق خارج المنطقة القنصلية وحتى خارج الدولة المضيفة.

أولاً: نطاق الصلاحية الشخصية للبعثة
     الأصل أن يقتصر اختصاص البعثة القنصلية على حماية مصالح الدولة الموفدة ورعايتها وحماية مصالح مواطنيها ورعايتها، بحيث يمارس الموظف القنصلي المهام القنصلية التي تتعلق بشكل أو بآخر بدولته أو مواطنيه. إلاّ أن ثمة حالتين تتسع فيهما صلاحيات البعثة القنصلية لتشمل بالحماية والرعاية مصالح دولة ثالثة أو أكثر ومصالح مواطنيها، وهما: حالة تعيين الشخص نفسه موظفاً قنصلياً لأكثر من دولة، وحالة قيام البعثة القنصلية بممارسة الأعمال القنصلية نيابة عن دولة ثالثة.

1. قيام البعثة القنصلية بمهام القنصلية نيابة عن دولة ثالثة
      في حالات معيّنة ،قد يقوم قنصل دولة ما بتقديم الحماية لمواطني دول أخرى في أوقات الحروب أو الثورات، وقد تمارس البعثات القنصلية الأعمال القنصلية نيابة عن دول ثالثة في حالات معيّنة كحالة قطع دولتين لعلاقاتهما الدبلوماسية والقنصلية وتكليف كل منهما دولة ما رعاية مصالحها القنصلية في أراضي الدولة الأخرى، وكحالة إغلاق إحدى الدول لبعثاتها القنصلية العاملة في أراضي دولة ما بشكل مؤقت أو دائم، أو حالة عدم وجود بعثات قنصلية لها في تلك الدولة. فإن رغبت الدول في هذه الحالات في تأمين الحماية القنصلية لرعاياها المقيمين في دولة ليس لها فيها بعثة قنصلية، قامت بتكليف إحدى الدول برعاية مصالحها القنصلية بواسطة بعثاتها العاملة في تلك الدولة( ).
        ويختلف وضع البعثة القنصلية في هذه الحالة عن الحالة السابقة ويشابه وضع البعثة الدبلوماسية التي تتولى رعاية مصالح دولة ما قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة المضيفة. فالبعثة القنصلية التي تمارس المهام القنصلية نيابة عن دولة ثالثة تعتبر جهازاً لدولة واحدة فقط ،هي الدولة الموفدة لا جهازاً مشتركاً لدولتين، وبالتالي فإن قيامها بالأعمال القنصلية نيابة عن دولة ثالثة لا يستدعي تقديمها لكتاب اعتماد ، وبالتالي الحصول على البراءة القنصلية. وجل ما في الأمر أنها تمارس مساعيها الحميدة وتقدم خدماتها للدولة الثالثة دون أن يجعل ذلك منها مؤسسة تابعة لهذه الدولة( ).
      ويتطلب قيام أحدى الدول بالمهام القنصلية نيابة عن دولة ثالثة قيامها بإبلاغ الدولة المضيفة بذلك وعدم اعتراض هذه الأخيرة عليه، وهذا ما كرّسته المادة الثامنة من اتفاقية فيينا القنصلية عندما نصّت على أنه "بعد تبليغ الدولة المضيفة، وبشرط عدم اعتراضها ،يجوز لبعثة الدولة الموفدة ممارسة الوظائف القنصلية في الدولة المضيفة لصالح دولة ثالثة".
2. تعيين ممثل واحد من قبل دولتين أو أكثر موظفاً قنصلياً:
      نصّت المادة /18/ من اتفاقية فيينا القنصلية على أن "بإمكان دولتين أو أكثر، بموافقة الدولة المضيفة، أن تعيّن الشخص ذاته موظفاً قنصلياً في تلك الدولة".وتتوافق أحكام هذه المادة مع المادة السادسة من اتفاقية فيينا الدبلوماسية لعام 1961 ،التي تنص على أنه : "بإمكان دولتين أو أكثر اعتماد شخص واحد رئيس بعثة لدى دولة أخرى ما لم تعترض الدولة المعتمد لديها على ذلك"( ).
واعتبرت لجنة القانون الدولي في تعليقها على المادة /18/، أن أحكام هذه المادة تشكل تطوراً حديثاً في حقل العلاقات القنصلية وأنها تُشِّرع للمستقبل أكثر منه للحاضر( ). ويبدو في الواقع من المألوف تعيين القنصل الفخري نفسه قنصلاً لأكثر من دولة، وخصوصاً إذا كان من البارزين اجتماعيا أو اقتصادياً بين المقيمين في الدولة المضيفة. إلا أنه ليس مألوفاً ولا معتاداً تعيين القنصل المسلكي قنصلاً لأكثر من دولة، باعتبار أن ذلك سيؤدي إلى اعتباره مؤسسة Organ مشتركة لأكثر من دولة في الوقت ذاته، بدلا من أن يكون مؤسسة رسمية لدولة واحدة، فنصبح أمام دولتين موفدتين أو أكثر ودولة مضيفة واحدة، وأمام قنصل يتقدم من الدولة المضيفة بأكثر من كتاب اعتماد Commission ويستحصل منها على أكثر من إجازة قنصلية Exequatur. ومع اختلاف مضمون المعاهدات القنصلية المعقودة بين الدول المعنية وتضارب مصالح هذه الدول حتى ولو كانت تعتمد نظاماً سياسياً واقتصادياً موحّداً، فقد يؤدي هذا التعيين إلى إلحاق الضرر بمصالح هذه الدول ومصالح رعاياها، وإلى عدم تحقيق الغاية من وجود المؤسسة القنصلية.
      لهذا من الصعب جداً أن توافق الدول على تعيين قنصل مسلكي قنصلاً لأكثر من دولة( ). ويبقى نص المادة /18/ بالتالي، تطلعاً مستقبلياً إلى عالم تتوافق فيه مصالح الدول، وتتماثل ضمنه القواعد القانونية والعملية التي ترعى علاقاتها، وهذا ما أشارت إليه صراحة لجنة القانون الدولي في تعليقها على نص المادة المذكورة( )، وما ركَّز عليه المؤتمرون أثناء مناقشات المؤتمر( ).كما أن تعيين الشخص ذاته قنصلاً لأكثر من دولة، إذا حصل، لا بد من أن يخضع لموافقة الدولة المضيفة.
ثانياً: نطاق الصلاحية الاقليمية للبعثة القنصلية
        للدولة بعثة دبلوماسية واحدة لدى دولة أخرى، مقرها العاصمة السياسية لهذه الأخيرة وتشمل صلاحياتها كل أراضي هذه الدولة. أما البعثات القنصلية فيمكن أن تتعدد وتنتشر في المدن والمرافئ المهمة. ومن هنا لا بد من تحديد النطاق الجغرافي لكل منها وهو ما يعرف بالمنطقة القنصلية Consular Region أو Consular District أو Circonscription consulaire التي تعيّن الحدود الإقليمية التي تمارس البعثة القنصلية ضمنها وظائفها. وقد تشمل هذه المنطقة جميع أراضي الدولة المضيفة إذا لم يكن للدولة الموفدة سوى بعثة قنصلية واحدة في هذه الدولة، أو كانت المهام القنصلية مناطة بالبعثة الدبلوماسية بسبب عدم وجود بعثات قنصلية. كما قد تقسّم أراضي الدولة المضيفة إلى مناطق قنصلية عدة تخضع كل منها باتفاق الدولتين لبعثة قنصلية معينة.
      وتقوم الدولة الموفدة بتحديد المنطقة القنصلية بموافقة الدولة المضيفة. ويخضع كل تعديل ترغب الأولى في إدخاله على هذه المنطقة لموافقة الدولة الثانية. وقد تتضمن المعاهدات القنصلية تحديداً لمراكز القنصليات ودرجاتها ومناطقها، كما يتضمن عادة، خطاب التعيين الذي يحمله القنصل والبراءة التي يستحصل عليها تحديداً لهذه المنطقة. أما في حالة عدم التحديد الواضح فإن المنطقة تشمل الأماكن الأقرب إلى مقر البعثة المعيّنة منها إلى مقر بعثة أخرى( ).
      ويلعب حجم المنطقة القنصلية دورا في درجة القنصلية نفسها، فكلما توسّعت هذه المنطقة عظمت درجتها بحيث تشمل صلاحية القنصلية العامة مثلاً منطقة قنصلية واسعة؛ وصلاحية القنصلية منطقة قنصلية أضيق وصلاحية نيابة القنصلية منطقة قنصلية ضيّقة. إلا أن لهذه القاعدة استثناءات.وقد تمتد الصلاحية المكانية للبعثة القنصلية إلى خارج المنطقة القنصلية في حالتين: حالة ممارسة الوظائف القنصلية خارج المنطقة القنصلية، وحالة ممارستها في دولة ثالثة.
1. القيام بالمهام القنصلية خارج المنطقة الجغرافية
      قد يحدث في حالات طارئة أن تضطر الدولة الموفدة إلى تكليف الموظف القنصلي الانتقال إلى خارج منطقته القنصلية لوقت قصير لممارسة مهمة قنصلية. ولهذا يلحظ العديد من المعاهدات القنصلية هذه الحالة.وتنبهت بعض الوفود في مؤتمر فيينا القنصلي إلى خلو مشروع الاتفاقية من نص يكرس هذا التعامل فتقدمت باقتراح يشترط الحصول على الموافقة المسبقة الصريحة للدولة المضيفة لقيام الموظف القنصلي بممارسة مهامه خارج المنطقة القنصلية. لكن المندوب الألماني الغربي اعترض على عبارة "الموافقة الصريحة" نظراً لوجود حالات طارئة وعاجلة يصعب معها الحصول على هذه الموافقة كحالة حدوث كارثة بحرية أو جوية تستدعي انتقالاً فورياً للموظف القنصلي. وبعد المناقشة أُكتفيَّ بكلمة "موافقة" التي قد تكون ضمنية عند عدم اعتراض الدولة المضيفة فور إبلاغها الموضوع( ). وهكذا نصّت المادة السادسة من اتفاقية فيينا القنصلية على أنه "بإمكان الموظف القنصلي في حالات خاصة، وبموافقة الدولة المضيفة، ممارسة وظائفه خارج منطقته القنصلية".
2. ممارسة الوظائف القنصلية في دولة ثالثة
     نصّت المادة السابعة من اتفاقية فيينا القنصلية على أن: "بإمكان الدولة الموفدة تكليف بعثة قنصلية قائمة في دولة معيّنة الاضطلاع بممارسة الوظائف القنصلية في دولة أخرى بعد إبلاغ الدول المعنية ،وبشرط ألاّ تعترض إحداها صراحة على ذلك".وهذا النص يكرّس تعاملاً أخذت به الدول منذ وقت طويل، ويشابه وضع التمثيل الدبلوماسي المتعدد أو غير المقيم. فقد تكلف الدولة ممثلها الدبلوماسي المقيم في دولة ما بتمثيلها في الدول المجاورة( ). وهذا التعامل يلبي ضرورات عملية عدة، بعضها اقتصادي إذ أن تكليف بعثة قنصلية في دولة ما القيام بالمهام القنصلية في دول مجاورة ليست بحاجة إلى إنشاء بعثات دبلوماسية أو قنصلية فيها، وبعضها جغرافي حيث تفرض الطبيعة الجغرافية لمنطقة ما في دولة معيّنة ربطها بقنصلية تقوم في دولة أخرى مجاورة لها، بدلاً من ربطها بسفارة أو قنصلية تبعد عنها آلاف الأميال .
       ولا يحد من حق الدولة في توسيع المنطقة القنصلية لإحدى بعثاتها القنصلية، لتشمل أراضي دولة ثالثة تتوافق معها على ذلك، سوى الاعتراض الصريح للدولة المضيفة على هذا التوسيع، بعد إبلاغها ذلك من قبل الدولة صاحبة العلاقة.


الفصل الثاني
نطاق صلاحيات البعثات القنصلية

        تقوم البعثات القنصلية بحماية ورعاية مصالح الدولة الموفدة ومصالح مواطنيها داخل منطقة قنصلية معيّنة، تحددها الدولة الموفدة وتوافق عليها الدولة المضيفة. إلا أن الصلاحية الشخصية للبعثة القنصلية يمكن أن تتسع لتشمل حماية ورعاية مواطني دول أخرى ومصالحها، كما أن صلاحيتها المكانية يمكن أن تتسع لتشمل مناطق خارج المنطقة القنصلية وحتى خارج الدولة المضيفة.

أولاً: نطاق الصلاحية الشخصية للبعثة
     الأصل أن يقتصر اختصاص البعثة القنصلية على حماية مصالح الدولة الموفدة ورعايتها وحماية مصالح مواطنيها ورعايتها، بحيث يمارس الموظف القنصلي المهام القنصلية التي تتعلق بشكل أو بآخر بدولته أو مواطنيه. إلاّ أن ثمة حالتين تتسع فيهما صلاحيات البعثة القنصلية لتشمل بالحماية والرعاية مصالح دولة ثالثة أو أكثر ومصالح مواطنيها، وهما: حالة تعيين الشخص نفسه موظفاً قنصلياً لأكثر من دولة، وحالة قيام البعثة القنصلية بممارسة الأعمال القنصلية نيابة عن دولة ثالثة.

3. قيام البعثة القنصلية بمهام القنصلية نيابة عن دولة ثالثة
      في حالات معيّنة ،قد يقوم قنصل دولة ما بتقديم الحماية لمواطني دول أخرى في أوقات الحروب أو الثورات، وقد تمارس البعثات القنصلية الأعمال القنصلية نيابة عن دول ثالثة في حالات معيّنة كحالة قطع دولتين لعلاقاتهما الدبلوماسية والقنصلية وتكليف كل منهما دولة ما رعاية مصالحها القنصلية في أراضي الدولة الأخرى، وكحالة إغلاق إحدى الدول لبعثاتها القنصلية العاملة في أراضي دولة ما بشكل مؤقت أو دائم، أو حالة عدم وجود بعثات قنصلية لها في تلك الدولة. فإن رغبت الدول في هذه الحالات في تأمين الحماية القنصلية لرعاياها المقيمين في دولة ليس لها فيها بعثة قنصلية، قامت بتكليف إحدى الدول برعاية مصالحها القنصلية بواسطة بعثاتها العاملة في تلك الدولة( ).
        ويختلف وضع البعثة القنصلية في هذه الحالة عن الحالة السابقة ويشابه وضع البعثة الدبلوماسية التي تتولى رعاية مصالح دولة ما قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة المضيفة. فالبعثة القنصلية التي تمارس المهام القنصلية نيابة عن دولة ثالثة تعتبر جهازاً لدولة واحدة فقط ،هي الدولة الموفدة لا جهازاً مشتركاً لدولتين، وبالتالي فإن قيامها بالأعمال القنصلية نيابة عن دولة ثالثة لا يستدعي تقديمها لكتاب اعتماد ، وبالتالي الحصول على البراءة القنصلية. وجل ما في الأمر أنها تمارس مساعيها الحميدة وتقدم خدماتها للدولة الثالثة دون أن يجعل ذلك منها مؤسسة تابعة لهذه الدولة( ).
      ويتطلب قيام أحدى الدول بالمهام القنصلية نيابة عن دولة ثالثة قيامها بإبلاغ الدولة المضيفة بذلك وعدم اعتراض هذه الأخيرة عليه، وهذا ما كرّسته المادة الثامنة من اتفاقية فيينا القنصلية عندما نصّت على أنه "بعد تبليغ الدولة المضيفة، وبشرط عدم اعتراضها ،يجوز لبعثة الدولة الموفدة ممارسة الوظائف القنصلية في الدولة المضيفة لصالح دولة ثالثة".
4. تعيين ممثل واحد من قبل دولتين أو أكثر موظفاً قنصلياً:
      نصّت المادة /18/ من اتفاقية فيينا القنصلية على أن "بإمكان دولتين أو أكثر، بموافقة الدولة المضيفة، أن تعيّن الشخص ذاته موظفاً قنصلياً في تلك الدولة".وتتوافق أحكام هذه المادة مع المادة السادسة من اتفاقية فيينا الدبلوماسية لعام 1961 ،التي تنص على أنه : "بإمكان دولتين أو أكثر اعتماد شخص واحد رئيس بعثة لدى دولة أخرى ما لم تعترض الدولة المعتمد لديها على ذلك"( ).
واعتبرت لجنة القانون الدولي في تعليقها على المادة /18/، أن أحكام هذه المادة تشكل تطوراً حديثاً في حقل العلاقات القنصلية وأنها تُشِّرع للمستقبل أكثر منه للحاضر( ). ويبدو في الواقع من المألوف تعيين القنصل الفخري نفسه قنصلاً لأكثر من دولة، وخصوصاً إذا كان من البارزين اجتماعيا أو اقتصادياً بين المقيمين في الدولة المضيفة. إلا أنه ليس مألوفاً ولا معتاداً تعيين القنصل المسلكي قنصلاً لأكثر من دولة، باعتبار أن ذلك سيؤدي إلى اعتباره مؤسسة Organ مشتركة لأكثر من دولة في الوقت ذاته، بدلا من أن يكون مؤسسة رسمية لدولة واحدة، فنصبح أمام دولتين موفدتين أو أكثر ودولة مضيفة واحدة، وأمام قنصل يتقدم من الدولة المضيفة بأكثر من كتاب اعتماد Commission ويستحصل منها على أكثر من إجازة قنصلية Exequatur. ومع اختلاف مضمون المعاهدات القنصلية المعقودة بين الدول المعنية وتضارب مصالح هذه الدول حتى ولو كانت تعتمد نظاماً سياسياً واقتصادياً موحّداً، فقد يؤدي هذا التعيين إلى إلحاق الضرر بمصالح هذه الدول ومصالح رعاياها، وإلى عدم تحقيق الغاية من وجود المؤسسة القنصلية.
      لهذا من الصعب جداً أن توافق الدول على تعيين قنصل مسلكي قنصلاً لأكثر من دولة( ). ويبقى نص المادة /18/ بالتالي، تطلعاً مستقبلياً إلى عالم تتوافق فيه مصالح الدول، وتتماثل ضمنه القواعد القانونية والعملية التي ترعى علاقاتها، وهذا ما أشارت إليه صراحة لجنة القانون الدولي في تعليقها على نص المادة المذكورة( )، وما ركَّز عليه المؤتمرون أثناء مناقشات المؤتمر( ).كما أن تعيين الشخص ذاته قنصلاً لأكثر من دولة، إذا حصل، لا بد من أن يخضع لموافقة الدولة المضيفة.
ثانياً: نطاق الصلاحية الاقليمية للبعثة القنصلية
        للدولة بعثة دبلوماسية واحدة لدى دولة أخرى، مقرها العاصمة السياسية لهذه الأخيرة وتشمل صلاحياتها كل أراضي هذه الدولة. أما البعثات القنصلية فيمكن أن تتعدد وتنتشر في المدن والمرافئ المهمة. ومن هنا لا بد من تحديد النطاق الجغرافي لكل منها وهو ما يعرف بالمنطقة القنصلية Consular Region أو Consular District أو Circonscription consulaire التي تعيّن الحدود الإقليمية التي تمارس البعثة القنصلية ضمنها وظائفها. وقد تشمل هذه المنطقة جميع أراضي الدولة المضيفة إذا لم يكن للدولة الموفدة سوى بعثة قنصلية واحدة في هذه الدولة، أو كانت المهام القنصلية مناطة بالبعثة الدبلوماسية بسبب عدم وجود بعثات قنصلية. كما قد تقسّم أراضي الدولة المضيفة إلى مناطق قنصلية عدة تخضع كل منها باتفاق الدولتين لبعثة قنصلية معينة.
      وتقوم الدولة الموفدة بتحديد المنطقة القنصلية بموافقة الدولة المضيفة. ويخضع كل تعديل ترغب الأولى في إدخاله على هذه المنطقة لموافقة الدولة الثانية. وقد تتضمن المعاهدات القنصلية تحديداً لمراكز القنصليات ودرجاتها ومناطقها، كما يتضمن عادة، خطاب التعيين الذي يحمله القنصل والبراءة التي يستحصل عليها تحديداً لهذه المنطقة. أما في حالة عدم التحديد الواضح فإن المنطقة تشمل الأماكن الأقرب إلى مقر البعثة المعيّنة منها إلى مقر بعثة أخرى( ).
      ويلعب حجم المنطقة القنصلية دورا في درجة القنصلية نفسها، فكلما توسّعت هذه المنطقة عظمت درجتها بحيث تشمل صلاحية القنصلية العامة مثلاً منطقة قنصلية واسعة؛ وصلاحية القنصلية منطقة قنصلية أضيق وصلاحية نيابة القنصلية منطقة قنصلية ضيّقة. إلا أن لهذه القاعدة استثناءات.وقد تمتد الصلاحية المكانية للبعثة القنصلية إلى خارج المنطقة القنصلية في حالتين: حالة ممارسة الوظائف القنصلية خارج المنطقة القنصلية، وحالة ممارستها في دولة ثالثة.
3. القيام بالمهام القنصلية خارج المنطقة الجغرافية
      قد يحدث في حالات طارئة أن تضطر الدولة الموفدة إلى تكليف الموظف القنصلي الانتقال إلى خارج منطقته القنصلية لوقت قصير لممارسة مهمة قنصلية. ولهذا يلحظ العديد من المعاهدات القنصلية هذه الحالة.وتنبهت بعض الوفود في مؤتمر فيينا القنصلي إلى خلو مشروع الاتفاقية من نص يكرس هذا التعامل فتقدمت باقتراح يشترط الحصول على الموافقة المسبقة الصريحة للدولة المضيفة لقيام الموظف القنصلي بممارسة مهامه خارج المنطقة القنصلية. لكن المندوب الألماني الغربي اعترض على عبارة "الموافقة الصريحة" نظراً لوجود حالات طارئة وعاجلة يصعب معها الحصول على هذه الموافقة كحالة حدوث كارثة بحرية أو جوية تستدعي انتقالاً فورياً للموظف القنصلي. وبعد المناقشة أُكتفيَّ بكلمة "موافقة" التي قد تكون ضمنية عند عدم اعتراض الدولة المضيفة فور إبلاغها الموضوع( ). وهكذا نصّت المادة السادسة من اتفاقية فيينا القنصلية على أنه "بإمكان الموظف القنصلي في حالات خاصة، وبموافقة الدولة المضيفة، ممارسة وظائفه خارج منطقته القنصلية".
4. ممارسة الوظائف القنصلية في دولة ثالثة
     نصّت المادة السابعة من اتفاقية فيينا القنصلية على أن: "بإمكان الدولة الموفدة تكليف بعثة قنصلية قائمة في دولة معيّنة الاضطلاع بممارسة الوظائف القنصلية في دولة أخرى بعد إبلاغ الدول المعنية ،وبشرط ألاّ تعترض إحداها صراحة على ذلك".وهذا النص يكرّس تعاملاً أخذت به الدول منذ وقت طويل، ويشابه وضع التمثيل الدبلوماسي المتعدد أو غير المقيم. فقد تكلف الدولة ممثلها الدبلوماسي المقيم في دولة ما بتمثيلها في الدول المجاورة( ). وهذا التعامل يلبي ضرورات عملية عدة، بعضها اقتصادي إذ أن تكليف بعثة قنصلية في دولة ما القيام بالمهام القنصلية في دول مجاورة ليست بحاجة إلى إنشاء بعثات دبلوماسية أو قنصلية فيها، وبعضها جغرافي حيث تفرض الطبيعة الجغرافية لمنطقة ما في دولة معيّنة ربطها بقنصلية تقوم في دولة أخرى مجاورة لها، بدلاً من ربطها بسفارة أو قنصلية تبعد عنها آلاف الأميال .
       ولا يحد من حق الدولة في توسيع المنطقة القنصلية لإحدى بعثاتها القنصلية، لتشمل أراضي دولة ثالثة تتوافق معها على ذلك، سوى الاعتراض الصريح للدولة المضيفة على هذا التوسيع، بعد إبلاغها ذلك من قبل الدولة صاحبة العلاقة.


الفصل الثالث
انتهاء المهمة القنصلية

      ثمّة حالات عدة تنتهي فيها المهمة القنصلية. فهي قد تنتهي لأسباب عامة، مثل زوال البعثة عينها بنتيجة زوال إحدى الدولتين الموفدة أو المضيفة، أو ضم المنطقة القنصلية إلى دولة أخرى، أو إعلان حالة الحرب بين الدولتين، أو قطع علاقاتهما القنصلية، أو إلغاء البعثة القنصية لأسباب اقتصادية، أو لأسباب أخرى. وقد تنتهي لأسباب خاصة كتبديل الموظف بموظف آخر، أو وفاته أو إحالته على التقاعد أو نقله أو استقالته. وقد تكون الأسباب استثنائية كسحب الموظف من قبل دولته أو إنهاء مهمته من قبل الدولة المضيفة بإعلانه شخصاً غير مرغوب فيه.

القسم الأول
الأسباب العامة
لزوال البعثة القنصلية

      تعود أسباب الزوال إلى عوامل عدة منها: تبدّل الوضع القانوني للدولة الموفدة أو المضيفة، وتوتر العلاقات بين هاتين الدولتين وحدوث ظروف معيّنة تدفع بالدولة الموفدة أو المضيفة إلى إلغاء البعثة أو ضمها إلى بعثة أخرى .
أولاً: تبدّل الوضع القانوني للدولتين
       قد يؤدي تبدّل الأوضاع القانونية في الدولتين الموفدة أو المضيفة أو في إحداهما، إلى إلغاء البعثات القنصلية. ويتخذ تبدّل الأوضاع أشكالاً عدة كزوال إحدى الدولتين أو تغيّر نظام الحكم في إحداهما أو استقلال الإقليم الذي يشكل المنطقة القنصلية أو انضمامه إلى دولة أخرى.
     ومن المعروف، أن اكتساب الصفة القنصلية يتم بتوافق إرادة الدولتين الموفدة والمضيفة وبالتالي فإن انعدام إحدى هاتين الإرادتين يؤدي إلى إنهاء المهمة القنصلية، كما أن في زوال الدولة زوالاً لإرادتها وإنهاء للصفة القنصلية. وقد تزول الدولتان معاً أحياناً نتيجة اندماجهما في دولة جديدة ما يؤدي إلى إلغاء بعض بعثتها القنصلية، وتحويل بعضها الآخر إلى بعثات للدولة الجديدة . وقد تفقد الدولة الموفدة سيادتها دون التأثير في أوضاع قناصلها في الدولة المضيفة لأسباب وعوامل سياسية( ).
      وقد يقع الإقليم الذي يشكل المنطقة القنصلية تحت الاحتلال، أو ينضم إلى دولة أخرى، أو يعلن الاستقلال؛ ففي هذه الحالة يتوقف استمرار المهمة القنصلية على السياسة الجديدة لكل من الدولتين الموفدة والمضيفة. فإن أصرّت هذه الدولة الأخيرة على ضرورة حصول  الموظف القنصلي على إجازة قنصلية جديدة منها ورفضت ذلك الدولة الموفدة كان لا بد من إقفال مقر البعثة القنصلية وإنهاء مهامها ( ). أما إذا وافقت الدولة الموفدة على طلب الدولة المضيفة( )،على استمرار البعثات القنصلية أعمالها دون الحصول على إجازات قنصلية جديدة ورغبت الدولة الموفدة في استمرار هذه الأعمال، فإن المهام القنصلية لا تتوقف ولا تنقطع.
      كما لا يؤدي تغيير رئيس الدولة في إحدى الدولتين الموفدة أو المضيفة، أو تغيّر نظام الحكم في إحداهما إلى إنهاء مهام رؤساء البعثات القنصلية. ولا يتوجب على القنصل في الحالتين تقديم كتاب اعتماد جديد أو  الحصول على براءة قنصلية جديدة( ).
        كما قد يقع انقلاب أو ثورة في بلد ما وتقوم فيه حكومة واقعية De facto Government غير معترف بها من الدولة الموفدة. ففي هذه الحالة يتوقف استمرار الوضع القنصلي أو انتهاؤه على موقف نظام الحكم الجديد الذي له الحق في إنهاء الصفة القنصلية الممنوحة من الحكومة السابقة( )، كما يتوقف على رغبة الدولة الموفدة في استمرار بعثاتها القنصلية في العمل أو إنهاء مهامها. وفي جميع الأحوال يتطلب استمرار المهام القنصلية قيام السلطات غير المعترف بها، بتوفير الضمانات الدنيا للبعثات القنصلية وموظفيها وفقاً لما يقره القانون الدولي.

ثانياً: توتر العلاقات بين الدولتين
      يؤدي عادة إعلان الحرب بين دولتين إلى انقطاع كامل العلاقات بينهما ومنها العلاقات القنصلية( )، بينما لا يؤدي نشوب نزاع مسلح محدود بينهما إلى مثل هذه النتيجة بشكل دائم( ). وتنص قوانين بعض الدول على واجبات القناصل العاملين في الخارج عند إعلان الحرب بين دولتهم والدولة المضيفة والتي ينجم عنها انقطاع العلاقات القنصلية بينهما( ). وتنص بعض المعاهدات القنصلية على سحب الإجازة القنصلية فور إعلان حالة الحرب( ). فحالة الحرب، إذن، تتعارض واستمرار الوظيفة القنصلية مع ما يلازمها من حصانات وامتيازات. وقد لا تصل درجة التوتر بين الدولتين إلى حد قيام نزاع مسلك بينهما، وإنما تقتصر على إنهاء علاقاتهما الودية مع ما صاحب ذلك من قطع علاقاتهما الدبلوماسية والقنصلية.
     ولا يؤدي قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين إلى قطع حتمي لعلاقاتهما القنصلية مع العلم أن قطع العلاقات القنصلية لا يحدث عادة إلا بعد قطع العلاقات الدبلوماسية   ، وهذا ما أكدته الفقرة الثالثة من المادة  الثانية من الاتفاقية القنصلية: "إن قطع العلاقات الدبلوماسية لا يستلزم حكماً قطع العلاقات القنصلية".
      وفي الواقع تصبح العلاقات القنصلية أكثر أهمية بعد قطع العلاقات الدبلوماسية، باعتبارها تشكّل حينها وسيلة للاتصال بين الدولتين وحماية رعاياهما ومصالحهما والعمل على تخفيف حالة التوتر وإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي. وما يساعد على استمرار هذه العلاقات على الرغم من انقطاع العلاقات الدبلوماسية، اعتبارها مجرد علاقات اقتصادية وثقافية لا صفة سياسية لها  . وقد يكون الخلاف بين الدولتين كبيرا فيصاحب قطع العلاقات الدبلوماسية قطع للعلاقات القنصلية وإنهاء للوظائف القنصلية .ويتم قطع العلاقات الدبلوماسية والقنصلية بإعلان رسمي تصدره حكومة الدولة صاحبة العلاقة. وقد تستمر هذه العلاقات بعد قطعها عبر بعثة دولة ثالثة تقوم برعاية مصالح الدولة الموفدة ( ).

ثالثاً: دمج بعثة في بعثة أخرى
       تتعدد الأسباب التي تدفع بالدول إلى إغلاق مقر بعثة قنصلية لها أو أكثر في دولة ما دون أن يكون في نيتها قطع العلاقات القنصلية .فقد تلجأ الدولة الموفدة أحياناً، لأسباب اقتصادية، إلى تقليص عدد بعثاتها في الخارج بإغلاق مراكز بعضها ودمج بعضها الآخر في بعثات أخرى. كما قد تقوم إثر افتتاح سفارة لها في الدولة المضيفة بإلغاء بعثتها القنصلية السابقة ودمجها في البعثة الدبلوماسية. وفي هذه الحالة تستمر الوظائف القنصلية في البعثة الدبلوماسية. وقد تنتفي الحاجة إلى وجود قنصلية ما في منطقة معينة نتيجة لزوال العوامل التي دفعت بالدولة الموفدة لإنشائها، كفقدان المنطقة أهميتها الاقتصادية أو تناقص عدد رعايا الدولة الموفدة فيها.
       وقد تلجأ الدولة المضيفة إلى طلب إغلاق بعض القنصليات الأجنبية العاملة ضمن أراضيها لأسباب سياسية أو أمنية أو تطبيقاً لمبدأ المعاملة بالمثل أو مبدأ التعادل القنصلي، وقد تعاملها الدولة الموفدة بالمثل ( ).

القسم الثاني
الأسباب الخاصة
المتعلقة بالموظف القنصلي

     ثمّة حالات عدة تنتهي فيها مهمة الموظف القنصلي بينما تستمر البعثة القنصلية في أعمالها بواسطة موظف قنصلي آخر. وقد تكون الأسباب التي أدّت إلى انتهاء مهمة الموظف القنصلي عادة، كوفاته أو نقله أو إحالته على التقاعد أو استقالته، أو استثنائية، كاستدعائه من قبل دولته أو إعلانه شخصاً غير مرغوب فيه من قبل الدولة المضيفة وسحب إجازته القنصلية.

أولاً: الأسباب العادية
     لا يهتم القانون الدولي كثيراً بالعوامل الشخصية التي تؤدي إلى انتهاء مهمة الموظف القنصلي ،وترتبط عادة بأحكام القانون الداخلي الذي يحدّد مثلاً سنّ التقاعد ومدة الخدمة في مركز معين ، وفي جميع هذه الحالات تنتهي مهمة الموظف القنصلي بمجرد إبلاغ الدولة المضيفة ذلك، على أن توفر له هذه الدولة التسهيلات اللازمة لمغادرته أراضيها بسلام وكرامة.
        كما تؤدي الوفاة إلى إنهاء مهمة القنصل فوراً. وتقوم الدولة الموفدة عادة بنقل جثمانه إلى موطنه على نفقتها، ويشارك عادة زملاء الموظف القنصلي وممثل عن الدولة المضيفة في مراسم تشييع الجثمان حتى الطائرة، وفقاً لقواعد المراسم في هذه الدولة. ويستمر أفراد عائلة الموظف المتوفى في التمتع بالحصانات والامتيازات حتى مغادرتهم أراضي الدولة المضيفة أو حتى انقضاء فترة زمنية معقولة بعد الوفاة. وعلى الدولة المضيفة أن تسهل تصدير ما يملك من منقولات باستثناء ما حصل عليه في أراضيها مما يمنع تصديره، كما عليها أن تعفيه من ضرائب التركات( ). وكما هو الوضع بالنسبة إلى الدبلوماسي فليس ثمّة من قاعدة مستقرّة في القانون الدولي تحول دون تشريح جثمان القنصل بعد وفاته.
      وتحدّد القوانين الداخلية لكل دولة سنّ تقاعد موظفيها العاملين في السلك الخارجي، ولا تختلف عادة عن سن تقاعد الموظفين العامين. وتنتهي المهمة القنصلية حكماً بحلول سن التقاعد. وتحدّد كذلك المدة القصوى لعمل الموظف في مركز معين ،وفترة بقائه في الخارج. ويتم نقل الموظف القنصلي بقرارات تصدر عن السلطة المختصة في الدولة الموفدة. ولا يؤدي المرض إلى إنهاء المهمة القنصلية ولو تسبَّب في انقطاعها بصورة مؤقتة. أما إذا اشتد المرض وأصبح من المتعذر معه أداء الموظف القنصلي مهامه فلا بد من صدور قرار بنقله أو ينهي مهمته.

ثانياً: الأسباب الاستثنائية
      تقوم الدولة الموفدة أحياناً بإقالة موظفها القنصلي أو باستدعائه إلى الإدارة المركزية بصورة نهائية لأسباب مسلكية أو سياسية أو مهنية ،منهية بذلك مهمته ( ). وقد يقوم هذا الموظف لأسباب خاصة بتقديم استقالته من الخدمة بحيث تنتهي مهمته مع قبولها( ).
       كما أن مهمة الموظف القنصلي بالنسبة للدولة المضيفة لا تنتهي بمجرد صدور قرار الدولة الموفدة بإقالته أو باستدعائه أو إحالته على التقاعد وقبول استقالته، بل بتبليغها رسمياً ذلك القرار( ).
      إلاّ أن الحالة الأكثر حساسية وإثارة للجدل، والتي عالجها علماء القانون الدولي بالتفصيل ،هي حالة إنهاء المهمة القنصلية من قبل الدولة المضيفة بطردها الموظف القنصلي Expulsion of consuls أو سحبها إجازته القنصلية Withdrawal or Revocation of Exequatur بعد إعلانه شخصاً غير مرغوب فيه، وتلكؤ دولته في سحبه بعد إبلاغها ذلك.وقد جاءت المادة الثالثة والعشرين من اتفاقية فيينا القنصلية تكرّس هذا الحق للدولة المضيفة وتنص على ( ):
1. يجوز للدولة المضيفة في كل وقت تبليغ الدولة الموفدة أن موظفاً قنصلياً هو شخص غير مرغوب فيه، أو أن أياً من موظفي البعثة هو غير مقبول. وعلى الدولة الموفدة عندئذ، ووفقاً للحالة، استدعاء الشخص المعني أو إنهاء وظائفه في البعثة القنصلية( ).
2. إذا رفضت الدولة الموفدة خلال مدة معقولة تنفيذ التزاماتها المذكورة في الفقرة الأولى من هذه المادة، أو إذا لم تنفذها، فللدولة المضيفة، حسب الحالة، أن تسحب الإجازة القنصلية من الشخص المعني،أو أن تتوقف عن اعتباره موظفاً من موظفي البعثة القنصلية( ).
3. يمكن اعتبار من عُيّن عضواً في بعثة قنصلية غير مقبول قبل وصوله إلى أراضي الدولة المضيفة، أو إذا كان موجوداً فيها من قبل ، قبل تسلمه وظائفه في البعثة القنصلية. وعلى الدولة الموفدة، في مثل هذه الحالة سحب التعيين.
4. إن الدولة المضيفة، في الحالات المذكورة في الفقرتين الأولى والثالثة من هذه المادة، ليست ملزمة بإبلاغ الدولة الموفدة أسباب قرارها"( ).
      إن حق الدولة المضيفة في سحب الإجازة القنصلية وإنهاء مهمة الموظف القنصلي يرتبط بحقوق السيادة التي تتمتع بها الدول. وقد كرّسه التعامل الدولي وأقرّته المعاهدات والاتفاقيات الدولية( ).بيد أن ممارسة الدولة المضيفة لهذا الحق ينبغي أن لا يكون تعسّفياً، فسحب الإجازة القنصلية عمل غير ودي يخالف المجاملات الدولية ويؤدي غالباً إلى تدهور العلاقات بين الدولتين وحتى إلى انقطاعها( ). وقد حاولت لجنة القانون الدولي حصر ممارسة هذا الحق في حالة سوء سلوك الموظف القنصلي، إذا شكَّل سبباً جدياً للشكوى( ) Serious rounds for Complaint، وذلك  بهدف الحؤول دون استعماله لأهداف سياسية أو لأسباب غير جدية. واعترف النص المقترح من اللجنة ضمنياً، بحق الدولة الموفدة في مطالبة الدولة المضيفة بتبيان الأسباب التي دعتها إلى اتخاذ قرارها بإنهاء مهمة الموظف القنصلي( )، إلا أن المؤتمرين رفضوا المادة المقترحة وأقرّوا اقتراحاً مشابهاً لنص المادة التاسعة والعشرين من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية( )، الذي لم يحدد حصراً الحالات التي يجوز فيها للدولة المضيفة اللجوء إلى إنهاء مهمة الموظف القنصلي، ويعفي هذه الدولة من تبيان الأسباب.
        إلاّ أن هذا لا يعني أن للدولة المضيفة الحق في إيقاف الموظف القنصلي عن أداء مهامه بشكل مفاجئ وسريع والقيام بطرده من أراضيها فوراً أو خلال فترة قصيرة تحددها له، وإنما عليها إبلاغ الدولة المضيفة بقرارها، والطلب إليها استدعاءه إذا كان من رعاياها، أو إنهاء تعيينها له إذا كان من رعايا الدولة المضيفة أو من المقيمين في أراضيها إقامة دائمة، مفسحة في المجال لتعيين بديل تحاشياً لأي انقطاع قد يقع في أداء البعثة لوظائفها القنصلية. فإذا تلكأت الدولة الموفدة أو امتنعت عن القيام بذلك كان للدولة المضيفة عندها أن تنهي مهام هذا الموظف، إما بسحب إجازته القنصلية إذا كان ممّن يحصلون على مثل هذه الإجازة، أو بالتوقف عن الاعتراف بصفته القنصلية. ولها أن تقوم بطرده من أراضيها( ). وقد يحدث أن تكتفي الدولة المضيفة بقيام الدولة الموفدة بنقل الموظف القنصلي إلى مركز قنصلي آخر قائم في أراضيها، أو تكتفي بتفسيرات تقدمها لها الدولة الموفدة أو باعتذار ترفعه إليها فتعود بالتالي عن قرارها ويستمر الموظف القنصلي في أداء مهمته.
     ويعتبر نص الفقرة الرابعة من المادة الثالثة والعشرين من اتفاقية فيينا القنصلية الذي أعفى الدولة المضيفة من تبيان الأسباب التي دعتها إلى طلب سحب الموظف القنصلي أو إنهاء مهمته، وبالتالي إلى سحب إجازته القنصلية، تكريساً للاتجاه الحديث الذي برز في حقل العلاقات القنصلية في أواسط القرن العشرين، فالعرف الدولي الذي لم يكن ثابتاً في السابق بالنسبة لضرورة تبيان الأسباب، قد أخذ اليوم نوعاً من الاستقرار. وأكدت الولايات المتحدة هذا الموقف مراراً معتبرة أنها لا تشك في حق الدولة المضيفة في سحب الإجازة القنصلية ولكنها تشترط إبداء الأسباب للتأكد من جديتها ومن أنها تشكل انحرافاً من القنصل عن السلوك المقبول في التعامل الدولي ( ).
       وكثيراً ما أثار تبيان الأسباب نزاعاً بين الدولتين الموفدة والمضيفة أدى إلى زيادة تدهور علاقاتهما( ). وفي الواقع ثمة الكثير من الأسباب والحالات التي تؤدي الى هذه المشاكل ومن بينها:    
1. التدخل في الشؤون الداخلية للدولة المضيفة
     يؤدي التدخل وبخاصة في الشؤون السياسية إلى خروج الموظف القنصلي عن الحد الأدنى من السلوك الواجب عليه إتباعه، وبالتالي اعتباره من قبل الدولة المضيفة شخصاً غير مرغوب فيه وحتى إلى طرده من أراضيها( ).
2. القيام بنشاطات غير قانونية
        ومن هذه النشاطات أعمال التجسس والتهريب والاتجار بالأسلحة ومخالفة القوانين الجمركية وقوانين القطع والتهجّم المستمر على السلطات المحلية وعلى العادات والقوانين المعتمدة في الدولة المضيفة وإساءة استعمال الحصانات والامتيازات القنصلية( ).
3. العوامل السياسية:
      قد تلجأ الدول لأسباب سياسية خاصة بها، خصوصاً في أوقات الأزمات أو تطبيقاً لمبدأ المعاملة بالمثل أو لمبدأ التعادل القنصلي، على اعتبار بعض الموظفين القنصليين أشخاصاً غير مرغوب فيهم وسحب إجازاتهم القنصلية .

القسم الثالث
واجبات الدولة المضيفة
عند انتهاء المهمة القنصلية

        يترتب على الدولة المضيفة في حالة انتهاء المهمة القنصلية، واجبات معيّنة منها ما يتعلق بالموظف القنصلي وأفراد عائلته عند انتهاء مهمته، ومنها ما يتعلق بالبعثة القنصلية ووظائفها عند توقفها عن العمل بشكل دائم أو مؤقت.

أولاً: الواجبات تجاه الموظف القنصلي
       تنص المادة السادسة والعشرين من اتفاقية فيينا القنصلية على ما يلي( ):"على الدولة المضيفة، حتى في حالة النزاع المسلح، منح موظفي البعثة القنصلية وخدمهم الخاصين من غير رعايا الدولة المضيفة وأفراد عائلتهم الذين يشكلون جزءاً من أسرهم، بغض النظر عن جنسياتهم، الوقت والتسهيلات الضرورية لتمكينهم من تهيئة سفرهم ومغادرة البلاد في أول فرصة ممكنة بعد انتهاء وظائفهم. وعليها بصورة خاصة وعند الاقتضاء أن تضع تحت تصرفهم وسائل النقل الضرورية لهم ولأمتعتهم باستثناء الأمتعة التي اكتسبوا ملكيتها فيها والتي يكون تصديرها إلى خارج البلاد ممنوعاً عند المغادرة". إلا ان ثمة ملاحظات على النص أبرزها:
1. تضع المادة السادسة والعشرين معيارين زمنيين يتوجب على الدولة المضيفة مراعاتهما: الأول يفرض عليها منح الموظفين القنصليين المهلة الزمنية الكافية لتهيئة أنفسهم للسفر وإنجاز أعمالهم وتحضير وسيلة السفر الملائمة لهم. والثاني يفرض عليها تسهيل مغادرتهم لأراضيها في أول فرصة ممكنة فور إنجاز استعداداتهم للسفر.
2. ينحصر واجب الدولة المضيفة في تسهيل مغادرة الموظف القنصلي وأفراد أسرته وخدمه، بالقناصل المسلكيين من غير رعايا الدولة المضيفة ومن غير المقيمين أصلاً إقامة دائمة فوق أراضيها، وبأفراد أسرهم مهما تكن جنسياتهم، وبخدمهم الخاصين من غير مواطني الدولة المضيفة ومن غير المقيمين إقامة دائمة فوق أراضيها. وعلى الرغم من أن نص المادة لم يشر صراحة إلى استثناء المقيمين إقامة دائمة فوق أراضيها من أحكامها فإن نص المادة /71/ من الاتفاقية القنصلية الذي ورد ضمن الأحكام العامة التي تشمل كامل الاتفاقية، استثنى هذه الفئة من جميع التسهيلات والحصانات والامتيازات وساوى بالتالي بينها وبين مواطني الدولة المضيفة، وهو في رأينا يشمل بأحكامه نص المادة السادسة والعشرين التي تقرّ بتقديم التسهيلات إلى الموظفين القنصليين عند انتهاء مهامهم، وتعتبر امتداداً لحصاناتهم وامتيازاتهم. ولا تشمل المادة السادسة والعشرين بأحكامها الموظفين القنصليين الفخريين وأفراد أسرهم وخدمهم اذا كانوا من رعايا الدولة المضيفة أو كانوا من المقيمين إقامة دائمة فوق أراضيها، وما داموا يمارسون نشاطاً مأجوراً إلى جانب ممارستهم مهامهم القنصلية.
3. على الدولة المضيفة، في حال تعذّر حصول الموظفين القنصليين على وسائل نقل ملائمة، نتيجة كوارث طبيعية كالزلازل والفيضانات مثلاً، أو نتيجة نزاع مسلح أو حرب أهلية، أن تُوفّر لمن تشملهم المادة السادسة والعشرين بأحكامها وسائل النقل الضرورية( ).
4. على الدولة المضيفة ،أن تسهل للأشخاص المعنيين بالمادة السادسة والعشرين نقل أمتعتهم باستثناء تلك التي تملّكوها أثناء إقامتهم في الدولة المضيفة ،والتي لا تجيز الأنظمة النافذة فيها يوم المغادرة، تصديرها للخارج. ونذكر كمثال، التحف الأثرية والمخطوطات.
5. إن تسهيل المغادرة المنصوص عليها في المادة السادسة والعشرين ،لا يقتصر فقط على الظروف العادية بل يشمل كذلك الظروف الاستثنائية كحالة نشوب نزاع مسلح أو ثورة أهلية. وفي الواقع تصبح المساعدة التي تقدمها الدولة المضيفة للموظفين القنصليين وأفراد أسرهم وخدمهم لتسهيل مغادرتهم لأراضيها، أكثر إلحاحاً وضرورة في مثل هذه الظروف الاستثنائية، بينا لا تدعو الحاجة غالباً إلى تقديم أية مساعدة من الدولة المضيفة لإتمام عملية المغادرة في الظروف العادية.
6. كما يتوجّب إبلاغ وزارة خارجية الدولة المضيفة بانتهاء مهمة الموظف القنصلي ، وتبليغها تاريخ مغادرته النهائية، والمغادرة النهائية لكل فرد من أفراد أسرته وخدمه الخاصين. أما في حال وفاة الموظف القنصلي أو أحد أفراد أسرته فيتوجّب على الدولة المضيفة تقديم التسهيلات اللازمة لنقل جثمان المتوفى إلى بلاده، كما يتوجّب عليها أن تسمح بتصدير الأموال المنقولة التي كان المتوفى يملكها ما عدا تلك التي تم اكتسابها أثناء إقامته في أراضيها مما لا تجيز قوانينها المعمول بها وقت الوفاة تصديره( ).
       وتمثل المادة السادسة والعشرين تطوراً مهماً في حقل العلاقات القنصلية إذ أن القانون الدولي العرفي لم يكن يقر في السابق للقناصل عند انتهاء مهامهم حقوقاً مشابهة لحقوق الدبلوماسيين باعتبار أن الحصانات والامتيازات القنصلية، على عكس مثيلاتها الدبلوماسية، تنتهي فور انتهاء المهمة القنصلية، سواءً أتم ذلك نتيجة لسحب الدولة المضيفة للإجازة القنصلية، أم لسحب موافقتها على قبول الموظف القنصلي، أو لأي سبب آخر. إلاّ أن ما تعرّض له الموظفون القنصليون في بعض الدول إثر تغيير أنظمة الحكم فيها، كما حدث للقناصل الأميركيين في الصين بعد وصول ماوتسي تونغ إلى الحكم، أدى إلى بروز تيار جديد يطالب بامتداد الحصانات القنصلية بعد انتهاء المهمة القنصلية إلى حين مغادرة القناصل أراضي الدولة المضيفة أو على فترة زمنية معقولة تلي انتهاء المهمة، ويطالب بإلزام الدولة المضيفة  بتقديم التسهيلات اللازمة لتأمين مغادرة هؤلاء الموظفين أراضيها. وبالفعل جاءت بعض المعاهدات القنصلية بعد الحرب العالمية الثانية تتضمن نصّاً يكرّس التيار الجديد( ). غير أن واجب الدولة المضيفة في هذا المجال ظلَّ مجرد موجب أخلاقي يتوقف تطبيقه على إرادتها بذلك، إلى أن جاءت اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لترفعه إلى مستوى القاعدة القانونية الدولية الملزمة في المادتين 26 و53 منها.

ثانيا : الواجبات تجاه البعثة القنصلية
     ميّزت المادة  السابعة والعشرين من اتفاقية فيينا القنصلية( ) وعنوانها "حماية الدور القنصلية والمحفوظات القنصلية ومصالح الدولة الموفدة في الظروف الاستثنائية" بين حالتين: حالة قطع العلاقات القنصلية، وحالة الإغلاق المؤقت أو الدائم للبعثة القنصلية مع استمرار العلاقات القنصلية. ويتوجّب على الدولة المضيفة في جميع الظروف التي تؤدي إلى إغلاق مركز البعثة القنصلية، حتى في حالة النزاع المسلح، احترام الدور القنصلية وممتلكات البعثة ومحفوظاتها وحمايتها.
      ويتوجّب عليها في حال قطع العلاقات القنصلية الذي يأتي عادة بعد قطع العلاقات الدبلوماسية، أن تتيح للدولة الموفدة، إن هي أرادت، تكليف دولة ثالثة توافق عليها الدولة المضيفة، القيام بواسطة بعثتها الدبلوماسية القائمة في أراضي هذه الدولة الأخيرة، أو إحدى بعثاتها القنصلية لديها، بحماية مصالحها ومصالح رعاياها ورعاية دار البعثة وأموالها ومحفوظاتها وحمايتها.
      ويتوجّب عليها كذلك عند إغلاق مركز البعثة بصورة مؤقتة أو دائمة أن تجيز للدولة الموفدة تكليف بعثتها الدبلوماسية لدى الدول المضيفة إن هي وجدت أو أية بعثة قنصلية أخرى لديها القيام بالأعمال القنصلية التي كانت تقوم بها البعثة المغلقة والقيام بحراسة دارها وأموالها ومحفوظاتها. أما إذا لم يكن للدولة الموفدة أية بعثة دبلوماسية أو قنصلية في الدولة المضيفة فيمكن عندذلك تكليف دولة ثالثة تقبل بها الدولة المضيفة القيام برعاية مصالحها ومصالح مواطنيها وبحماية دار البعثة وأموالها ومحفوظاتها.


خلفيات التصعيد الأميركي الروسي وضوابطه
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

      
       اعتادت واشنطن وموسكو على إتباع سياسات برغماتية واضحة في الأزمة السورية وتوابعها المتصلة،وفي كل مرحلة منها وضعت ضوابط ومحددات لها وبخاصة عند إشراك أطراف إقليميين آخرين فيها كإيران وإسرائيل وتركيا وغيرها، لكن ما جرى في الفترة السابقة، أنتج وقائع ميدانية سورية تم استثمارها إقليميا بشكل واضح ،ما أثر على طبيعة التحالفات التي تقودها واشنطن وبالتالي مستويات الاستثمار في الأزمة الرئيسة، ما استدعى تصعيدا دبلوماسيا وتصريحات غير معتادة في مثل تلك الحالات.
       ثمة متغيران أساسيان في الوقائع الميدانية، موضوع الغوطة الشرقية ضواحي العاصمة السورية دمشق ، وما يمثله من نقلة نوعية لروسيا وإيران والنظام السوري، في مقابل وقائع عفرين وما أسفرت من نتائج تركية واضحة في الأزمة السورية. ورغم التوضيحات من هنا وهناك أن هذه المتغيرات الإستراتيجية لن تتعدى آثارها إلى مناطق سورية أخرى كشرق الفرات حيث القوات الأميركية أو الوضع الكردي الآخر في الشمال المدعوم في بعض جوانبه أميركيا، إلا أن هذا الوضع لم يقنع الولايات المتحدة، وشعرت بأن ثمة تمددا للمتغيرات قادمة شرقا، علاوة على إمكانية التمدد جنوبا في الجانب الذي تتوجس منه إسرائيل.
       ومما عزز هذه المخاوف الأميركية عمليا ، القمة الثلاثية الروسية الايرانية التركية ، التي ظهرت كتتويج للنتائج الميدانية على الأرض السورية، ما دفع بالعديد من الأطراف المتضررة السعي إلى محاولة رسم خطوط جديدة في التعامل مع هذه المعطيات وحدود الاستثمار السياسي والعسكري فيها إقليميا.وما يؤكد تلك الفرضية وسائل معالجة التصعيد القائم، عبر الوسائل الدبلوماسية في مجلس الأمن حيث سقطت ثلاثة مشاريع قرارات قي جلسة واحد، وهي سابقة لم يشهدها مجلس الأمن في جلسة واحدة.
        في الجوانب الموازية الأخرى، ثمة تصعيد إسرائيلي إيراني واضح بعدما نفذت إسرائيل ضربة عسكرية جوية على مطار تي4 وسقط فيها إيرانيون، وهي محاولة لشبك الموضوع الإيراني وبخاصة الملفين النووي والصاروخي في الاستثمار الإسرائيلي القائم، والتي تمكنت من التأثير فيه عبر مواقف الإدارة الأميركية وبخاصة الرئيس دونالد ترامب الذي وضع شهر أيار القادم للانسحاب من الاتفاق الدولي حول البرنامج الإيراني. كل ذلك شكل بيئة صراعية واضحة للأطراف جميعا. والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا هل ثمة إمكانية لوضع قواعد  اللعبة في المنطقة وفق المتغيرات الحاصلة؟أم ثمة اعتراضات كبيرة من الصعب التوصل إلى قواعد جديدة دون إعادة رسم توازنات جديدة عبر استعمال القوة العسكرية الأميركية في الأزمة السورية؟
       يبدو واضحا إلى الآن أن ثمة إصرار روسي إيراني في الحفاظ على الوقائع الجديدة،مع عدم إغفال تعاطي موسكو مع الأزمة القائمة بوسائل الاحتواء وعدم التصعيد الفعلي والأمر ينطبق على طهران أيضا؛ فيما التصعيد الأميركي الإسرائيلي بلغ ذروته وسط الإعلان الصريح عن البدء في تكوين بيئة للضربة العسكرية والتي من بين أهدافها غير المعلنة توجيه ضربات لروسيا بهدف إعادة أقلمة أظفرها في الشرق الأوسط. 
        لقد سبق وأن نفذت إسرائيل والولايات المتحدة ضربات في آماكن مختلفة وأسفرت عن قواعد محددة. لكن الأمر يبدو الآن مختلفا، باعتبار أن حجم المتغيرات المطلوبة هي أعمق واكبر وأشد تأثيرا في مجريات أزمات الشرق الأوسط، ومن هنا يبدو الوضع حساسا ودقيقا ولكل طرف حساباته الخاصة.فموسكو وطهران تتجهان إلى تهدئة الوضع وإلا المضي في خيارات الحرب الإقليمية الواسعة وهنا المعني المباشر فيها إسرائيل التي تشجع على ذلك شرط حسم موضوع البرنامج النووي الإيراني فيه، وما يعزز من عدم الذهاب في هذا الخيار كلفته الباهظة جدا إقليميا ودوليا .أما الخيار الثاني وهو إمكانية التوصل إلى اتفاقات تحت الطاولة عبر ترتيب ضربات محددة ومعروفة النتائج مسبقا ولا تؤثر عمليا بالوضع القائم ريثما تتوضح وقائع أخرى للتغيير إي تأجيل حسم المعطيات القائمة وهذا ما لا تحبذه لا تل أبيب ولا واشنطن عمليا.
         ثمة قول شائع في إدارة الأزمات الدولية ،مفاده أن الجميع قادر على دخول الحرب لكن أحدا ليس باستطاعته إنهائها آو التحكم بنتائجها، الأمر الذي ينطبق تماما على التصعيد الروسي الأميركي القائم. إلا انه بالنظر للأوضاع الاقتصادية التي تمر بها كافة أطراف الأزمة تعزز من فرضية عدم التوسّع في تأجيج بؤر الضربات العسكرية والاكتفاء بضربات محدودة لحفظ ماء الوجه السياسي لبعض الأطراف .
         

ĐR KHALIL HUSSEIN
لغز العلاقات الدبلوماسية الأميركية الروسية
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية
بيروت: 29/3/2018

      ليست سابقة عمليات تبادل الطرد الدبلوماسي بين الغرب وروسيا، إذ جرت العديد من الحالات خلال الخمسة عشرة سنة الماضية وبخاصة في الولاية الرئاسية لفلاديمير بوتين؛ لكن هذه المرة أخذت إبعادا مختلفة وتشي بألغاز غير واضحة المعالم ،سيما وأنها ارتبطت بعوامل ووقائع ليس لواشنطن صلة مباشرة فيها، وسلكت مسارا مترددا ومن ثم مفاجئا من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
      فحالات الطرد الدبلوماسي عادة ما تأتي بعد توتر شديد،  وتكون ردا على مسارات مغلقة لا مخارج دبلوماسية لها، وتعبر عن قلق شديد إزاء استمرار العلاقات الودية بين طرفين، وهي تعبير عن أزمة فعلية يسعى الطرف الفاعل فيها إلى إتخاذ موقفه وهو يعلم ان الرد آتٍ بنفس المستوى إن لم يكن أقوى وأكثر حدة، باعتبار أن طرفا الأزمة يدركان أن تصحيح الوضع القائم لإعادته إلى وضعه الطبيعي يستلزم جهودا مضاعفة ومزيدا من الوقت، وهذا ما حدث وسيحدث بين الطرفين الأميركي والروسي حاليا.
       وغريب المفارقات في الخطوة الأميركية ، أن قرار الرئيس ترامب أولا أتى على قاعدة أزمة ليس شريكا فيها، فهي أزمة ناشئة بين لندن وموسكو بعد اتهام الأخيرة بتسميم العميل كريسبال في لندن، وبصرف النظر عن المساندة الأميركية للقرار البريطاني بطرد عشرين دبلوماسيا روسيا، فمن غير المألوف في العلاقات الدبلوماسية بين الدول أن تتخذ دولا أخرى كالولايات المتحدة خطوات مماثلة ، فكيف إذا كانت الخطوة الأميركية اقسي وأشد سلوكا ، إذ عمدت واشنطن إلى طرد ستين دبلوماسيا روسيا دفعة واحدة وهو ثلاثة أضعاف عدد ما طردته لندن في الأزمة نفسها، وهو أمر يخفي سلوكا غير مبرر في الأحوال العادية.
      إضافة إلى ذلك، فقد تبع السلوك الدبلوماسي الأميركي 16 دولة أوروبية وأميركية إضافة إلى استراليا ، ما يعني أن ثمة رسالة غربية قاسية وواضحة لموسكو ، وبالتحديد للرئيس بوتين، الذي اعتبر فوزه في الولاية الرئاسية الأخيرة نصرا خارجيا في سلوكه السياسي مع الغرب، أكثر من كونه أعيد انتخابه لولاية رابعة. ما يعني أيضا ثمة تكتلا غربيا واضح المعالم لمواجهة سياسات الرئيس بوتين الخارجية بعد متغيرات موازين القوى مؤخرا في الأزمة السورية ومتفرعاتها ذات الصلة إقليميا.
      وفي المقلب الآخر من السلوك الذي اتبعه الرئيس ترامب، ثمة وقائع لافتة متصلة بالمتغيرات التي أحدثها في إدارته ؛ أولا لجهة إقالة وزير خارجيته تيلرسون وتعيين خلف له يمثل صقور التعامل الفج مع موسكو، إضافة إلى تعيين جون بولتن مستشارا للأمن القومي، والذي يعتبر أيضا رأس حربة في مواجهة موسكو إبان توليه تمثيل بلاده في مجلس الأمن، ما يعني أيضا، ان ثمة إعادة تصعيد للعلاقات الثنائية بين البلدين. إلا إن غريب المفارقات أيضا ، السلوك الرئاسي الأميركي أيضا في توقيت التنفيذ، فعملية الطرد أتت مفاجئة ولم تكن متوقعة لا بحجمها ولا في توقيتها، إذ عند نشوب الأزمة بين لندن وموسكو اكتفى البيت الأبيض بتأييد الموقف البريطاني بلهجة دبلوماسية معتاد عليها في مثل تلك الحالات، في وقت كان الرئيس ترامب يتصل بالرئيس الروسي مهنئا بإعادة انتخابه، وربما هنا يكمن اللغز، إذ تجاوز ترامب رأي مستشاريه بعدم الاتصال بالرئيس بوتين ، وسرعان ما أعقب هذا السلوك بتعيين جون يولتون الذي يملك الكثير من الأسرار المتصلة بالبيت الأبيض وبالسياسات الخارجية الأميركية وبالتحديد مع روسيا، فما هي القطبة المخفية في ذلك؟.
      ثمة سباق محموم بين الغرب وروسيا في الكثير من القضايا الدولية ، وتنافس أشد في الأزمات الإقليمية ذات الطابع الدولي، حيث يسجل الطرفان مواقف ومواضع شديدة الحساسية وتنذر بتخطي سياقات الحرب الباردة لأكثر من أربعة عقود؛ اليوم ثمة وقائع كثيرة تشي بازدياد منسوب التوتر بين الطرفين، ذلك يتم دون ضوابط محددة اعتاد الطرفان على إتباعها في سياقات إدارة الأزمات الإقليمية والدولية التي برزت مؤخرا. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم ما هي السلوكيات السياسية الدولية التي سيتبعها الرئيس بوتين  في ولايته المجددة؟ وماذا سيكون الرد الغربي عليها؟ هل سيكتفي الطرفان بتبادل الطرد الدبلوماسي أم أن ثمة خطوات تصعيدية أخرى ينتظر الطرفان مبرراتها لبدء فصول جديدة من الصدامات غير المباشرة مستقبلا؟ إن قراءة التاريخ السياسي والدبلوماسي للعلاقات الغربية الروسية وبالتحديد الأميركية منها، تشي بسياسة حفة الهاوية ،إذ يدرك الطرفان مدى حساسية المواقف الدولية وقدرتهما على الاستثمار في أي أزمة ، وبالتالي التنافس سيكون العنوان الأبرز دون الوصول إلى صدام مباشر ، وهذا ما اعتاد الطرفان عليه في العلاقات البينية إبان الحقبة السوفياتية والحالية.  

         

سياسة أميركا الخارجية بعد إقالة تيلرسونل
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

        لم تكن إقالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوزير خارجيته ريكس تيلرسون عملا مفاجئا، فقد سبق لتراب أن أقال شخصيات فاعلة ووازنة في إدارته خلال الأشهر الماضية، إنما ما يسجل لهذه الإقالة إنها تمت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يعبر عن دلالات قاسية لجهة تعامل ترامب مع خصومه أو من يعارضه في المسائل الإستراتيجية. وغريب المفارقات فيها ،أنها أيضا تمت بعض سنة ونصف من التباين بين الرجلين والتي بدأت إبان حملة الانتخابات الرئاسية، واستمرت علانية بعد تعيينه، وبخاصة حول مسائل دولية حساسة، في وقت تتميز وزارة الخارجية الأميركية عادة بقربها الشديد من السياسات التي تنتهجها الرئاسة في البيت الأبيض.
        ثمة صورة من عدم الاستقرار في سياسة الولايات المتحدة منذ سنة وثلاثة أشهر تقريبا، وهو ما عبر عنه ترامب "بخيبة الأمل"،اذ يعبر بشكل دائم أن سياسة بلاده الخارجية باتت فرعا للحزب الديموقراطي،ذلك نتيجة تراجع الحضور الأميركي في غير ملف اقليمي ودولي وبخاصة في الشرق الأوسط، كل ذلك مثل إشارات واضحة جدا عن حجم التباين والخلافات العميقة بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية، إضافة إلى تعرض الإدارة الأميركية للعرقلة من قبل الكونغرس ، وهو ما تسبب عمليا في عدم قدرة ترامب على إنجاز عملية تشكيل إدارته بشكل فاعل ، بعد مرور أكثر من سنة على وصوله للبيت الأبيض، وهو أمر غير مسبوق في الحياة السياسية الأميركية.
      وإذا كانت الخلافات لم تكن يوما سرا، فهي أعمق من تباينات شخصية حول مواقف معينة، فعلى سبيل المثال، وصف تليرسون دعوة رئيسه في تموز / يويلو الماضي لمواجهة التمدد الروسي بزيادة الترسانة النووية الأميركية بواقع عشرة أمثالها بأنها خطوة "حمقاء"، ما يدل على عمق الهوة بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية وهو أمر غير مسبوق أيضا في التعبير عن السياسات الخارجية التي ينبغي أن تكون متطابقة.
      ثمة عدة ملفات رئيسة وحساسة بالنسبة لسياسة واشنطن الخارجية، يأتي في مقدمتها إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة التي أعلنت قبل شهرين، ولم يكن تيلرسون آنذاك راضيا عنها بل وجه إليها انتقادات لافتة باعتبارها لا تعبر عن السياسات الدبلوماسية التي يتبناها. وثاني الخلافات ظهر بشكل واضح فيما يتعلق بالإستراتيجية تجاه كوريا الشمالية وملفها النووي، حيث ظهرت مواقف متشددة جدا لترامب فيما نحا تيلرسون إلى سياسات الاحتواء مع كوريا الشمالية. والمسألة الثالثة تعاطي تيلرسون المرن مع الاتفاق النووي الإيراني والرافض لانسحاب واشنطن من الاتفاق الدولي السداسي،الأمر الذي يتناقض مع موقف رئيسه تحديدا من هذا الملف الذي كان في طليعة برنامجه الانتخابي.والمسألة الرابعة بدت في تباين سياسات الطرفين تجاه الأزمة القطرية التي أنحاز إليها ورسم سياسات غير متوازنة مع أطرافها الآخرين الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر وهو ملف مركزي في سياسات البيت الأبيض الخارجية.أما القضية الخامسة فتكمن في طريقة تعاطي وزارة الخارجية الأميركية مع قرار الرئيس بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، وهو ملف مركزي أيضا كان في طليعة برنامج الرئيس الانتخابي الذي لم يكن تيلرسون متحمسا له.
        بالمحصلة ثمة قضايا مركزية افترق الطرفان في قراءتها ، إضافة إلى التباين الشديد في وسائل تنفيذ بعضها، مما اجبر ترامب على اتخاذ قراره في الاتجاه الذي يصوب سياسة خارجيته مع مسارات تطلع إليها إبان حملته الانتخابية ، ذلك بتعيين مايك بمبيو  خلفا لتريلسون، الذي شغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والذي كان عضوًا في مجلس النواب الأمريكي عن ولاية كانساس من العام 2011 وحتى 2017، والذي اشتهر أيضا بمواقفه المتطرفة ضد الأقليات الدينية والعرقية في الولايات المتحدة وبينها المسلمون، كما عرف بموقفه الرافض للاتفاق النووي مع إيران، ويعد من أشد الرافضين لإغلاق معتقل غوانتانامو الذي أقامه الرئيس السابق جورج بوش الابن في كوبا عقب هجمات 11 أيلول.
 2001.كل ذلك يؤشر إلى سياسة خارجية مختلفة تماما ستظهر في الأشهر القادمة، ومن المحتمل والمفترض أن تبرز تباعا في الشرق الأوسط والذي سيكون الملف النووي الإيراني في طليعة القضايا المستهدفة، طبعا علاوة على الأطر التنفيذية لما سميَّ بصفقة العصر بما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

خصوصية التمثيل القنصلي في القدس

خصوصية التمثيل القنصلي في القدس
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية 29.4.2018

       منذ أعلنت الإدارة الأميركية اعترافها بالقدس كعاصمة لإسرائيل أخذت بعض الدول من التمثيل القنصلي كمظلة سياسية لنقل سفاراتها إلى القدس ، عبر الإعلان عن توسعة المقرات القنصلية وشمل الممثابن الدبلوماسيين فيها وهذا ما كانت قد أعلنته بداية تركيا على سبيل المثال لا الحصر في أعقاب مؤتمر التعاون الإسلامي الذي عقد للرد على الخطوة الأميركية ولحقها بعض الدول في ذلك، وكان آخرها تشيكيا. فما هي خلفية هذا السلوك وما هي قيمته القانونية لجهة الاعتراف؟ وهل يمكن الخلط بين التمثيل الدبلوماسي والتمثيل القنصلي؟.
       في الواقع القانوني ثمة فرق كبير بين كل من التمثيلين الدبلوماسي والقنصلي وان تشابها في بعض الجوانب. فالتمثيل الدبلوماسي وفقا لاتفاقية فيينا 1961، هو تمثيل سياسي بين الدول، ويعتبر السفير في مثل هذه الحالة موفدا لرئيس بلاده لدى الدولة المضيفة وممثلا شخصيا له، وهو بهذه  الصفة يعتبر وفقا لنص الاتفاقية وما جرت الأعراف الدولية عليه، اعترافا بنظام الحكم وبكيان الدولة ، وبالتالي بكل ما يترتب على ذلك من جوانب، وعادة ما تختار الدول مقراتها الدبلوماسية إي السفارات في عواصم الدول ،إلا في حالات استثنائية وهي نادرة بطبيعة الحال وبصفة عارضة. فيما التمثيل القنصلي وفقا لاتفاقية فيينا 1963 الهدف منه تسيير أمور رعايا الدولة التجارية والمالية والأسرية في الدولة المضيفة وليس له أي صفة أو خلفيات أو تداعيات سياسية، وهو بصفة عامة تمثيل يشمل مواضيع علاقة الرعايا غير السياسية في الدولة المضيفة، وعادة ما يكون للدولة الموفدة العديد من المقرات القنصلية خارج العواصم وأينما وجد رعاياها.
      وثمة دول كثيرة تجمع الصفتين القنصلية والدبلوماسية في بعض مبعوثيها، ذلك لعدم وجود نص في الاتفاقيتين الدبلوماسية والقنصلية يمنع الجمع بين هاتين الوظيفتين لدى الدول المضيفة، إلا أن هذا الجمع لا ينشئ حقوقا أو إجراءات للدولة الموفدة لدى الدولة المضيفة أو العكس، إذ يبقى هذا التمثيل في حدوده القانونية ، ولا يكسب حقوقا أو تفسيرات من قبل الدولتين الموفدة والمضيفة، وبالتالي لا يعتبر التمثيل القنصلي هو اعتراف سياسي بالدولة وبنظامها. والأمر عينه ينطبق على المقرات القنصلية، فعلى الرغم من تمتع القنصليات ببعض الامتيازات والحصانات المماثلة للسفارات، إلا أن هذه الحصانات والامتيازات تبقى محدودة جدا وتتعلق بسير عمل موظفيها، لا بصفتهم كممثلين لدولهم ذلك بعكس مقرات السفارات وممثليها. وفي أي حال ، وقفت بعض الدول وراء هذه التخريجة لنقل سفاراتها إلى مقراتها القنصلية في القدس ، وهو أمر من شأنه تغيير طبيعة عمل مكان القنصلية ، وبالتالي ما يمكن أن يترتب عليه من حقوق وامتيازات دبلوماسية ، وبالتالي تداعيات سياسية لجهة الاعتراف بمقر الممثلية كعاصمة للدولة.
         طبعا إن الاحتكام لهذا التوجه والسلوك ، يعتبر غير مسبوق في العلاقات الدولية والدبلوماسية ويمكن أن يؤسس لحالات ووقائع عرفية تصبح مع الزمن أنماط وأعراف شارعة في المجتمع الدولي، وبالتالي تكسب حقوقا وواجبات متماثلة بين الدول.
      في المحصلة، إن ما قامت به مؤخرا تركيا وبعض الدول وآخرها تشيكيا ، لا يعدو كونه نقلا لموظفين دبلوماسيين إلى مقرات قنصلية، إلا أن هذه الإجراء لا يعتد به كاعتراف بالقدس كعاصمة من الوجهة القانونية، رغم أن بعض هذه الدول تختبئ وراء هذه الحيثية مسايرة لقرار الإدارة الأميركية، ورغم ذلك يعتبر سلوكا خطرا على المدى البعيد باعتباره يمكن أن يؤسس لأعراف كما ذكرنا.
       إن خصوصية القدس كمدينة تخضع لقرارات دولية ملزمة، وتقع تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، تستوجب التعامل مع قضاياها بدفة قانونية ودبلوماسية متناهية، سيما وأن إسرائيل لم توفر فرصة إلا واستغلتها لتهويد هذه المدينة قانونيا وسياسيا، وهي قادرة على الوصول إلى غاياتها عبر هذا السلوك الذي تنتهجه بعض الدول عبر الخلط بين التمثيلين الدبلوماسي والقنصلي.

20‏/03‏/2018

سياسة أميركا الخارجية بعد تيلرسون

سياسة أميركا الخارجية بعد إقالة تيلرسونل
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

        لم تكن إقالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوزير خارجيته ريكس تيلرسون عملا مفاجئا، فقد سبق لتراب أن أقال شخصيات فاعلة ووازنة في إدارته خلال الأشهر الماضية، إنما ما يسجل لهذه الإقالة إنها تمت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يعبر عن دلالات قاسية لجهة تعامل ترامب مع خصومه أو من يعارضه في المسائل الإستراتيجية. وغريب المفارقات فيها ،أنها أيضا تمت بعض سنة ونصف من التباين بين الرجلين والتي بدأت إبان حملة الانتخابات الرئاسية، واستمرت علانية بعد تعيينه، وبخاصة حول مسائل دولية حساسة، في وقت تتميز وزارة الخارجية الأميركية عادة بقربها الشديد من السياسات التي تنتهجها الرئاسة في البيت الأبيض.
        ثمة صورة من عدم الاستقرار في سياسة الولايات المتحدة منذ سنة وثلاثة أشهر تقريبا، وهو ما عبر عنه ترامب "بخيبة الأمل"،اذ يعبر بشكل دائم أن سياسة بلاده الخارجية باتت فرعا للحزب الديموقراطي،ذلك نتيجة تراجع الحضور الأميركي في غير ملف اقليمي ودولي وبخاصة في الشرق الأوسط، كل ذلك مثل إشارات واضحة جدا عن حجم التباين والخلافات العميقة بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية، إضافة إلى تعرض الإدارة الأميركية للعرقلة من قبل الكونغرس ، وهو ما تسبب عمليا في عدم قدرة ترامب على إنجاز عملية تشكيل إدارته بشكل فاعل ، بعد مرور أكثر من سنة على وصوله للبيت الأبيض، وهو أمر غير مسبوق في الحياة السياسية الأميركية.
      وإذا كانت الخلافات لم تكن يوما سرا، فهي أعمق من تباينات شخصية حول مواقف معينة، فعلى سبيل المثال، وصف تليرسون دعوة رئيسه في تموز / يويلو الماضي لمواجهة التمدد الروسي بزيادة الترسانة النووية الأميركية بواقع عشرة أمثالها بأنها خطوة "حمقاء"، ما يدل على عمق الهوة بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية وهو أمر غير مسبوق أيضا في التعبير عن السياسات الخارجية التي ينبغي أن تكون متطابقة.
      ثمة عدة ملفات رئيسة وحساسة بالنسبة لسياسة واشنطن الخارجية، يأتي في مقدمتها إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة التي أعلنت قبل شهرين، ولم يكن تيلرسون آنذاك راضيا عنها بل وجه إليها انتقادات لافتة باعتبارها لا تعبر عن السياسات الدبلوماسية التي يتبناها. وثاني الخلافات ظهر بشكل واضح فيما يتعلق بالإستراتيجية تجاه كوريا الشمالية وملفها النووي، حيث ظهرت مواقف متشددة جدا لترامب فيما نحا تيلرسون إلى سياسات الاحتواء مع كوريا الشمالية. والمسألة الثالثة تعاطي تيلرسون المرن مع الاتفاق النووي الإيراني والرافض لانسحاب واشنطن من الاتفاق الدولي السداسي،الأمر الذي يتناقض مع موقف رئيسه تحديدا من هذا الملف الذي كان في طليعة برنامجه الانتخابي.والمسألة الرابعة بدت في تباين سياسات الطرفين تجاه الأزمة القطرية التي أنحاز إليها ورسم سياسات غير متوازنة مع أطرافها الآخرين الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر وهو ملف مركزي في سياسات البيت الأبيض الخارجية.أما القضية الخامسة فتكمن في طريقة تعاطي وزارة الخارجية الأميركية مع قرار الرئيس بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، وهو ملف مركزي أيضا كان في طليعة برنامج الرئيس الانتخابي الذي لم يكن تيلرسون متحمسا له.
        بالمحصلة ثمة قضايا مركزية افترق الطرفان في قراءتها ، إضافة إلى التباين الشديد في وسائل تنفيذ بعضها، مما اجبر ترامب على اتخاذ قراره في الاتجاه الذي يصوب سياسة خارجيته مع مسارات تطلع إليها إبان حملته الانتخابية ، ذلك بتعيين مايك بمبيو  خلفا لتريلسون، الذي شغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والذي كان عضوًا في مجلس النواب الأمريكي عن ولاية كانساس من العام 2011 وحتى 2017، والذي اشتهر أيضا بمواقفه المتطرفة ضد الأقليات الدينية والعرقية في الولايات المتحدة وبينها المسلمون، كما عرف بموقفه الرافض للاتفاق النووي مع إيران، ويعد من أشد الرافضين لإغلاق معتقل غوانتانامو الذي أقامه الرئيس السابق جورج بوش الابن في كوبا عقب هجمات 11 أيلول.
 2001.كل ذلك يؤشر إلى سياسة خارجية مختلفة تماما ستظهر في الأشهر القادمة، ومن المحتمل والمفترض أن تبرز تباعا في الشرق الأوسط والذي سيكون الملف النووي الإيراني في طليعة القضايا المستهدفة، طبعا علاوة على الأطر التنفيذية لما سميَّ بصفقة العصر بما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

04‏/03‏/2018

بوتين يعيد سباق التسلح الاستراتيجي

بوتين يجدد سباق التسلح الاستراتيجي
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

         أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه أمام الجمعية الفدرالية الروسية، خطابا مدوّيا حمل في طياته رؤيته للعقيدة الروسية خلال العقدين القادمين. وبصرف النظر عن اعتبار الخطاب جزءا لحملته الرئاسية المقبلة، ثمة وقائع ملفتة تعيد أجواء السياسات الدولية إلى سباق تسلح استراتيجي نوعي ، ويؤسس إلى منظومة من العلاقات الروسية الأميركية التي تخرج عن إطار تنافسي إلى إطار صراعي مفتوح؛ لكن السؤال الذي يطرح مدى قدرة موسكو على تنفيذ ذلك ومدى قدرتها على احتواء ردود الفعل الأميركية اللاحقة، إضافة على قدرة الطرفين في إدارة الأزمات الإقليمية والدولية الراهنة والتي يمكن أن تنشأ لاحقا جراء ذلك.
       طغى على الخطاب أولا الطابع الشوفيني للأمة الروسية، الذي أبرزه بالقدرات الهائلة الممتلكة وبخاصة المنجز منها، ذلك في مجالات التطوير التكنولوجي العسكري، والطموحات الاقتصادية ومجالات التنمية الاجتماعية، وصولا إلى الطموحات الخارجية التي لم يخفها بوتين في خطاباته إبان مراحل حكمه السابقة.
      وفي الواقع ثمة صولات وجولات من سباق التسلح بين موسكو وواشنطن، وبصرف النظر من المقاربة الإيديولوجية للحقبة السوفياتية آنذاك في هذا المجال، إلا أن كثيرا من المحددات الناظمة لعمليات التسلح لا زالت قائمة حاليا. فضمور الدور الروسي العالمي إبان العقد الأخير من القرن الماضي، سرعان ما تبدد وأطلق من جديد، لكن واقع العلاقات الأميركية الروسية خرجت عن التنافس المألوف مع اشتعال أزمات إقليمية ذات دوافع وخلفيات دولية كالأزمة السورية مثلا، التي باتت مرتعا لتجار الأسلحة بين الطرفين، وهو أمر لم تخفه القيادة الروسية حيث أعلنت أن ثمة مئتا نوع من الأسلحة الجديدة تمت تجربتها مؤخرا، إضافة إلى نشر منظومات جوية من طراز سوخوي 57 وهي من الجيل الخامس، والتي تعتبر ذات طبيعة إستراتيجية عالية الدقة،قابله نشر منظومات أميركية في غير مكان في الشرق الأوسط ومن بينها اف 35 ذات الطبيعة المماثلة.
        ولم يقتصر الأمر على ذلك،بل تعداه إلى الإطار النووي المقترن مع جيل جديد من الصواريخ الباليستية المجنحة القادرة على إصابة أهداف محققة أينما كان في الكرة الأرضية ، وهذا ما حرص على تبيانه الرئيس الروسي في خطابه، وهو ما يعتبر ردا مباشرا على العقيدة النووية الأميركية التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب في كانون الثاني / يناير الماضي والذي اعتبر تحديا  للجانب الروسي ، بخاصة بعدما انسحبت واشنطن من معاهدة الحد من التسلح النووي من طرف واحد ؛ وهي المعاهدة التي استهلكت وقتا وجهدا كبيرين للوصول إليها في العام 1972، والتي جددت في العام 1978 ، عبر اتفاقيتي سالت 1 وسالت 2.
         لقد تم خرق وتجاوز هاتين الاتفاقيتين في منتصف ثمانينيات القرن الماضي عندما أطلقت واشنطن مشروع الدرع الصاروخي بمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، واستتبع بعدة سياسات وإجراءات تصعيدية تركت بصماتها واضحة في العلاقات البينية الروسية الأميركية.، وقد انتهج الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف سياسات مهادنة مع واشنطن في تعبير واضح لعدم قدرة موسكو على استكمال برامجها التسليحية آنذاك ، ولا يسعنا إلا استذكار قول غورباتشوف الشهير آنذاك، "نريد إطعام شعبنا الزبدة بدل الإنفاق على السلاح" ؛ والمفارقة إن بوتين اليوم ، يغمز من قناة الرفاهية والطموح الروسي من باب تأكيد الحضور الدولي بصرف النظر عن الإمكانات المتاحة لذلك أم لا.
        ثمة دراسات ووثائق نشرت بعد حقبة الانهيار السوفياتي، مفادها ان سباق التسلح وبالأخص برنامج الدرع الصاروخي الأميركي كان سببا رئيسا لانهيار الوضع الاقتصادي السوفياتي آنذاك، اليوم ربما تمتلك موسكو من الإمكانات الوازنة لتحقيق طموحاتها، لكن استمرارية المواجهة والتنافس هل هي متوفرة أيضا؟
      لا شك إن موسكو تمكنت من الانتقال النوعي في المجال الدولي في العقد الحالي ، لكن السياسات الغربية المفروضة على موسكو هي مرهقة في الحد الأدنى، ذلك جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ما يعني بشكل أو بآخر إمكانية التأثير في التطوير وإمكانات المواجهة المستمرة، وهو أمر مشابه إلى حد بعيد مع ظروف ثمانينيات القرن الماضي، فهل سيعيد الرئيس بوتين التجربة السوفياتية في فصولها الأخيرة؟ إن سباق التسلح يستلزم إمكانات اقتصادية ضخمة ونظم تسويق وإدارة هائلة للازمات المتفرعة والمتصلة، سيما وان الأجواء الدولية مشحونة بشكل مكثف في غير منطقة من العالم، الأمر الذي يتطلب دراية وواقعية شديدتين  لإدارة الأزمات الدولية ومنها التي يمكن أن تنشأ عبر هذا التحشيد لسباق التسلح الجديد.
     

24‏/02‏/2018

سيرة المراسم الدبلوماسية اللبنانية اااميركية

سيرة المراسم الدبلوماسية اللبنانية الأميركية..
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

      وفقا لقواعد المراسم والبروتوكول المعتمدة والمتعارف عليها بين الدول وفقا لاتفاقيات دولية شارعة كاتفاقية جنيف الدبلوماسية 1963، أو وفقا لاتفاقات ثنائية بين الدول، تبقى الدول ملزمة بتطبيق قواعد دقيقة عند استقبال الوفود الرئاسية أو الوزارية أو الدبلوماسية الزائرة للبلد المضيف. وفي أحيان كثيرة وشائعة تتدهور مستويات العلاقة بين مطلق بلدين عند حدوث خلل في مراسم الاستقبال، وغالبا ما تظهر للعيان عندما يكون ثمة تباين في المواقف إزاء قضايا إستراتيجية، وغالبا ما تؤدي إلى تخفيض مستوى التمثيل وصولا إلى قطع العلاقات الدبلوماسية وفي بعض الحالات النادرة سحب الاعتراف بنظام الدولة الخارقة لقواعد البروتوكول المرعية الإجراء.
      فقد أثارت مراسم استقبال وزير خارجية الولايات المتحدة ، ريكس تليرسن خلال زيارته لبيروت، أسئلة وخلفيات كثيرة عما جرى،ورغم التوضيحات التي أعلنتها وزارة الخارجية اللبنانية والقصر الجمهوري، ظل الجدل قائما حول طبيعة الاستقبال وعلاقته بالمواقف السياسية الأميركية حول بعض القضايا اللبنانية والعربية. فقد انتظر رئيس الدبلوماسية الأميركية ست دقائق قبل أن يستقبله رئيس الجمهورية. وفي حين أوضحت دوائر القصر الجمهوري، أن الرئيس لم يتأخر في الاستقبال بل أن الوزير وصل قبل الموعد يست دقائق؛ لكن الموضوع لم ينته عند هذا الحد ،بل رُبط بكيفية وصول الوزير تليرسون إلى مطار بيروت، حيث لم يتم استقباله من قبل وزير الخارجية اللبناني ، وتم تبرير ذلك، بأن الخارجية اللبنانية تعاملت بالمثل لجهة عدم استقبال وزير الخارجية الأميركي نظيره اللبناني عند زيارته الولايات المتحدة، وهو أمر شائع بين الدول لجهة التعامل بالمثل ، وهذا ما تفعله الدبلوماسية الأميركية حيث ترسل مدير المراسم لاستقبال الضيف ، وهذا ما فعله لبنان أيضا في المطار وكذلك عند وصوله للقصر الجمهوري اللبناني.
      ثمة من فسَّر خلفية مراسم الاستقبال وما جرى في بعض فصولها، على خلفية استياء لبنان من المواقف الأميركية وسياستها ، وما يحمله الوزير تليرسون خلال جولته الشرق الأوسطية، وبخاصة الشق المتعلق بالنزاع اللبناني الإسرائيلي حول البلوك النفطي رقم 9 في المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية وكيفية ترسيمها، إضافة إلى قضية الجدار الفاصل الذي تقيمه إسرائيل على الحدود مع لبنان والخروق المسجلة فيه، حيث أصرَّ لبنان على مواقفه في اللقاءات التي تمّت بين الجانبين اللبناني والأميركي.
       في الواقع ثمة بعض السوابق بين الطرفين اللبناني والأميركي التي ترجمت بفتور المراسم والبروتوكولات والاتيكيت في بعض المناسبات التي لها خلفيات سياسية. فمثلا لم يلب الرئيس اللبناني ميشال عون دعوة نظيره الأميركي العشاء الذي أقامة للرؤساء المشاركين في افتتاح دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي،على خلفية موقف الرئيس دونالد ترامب من قضية نقل السفارة الأميركية إلى القدس، حيث اعتبرته واشنطن تجاوزا دبلوماسيا وبروتوكوليا.
      سابقتان أخرتان سجلتا في عهد الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود، الأولى مع وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت ، حيث انهي الرئيس لحود المكالمة الهاتفية للوزيرة تعبيرا عن استيائه لأسلوب الضغط خلال المكالمة وإصرارها على قبول لبنان للسياسات الأميركية الشرق الأوسطية في العام 2002. والثانية تكررت بين الرئيس لحود والوزيرة كونداليسا رايس في بيروت أيضا، حيث تم استقبالها بفتور ولم يودعها إلى باب الردهة حيث كان اللقاء والذي لم يدم أكثر من ربع ساعة بدلا من النصف، وهو تعبير عن اختلاف في وجهات النظر تمّت ترجمته بفتور المراسم والبروتوكول أيضا.
        كما اضطر الرئيس اللبناني الأسبق الراحل سليمان فرنجية إلى إنهاء لقائه بوزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر قبل الموعد المحدد في القصر الجمهوري، تعبيرا عن رفضه للطروح الأميركية حول الأزمة اللبنانية. خرق المراسم والبروتوكول واجهه الرئيس فرنجية أيضا في أيلول العام 1974على طائرته في مطار نيويورك من قبل السلطات الأميركية، على قاعدة الكلمة التي كان سيلقيها باسم المجموعة العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والتي أدت إلى اعتبار السفير الأميركي في بيروت شخصا غير مرغوب فيه ، وبسبب ذلك كادت أن تقطع العلاقات الدبلوماسية الأميركية اللبنانية وظل الفتور وتخفيض التمثيل سائدا لوقت ليس بقليل.
       ثمة سجل حافل بخرق المراسم والبروتوكول وتجاوز بعض قواعد الاتيكيت بين لبنان والولايات المتحدة.لكن الثابت فيها أنها لم تصل إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية رغم بعض مراحل التوتر، ذلك بفعل حاجة الطرفين لضبط قواعد الاشتباك الدبلوماسي في بعض الحالات التي لا تخلو أيضا من بعض الطرافة والغرابة لجهة القدرات والإمكانات لكلا الطرفين!.

09‏/02‏/2018

ارقام لبنانية صادمة

أرقام لبنانية صادمة
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

       ثمة أرقام لبنانية مخيفة تتصاعد بوتيرة مرعبة ، في وقت لا رؤى ولا سياسات محددة لمواجهة المخاطر المحدقة بالوضعين الاجتماعي والاقتصادي ، والتي تعيدها معظم الدراسات إلى الوضع السياسي القائم إضافة ، إلى مجموعة من الأسباب الموضوعية التي تفعل فعلها في الأزمة القائمة أساسا.
       فحوالي ثلث الشعب اللبناني بات تحت خط الفقر، وتؤكد دراسة البنك الدولي الأخيرة أن 32 بالمئة من اللبنانيين يعيشون بمعدل دولارين يوميا،وهو رقم فاضح قياسا بمستوى المعيشة التي تعتبر من اغلي دول في  الشرق الأوسط قياسا للدخول المتداولة في القطاعين الخاص والعام. وبالمناسبة يعتبر لبنان من الناحية الاجتماعية – الاقتصادية من بين الدول الأكثر قدرة على امتصاص الصدمات الاقتصادية الاجتماعية للعديد من الأسباب التي تبدو بعضها غريبة في المقاييس العلمية المعتادة، ورغم الأزمة الحالية تبدو الأمور شبه عادية في وقت يتلهى اللبنانيون بمناكفات سياسية وأحيانا مذهبية كادت أن تودي بعضها مؤخرا بالسلم الأهلي البارد الذي يعيشه لبنان حاليا.
        ففي لغة الأرقام ذات الخلفية الدولية والمحلية، ارتفعت نسبةُ اللبنانيّين الذين يعيشون تحت خَطِّ الفقر إلى 32%. وثمة ستون بالمئة من هؤلاء في مناطقِ محددة كعكار والبِقاعِ الشمالي. ذلك في خلال تراجعَ النمو من 9% إلى صفر ، ووصول الدين العام إلى 80 مليار دولار في بداية العام الحالي فيما تتوقع بعض الدراسات ارتفاعه نهاية العام إلى 84 مليار دولار، وهو رقم في المقاييس الاقتصادية والمالية يؤشر إلى عوامل انهيار كالحالة اليونانية مثلا ، حيث تجاوزت الديون الإنتاج القومي بمعدلات غير قابلة للمعالجة دون إعادة بناء هيكلي لمجمل الواقع اللبناني، وهو أمر غير متوفر أساسا في الوقت الراهن، كل ذلك في ظل انخفاض الاستثماراتُ الأجنبيّةُ المباشَرةُ نحو 45%.
      ثمة ثمانون في المئة من المهاجرين اللبنانيين دون الـ 35 عاماً، الأمر الذي يعني أن الهرم السكاني يزداد تدهورا بخروج الفئة الأكثر قدرة على العمل إلى الخارج،وهي نتاج طبيعي لأزمة البطالة بين خريجي الجامعات التي تبلغ أربعون بالمئة. حيث ارتفعَت البطالةُ من 11% إلى نحو 30% ومن بينِها 35% في صفوفِ الشباب.كما تسجل الأرقام أوضاعا لافتة للنسب بين الذكور والإناث إذ تبلغ 50% من الذكور و30 في المئة من الإناث يهاجرون خلال سنة من تخرّجهم الجامعي.وتبلغ نسبة الهوة بين التعليم وسوق العمل إلى  48%.فيما تصل وظائف اللبنانيين من دون عقود عمل إلى نسبة خمسين بالمئة.
      ولبنان يحتاجُ سنويّاً إلى 35 ألف فرصة عمل، ولا يخلق منها سوى 12 ألفاً في أفضل الأحوال. في وقت ارتفعَ عجزُ المالـيّةِ العامة من 5.7% من الناتجِ المحلي إلى أكثرِ من 8%. وتحوّل ميزان المدفوعات من فائض بقيمة 3.3 ملياراتِ دولار إلى عجزٍ يقاربُ ألـ 5.1 ملياراتِ دولار. في ظل تراجعَ القطاعُ السياحي نحو 37% خصوصاً أنَ لبنانَ يَتَّكِل على السياحةِ البريةِ التي تؤمن سنويّاً دخولَ نصف مليونِ سائح، فهبطَ العدد إلى نحو الصفر. حيث تراجعَ عدد السائحين العرب إلى نحو 59%. كما تراجعَ القطاع العِقاري والبناء إلى نحو 30%.
      علاوة على ذلك لقد فاقم النزوح السوري إلى لبنان هذه الأوضاع، إذ بلغَ عدد العاملين السوريين الذين تفوق أعمارهم ألـ 15 سنةً، أي في سِنِّ العملِ، حوالي 930 ألف سوري (62% من النازحين). اذ يعملُ في قطاعِ البناءِ والبنى التحتيّةِ نحو 350 ألف عامل سوري.وفي قطاعِ الزراعة نحو 404 آلاف عامل. حيث أصبح النازحون السوريون 40% من عديد الشعب اللبناني من دون احتساب  الولادات. وتكشف الدراسات أنّ نسبة النموّ السكاني بالنسبة إلى النازحين السوريين في لبنان أكبر بكثير من نسبة النموّ السكاني اللبناني، وتصل إلى الضعف ،وهي قنبلة  ديموغرافيةٌ موقوتة تسبب تداعيات أمنية واقتصادية وتغييراً في البنية الديموغرافية اللبنانية. كنا تسبب ذلك في زيادة التكلِفةُ الماليّةُ لتداعياتِ الأزمةِ السوريّةِ على الخَدَماتِ العامة من إنفاق صحي وتعليمي وما شابه إلى أكثر من مليار دولا دولار في ظل تراجع تقديمات الدول المانحة ، وفي وقت ازدادت الخسائرُ التراكميّةُ إلى نحو 21 مليار دولار.
         في بداية ستينيات القرن الماضي استدعت الحكومة اللبنانية بعثة اقتصادية سميت "بعثة ايرفرد"، عمدت على تفنيد الوضع الاقتصادي والاجتماعي في محاولة لبناء خطط اقتصادية تنموية، وبعد عمل مضني توصلت اللجنة ببساطة إلى نتيجة مفادها، "ابقوا كما انتوا" ولا زال اللبنانيون حتى الآن يتدبرون أمرهم بما أقتضى، وفي حسابات مالية واقتصادية بسيطة كما هو متعارف عليه، إن الوضع اللبناني هو أكثر من ميئوس، ورغم ذلك صامدا ، ولا يعرف إلا الله عز وجل كيف ذلك!  
     















18‏/01‏/2018

تحديات موازنة الأمم المتحدة

تحديات موازنة الأمم المتحدة
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

        ليس جديدا أن تواجه الأمم المتحدة مشاكل وتحديات عند إقرار الجمعية العامة للموازنة، فمنذ تأسيسها حكمت الموازنة العديد من الاعتبارات ،أبرزها تحكم بعض الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية التي تسهم في 22% من الموازنة العامة و28 % من تمويل عمليات حفظ السلام.وبالنظر لتكرار هذه المصاعب سنويا، عمدت الجمعية العامة ومنذ العام 1973 إلى إقرار الموازنة لكل عامين بدلا من سنوية الموازنة في محاولة للتقليل من المفاجآت المحتملة سنويا.
     وما زاد الطين بلة في هذا الاطار ، التوجه الذي قاده الرئيس الأميركي دونالد ترامب الداعي إلى خفض مساهمة واشنطن في الموازنة، ووصل الأمر به إلى التفكير بالانسحاب من الأمم المتحدة واصفا إياها بأسوأ الأوصاف. وظهر هذا التحوّل عمليا وواقعيا خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول 2017 ، حيث قادت واشنطن تيارا عمد بقوة إلى تخفيض الموازنة بنسب غير مسبوقة ، حيث بلغ التخفيض 5%  لموازنتي 2018  و2019 مقارنة بالعامين المنصرمين 2016 و2017.  فموازنة العامين المقبلين وصلت إلى 5.379 مليار دولار بينما كانت موازنة العامين الماضيين 5.683 مليار دولار ، فيما بلغت موازنة قوات حفظ السلام 7.3 مليار دولار التي تقر منفصلة عن الموازنة العامة عادة، التي أقرت في يونيو/ حزيران 2017. وفيما طالبت واشنطن بتشدد كبير التخفيض 250 مليون دولار ، طالبت الدول الأوروبية بتخفيض آخر وصل إلى 160 مليون دولار. ويعكس التوجه الأميركي قرار الرئيس ترامب بتخفيض ميزانية وزارة الخارجية الأميركية بنسبة 37% إي ما نسبته 20 مليار دولار والذي يؤكد العزم على تخفيض نسبة واشنطن في تمويل المنظمة الدولية المقترح 50% ، وفي وقت لم تسدد حتى الآن واشمطن مساهمتها عن العام 2017.
       وفيما تعتزم الإدارة الأميركية البدء في آليات تنفيذية للتخفيض تقدر بـ 40% للوكالات المتخصصة وفقا لمعايير أبرزها؛ أولا إذا عمدت هذه المنظمات أو الوكالات إلى الاعتراف بالسلطة الفلسطينية كعضو كامل العضوية فيها، أو ساهمت هذه الوكالات في عمليات الالتفاف على العقوبات الموجهة ضد إيران وكوريا الشمالية، ثانيا وقف التمويل عن أي وكالة تسيطر عليها إي دولة تؤوي الإرهاب أو تقع تحت أي شكل قي نفوذ هذه الدولة ، منع التمويل لأي منظمة أو وكالة تقع تحت نفوذ دولة تضطهد جماعات مهمشة أو تخترق حقوق الانسان. يشار إلى أن الولايات المتحدة أوقفت تمويل منظمة الاونيسكو في العام 2011 بعد اعترافها بفلسطين كعضو كامل العضوية في أعمالها.  
     وفي الواقع لا تعتبر الولايات المتحدة وحيدة في التشدد لخفض موازنة الأمم المتحدة، بل تساندها العديد من الدول النامية التي ليس لها قدرة على الدفع رغم استفادتها من هذه الموازنات ، فيما تحاول بعض الدول الكبرى كالصين مثلا زيادة مساهماتها بعد تعاظم ظهورها على الصعيد العالمي، ورغم ذلك لا زالت تبدو المساهمات الصينية ضئيلة مقارنة بنظيرتها الأميركية. وتتخوف الكثير من الأوساط الاقتصادية والمالية الدولية من هذه المناهج المتبعة مع الأمم المتحدة إلى تداعيات اقتصادية وتجارية دولية تنذر بفوضى عارمة ستنعكس على الدول النامية والغنية على حد سواء.كما من شأن هذه التخفيضات التأثير على مستويات التقديمات للدول الفقيرة وكذلك لتداعيات اللاجئين والمهاجرين في العديد من الدول، ناهيك عن التخفيضات التي طالت منظمة غوث اللاجئين الفلسطينيين والتي في الأساس تعاني من أزمات تمويلية عميقة.
       في الواقع حلت الأمم المتحدة محل عصبة الأمم وعلى أنقاضها، ومحاولة تفادي السقوط في الثغر التي وقعت فيها العصبة سابقا، عبر التركيز على القضايا الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، لكن ما يحدث حاليا لا يشي بخير لمستقبل هذه المنظمة التي علقت عليها الآمال منذ سبعة عقود ونيف. فالتمويل يعتبر من الوسائل الأولية التي يجب أن تؤمن للمنظمة إذا ما أريد لها القيام بما أوكل لها في الميثاق، وإذا لم يكن الأمر كذلك فحتما ستلحق بسابقتها وهو أمر ينبغي التنبه له ، لما له من تداعيات خطيرة على الأمن والسلم الدوليين التي قامت المنظمة على أساس حفظهما منذ العام 1945.