30‏/05‏/2011

المراسم والتشريفات الدبلوماسية وقواعد المجاملة واللياقة


اسم المؤلف : المراسم والتشريفات الدبلوماسية وقواعد المجاملة واللياقة

المؤلف:الدكتور خليل حسين
الناشر منشورات الحلبي الحقوقية


صدر للدكتور خليل حسين،الجزء الثاني من موسوعة الدبلوماسية بعنوان:"المراسم والتشريفات الدبلوماسية وقواعد المجاملة واللياقة " عن منشورات الحلبي الحقوقية في بيروت 2011 । يقع الكتاب في 840 صفحة من القطع الكبير الفاخر। ويعتبر مصدرا للأعراف والقواعد المتبعة في هذا المجال। ومما جاء في مقدمته:
يعني البروتوكول في المصطلح التقليدي القاعدة التي استقر عليها العمل في مناسبات معينة، كما تعنى كلمة "اتيكيت" الذوق ومراعاة شعور الأخر. وقد نشأ المصطلح بشكل عام، في إطار عملية وضع قواعد السلوك الضروري عند المجتمعات المتحضرة، أو عند الطبقة الراقية في هذه المجتمعات. ثم تطور استخدام المصطلح ليشير إلى مجموعة القواعد، التي تضبط سلوك مجموعات من العاملين الذين يكون للمجاملة والذوق المتبادل دور مهم في عملهم. وهكذا ووفق هذا المعنى أصبحت قواعد البروتوكول مألوفة ومتطورة في العلاقات بين الملوك والرؤساء، وبين مبعوثيهم الدبلوماسيين والخاصين وفى المنظمات والمؤتمرات الدولية. وكلما اتسع نطاق المعاملات الدولية، أصبحت قواعد السلوك القائمة على المجاملة والذوق أكثر اتساعاً واستخداماً، مثل التحية البحرية، والتحية العسكرية للقوات المسلحة للدول المختلفة، ورموز تحية الموتى والقتلى، ثم الأعراف والمراسم والاتيكيت في مجال الزيارات، والممارسات الدبلوماسية المختلفة. وخلال الرحلة الطويلة التي استغرقها مصطلح البروتوكول والاتيكيت عبر القرون، ومن خلال ممارسات الجماعات البشرية المختلفة، استقرت مجموعة من القواعد التي تتناقلها وتتدارسها الأجيال.
وقد بدأت مراعاة هذه القواعد من الأمور المستحبة، بوصفها مبادرات لمراعاة الأخر وإنكار الذات وكلها من أخلاق الفروسية في العصور الوسطى، ومن قواعد المدنية الحديثة في الحضارة الأوربية. انتقلت مراعاة هذه القواعد إلى
مرتبة الإلزام، بحيث يترتب على إغفالها أحياناً أزمات حادة في علاقات الدّول، وكثيراً ما أدى إغفالها إلى حروب حقيقية بين الدول الأوروبية، خلال القرن التاسع عشر. ولذلك بدأت مرحلة العناية المكثفة بها. وعلى الرغم من ذلك فهي ليست موثقة أو منشورة بشكل تفصيلي، كما تقل الكتابات فيها إلى حد الندرة، حتى إن العارفين بها يقتصر وجودهم على مقار أعمالهم، بوصفها ممارسات يومية تحرص إدارات المراسم في الوزارات المعنية، كرئاسة الدولة ورئاسة الوزراء، وبشكل أخص وزارة الخارجية، على توارثها وتناقلها بل وطبع دليل موجز بأهمها.
وقد عرّف العرب المصطلح على أنه "الرّسوم"، المشتقة من كلمة "رسم"، أي الأمر المكتوب؛ ومثالها الآن "المرسوم الملكي" أو "الأميري"، ويعني القانون أو الأمر الملزم، بما يدل على احترام العرب لهذه القواعد، سواءً في مقابلات الملوك والشخصيات الدولية المرموقة، أو رجال السياسة، أو مقابلة الناس ومعاملتهم. وقد اشتق الأتراك من "رسوم" العربية كلمة مراسم، ومن الرّسم كلمة "رسمي"، ومرسوم وهو الإرادة الرئاسية عموماً.
وتُعالج قواعد البروتوكول، طبقاً للبروتوكول الدبلوماسي، الذي يشمل قواعد سلوك رؤساء الدول والممثلين الشخصيين لهم ولدولهم. ويتم ذلك طبقاً لأربع نقاط أساسية كالآتي:
1. أولا: ينصرف البروتوكول إلى الجزء الرسمي الإجباري، كما ينصرف إلى قواعد الذوق العامة والمألوفة، في مجال العمل الدبلوماسي والعمل الرسمي بين الدول؛ ولذلك فإن الإخلال بالجزء الرسمي يؤدي حتما إلى إضرار في مجمل العلاقات الدبلوماسية، وربما السياسية أيضا وفق درجة أهمية القاعدة والحساسية، التي تحدثها في هذه العلاقات. أما تجاهل الجزء الشخصي في هذه القواعد، فقد يقتصر أثره على إحداث تعقيدات للشخص، الذي يتجاهله، في حدود لا تنسحب إلى مجمل العلاقات الرسمية. فهناك فرق بين أن يتجاهل السفير قواعد الاتصال، مع كبار المسؤولين في الدولة المضيفة، ولو بتعليمات من حكومته، كإثارة مسائل داخلية حساسة دون التزام اللياقة الواجبة، وبين أن يتخلى السفير عن اللياقة في مناسبات مماثلة، دون أن يكون مكلفاً بإبلاغ رسالة حادة إلى الدول المضيفة.
2. ثانيا: يختلف البروتوكول عن العلاقات العامة، كما يتفق معها في وجوه أخرى؛ فكلاهما يقع في إطار واحد، ويهدفان إلى تحقيق الانسجام في علاقات الأفراد، بما يجعل هذه العلاقات أداة لتيسير المعاملات، وليست عقبة أو عبئًا عليها.ذلك أن العلاقات وسيلة إلى غاية تعقبها، فإن تعثرت الوسيلة عزّت الغاية وتعذر تحقيقها. ولكن هذا الاتفاق والتماثل بين البروتوكول والعلاقات العامة، يجب ألا يُخفي اختلافاً جوهرياً بينهما، هو في أن البروتوكول حرفة ونظام وقواعد تمارس بشكل إجباري، ويؤدي تجاهلها إلى الإضرار بعلاقات الدول، بينما العلاقات العامة تتوجه إلى عموم الناس، ويترتب على تجاهلها تعقد العلاقات وتعثر المعاملات في قطاع معين. ويضاف إلى ذلك أن قواعد العلاقات العامة متطورة وغير محصورة،خلافا لقواعد البروتوكول بالمفهوم الرسمي، الذي استقرت عليه عبر العصور. ولا شك أن تطبيق قواعد العلاقات العامة، يُتطلب فقط في رجال العلاقات العامة. أمّا المراسم فهي قواعد مجردة يلتزم بها كل العاملين في القطاعات، التي تنطبق فيها قواعد المراسم والبروتوكول.
3. ثالثا: أن قواعد البروتوكول تختلف عن مدونة السلوك Code of conduct، المألوفة في المجال الأخلاقي، سواء للأطباء، أو الرياضيين، أو المعاملات التجارية، أو العاملين في وزارات الخارجية في بعض الدول، كالولايات المتحدة. فمدونة السلوك لها طابع أخلاقي معنوي، أمّا قواعد البروتوكول فهي تعالج مجالاً مختلفاً في السّلوكيات الدبلوماسية، وتنطبق على فئة خاصة، وتُعنى بالقواعد السلوكية الخارجية العامة، خلافًا لمدونة السلوك، التي تضع قواعد التعامل في مجال محدد، لتساعد أطرافه في الوصول إلى نتائج محددة. فهذه القواعد مطلوبة لتسهيل الوصول إلى غاية أبعد، بينما قواعد البروتوكول مقصودة لذاتها، وهدف احترامها قد يكون غير مباشر، وهو تفادي تأثر العلاقات السياسة بمشكلات العلاقات الدبلوماسية.
4. رابعا: إن تجاهل الدولة، أو الدبلوماسي، لبعض قواعد البروتوكول، قد يدفع الدولة المتضررة إلى الرد، ويتوقف الرد على نوع المخالفة، وهل تعدّ المخالفة انتهاكاً لقاعدة قانونية، أم لقاعدة من قواعد المجاملة courtoisie، التي يجب أن تراعى فيها قاعدة المعاملة بالمثل reciprocite. فعلى سبيل المثال، فإن الدولة قد تعمد إلى تأخير موعد تقديم السفير الأجنبي أوراق اعتماده إلى رئيس الدولة، لتعبر بذلك عن موقف غير ودي تجاه دولة السفير؛ أو قد لا تدعوه إلى الحفلات الرسمية، وليس إلى اللقاءات الرسمية؛ أو قد تعمد إلى المماطلة في ترتيب المواعيد، التي يطلبها مع المسؤولين. وهذه التصرفات تدخل في إطار المجاملات، وعدم احترامها لا يعني انتهاك واجب قانوني محدد.
5. أما البروتوكول الدبلوماسي فهو مجموع القوانين والعادات والتقاليد المرعية من قبل الحكومات ووزارات الخارجية والبعثات الدبلوماسية والشخصيات الرسمية في المجتمع الدولي, له قواعد ليست نتاج لشعب أو أمة أو دولة ولا هو تكرار فعل لمجموعة من الدبلوماسيين في زمن ما بل هو محصلة قرون من المعاشرة والاختلاط بين مختلف الدول, وبالتالي فهو نتاج التاريخ الإنساني بشكل عام.
ويعتبر المصدر الأساسي للبروتوكول بشكل عام هو آداب التعامل أو السلوك "الاتيكيت"، ويعرف الاتيكيت على أنه: مجموعة من القواعد التي يجب أن يراعيها الفرد في علاقاته مع أعضاء المجتمع في مختلف المناسبات، وهي أيضاً الواجبات والمجاملات مع الأفراد من حولنا،كما تشمل القواعد المتعلقة بالزيارات وآداب المائدة والحفلات والأعياد وكل ما له علاقة بأمور التعامل مع من حولنا من الناس في شتى المناسبات وكافة المواقف والآداب العامة التي تلزم في كل أمور الحياة ومنها البروتوكول الدبلوماسي.
وتتباين مهام القسم البروتوكولي من بلد لآخر إلا أنها تتفق بشكل عام في مجموعة من الاختصاصات وهي التالية:
1. ترتيب وتنظيم وإعداد برنامج زيارات الوفود الرسمية الزائرة لبلد الاستقبال بما في ذلك رؤساء الدول ووزراء الخارجية وغيرهم من الشخصيات الرفيعة المستوى.
2. استقبال الوفود والشخصيات الرسمية الزائرة.
3. استقبال السفراء الجدد وتوديع المنتهية مهمتهم.
4. الإشراف على الحفلات الرسمية التي يشترك فيها المبعوثون الدبلوماسيون.
5. تنظيم المؤتمرات الدولية التي تعقد في دولة الاستقبال.
6. إصدار الجوازات الدبلوماسية والخاصة والمهمة.
7. منح سمات الخروج على الجوازات الدبلوماسية والخاصة والمهمة.
8. منح بطاقات الهوية الدبلوماسية للمبعوثين الدبلوماسيين والقناصل المعتمدين وموظفي المؤسسات الدولية.
9. تهيئة كتب اعتماد السفراء والقائمين بالأعمال الأصليين.
10. إعداد قائمة السلك الدبلوماسي والسلك القنصلي وموظفي المؤسسات الدولية.
11. تهيئة كتب اعتماد السفراء لدولة الإيفاد وترجمتها عند الاقتضاء.
12. استلام صور من أوراق اعتماد السفراء والقائمين بالأعمال الأصليين.
13. استلام البراءات القنصلية الخاصة بالقناصل الأجانب ومنحهم إجازات العمل.
14. إعداد قائمة بالأعياد القومية الأجنبية وبرقيات التهاني بهذه المناسبات.
15. اقتراح منح الأوسمة للدبلوماسيين عند الانتهاء من مهمتهم
لقد عالجنا في هذا المؤلف،مسائل وقضايا تعتبر من أسس العالقات الدولية في أيامنا هذه حيث لا تمر دقيقة ألا ويكون ثمة حدث يتدخل البروتوكول فيه لتنظيمه. ومن هنا قسّمنا هذا المؤلف إلى ثمانية أبواب،عالجنا في الأول منه منشأ الحاجة إلى البروتوكول من خلال المشاكل التي حدثت في غير حقبة سابقة حول التقدم والصدارة التي تنازع عليها الكثيرون في مناسبات متعددة ومختلفة وليست بالضرورة سياسية فقط. وفي الباب الثاني عالجنا البروتوكول وما يتعلق منه برؤساء الجمهورية ووزراء الخارجية وغيرهم من الممثلين الدبلوماسيين والسياسيين.فيما الثالث خصصناه لبروتوكول البعثات الدبلوماسية وما ينتج من إعمالها.فيما الرابع اشتمل على بروتوكولات الاجتماعات وطرق عقدها وإدارتها. أما الخامس فعالج بروتوكولات الحوار وطرقه والمفاوضات وأصولها. فيما السادس عالج مسائل الأوسمة والقلائد والنوط والنياشين وطرق منحها في المناسبات المختلفة. أما السابع فتضمن عرضا تحليليا للبروتوكول الدبلوماسي الإسلامي .فيما الباب الثامن والأخير تضمن لمجموعة من الملاحق التوضيحية المتعلقة بموضوعات الدراسة ووثائقها الأساسية.
ان ندرة المؤلفات والأبحاث في هذا المجال هو ما دفعنا إلى الغوص فيه،محاولين البحث عن جديد ما، أو إضافة يمكن ان تنير الجانب العملي لهذا العلم الذي ظل متواضعا رغم عمقه التاريخي.
إننا اذا نضع هذا العمل، الذي استهلك جهدا كبيرا بين أيدي المختصين كما المهتمين،آملين ان نكون بعملنا هذا قد أضفنا لبنة جديدة إلى مكتباتنا العربية التي هي بأمس الحاجة إلى العلوم التي تصلنا بغيرنا من الشعوب والمجتمعات.
أ.د خليل حسين
بيروت:14/2/2011

19‏/05‏/2011

دلالات انتفاضة الشتات الفلسطيني وتداعياتها

دلالات انتفاضة الشتات الفلسطيني وتداعياتها
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 19-5-2011
www.drkhalilhussein.blogspot.com

عندما ينبري رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو،بوصف ما جرى في ذكرى النكبة،هو تعبير عن خلفية النظرة العربية، إلى ان الصراع مع إسرائيل هو صراع وجود لا صراع حدود، هو مُحقٌ، في وقت أثبتت وقائع مشاريع السلام العربي الإسرائيلي هي غير موجودة وتحتاج إلى الطرف الإسرائيلي الآخر الذي لم يكن يوما مُستعدا له.
فما جرى في ذكرى النكبة يعتبر سابقة عربية وفلسطينية بالتحديد، فاجتياح المئات عبر مجدل شمس في الجولان المحتل،والمواجهات اللافتة في مارون الرأس،تحمل دلالات كثيرة وعميقة في الوجدان الجماعي لفلسطيني الشتات،فهم أسهموا للمرة الأولى في صناعة الانتفاضة الفلسطينية الثالثة من الخارج هذه المرة،وفي ظروف عربية مربكة،لكل منها قرص من هذا التحرك.
وبصرف النظر عما يمكن ان يُقال ربطا بواقعة مجل شمس وما يجري في سوريا،فان ما سببه هذا الحراك الفلسطيني من إحراج لإسرائيل امنيا وسياسيا،يشكل سابقة هي الأولى من نوعها منذ العام 1948، وكأنها رسالة واضحة ان ما تشهده الساحات العربية من حراك بذرائع مختلفة، لن يكون بعيدا عن شعار الشعب الفلسطيني الذي يريد العودة أيضا ،وهي بطبيعة الحال رسائل متعددة الاتجاهات والأبعاد وكذلك الخلفيات،يمكن ان تستثمر بمجالات ربما مختلفة عن طبيعة ما هدفت في الأساس إليه.
في المقلب الآخر، منذ ثلاثة وستون عاما لم تتلق إسرائيل مثل هذه الصفعة،فبدت مخترقة امنيا في الجولان،ومربكة سياسيا في لبنان، ومضعضة في الداخل الفلسطيني المحتل،وهذا ما يُفسر خروج قواتها العسكرية عن طورها غير المعتاد أساسا فعمدت إلى قتل العشرات وجرح المئات من الفلسطينيين، في دلالة واضحة ان ما جرى قد استشعرت به خطرا حقيقيا لن يكون يتيما في المستقبل اذا توافرت إرادات عربية داعمة لانتفاضة الشتات الفلسطيني.
وإذا كان الحراك الشعبي العربي قد أضاع البوصلة السياسية في غير مكان وبالتحديد بوصلة العداء لإسرائيل ،فان الحراك الفلسطيني سيؤسس لشعلة الانتفاضة الثالثة وان كانت شراراتها من الخارج لا من الداخل، وما يمكن ان يعزز ذلك الاتجاه المصالحة الفلسطينية وما يمكن ان تتركه على علاقتها بدول الطوق العربية. وبصرف النظر عن شروط هذا النجاح وارتباطه بهذه الدول ومواقفها ومشاكلها الداخلية والخارجية، فان حسن تصريفه في الواقع السياسي الفلسطيني والعربي أمر من شأنه تعزيز الوضع الفلسطيني بمواجهة إسرائيل ومشاريعها في الأراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها أيضا.
ربما ثمة من يقول ،ان كثيرا من الظروف الاستثنائية تقاطعت لإطلاق هذا الحراك الفلسطيني في غير موقع من دول الطوق، لكن الصحيح أيضا، ان انتفاضتا الشعب الفلسطيني السابقتين،جرت في أصعب الظروف الفلسطينية في الداخل والخارج، وتمكنتا ولو بحدود من انجاز الكثير رغم حالات الإجهاض السياسي الذي تعرّضت له هاتين الانتفاضتين.وبالتالي ان التعويل على تثبيط الهمم الفلسطينية أمر لا يعدو أضغاث أحلام،فما قدّمه الشعب الفلسطيني ومؤسساته بمختلف تشكيلاته ربما يفوق بكثير ما قدمته أي حركة تحرر وجدت على مر التاريخ،ويكفي أنها القضية الوحيدة التي لا زالت من مخلفات القرن الماضي،رغم إيجاد الحلول للكثير من الأزمات والصراعات الدولية التي تم توارثها على مدى عقود خلت.
ما يعنينا اليوم ما جرى في مجدل شمس ومارون الرأس، دلالة الزمان والمكان، في جغرافية وتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.فالمشاركون فيها هم من جيل الشتات الفلسطيني الثالث الذي لم ير أرضه البتة. فهم ولدوا في دول الطوق ولأسباب مختلفة لم يتمكّنوا حتى من ممارسة حقهم في استرجاع أرضهم.واكتفوا بممارسة حقهم سلما لا حربا،ودفعوا دما كالعادة لكن هذه المرة ليست بالضرورة مجانا. كما أنها المرة الأولى التي يتم فيها اجتياح مدني لخطوط عسكرية إسرائيلية على أراضي عربية محتلة. ما يعني إسقاط العديد من المحرمات السياسية والأمنية وان بظروف استثنائية.
كما يعنينا أيضا،في هذه الواقعة بالذات أن الرسالة وصلت إلى الإسرائيليين وفهمتها قياداتها السياسية والأمنية والعسكرية، أن ربما زمن السلام قد ولّى،في زمن الحراك العربي،وان تكن بوصلته السياسية ليست موجهة إلى فلسطين المحتلة، بل ان فيها الكثير من المعطيات التي تهدف إلى حرف تلك البوصلة عن وجهتها المفترضة.ففي إسرائيل اليوم ثمة من يفكر ان خطرا داهما أتى من المكان الذي تفاخر في هدوءه على مدى عقود خلت، ومن مكان يعرف انه لُقن فيها درسا لن ينساه في العام 2006.
في مطلق الأحوال، ثمة أثمان تُدفع لاسترجاع الأرض والكرامة، وهذه المرة الشعب الفلسطيني أراد العودة ومن أماكن حساسة جدا في الحسابات الإسرائيلية سلما أو حربا، فهل ستجتمع الظروف وتتقاطع مرات أُخر؟إن واقع المنطقة بظروفها الداخلية والخارجية تشير إلى ذلك وربما بحراك اشد عنفا وأقسى آثارا وتداعيات.

15‏/05‏/2011

تمدد مجلس التعاون الخليجي

تمدد مجلس التعاون الخليجي
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 15-5-2011
www.drkhalilhussein.blogspot.com
شهد العام 1981 حدثين بارزين،الأول انطلاق مجلس التعاون الخليجي، والثاني قمة فاس العربية في المغرب التي أسست لمشروع السلام العربي الإسرائيلي.وبعد ثلاثين عاما تمدد مجلس التعاون ليضم المغرب والأردن إليه؛في ظروف عربية استثنائية،أبرزها الحراك الشعبي الممتد من المحيط إلى الخليج، وسط انهيار شبه كامل للنظام الإقليمي العربي والذي تمثل مؤخرا بتأجيل القمة العربية المقررة في العراق.باختصار ربما هذا التمدد المفاجئ يؤسس لمراحل لاحقة،ينبغي التمعّن والنظر فيها ببصر وبصيرة لئلا تضاف هذه التجربة إلى مجموعة التجارب الإقليمية العربية غير الناجحة.
فمن حيث المبدأ لا يضير هذا التمدد بشيء سيما وأنه مغطى قانونا بالمادة التاسعة من ميثاق الجامعة العربية الذي يعتبر هذه التجمعات مرحلة تكاملية في إطار الطريق العربي الطويل نحو وحدتها.وبصرف النظر عن حجم النجاحات والفشل التي ستواجه هذه الانطلاقة ثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها لجهة الزمان والمكان الذي سيشغله هذا التجمع بجغرافيته السياسية والآمال المعلقة عليه.
فالأردن الذي جاهد عقدين من الزمن لدخول هذا التجمع أتاه الفرج على طبق من فضه في ظروف إقليمية عربية وداخلية لا يحسد أي بلد عربي عليها.وهو في الواقع يشترك مع دول المجلس الخمسة بكثير من الجوانب والقضايا لجهة التركيبة الاجتماعية والى حد ما الدستورية – السياسية رغم بعض الفوارق، من بينها مثلا توقيعه اتفاق سلام مع إسرائيل"اتفاق وادي عربة"،فكيف سيكون تأثير ذلك على هذا الانضمام ؟ وهل سيرتب هذا التمدد مفاعيل خاصة في إطار الجغرافيا السياسية للصراع العربي الإسرائيلي،بعد متغيرات مصر المعروفة حتى الآن؟ ثمة حدود أردنية إسرائيلية تبلغ 610 كلم،كما ان ثمة خصوصية للواقع الأردني وارتباطه تاريخيا بالقضية الفلسطينية وملفاتها المتشعبة في غير اتجاه عربي متباين مع عمان وغيرها من عواصم القرار العربي.
في الوقت نفسه،ثمة مصالحة فلسطينية - فلسطينية انطلقت في القاهرة وهي مرشحة للاستمرار والبناء عليها مستقبلا،في ظل انهماك مصري بأوضاعه الداخلية،فهل سينتقل الملف الفلسطيني إلى دائرة القرار السياسي الخليجي تحديدا بعد مروره واحتوائه أردنيا؟ ربما تكون أفكارا أكثر مما هي مشاريع واضحة، لكن الإدارة الأمريكية الديموقراطية ستخوض انتخابات رئاسية العام القادم،فهل ستستغل الملف الفلسطيني وجغرافيته السياسية الجديدة كبطاقة انتخابية رابحة؟
في المقلب الآخر، ماذا عن موقع ودور المغرب في التركيبة الجديدة؟ وما هو مصير المجلس المغاربي المشلول أصلا بفعل التباين الحاصل بين دوله؟ الكثير من الأسئلة التي تبحث عن أجوبة في ظل حِراك عربي محيّر.وما هي مواقف الدول العربية الأخرى التي يمكن ان ترحِّب وتؤيد، أو يمكن ان تتوجس وتتساءل.لكن في مطلق الأحوال إن أي مشروع يهدف إلى التقارب والتعاون هو أمر مطلوب بل ضروري في ظل أوضاع إقليمية ودولية ضاغطة على مجمل الأوضاع العربية.
ان تأجيل القمة العربية الدورية هي رسالة واضحة لفشل النظام الإقليمي العربي في احتواء التحديات الكبيرة والكثيرة التي تواجهنا نحن العرب، فهل يكون البديل تجمعات فرعية ذات خصوصية تكون قادرة على مواجهة التحديات؟. على مدى عقود سبقت عشرات المحاولات برزت بين البلدان العربية من مشرقها إلى مغربها،لكن بجميعها لم تكن مشجعة بالمطلق،فكيف السبيل لأن يأخذ هذا التجمع دوره المأمول والمعوّل عليه؟
لا شك ان هذا التجمع يمتلك مقومات فارقة، اقتصادية ومالية وجغرافية وبشرية، علاوة على انضمام بلدين لهما موقع سياسي خاص في المنطقة ما سيفتح المجال واسعا أمام آفاق أخرى اذا أحسن التعاطي مع ظروفه الموضوعية.فالتجمع يجاور بلدان عربية أخرى تواجه تحديات البقاء والاستمرار،أقه اليمن وسوريا شرقا والجزائر وليبيا وغيرها غربا،وبذلك من المفترض ان لا يكون شكلا من أشكال التحدّي للبلدان الأخرى، وعنوانا يطمئن ويخف حالات التوجّس والتخّوف.
ثمة العديد من المحطات الريادية التي تمكن من تحقيقها مجلس التعاون الخليجي بين دوله وبين الدول العربية الأخرى، وبالتأكيد نحن العرب اليوم بأمس الحاجة إلى حراك تعاوني يؤمن الحد الأدنى لمواجهة المخاطر التي تعصف بالعرب دون استثناء.
ربما محاولة استشراف واقع التجمع الجديد هو أمر مبكر ومن الصعب تكوين صورة واضحة عنه،لكن في المقابل وليس من باب التمنيات بقدر ما هو باب من أبواب الآمال،ان يسهم في إيقاف التدهور العربي ،وإعادته إلى الخارطة السياسية بعدما توزّع الثقل السياسي الفاعل في المنطقة بين أيدي غير عربية.

08‏/05‏/2011

قاعدة ببلا رأس

قاعدة بلا رأس
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نُشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 8-5-2011
www.drkhalilhussein.blogspot.com
لم يجتمع العالم يوما على قضية ، كاجتماعه على وجوب مواجهة تنظيم القاعدة وملفاته.وكما كان 11 أيلول 2001 مفصلا في التاريخ الأميركي والعالمي، سيكون الثاني من أيار 2011 علامة فارقة،لجهة ما سيستتبعها من تداعيات سيجني الكثير من المواقع الدولية من آثارها.
وبصرف النظر عن وقائع وحيثيات الإعلان عن مقتل بن لادن، لجهة الكيفية في المكان والزمان، كما الأهداف وبخاصة قتله لا اعتقاله،يبقى الإعلان عن مقتله يشكّل حدثا لواشنطن بعد عقدٍ من الزمن تخلله الكثير ما قيل عن شخصية محيّرة، رفضت دول العالم استقبال جثته، وكأن الخوف من مماته هو أخطر وأعظم وأكبر من حياته.
طبعا ثمة عشرات الأسئلة المحيّرة التي ستثور حول العملية وتفاصيلها وعلاقة أطراف غير معلنة فيها؟ كما عن آثارها على الدول والمجتمعات وكذلك على القاعدة ذاتها؟
في المبدأ جاء توقيت التنفيذ ملائما للإدارة الديموقراطية الأمريكية نفسها وبخاصة للرئيس بارك اوباما،على قاعدة أن العملية تعتبر نصرا رئاسيا خالصا حجزت له بطاقة المرور لولاية رئاسية ثانية في العام القادم. سيما وأن بن لادن كان شعارا جذابا للشد والجذب في أي عملية سياسية في أي دولة تستلزم أوضاعها مزيدا من التحشيد والتأطير. لكن في المقابل وكذلك أمريكيا يثار السؤال حول مدى قدرتها على حماية أمنها بعد عدم تمكنها من التخلص من بن لادن إلا بعد عشر سنوات، في وقت تدّعي بأنها تمتلك القدرة على معرفة التفاصيل المملة عن كل شيء يدب على هذه الأرض!
وعلى الرغم من تراجع الاهتمام الشخصي به كأولوية في الأجندات الدولية في الفترة الأخيرة، يبقى التخلص منه لمعظم دول العالم قد شكَّل مناسبة سارة لم تتمكن هذه الدول من ضبط مواقفها وحتى مشاعر قيادتها بعدما اعتبرت ان الويلات التي ذاقتها تفوق كل اعتبار أخلاقي أو إنساني يمكن ان تُبرّر المواقف من خلالها. وكما الدول كذلك المجتمعات وبخاصة العربية والإسلامية التي كان مقتله مناسبة للتخلص من وصمة ألصقت بها عنوة وباتت صفة الإرهاب لصيقة بكل الشرق تعميما دون تمييز أو تحييد.
والمضحك المبكي في هذا الإطار، ان مقتله ،سيفقد بعض الأنظمة العربية التي تواجه ثورات شعبها بعض البريق الذي تتلطى به من خلال إطلاق العنان، بأن جُلَّ الحراك، هو ذات خلفية سلفية، وذات ربط ووصل بتنظيم القاعدة.
لكن السؤال الأكثر أهمية يتعلق بغياب الرأس عن القاعدة، وهو أمر مرتبط بمستقبل وفاعلية التنظيم وقدرته على إعادة تكوين كاريزما قيادية جديدة تعيد هيكلة التنظيم مجددا ،بعد سلسلة الترهلات التي طرأت على بنيته مؤخرا. فالقاعدة باتت قواعد لكل منها بنيتها وأسلوب عملها مع وجود رابط ضعيف بينها،حتى يُقال في الأدبيات التنظيمية والسياسية المعروفة لديهم، ان كل فرد يمكن ان يكون قاعدة للانطلاق بمفرده، وكأنه تبرير لصعوبة التواصل واستحالته في بعض الأحيان.
وبصرف النظر عن موقع بن لادن وقدرته التأثيرية في الفترة الأخيرة على مجمل أعمال تنظيم القاعدة، تبقى شخصيته بمثابة الملهم لكثيرين من مريديه وأتباعه،وبالتالي من الممكن ان طريقة قتله وإخفاء جثته ستعيد نسج الكثير من القصص والروايات التي يمكن ان تعيد إحياء شخصيات أخرى تحل محله.كما ان بسكيولوجية هذه الجماعات تتأثر إيجابا لا سلبا بعامل الضغط عليها؛ فبدلا من ان فعل المطاردة والملاحقة وحوادث القتل التي تتعرض لها ،من المفترض ان تشكل عوامل كبح لحراكها، يصبح سببا لإعادة حراكٍ جديدٍ اشد عنفا وفتكا.
ثمة الكثير مما يقال عن تداعيات قتله ربحا وخسارة،لكن ثمة القليل عما سيكشف لاحقا عن أسباب قتله لا اعتقاله، سيما وأنه يحمل الكثير من أسرار الإدارات الأمريكية التي تعاقبت على الحكم وبخاصة في فترات غرام المصالح المتبادلة إبان محارته للاتحاد السوفيتي في افغانستان.وربما ذهابه بهذه الطريقة الهليودية الأمريكية سيشكل مناسبة أخرى لدفن الكثير من الأسرار الأمريكية غير السارة لكثير من شعوب العالم.
ثمة الكثير ما يجمع عالم الحلفاء نهاية الحرب العالمية الثانية، وما يجمع العالم حاليا.تخلص العالم آنذاك من أدولف هتلر الذي قضَّ مضاجع الحلفاء بنظرياته النازية؛ واليوم تنفس العالم الصعداء بمقتل بن لادن. والمفارقة تشابه الحالتين باختفاء جثتيهما، في حالة هتلر اختفاء آثاره وتقدير بالانتحار.في الثاني الإعلان عن قتله ودفنه في البحر! وفي كلا الحالتين أساطير نُسجت سابقا عن هتلر ، وأساطير ستنشر عن بن لادن لاحقا. ورغم ذلك سيظل السؤال مطروحا هل ستحيا القاعدة من دون رأسها؟







02‏/05‏/2011

المخاوف السورية اللبنانية المتبادلة وخلفياتها

المخاوف السورية اللبنانية المتبادلة وخلفياتها
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية


شرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 2-5-2011
www.drkhalilhussein.blogspot.com

مفارقة العلاقات اللبنانية السورية تكمن في حالات الشد والجذب التي خضعت عبر التاريخ لمكونات خارجة عن إرادة الدولتين شعبا ومؤسسات، بخلاف كل القوانين والضوابط التي تحكم أي علاقات بين بلدين جارين يتمتعان بخصائص مشتركة تكاد لا يمكن التفريق أو التمييز بينهما سوى ببعض التفاصيل الهامشية. ورغم ذلك تشكل حالات المد والجزر في منسوب العلاقات بين دمشق وبيروت لغزا محيّرا لجهة عدم التمكّن من تجاوز الكثير من سلبيات المواقف عند أي مفترق ولو كان غير استراتيجي،ومرد ذلك يعود إلى خلفية المواقف المسبقة في التعاطي مع بعض خصوصيات الواقع اللبناني،كما التعاطي بخفة مع أمور تعتبرها سوريا خطاً أحمراً يصعب التساهل فيه أو التغاضي عنه.
فعلاقات التاريخ والجغرافيا التي حكمت طبيعة العلاقات ومتطلباتها لم تكن يوما بالمستوى المأمول أو المطلوب منها.وعلى الرغم من تقديم سوريا الكثير للبنان في حقبات تاريخية متلاحقة لم يتمكن لبنان من تجاوز عقد وخلفايت مسبقة تعود إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي يوم أُعلن عن إنشاء لبنان الكبير، ومن ثم استقلال البلدين عن الانتداب الفرنسي،الذي كان مناسبة أخرى لتنظيم العلاقات على قواعد محددة من بينها،ان لا يكون لبنان ممرا أو مستقرا للقوى الغربية، وهذه القاعدة بالتحديد كان الهدف منها طمأنة سوريا تحديدا على قاعدة ما تعرّضت له دمشق من مواقف ضاغطة من الغرب انطلاقا من استغلال بعض اللبنانيين الذي وصل الأمر بهم إلى رفض الاستقلال والمطالبة بالانضمام أو حماية فرنسا.
هذا الواقع أسَّس لهواجس ومخاوف متبادلة،والتدقيق في مفاصل وأسباب الأزمات الثنائية بدءا من أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، تظهر جدية التوجّس وعدم قدرتهما على تجاوز الكثير من الأسباب ولو كانت عرضية،ذلك بفعل عوامل كثيرة من بينها هشاشة الواقع اللبناني وسرعة تأثره بالمحاور العربية والغربية التي غالبا ما كانت مناوئة لدمشق. ومثال ذلك الكثير من المحطات أبرزها حلف بغداد ووقوف لبنان الرسمي في صفوفه الخلفية بمواجهة سوريا ومصر آنذاك والتي وصلت الأمور بلبنان تقديم شكاوى إلى الجامعة العربية والأمم المتحدة ضد دمشق على خلفية تدخلات مزعومة. مرورا بأزمة الانفصال المالي والجمركي في الستينيات والموقف اللبناني الرسمي من عمل المقاومة الفلسطينية من لبنان في السبعينيات،وصولا إلى اتفاق 17 أيار 1982 الذي شكَّل عملا صداميا مع دمشق بتحريض أميركي - إسرائيلي واضح لبعض القوى اللبنانية آنذاك.
اليوم تشهد سوريا حراكا إصلاحيا وصلت إلى حد الحراك التغييرّي للنظام كباقي الدول العربية،في وقت بدأ الكثير من المسؤولين الأمريكيين والغربيين يفصحون تلميحا وتصريحا عن المطلوب من النظام في سوريا لبقائه وتخفيف الضغط عنه. ومن بين المطلوب فك ارتباطه مع طهران وتقديم تسهيلات وربما تنازلات في إطار الصراع العربي - الإسرائيلي،وبالتالي انتقاله إلى ما سُميَّ بالصف العربي المعتدل.هذه المطالب استشعرت فيها دمشق خطرا على الكيان والنظام معا، وحاول المسؤولون السوريون مواجهتها برزمة من الإصلاحات النوعية في الحياة السياسية والدستورية السورية، ورغم ذلك تصاعد الحراك وصولا إلى مطلب إسقاط النظام الذي ردّته الحكومة السورية إلى جملة من الضغوط الغربية انطلاقا من لبنان،الخاصرة الرخوة لسوريا عبر التاريخ السياسي بين البلدين.
وبصرف النظر عن جدية هذه الإدعاءات من عدمها، تبقى السوابق التي مرّت بها العلاقة بين البلدين في محطات كثيرة تؤيد وجهة النظر السورية في ذلك،وتعزز قناعاتها لاسيما حملة الاتهامات التي سيقت ضد دمشق منذ اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري.
وفي أي حال من الأحوال، ثمّة العديد من القواعد الناظمة للعلاقات اللبنانية السورية التي لم تحترم بما فيه الكفاية للحفاظ على منسوب عالٍ من الوفاق،وبخاصة في القضايا الإستراتيجية المتصلة بالأمن والصراع العربي الإسرائيلي وملفاته المتفرعة.ففي كل مرة كانت تلوح مشاريع السلام الوهمي مع إسرائيل كان لبنان المنصة الغربية الملائمة للتصويب على دمشق بهدف ابتزازها وجرها إلى مواقع متباينة مع توقيتات أجندتها السياسية الخارجية،ومع ذلك تمكنت دمشق من تقطيع الوقت وهضمه في محطات صعبة مختلفة ومتعددة،وكان لبنان الحاضر الناضر لدفع ثمن مواقفه المتباينة معها.
ثمة خلاصات ينبغي على لبنان التنبّه لها والأخذ بها بجدية متناهية وبخاصة في الظروف الإقليمية والدولية العاصفة. اليوم يمر الشرق الأوسط وبالتحديد النظام الإقليمي العربي بأصعب مراحل إعادة التكوين السياسي وربما الجغرافي للكثير من أنظمته،وتكاد تتطابق مع ظروف عشرينيات القرن الماضي،حين قُسمت المنطقة على أسس يمكن استغلالها لاحقا، واليوم وبعد تسعة عقود تعيد القوى الكبرى لعبتها في المنطقة العربية بمسميات وشعارات مختلفة. انطلق الحراك العربي في كل مكان وباتت أحزاب الفيس بوك والتويتر وغيرها، منصة لتحريض الشعوب على أنظمتها كما بعضها على بعض. واليوم ما يجري في سوريا وصلا بالواقع اللبناني المقيت، يهيئ أيضا لواقع مختلف في لبنان عاشه زهاء عقدين من الزمن إبان الحرب الأهلية.
وإذا كان بعض اللبنانيين مسرورين لما يجري في سوريا،وبعضهم الآخر يضر ب أخماسا بأسداس،فإن ما ينبغي معرفته انه لم يكن لبنان يوما بمنأى عن أي تحوّلٍ أو تغيير في جغرافيا المنطقة كما تاريخها. بل أن لبنان معني أولا وأخيرا بأمن سوريا كما أمنه،ومعني أيضا بالبوصلة السياسية التي تحكم شرقه قبل غربه.وبالمناسبة أيضا وأيضا،هل نسيَّ اللبنانيون ان لديهم نظام طائفي يرقى إلى درك القرون الوسطى، فلماذا حراكه لا زال هجينا، أليس من الضروري التساؤل عن ذلك،أم ان للبنان وظيفة أخرى ينبغي ان يشغلها في الظرف الراهن.
ثمة هواجس ومخاوف لبنانية وسورية متبادلة وصلت في بعضها إلى حد إلقاء الكثير من الحُرم السياسي والأمني. واليوم على لبنان كما سوريا التنبه للآتي من الأيام التي ربما تكون الأصعب في تاريخهما. اغتيال الرئيس الحريري ومن ثم عدوان إسرائيل على لبنان في العام 2006، لم يغيرا الوجهة السياسية لسوريا وللبنان،واليوم نظرية "الفوضى الخلاقة" تطل برأسها من جديد علَّ وعسى تحقق أهدافا عجزت أميركا وإسرائيل عن تحقيقها سابقا في المنطقة. فهل يعلم أصحاب الرؤوس الحامية بذلك؟ طبعا نحن العرب بحاجة للكثير من الديموقراطية،لكننا لسنا بحاجة إلى إلباسنا المريول الأمريكي وجرّنا إلى المدارس لتعليمنا أسس الديموقراطية الأمريكية التي أرادت كونداليسا رايس في تموز 2006 إبان العدوان على لبنان ولادتها من رحم الشرق الأوسط الجديد.