27‏/04‏/2009

الأزمة المالية العالمية وتداعياتها الجيو سياسية

الأزمة المالية العالمية وتداعياتها الجيو سياسية
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

رغم الغموض المتعلق بشكل النظام الدولي في المرحلة القادمة، فإن الأزمة المالية ستسرّع من تحوّل النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب؛ فتلك الأزمة تعمل على تعميق الدور الاقتصادي للصين وغيرهاعالمياً، من خلال ما تمتلكه من احتياطيات ضخمة، وهو ما يعطيها نفوذاً واضحا فيما يتعلق بتشكيل مستقبل المشهد الاقتصادي العالمي.
ومع احتدام الأزمة المالية يثور تساؤل رئيسي مفاده: هل ستسرع الأزمة الاقتصادية من انهيار الولايات المتحدة اقتصادياً، بصورة أسرع مما هو متوقع ؟ أم أن الأزمة المالية ستكون فرصة مواتية للولايات المتحدة لتعود بصورة أكثر قوة مما كانت عليه خلال السنوات الماضية؟.
تشير السوابق التاريخية إلى نجاح الولايات المتحدة في التعامل مع الأزمات، لاسيما الاقتصادية التي واجهتها خلال تاريخها مقارنة بمثيلاتها من القوى الأخرى.فمثلا خرجت الولايات المتحدة من أزمة النفط خلال سبعينيات القرن الماضي بسرعة، مقارنة بمثيلاتها من القوى الأوروبية واليابان التي كانت أكثر اعتمادا على النفط. كما تمتلك الولايات المتحدة مقومات الخروج من أزماتها، ولديها القدرة على إعادة اختراع نفسها. وقد لا تكون الأزمات عائقا أمام الولايات المتحدة، بل قد تكون سببا في عودتها أكثر قوة، وذلك وفق مقولة "التدمير المبدع ". الأمر الذي ميَّز الولايات المتحدة في الماضي، وما قد يساعدها على الخروج من أزمتها الحالية.لكن في الوقت ذاته ستعاني الولايات المتحدة من تراجع صورتها عالمياً، بسبب سياساتها الشرق أوسطية وحربها على الإرهاب ،وكذلك باعتبارها مصدر هذه الأزمة، فضلا عن انعدام الثقة بين الولايات المتحدة والاقتصادات الناشئة ، وهو ما يظهر بصورة واضحة في العلاقات الأمريكية ـ الصينية التي توصف بـ "الزواج غير السعيد".
ويشير حجم الحوافز المالية الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة تعتمد في واقع الأمر على امتيازات قد لا تكون موجودة في كثير من الأحيان، وأنها تبني سياساتها الخارجية وموقعها العسكري على تلك الامتيازات، فمثلا انخفاض الدولار من شأنه أن يصعِّب من تحقيق التوازن بين طموح الولايات المتحدة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، وارتفاع التكاليف المالية لتحقيق هذه الأهداف.ومن المتوقع أن يترتب على الأزمة المالية التي تعصف بالاقتصاد العالمي أمرين رئيسيين:
- إن القضايا الاقتصادية ستحتل أولويات السياسات العليا للدول، حيث تشير السوابق التاريخية، إلى أن التغيرات في البيئة الاقتصادية والمالية العالمية تستلزم تحوّلاً في تفكير السياسة الخارجية، ومن الصعوبة بمكان إيجاد خط فاصل بين الاقتصاد والسياسة الخارجية، أي أن القضايا الاقتصادية والمالية أصبحت من السياسات العليا للدول وبات من الصعوبة إيجاد خطوط وهمية بين الاقتصاد والسياسة الخارجية.وعلى سبيل المثال، دعت البرازيل، بعد أيام من قمة العشرين في واشنطن والاتفاق على الامتناع عن فرض حواجز جديدة على الاستثمارات الجديدة أو التجارة، إلى رفع التعريفات المشتركة على مجموعة من السلع، كما أحكمت الصين ربط العملة بالدولار، وأعلنت عن مرحلة جديدة من خفض ضرائب على الصادرات، في حين زادت روسيا التعريفات على الواردات.
- زيادة الصراعات عالميا؛ فمع تزايد عدد القوى الدولية وزيادة التداخل والتشابك في علاقاتها وتزايد فرص التبادل بينها، ثمَّة عواقب غير متوقعة مع شعور بانعدام الأمن، إذ تتزايد الصراعات في بيئة اقتصادية غير مستقرة، وما حدث لأوروبا الوسطى في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وكذلك ما حدث لعصبة الأمم ليس ببعيد حدوثه في القرن الحادي والعشرين.
إضافة إلى ذلك ستؤدي الأزمة الاقتصادية إلى تراجع الوجود الأمريكي العسكري في الشرق الأوسط، مع سعي دول المنطقة إلى امتلاك تكنولوجيا نووية، ما قد يدفع إلى ترتيبات أمنية جديدة قي المنطقة ، الأمر الذي سيزيد من عدم الاستقرار ، والذي يدفع الكثير من الدول إلى تبني سياسات استباقية تعتمد الهجومية وليس الدفاعية.كما أنه من المحتمل حدوث صراعات على الموارد الاقتصادية لاسيما الطاقة والمياه في مناطق الندرة المائية، التي ترتبط شرعية النظام السياسي واستقراره في كثير من الدول بتوافر تلك الموارد، وقد تكون هذه الصراعات ذات طابع محلي أو بين القوى الدولية.
كما أن المستقبل لن يختلف كثيرا عن الماضي في كثير من النواحي، إذ أن النظام الدولي سيتجه نحو مزيد من توزيع القوة والسلطة الحاصل منذ عقدين، بناء على ظهور فاعلين دوليين جدد، وتفاقم العجز المؤسسي، وتزايد نمو التكتلات الإقليمية، وزيادة قوة الفاعلين من غير الدول.كما لن يؤدي تعدد الجهات الفاعلة على المسرح الدولي إلى تعزيز استقرار النظام الدولي عن طريق ملء الفراغ الذي خلفته مؤسسات وقوى الحرب العالمية الثانية، ولكنها قد تؤدي إلى تزايد تفتت وشلل التعاون الدولي.
ونظرا لتنامي القوة الاقتصادية والجيو سياسية للقوى الصاعدة؛ فإنها ستتمتع بدرجة من الحرية فيما يتعلق بتعديل سياساتها الخارجية والاقتصادية دون الاعتماد بشكل كامل على المعايير الغربية، فضلا عن تمتعها بحرية المناورة والسماح لقوى أخرى بتحمل العبء الرئيسي للتعامل مع كثير من القضايا الدولية كالتعامل مع الإرهاب وتغير المناخ وانتشار الأسلحة النووية وأمن الطاقة.
كما لا يتوقع أن تكون المنظمات الدولية القائمة قادرة على التعامل مع المهام الجديدة لهذا النظام الجديد، حيث تتسم حركتها بالجمود وعدم القدرة على مواجهة المتغيرات في العضوية وزيادة الموارد.وفي المقابل سيزداد دور المنظمات غير الحكومية، إلا انه من المستبعد أن تتمكن من إحداث تغيير في ظل غياب الجهود والتنسيق مع المنظمات متعددة الأطراف والحكومات، علاوة على أنه سيكون من الصعب التعامل مع التحديات عبر الوطنية في ظل اختلاف الآراء وصعوبة التوصل إلى اتفاق لحلول المشكلات.
كما ستدفع الأزمة المالية والركود المستمر باتجاه تجزئة النظام الدولي، مع تزايد خطر الصراعات ، فالقوى الصاعدة (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين) تبدو جاهزة لتحدّي النظام الدولي، كما فعلت ألمانيا واليابان في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ثمة تلازم وعلاقة طردية بين عالم المال والاقتصاد من جهة وطبيعة النظام الدولي عبر مختلف حقبات السياسات الدولية،وكما أسلفنا ربما تعبر الأزمة المالية الحالية بالنظام العالمي القائم إلى ضفة أخرى فيه اختلاف الشكل وتماثل المضمون،غير أن حركة التاريخ وتبدّل أدوات الصراع ووسائله وأهدافه سيظهِر يوما أطرا جديدة مختلفة شكلا ومضمونا.


14‏/04‏/2009

جامعة الدول العربية: الإخفاقات وسبل التجاوز

جامعة الدول العربية: الإخفاقات وسبل التجاوز
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

حديث صحفي إلى مجلة شؤون الاوسط،بيروت،العدد 132،ربيع 2009.

س - كيف تقيّم تجربة جامعة الدول العربية منذ تأسيسها وحتى اليوم.أين نجحت وأين فشلت؟
ج – للأسف الحديث عن جامعة الدول العربية يقودنا التفكير بداية إلى الجانب السلبي لعملها،وهذا لا يعني بالضرورة أن لا ايجابيات ظاهرة في أدائها لمسؤولياتها،ذلك يعود للعديد من الاعتبارات والأسباب؛أولها ندرة النجاحات واستثناءاتها،وثانيا عدم قدرتها واقعيا على تخطي العقبات إذا توفرت الرغبة في ذلك،ويمكن تسجيل العديد من الإخفاقات وأسبابها، فضلا عن المتغيرات الإقليمية والدولية الجديدة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1ـ النظام الأساسي للجامعة العربية، أي الميثاق الصادر عام 1945 بني على معطيات وظروف لا تتوافق مع المعطيات الجديدة ولا مع أحوال العالم العربي وهو ما يحتِّم على الجامعة القيام بمراجعته لاسيما ما يتعلق بأسلوب وآلية التصويت حيث يشترط الميثاق إجماع الآراء الأمر الذي يصعب حدوثه في ظل الخلافات السياسية والأيديولوجية والتاريخية بين الدول الأعضاء ويؤدي في النهاية في كثير من الأحيان إلى العجز عن التوصّل إلى قرارات في العديد من القضايا العامة والمحورية. فعلى الرغم من تأكيده على التعاون بين البلدان العربية في عدد من المجالات بخاصة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 2) إلا أنه لم يتعرض لآليات مثل هذا التعاون سواء على مستوى اللجان التي يتم إنشاؤها لهذا الغرض (المادة 4) أو فيما بين الدول. كما أن الميثاق لم يتضمن النص على كيفية إعادة هيكلة الجامعة كما لم يشمل على فصل خاص أو حتى بعض المواد التي تتناول المنظمات العربية المتخصصة وعلاقتها بالمنظمة الأم على غرار ميثاق الأمم المتحدة ،ولا تملك أمانة الجامعة ـ المخولة بالسهر على تنفيذ قرارات الجامعة ـ صلاحيات تنفيذية أو عقابية على غرار ما لدى المفوضية الأوروبية في بروكسل من صلاحيات داخل الاتحاد الأوروبي والتي استطاعت من خلال بضع سنوات أن توحِّد الشارع الأوروبي خلف قرارات قيادات الاتحاد فضلا عن توحيد الجانب الاقتصادي عبر بوابة اليورو على عكس جامعة الدول العربية التي ظلت في مكانها دون الوصول بفعل واحد يعود على الشارع العربي بشيء من الإحساس بالجدوى الفعلية لها . كما يأتي أسلوب التصويت على قرارات الجامعة ليقف الإجماع سببًا وراء صدور قرارات غير جازمة بهدف الوصول إلى حلول وسط تحظى بموافقة الأطراف كافة، كما أن الإجماع يضطر البعض إلى التحفّظ في تنفيذ هذه القرارات ما أسهم في تقويض مصداقية الجامعة
2 ـ تمسّك الدول العربية بسيادتها الخاصة بينما يتطلب تطوير الجامعة الدخول في نظام إقليمي تخلي الدول الأعضاء عن جزء من السيادة الخاصة لصالح الجماعة، كما أنَّ الدول الأعضاء ذاتها كانت حريصة بداية على التأكيد في الميثاق على سيادتها واستقلالها دون أي ذكر لضرورة تنسيق السياسات بصورة ملزمة، بل تم حذف مادة بهذا الشأن من البروتوكول التأسيسي للجامعة الأمر الذي جعل مسألة اتخاذ مواقف التضامن بين أعضاء الجامعة مسألة خاضعة لإرادة كل دولة. هذا التمسك بالسيادة ترتّب عليه عدم التزام الدول الأعضاء بتنفيذ القرارات التي تصدر عن الجامعة، حيث أن هذه القرارات تظل مجرد توصيات قد تنفذها وقد تتخلى عنها ويرتبط بهذا الأمر عدم وجود سلطة إلزامية تستخدمها الجامعة لتنفيذ القرارات ما أدى إلى فقدان الثقة في قدراتها على حل القضايا والمشكلات التي يتم عرضها على الجامعة، ما يدعوها إلى اللجوء لمنظمات أخرى لاسترداد حقوقهم أو حل نزاعاتهم ومشكلاتهم.
3ـ انشغال الجامعة العربية بالسياسة في حين انشغلت التجمعات الأخرى بالاقتصاد فأخفقت الجامعة فيما نجح فيه الآخرون لأنهم ربطوا مصالحهم الاقتصادية واعتمدوا على بعضهم البعض عبر شبكة من المصالح الاقتصادية والصناعية والخدمية. ويرتبط بهذا الأمر الضعف الشديد للعلاقات الاقتصادية العربية وفي هذا الإطار يكفي الإشارة إلى أن حجم التجارة البينية العربية تدور حول 8% فقط من حجم التجارة العربية الإجمالي، أما بالنسبة للاستثمارات فتقدر ب1% من رؤوس الأموال العربية المودعة في الخارج والتي تدور الأرقام المتداولة بشأنها حول تريليون دولار. كما أن الجامعة لم تعوّل كثيرًا على الأهداف الاقتصادية والتي تعتبر الأيسر في طريق الوحدة، فالدول العربية كسائر الدول النامية تعاني اقتصادياتها من اختلال هيكلية حيث تظهر المؤشرات إلى أن ما بين 3% إلى 7% فقط من التجارة الدولية هي بين الدول العربية بعضها البعض، وما بين 2% إلى 5% للتجارة العربية مع دول أفريقيا وما بين 35% إلى 45% للتجارة مع دول الاتحاد الأوروبي وما نسبته 30% إلى 39% للتجارة مع الولايات المتحدة الأميركية أما التجارة مع دول شرق آسيا فتتراوح نسبتها ما بين 10% إلى 15%.
4ـ فضلا عن الممارسات السابقة نجد الدول العربية لا تفي بالتزاماتها المالية تجاه الجامعة في الوقت الذي تلتزم فيه هذه الدول بالتزاماتها كاملة تجاه المنظمات الدولية الأخرى كالأمم المتحدة.
5ـ وتأتي الممارسات بين الدول الأعضاء سببًا ربما الأكثر أهمية في وهن الجامعة فبرز الصراع العربي ـ العربي في أكثر من موقع ثم جاء احتلال العراق للكويت والاحتلال الأمريكي للعراق والتي عكست عجز الجامعة عن القيام بدورها ،فضلا عن عجزها التام في معالجة القضية الفلسطينية بشكل خاص والصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام.فضلا عن رفض الدول الأعضاء فكرة التدخل الحميد للجامعة لحل النزاعات فيما بينها في حين توافق عليه داخل منظمات أخرى،وفي بعض الاحيان باتت الجامعة طرفا مع محور عربي بمواجهة الآخر.
6ـ كما وصل الأمر إلى أن الدول العربية الأعضاء قد جمّدت عن عمد قرارات اقتصادية وثقافية واجتماعية للجامعة وتصرّفت بما يلائم وضعها القطري مع بعضها البعض ولم ينجم من هذه القرارات إلا القليل وكان أغلبها في المجال الزراعي أو بعض الأنشطة في قطاعات التعليم والصحة والثقافة وحتى في المجال الثقافي وما قدمته الجامعة بشأن «حوار الحضارات» حين احتضنت مؤتمرًا خاصًا به... أحاط الغموض والالتباس هذا المشروع فلم يحدد أي حوار ومن هم أطرافه ولذا لم يفض إلى أي نتائج ملموسة بل أنه حتى لم يسهم في تخليص الصورة العربية من الشوائب التي لحقت بها لدى أبناء الحضارات الأخرى.
س - ما هي برأيك وسائل تفعيل عمل الجامعة من ضمن المؤسسة نفسها؟
ج - يتعين علينا في إطار الحديث عن جوانب القصور في عمل الجامعة العربية والعوامل التي تدفع باتجاه الإصلاح، الإشارة إلى متطلبات هذا الإصلاح، وفي هذا الإطار ثمة شروط ينبغي تحقيقها أولا حتى يمكن بناء النظام العربي المراد وأول هذه الشروط الحفاظ على طبيعة النظام وهويته والجوانب البنيوية فيه والتي تتعلق برسم حدود هذا النظام، أو معيار الدخول فيه والخروج منه. ونقصد بذلك الحفاظ على خصوصية هذا النظام لجهة عروبته، ومن ثم رفض دخول أي دولة غير عربية في هذا النظام. ويعد هذا الشرط ردًا على مطامح ومساعي الولايات المتحدة وإسرائيل اللتين ترغبان في ضمِّ دول أخرى إلى النظام العربي وتحويله إلى نظام شرق أوسطي. ويلي التمسك بالشرط الجوهري السابق الإشارة إليه، معالجة جوانب القصور في عمل الجامعة ذلك من خلال ما يلي:
1ـ إصلاح نظام اتخاذ القرارات، ومن ثم ينبغي الحديث عن ضرورة التوسّع في إعمال قاعدة الأغلبية سواء البسيطة أو المطلقة مع جعل القرارات التي تحظى بموافقة الأغلبية ملزمة للجميع ولا تقتصر على من قبلها فقط.
2ـ إصلاح ومعالجة "فجوة الالتزام" أي عدم التزام الدول العربية بتنفيذ تعهداتها إزاء العمل العربي المشترك، وهو قصور نبع بسبب افتقار الجامعة لآلية تمكنها من إلزام أعضائها بتنفيذ ما يتفقون عليه، وذلك باستحداث آلية تشرف على تنفيذ القرارات.
3ـ إعطاء مجلس الجامعة حق مواجهة ومنع الدول التي تنفرد باتخاذ قرارات وإجراءات تؤثر على الدول العربية الأخرى، إذ أن هذه القرارات لا تؤثر فقط على الدولة القطرية متخذة القرار وإنما تؤثر على جميع الدول العربية، على أن يكون الميثاق حاسمًا في هذا الشأن في مواجهة انفراد الدول بالقرارات إما بالفصل أو بمواجهتها بما يحول دون هذا الانفراد.
4ـ إصلاح الهيكل التنظيمي للجامعة، عبر توطين الوظائف وفتح المجال للأفراد من الشعب العربي من دون تدخل الوساطات الحكومية درءاً للتهاوي الإداري الذي تعاني منه غالبية أجهزة الحكومات العربية. ويظل نجاح الجامعة في إجراء هذه الإصلاحات رهنًا بأمرين أولهما توافر الإرادة السياسية، وثانيهما إصلاح الأنظمة العربية ذاتها. وفيما يتعلق بتوافر الإرادة السياسية، فمع أهمية إجراء هذه الإصلاحات، فإن أي عمل إقليمي مشترك لا يستقيم دون إرادة العمل المشترك. ويلي توافر الإرادة السياسية اللازمة لبدء العمل المشترك ضرورة وضوح الرؤية لدى الدول العربية الراغبة في تطوير هذا العمل المشترك ليصبح العمل المشترك على رأس أولويات الدول العربية على أن تخدم أي علاقات خارجية أخرى هذا الإطار. وفيما يتعلق بإصلاح الأنظمة العربية نفسها، فهو متطلب أساسي فرضته حقيقة مهمة مؤداها أن الجامعة العربية في واقع الأمر لا تمتلك إرادة حرة وأنها عصبة من إرادات الدول الأعضاء ومن ثم فإن هذه الدول ستظل هي المسؤولة عن قصور الجامعة لأن سلبيات هذه الأخيرة وإيجابياتها هما من صنع الدول الأعضاء. بمعنى آخر أن واقع الجامعة العربية هو انعكاس لواقع الأنظمة المكوِّنة لها ومن ثم يظل قيام الأولى وثيق الصلة والارتباط بقيام الثانية.
5 ـ ينبغي تدوير منصب الأمين العام لإشعار الدول بأن الجامعة بيت العرب بالواقع والممارسة ولابد أن يستقيم عمل الأمين العام مع توافق الدول الأعضاء، فلا يمكن للأمين العام أن يتخذ مواقف معبرة عن مشاعر خاصة دون اعتبارات لسياسات الدول ومصالحها.
6 - إدخال نظام حرمان للدول المشاركة في الاجتماعات ومن ممارسة حق التصويت إذا ما ارتكبت جرائم في حق مواطنيها أو انتهكت ضوابط السلوك الإنساني الدولي في دعم الإرهاب أو التدخل في الشئون الداخلية للدول من أعضاء الجامعة أو من خارجها.
7 - على الجامعة أن تسعى بالتراضي والتوافق لوضع مبادئ عامة للسياسات الاقتصادية للدول العربية تستند على سياسات السوق والليبرالية الاقتصادية والانفتاح الاقتصادي.
8 - من الضروري أن تتوسع الجامعة العربية في جوانبها الثقافية والاستفادة من الإجماع حول دور الثقافة في تقريب السياسات على أن يكون التعاون الثقافي هو محور الهوية العربية.
س - هل يمكن التفكير للعمل العربي المشترك ببديل أو بدائل عن جامعة الدول العربية؟وما هو الإطار الممكن لذلك؟.
ج - تشكّلت التحالفات الإقليمية بين الدول نتيجة عوامل سياسية وسوسيو اقتصادية تؤثر على السياسات الدولية العامة، وتدعم هذه التكتلات المصالح المشتركة للأعضاء وتلبي الاحتياجات الموضوعية لأحداث أو مواقف معينة. وهذه الكيانات ليست في حالة ثبات، بل هي في تطور متواصل بمرور الوقت وبسبب التوجهات والمستجدات الدولية. وبهذا تصبح هذه التحالفات ضرورة إقليمية. وشهد العالم العربي قيام جامعة الدول العربية، كما تأسست في أفريقيا منظمة الدول الأفريقية التي تحوّلت إلى الاتحاد الإفريقي وشهدت آسيا قيام رابطة دول جنوب شرق آسيا، وفي أوروبا تبلور الاتحاد الأوروبي، ولكل من هذه المنظمات الإقليمية الثلاث مواثيق خاصة وأهداف محددة تعمل على تحقيقها من خلال البرامج واللجان والمفوضيات المتخصصة التابعة لها، سواء كان ذلك في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو العسكري وغيرها من المجالات والقضايا التي تهم الدول الأعضاء.
ورغم أن مفهوم المنظمة الإقليمية لم يتضح فعليا أو يستقر في صورة محددة في الفقه الدولي ، إلا بعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة عندما أشار الفصل الثامن من ميثاقها إلى هذا المفهوم. فإن ثمة فريقا أقر بإقليمية هذه المنظمات لانطباق شروط التنظيم الدولي الإقليمي بحسب ميثاق الأمم المتحدة فهذه الشروط تتركز في أن يكون هدف المنظمة الإقليمية هو "الحفاظ على السلم والتعاون الإقليمي والاجتماعي والاقتصادي" وان يتوافر لها عنصر التنظيم الداخلي باعتبارها منظمة دائمة، وأن تكون عضويتها مفتوحة لمجموعة من الدول التي تربط بينها الوحدة الجغرافية، والتعاون القائم على الجوار، ووحدة المصالح والأهداف بصورة تحملها على التفكير على السلم والأمن في المنطقة التي توجد فيها هذه الدول وتقوية أواصر التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقانوني بينها. وبذلك صارت هذه المنظمات إقليمية بمفهوم ميثاق الأمم المتحدة، ويؤكد ذلك النظر في أهدافها ومبادئها التي لا تخرج عن المبادئ التي حددها ميثاق المنظمة الدولية.
ونظرا لطبيعة إقليم كل منظمة من هذه المنظمات بسبب مجموعة من العوامل منها مستوى التقدم السياسي والاقتصادي ومستوى التطور التقني ونوعية الأنظمة القطرية الحاكمة، ومدى انتشار الوعي لدى شعوب الإقليم واختلاف تطلعاتهم واهتماماتهم، فإن أي مقارنة بين أداء هذه التحالفات قد تكون في غاية الإجحاف لبعض منها، فلكل تكتل ظروفه الموضوعية الخاصة التي تشكل فيها، ولكل واحد منها أولويات محددة، بالرغم من أن السبب الأساسي وراء إقامتها خدمة أهداف متشابهة إن لم تكن متماثلة.
وفي إطار مقاربة التجارب فقد تحوّل الاتحاد الأوروبي خلال فترة وجيزة وبما يشبه المعجزة إلى تكتل سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وازن في النظام العالمي، فقد كان لدى مهندسي الوحدة الأوروبية وفي طليعتهم جان بونيه رؤية واضحة عن الهدف المنشود وهو إنشاء وحدة أوروبية كبيرة، واستطاع هؤلاء إقناع السياسيين في دولهم بأهمية ذلك بحيث تبنّى الساسة خاصة في فرنسا وألمانيا مسؤولية تحقيقها وعملوا على تنفيذها فكانت المجموعة الأوروبية للفحم والصلب العام 1951، ثم معاهدة روما 1957بإنشاء الجماعة الأوروبية وإلغاء الرسوم الجمركية على التجارة البينية بين الدول الأعضاء والسوق الموحدة في كانون أول 1993 ،والعملة الموحدة اليورو التي تم تداولها في كانون أول 2002 ،ثم إلغاء الحدود إنشاء البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية والمصرف المركزي الأوروبي. كما تحوّلت عضوية المجموعة التي بدأت بست دول هي بلجيكا وألمانيا الغربية ولوكسمبرغ وفرنسا وايطاليا وهولندا إلى اكبر تجمّع سياسي واقتصادي وأمني في أوروبا يضم في عضويته 28 دولة .
وتختلف المجموعة الأوروبية عن نظيراتها المنظمات الإقليمية الأخرى في عدد من الأوجه، فهي حققت التوازن المتواصل بين المصالح القومية والمصالح المشتركة للاتحاد واحترمت حركة التفكير والاختلاف في الرأي من اجل التوصل إلى ترتيبات أفضل مع عدم التزام أي عضو بتنفيذ قرار لم يوافق عليه في البداية على الأقل، واعتمدت مبدأ الإجماع في الرأي في المسائل التي تهم المصالح العليا للأعضاء، كما حرصت على تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء والإقلال من مستويات التنافس بينها ووضعت سياسات مشتركة للقطاعات المختلفة وخاصة بالنسبة للتكافل الاجتماعي والتنمية والسياسة الخارجية والدفاع ووقعت اتفاقيات ملزمة في هذا الشأن منها اتفاقية التكنولوجيا والمعلومات والمعاهدة الجماعية الأوروبية للدفاع.
إن تجربة الاتحاد الأوروبي الناجمة والتي ساعد ارتفاع الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي في نجاحها إضافة إلى ثراء أعضائها من الدول الصناعية المتقدمة غنية بالدروس الناجحة للتحالف الاقتصادي، فقد بدأ بست دول ، ولم يكن الاتفاق على إنشائه حبرا على ورق ولكن عبر خطوات عملية مدروسة مع التزام صارم بالتنفيذ. وقد يكون السبب في هذا النجاح هو أن الدول الأعضاء متقدمة صناعيا وسياسيا، وهو الأمر الذي لم يكن يتوفر للمنظمات الإقليمية الأخرى ومنها جامعة الدول العربية.
إن جوهر عمل المنظمات الإقليمية اليوم يقوم على التعاون المالي والاقتصادي في عصر دخلت العولمة بكافة أوجهها تفاصيل حياة المجتمعات والدول،ومن هذا المنطلق نعتقد بأن تطوير آليات التعاون الاقتصادي، يشكل مدخلا واعدا في سبيل تطوير عمل الجامعة وأهدافها المرجوة،وبالتأكيد يعتبر النموذج الأوروبي رائدا في ذلك رغم الفوارق بين الدول العربية والدول الأوروبية.

الإستراتيجية الأمريكية تجاه العراق وخلفيات الاتفاقية الأمنية













الإستراتيجية الأمريكية تجاه العراق وخلفيات الاتفاقية الأمنية

أ.د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية
في كليتي الحقوق بالجامعة اللبنانية والعربية


دراسة مقدمة الى مركز باحث للدراسات
ولمؤتمر العراق والاتفاقية الامنية الامريكية – العراقية
المنعقد في بيروت 24 - 25 /5/2009







ستظل منطقة الخليج ولعقود قادمة مركز شدٍّ وجذبَّ دوليين للعديد من الاعتبارات والأسباب المتنوعة، منها الاقتصادي ومنها الجيو سياسي، ومنها الحضاري والثقافي.باختصار، شهد التاريخ السياسي لمنطقة الخليج الكثير من المتغيرات كانت نتيجة تداخل وتشابك المصالح الإقليمية والدولية في منطقة تعتبر من اشدِّ المناطق حساسية في العالم.
فمن الناحية الاقتصادية تختزن منطقة الخليج أكثر من نصف احتياط العالم من البترول والغاز،فيما تشكل صادراته من هاتين السلعتين الإستراتيجيتين حوالي ثلثي استهلاك العالم،الأمر الذي يُنظر إليه على انه حجر الأساس لمكونات الاقتصاد العالمي،إن لجهة التصدير أو استيراد المنتجات العالمية، بدءا من الغذاء وصولا إلى السلاح.ومن هذه الزاوية بالتحديد سعت معظم الدول الفاعلة على المستوى الدولي تركيز وتفعيل مكوناتها السياسية والاقتصادية باتجاه هذه المنطقة بالتحديد سعيا لتسويق ما تعتبره أساسا لحضورها الدولي واستمرار يته.
وإذا كان الاقتصاد يعتبر عصب السياسة الدولية،فإن العامل الجيو سياسي للمنطقة وبخاصة العراق، لا يقل أهمية عن أي عامل مؤثر في عمليات الجذب الدولي تجاهها. فالمنطقة وإن تقع في القارة الآسيوية إلا أنها تشغل حيزا هاما من المجال الحيوي لأهم التجمعات والمنظمات الإقليمية الواعدة في المنطقة؛ فهي على تخوم الولايات الأوروبية المتحدة، كما في جنوب روسيا والدول الإسلامية المستقلة عنها، وتأتي يسار دول إقليمية عظمى تتطلع إلى لعب ادوار فاعلة على المستويين الإقليمي والدولي كالصين واليابان والهند،وتقع في غرب القارة الأفريقية التي تعتبر مركز جذب قوي للدول الفاعلة باتجاه الخليج نفسه.وإذا كان الموقع الجغرافي يتخذ هذه الصفة من الأهمية؛ فإن تحكّم بعض دول المنطقة ببعض الممرات والمضائق البحرية تعطي منطقة الخليج صفة أكثر حساسية وموضعا للاهتمام المباشر في السياسات الدولية،ومثال ذلك مضيق هرمز ومضيق باب المندب اللذان يعتبران صمام الأمان لسياسات تدفق النفط إلى الغرب.إضافة إلى ذلك تعتبر منطقة الخليج نقطة الوسط والارتكاز نحو التوسّع لأي سياسات حالمة على المستوى الدولي،وهذا ما فعلته الإدارة الأمريكية من الناحية العملية عن تنفيذها لعملية احتلال العراق، إذ هدفت أن تكون هذه المنطقة بالتحديد المرتكز الرئيس لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يمتد من المغرب العربي إلى اليابان والفيليبين واندونيسيا، على أن يكون الخليج قلب وعصب هذا المشروع من خلال التحكّم بالرئة التي يتنفس منها العالم وهو النفط.
جانب آخر لا يقل أهمية عمَّا سبق في منطقة الخليج وهو البُعد الحضاري - الثقافي للمنطقة.ففيها مهبط الديانات السماوية،وفيها موئل وموقع حضارات سادت ثم بادت، وتركت أثرا بعد عين من الأفكار والمعتقدات عممتها في غير اتجاه من العالم وتركت بصمات لا تمحى من مآثر الإنسانية في الفلسفة والقوانين الوضعية وغيرها،وإذا كانت منطقة الخليج قد شكّلت قلب الاقتصاد العالمي فإنها أيضا بهذا الجانب قد شكّلت عقلا وفكرا لمخزونات ثقافية من الصعب تجاهلها.
ربما الحديث يطول عن منطقة الخليج بطول حضاراتها الضاربة في عمق التاريخ وجغرافيته، لكن ما يمكن اختصاره أن هذه المنطقة كانت وستظل لوقت ليس بقصير الوجهة التي تبحث عنها كل دولة طامحة، والموقع الذي تتمناه كل دولة طامعة.في كلا الحالتين أدركت الإدارة الأمريكية أن لا مفر ولا مناص من حكم العالم إلا عبر بوابة الخليج وهذا ما فعلته باحتلالها للعراق.
ولهذا أولت إدارة الرئيس الأمريكي السابق،جورج بوش ، اهتماما لافتا لملف القضية العراقية، وطرحت برنامج العقوبات الذكية بهدف تضييق الخناق عليه واستنزاف قدراته وإمكاناته الاقتصادية. ففي شباط / فبراير2001، وجِّهت ضربة جوية "أمريكية – بريطانية"، ضدَّّ عدد من الأهداف العسكرية العراقية، كأولى تداعيات هذا البرنامج[1].
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001، أعلنت الإدارة الأمريكية "الحرب ضد الإرهاب" وبدأت أولى خطواتها بالحرب على أفغانستان، وأغراها نجاحها الجزئي في هذه الحرب، واعتمادها لإستراتيجية "الضربات الوقائية" أو "الإستباقية" بدلاً من "إستراتيجية الردع"، أن تكون العراق هي أولى الدول التي تطبق عليها هذه النظرية.وبتحقيق الاستقرار النسبي في أفغانستان سايقا، بدأت الولايات المتحدة في تصعيد الأزمة العراقية على المستوى الدولي، واتجهت للأمم المتحدة لتوفير الشرعية الدولية بما يخدم مخططاتها ، كما أعادت الولايات المتحدة، صياغة إستراتيجيتها العسكرية فيما عُرف باسم "الهيمنة الأمريكية" والتي تتحدد في خلق مستوى عال من التوتر يصل إلى مستوى الأزمة، والتي تؤدِّي بدورها إلى الصراع العسكري إن لم يستجب الطرف الآخر لمطالبها ، فعملت على إصدار القرار الدولي (1441)، من مجلس الأمن في تشرين الثاني / نوفمبر 2002، كما قامت بالضغط على مفتشي الأمم المتحدة لإدانة العراق، والتحرّك داخل مجلس الأمن للتأكيد على أن العراق لم ينفِّذ القرار (1441).وعندما فشلت في إصدار قرار جديد يتيح لها ضرب العراق، تجاوزت الشرعية الدولية، وقامت بالتعاون مع بريطانيا – خارج الأمم المتحدة – بغزو العراق في مارس/ أبريل 2003 بهدف فرض هيمنتها على دول المنطقة والسيطرة على مصادر النفط[2].

أولا : إستراتيجية الولايات المتحدة
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية عنوة على النظام الدولي ،استرشدت الإدارة الأمريكية بأفكار المحافظين الجدد لتأكيد سطوتها على باقي الدول والشعوب،وان القراءة الدقيقة لوثيقتي إستراتيجية الأمن القومي الصادرتين في العامين 2002 و 2006 توضح العديد من الرؤى الإستراتيجية التي حاولت فرضها على العالم وأبرزها:
- اعتماد مبدأ "الحرب الوقائية"[3] في التعامل مع الأخطار، بدلا من سياسة الردع النووي، والدفاع الذاتي (العراق نموذجا).
- تدويل "الحرب على الإرهاب" وجعلها في صلب الدبلوماسية الأمريكية، حيث تتحكم بمستوى العلاقات مع الدول الأخرى والمساعدات ودرجة التعاون الاقتصادي، إلى جانب المزج بين الحرب الوقائية والإرهاب (أفغانستان نموذجا).
- فرض الهيمنة الاقتصادية من خلال التحكّم بمسار الطاقة والنفط على المستوى الدولي (محاولة الهيمنة على فنزويلا، السيطرة المطلقة على نفط الخليج، تطويق منابع النفط في بحر قزوين، احتلال العراق والسعي للإمساك بنفطه عبر الاتفاقية الأمنية)[4].
- إعادة النظر في تركيبة مجلس الأمن ونظام عمل الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الكبرى[5]، بما يؤدي إلى منح الولايات المتحدة سلطة "حق النقض" الخاصة بها، دون باقي الدول الأربع الكبرى التي تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن (يلاحظ خفايا الصراع بين واشنطن ومحور "باريس - برلين" في بعض الفترات).
- إعادة النظر في الخارطة الجيو - سياسية في الشرق الأوسط، بما يتيح تفكيك بعض الدول المركزية في الشرق الأوسط وتمكين دول الأطراف من لعب دور مركزي بحماية أمريكية في مواجهة الدول الرئيسة في النظام الإقليمي العربي، وتساهم تلك الصراعات التي تمَّ نقلها من مستوى منخفض إلى مستوى عالٍ في شلِّ عمل مؤسسات النظام الإقليمي العربي وبخاصة جامعة الدول العربية والمنظمات المتفرعة عنها لصالح البديل الأمريكي.
- الهيمنة على العراق وجعله نقطة الانطلاق المركزية في التحرك الإستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط[6]، في مقابل توقّع حالة من عدم الاستقرار في منطقة الخليج خلال عملية تفكيك بعض الدول وإعادة تركيب أنظمة حكم جديدة (كما يحدث في لبنان والعراق والسودان).
- تفكيك بعض مؤسسات المجتمع المدني في الدول العربية، التي تتعارض مع الأجندة الأمريكية لصالح دعم مؤسسات وهيئات تتوافق مع الرؤية الأمريكية تحت غطاء الليبرالية (نموذج ما يحصل في مصر والأردن ودول الخليج).
- إعادة النظر في تركيبة الحلف الأطلسي ومبدأ الشراكة مع أوروبا، بما يضمن للولايات المتحدة دورا مميزا في الحالة الأوروبية، ويتيح لها استخدام العامل الاقتصادي الأوروبي في تخفيف العبء الواقع عليها في المساعدات الخارجية، وبخاصة مناطق النزاع، ما جعل بعض الأوروبيين يعتبرون أنهم تحولوا من "حلفاء" إلى "أتباع"[7]، ومن "شركاء" في حصد المنافع، إلى "أُجراء" لا يتلقون من المنافع الكبرى سوى الفتات (يلاحظ أن أهم دولة حليفة لواشنطن في حربها على العراق بريطانيا لم تحصل إلا على عقود يسيرة لشركاتها).
أما لجهة أسباب الإخفاقات التي منيت بها الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الخارجي فتظهر بالنقاط التالية:
- اعتماد إدارة بوش إستراتيجية للتعامل مع الصراعات لا تحظى بالإجماع سواء داخل الولايات المتحدة، أو على صعيد الدول الغربية، التي تعتبر أن مبدأ "الحرب الوقائية"[8] لا يخدم في نهاية المطاف النظام الرأسمالي ومصالحه الحيوية في المنطقة العربية، وبدا واضحا أن عددا من الأصوات ارتفعت في الغرب لتحذر من أن الاندفاع الأمريكي غير الواعي ستكون له آثار بالغة على مستقبل العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب من ناحية إحياء عوامل التوتر بينهما، كما أن من شأن ذلك أن يقّوّض الدعم الذي حظيت به الحرب الأمريكية على "الإرهاب".
- تجاهل إدارة بوش لحلفاء الولايات المتحدة التقليديين في أوروبا، ما ساهم في نشوء محور "باريس - برلين - موسكو" الذي استطاع الحيلولة دون حصول واشنطن ولندن على تفويض من مجلس الأمن لشنّ حرب ضد العراق، وبدا أن تلك الحرب تمّت دون غطاء قانوني أو أممي. وأدى ذلك التجاهل في نهاية المطاف إلى إحداث شرخ في العلاقة بين ضفتي الأطلسي.
- اعتماد الإدارة الأمريكية على "التضليل" الإعلامي لتمرير خططها وبرامجها العسكرية والأمنية والتسلّحية، ورغم أن ذلك ساهم إلى حدّ ما في التأثير على حركة الرأي العام الأمريكي لبعض الوقت، غير أن الدلائل تشير إلى أن تأثير الدعاية التي حشدت لها إدارة بوش كل إمكاناتها،تراجع خاصة بعد الفشل في تقديم أدلّة حسيّة على الاتهامات التي تمَّ من خلالها تبرير الحرب على العراق، وتتعلق تحديدا بأسلحة الدمار الشامل، التي تبيّن أنها قامت على أسس ملفقة.
- إصرار المجموعة المهيمنة على القرار داخل الإدارة على خوض سلسلة من النزاعات في آن معا، وطرح مجموعة خطط تغييرية على المستوى الدولي من غير أن تتوفر لديها الكفاءة والقدرة على إدارة صراعات متعددة في وقت واحد، دون حلفاء أو شركاء فعليين. ومن ذلك تصعيد الأزمة مع العراق ثم احتلاله، وتصعيد الأزمة مع كوريا الشمالية وإيران وسوريا والفلسطينيين والعدوان على لبنان، إلى جانب استمرار المواجهات في أفغانستان، ثم السعي إلى تغيير نمط العلاقة مع الدول الأوربية، وتركيبة مجلس الأمن وأداء الأمم المتحدة، ومحاولة التأثير على المنظمات الدولية، ومن بينها محكمة جرائم الحرب في لاهاي.
- طرح الإدارة الأمريكية خططا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان[9]، تتناقض عموما مع تشهده الولايات المتحدة من إجراءات وتدابير بحق الأقليات وبخاصة المسلمين، الذين يتعرضون للاضطهاد بسبب انتمائهم الديني أو العرقي، إضافة إلى ما يحدث في معتقل غوانتانامو وأبو غريب وصولا إلى السجون الطائرة، ما نزع السند الأخلاقي، الذي ارتكزت عليه الإدارات الأمريكية عند تقييمها للأوضاع الداخلية في الدول الأخرى، وبخاصة ما يتصل منها بأوضاع حقوق الإنسان.
- الاستخدام المفرط للقوة في مواجهة قوى ضعيفة من الناحية العسكرية[10]، كما حدث في أفغانستان ومن ثمَّ في العراق، حيث لجأت الولايات المتحدة لاستخدام كميات هائلة من الأسلحة والصواريخ المدمرة، وكان غالبية ضحاياها من المدنيين، ما حدَّ من مستوى التأييد الذي يمكن أن تحظى به حملات عسكرية من هذا القبيل، وساهمت بعض وسائل الإعلام في كشف الآثار الإنسانية القاسية للاستخدام المبالغ فيه للقوة من جانب الأمريكيين، ما دفع واشنطن في بعض الأحيان لمحاولة إسكات وسائل الإعلام التي تتباين مع سياساتها.
- الربط بين الخطط العسكرية والمنافع الاقتصادية التي تعود في الغالب لصالح شركات لها صلة بكبار مسؤولي البيت الأبيض ووزارة الدفاع، ما راكم الإحساس لدى قطاع واسع من الرأي العام بأن الحروب التي تشنّها إدارة بوش وثيقة الصلة بأطماع بعض الشركات الكبرى لجني المال، ولا شك أن طريقة توزيع العقود في العراق تعزز تلك الشكوك.
ثانيا : وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2006[11]
صدرت وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي بطبعتها المزيدّة وغير المنقحة إذا جاز التعبير للعام 2006 ، وبدت كأنها قد مزجت أفكارها وطروحاتها بجنون العظمة والتفوق، فالإستراتيجية سعت وبكل توكيد وتأكيد على أن تجعل العالم بأسره عجوة طرية تلوكها قبضة القوة والقهر الأمريكيتين.
فقد مضت أربع سنوات من الممارسة التسلطية والقهرية في ظل الإعلان الإمبراطوري الأول عام 2002 ،وبات واضحا أن محفزات ودوافع المضي قدما على نفس المنوال أكبر بكثير من المثبطات ودوافع التباطوء، فبرز جنون العظمة واضحا في الإستراتيجية الجديدة؛ لذا قال الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج بوش، في خطاب إعلانه عن الوثيقة "إننا نسعى إلى تشكيل العالم، وليس مجرد أن يشكّلنا هو، وأن نؤثر في الأحداث من أجل الأفضل، بدلا من أن نكون تحت رحمتها".
الجديد في الإستراتيجية الثانية كماً ونوعاً متواضع إذا ما قورن بإستراتيجية العام 2002، ورغم ذلك لم تفتقد التميّز عن سابقتها ، ذلك بالتفصيل الذي ألمَّ بعناصرها وبنودها وأفكارها والإكثار من سرد الأمثلة، فيما يختص بأي منها، لذا جاءت ضعف الأولى حجما (54 صفحة)، إذ لم تترك إقليما أو دولة إلا واستعرضت أحوالها ورصدتها بدقة متناهية، ومن ثمَّ أخذت تُسدي النصح وفي نفس الوقت تنذر وتتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور.
وتزامن صدور الوثيقة مع تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية،كونداليسا رايس، واعترافها بآلاف الأخطاء في العراق ورغم ذلك أتت الوثيقة لتقارب وتؤكد مقولات الساسة الأمريكيين أجمعين بين الوقت المستقطع للوثيقتين،وكأن هضما للدروس غير المستفادة من ممارسات الفترة ذاتها قد أثّرت بمن صاغها، فتمَّ وصف الإستراتيجية الجديدة بأنها "مثالية فيما يتعلق بالأهداف وواقعية فيما يتعلق بالوسائل" وهي إشارة واضحة إلى الوضع الأمريكي في العراق تحديدا بعد حوالي ثلاث سنوات على احتلاله.
فكررت الإستراتيجية المبدأ المعروف أن "أمريكا في حالة حرب" وكأنها تكرر أيضا مقولة جورج بوش بالرسالة السماوية التي بُعث بها لدحر الإرهاب أفرادا ودولا وجماعات، وبالطبع "لنشر الديمقراطية ودعمها في كل ثقافة وأمة... ذلك للحفاظ على أمن الشعب الأمريكي" ، كيف لا وان الأمة الأمريكية تعرّضت لأسوأ صفعة في تاريخها وفي عقر دارها في 11 أيلول / سبتمبر 2001، الأمر الذي يتطلب حكما "البقاء في حالة هجوم، وهزيمة الإرهابيين خارج الأراضي الأمريكية حتى لا نضطر لمواجهتهم على أرضنا" إنه التوكيد مجددا ودون تبرير للحروب الاستباقية أينما كان وفي أي زمان،وهذا ما تمّ لاحقا في العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006 والعدوان على غزة 2008 كجزء مُكمل ومُضاف لتداعيات احتلال العراق.
لتلك الأهداف جعلت من الولايات المتحدة في حالة الجهوزية التامة لمن يصوِّب عليها، فبداية كانت حرب "طويلة كالتي خاضتها إبان الحرب الباردة، ومثلما تُوِّجت في النهاية بالانتصار على عقيدتي الشيوعية والفاشية"، فالايديولوجيا التي تهدد (أمريكا) هي أيديولوجيا لا تنطلق من فلسفة علمانية وإنما تأسَّست على إيديولوجيا شمولية ركيزتها تحريف ديانة (الإسلام) قد تختلف في المنطلق عن أيديولوجيا القرن الماضي ولكنها تتفق في المضمون "عدم التسامح، والقتل، والإرهاب، والاستعباد، والقمع".
إذن فنواة الإستراتيجية هي الحرب الاستباقية. وفي منتصف دائرة التصويب يقع الإسلام السياسي "فالصراع ضد الراديكالية الإسلامية المقاتلة هو الصراع الأيديولوجي الأكبر في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، ويأتي في وقت تصطف فيه القوى العظمى في جانب واحد في مقاومة الإرهاب".
وكما أسلفنا لم تأبه الإستراتيجية بكل الانتقادات التي وجهت للسياسة الأمريكية في الفترة الماضية، بل تجاهلت حتى انتقادات صانعي السياسات الأمريكية واعتبرت أن الإرهاب "ليس مرده القضية الفلسطينية – الإسرائيلية" ولا هو "ببساطة نتاج عداوات أثارتها سياسات أمريكا في العراق"، وكذلك"ليس ناتجا ثانويا عن الفقر"، وأيضا "ليس استجابة لجهود أمريكا لمنع الهجمات الإرهابية".
وتتابع الوثيقة لتنفي بشكل قاطع أن تكون الإدارة الأمريكية في حرب ضد المسلمين، وإنما تخوض معاركها في "الحرب على الإرهاب باعتبارها معركة أفكار وليست معركة ديانات"، حيث "يواجهنا الإرهابيون الدوليون باستغلال دين الإسلام العظيم لخدمة رؤيتهم السياسية العنيفة"وهي أيضا إشارة قوية وواضحة إلى حرف الانتباه عن حقيقة وطبيعة الصراع بين بعض القوى الإسلامية الممانعة والمقاومة للسياسات الأمريكية التي بدأتها باحتلال العراق وحاولت تعميمها لاحقا في لبنان وغزة.
عند تلك النقطة بالذاتن تتواضع الوثيقة لتسترشد بما سبق أن حذر منه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، طوني بلير، المارقين من المسلمين بالتزام "التيار العام للإسلام" أو Main stream Islam وهو الإسلام الذي يرضي الغرب ومن يخالفه فهو إرهابي، فتمنح الإستراتيجية نفسها الحق في وصف الدين الذي تحاربه "بالإسلام الراديكالي" الذي "يسوغ القتل، ويحرف ديانة الإسلام العظيمة وليَّها لخدمة الشر".وهنا للتذكير فقط بما ابتدعته مؤسسة راند بمقولة "الإسلام المعتدل" كمقاربة لما ينبغي أن يكون عليه الإسلام من وجهة النظر الأمريكية "السمحاء"ّ.
كما ذهبت الإستراتيجية إلى حد مد اليد على أحد أهم أركان مقولات الإسلام أي الجهاد ، "فالإرهابيون يشوهون فكرة الجهاد للدعوة لقتل كل ما يخالفهم من المرتدين والكفرة كالمسيحيين واليهود والهندوس وسائر الديانات الأخرى". ولذلك شرَّعت لنفسها أيضا فرض شجب المسؤولين المسلمين لـ "الأيديولوجية" التي تشوه وتستغل الإسلام بغية نهاية مدمرة"، ولكن بالطبع فإن من يقرر هذه الإستراتيجية يعرف ويدرك أن "الأكاذيب التي ترتكز عليها أيديولوجية الإرهابيين لاستغلال المؤمنين"، فلذلك لن يبخل الأمريكيين جهدا في "تمكين المسلمين المسالمين من ممارسة إيمانهم والتعبير عنه" وكان ينقص بعد تلك الفقرة التوضيح بأن هذا التمكين هو فقط سيؤمن للذين يأكلون ويشربون وينامون من دون أي إضافة أو تأويل لسلوك حياة ولو كان رتيبا.
ورغم تخلّي الإستراتيجية عن أسلوب التهويل، فقد استخدمت القوة الناعمة كاستعمال الإغراءات الاقتصادية والمداهنات الثقافية والدبلوماسية على وسائل أخرى بهدف نشر الديمقراطية والقضاء على الطغيان.ورغم ما سبق وأُعلن عن رغبة أمريكية في "استخدام مجال أوسع نطاقا من الوسائل" وصولا لأهداف الإستراتيجية، فقد أكدت الوثيقة على أهمية الدور الرئيس للقوة العسكرية الأمريكية حيث تقول الوثيقة: "بيد أننا عند الضرورة، ووفقا لمبادئ الدفاع عن الذات المعمول بها منذ وقت طويل، لا نستبعد استخدام القوة قبل أن تحدث الهجمات ضدنا، حتى في حالة عدم اليقين بشأن توقيت ومكان هجوم العدو" وهو تأكيد مرّة أخرى بأن الولايات المتحدة كانت وستبقى بحاجة إلى عدو وهمي لتثبت قوتها.
من ثمَّ تتوسع وثيقة 2006 بشكل واضح حول إطار الإستراتيجية الأصلي الذي تحوّلت بموجبه سياسة أمريكا من سياسة الردع والاحتواء التي تبنتها لعقود طويلة إلى سياسة أكثر عدوانية، تقوم على "مهاجمة الخصوم قبل أن يقوموا هم بمهاجمة الولايات المتحدة"، لذا لم يطرأ تغيير بالإستراتيجية المعدّلة إذ اكد بوش في خطاب إعلانها أنها "ستظل كما هي".
لقد سبق توقيت إعلان الإستراتيجية 2002 غزو العراق بستة أشهر تقريبا، والاتهامات الموجهة إلى إيران في وثيقة 2006 ، تتطابق والاتهامات التي وجهت لنظام الرئيس العراقي، صدام حسين، قبل غزو العراق ، فأمريكا بحسب الوثيقة لديها مخاوف أكبر من "النظام الإيراني يدعم الإرهاب ويهدد إسرائيل ويحاول نسف السلام في الشرق الأوسط وينكر على شعبه التطلع إلى الحرية". ولذلك وبكل بساطة تعتبر هذه الإستراتيجية رسالة قوية جدا لإيران مفادها أن واشنطن قد تستخدم القوة للقضاء على التهديد النووي الذي تشكله، إذ تشير بجلاء إلى إيران باعتبارها "أكبر خطر يمكن أن تشكله دولة بمفردها على الولايات المتحدة".
وثيقة الإستراتيجية الأولى تحدثت عن محور الشر "إيران والعراق وكوريا الشمالية"، أما الثانية فلم تركز على كوريا الشمالية واكتفت بأن عليها "تغيير سياساتها"، ثم بشيء من التوسّع وجَّهت أصابع الاتهام إلى خمسة "أنظمة دكتاتورية استبدادية" أخرى مثل سوريا وكوبا وروسيا البيضاء وبورما وزيمبابوي. كما تضمّنت الوثيقة صفحة كاملة خُصصت لتبرير الحرب على العراق، ويبدو أنه تحذير مباشر لإيران جاء فيه "ليس لدينا أدنى شك في أنَّ العالم سيكون أفضل حالا إذا أدرك الطغاة أنهم بامتلاك أسلحة دمار شامل سيتحملون عواقب ذلك".
لم توفر الوثيقة روسيا ولا الصين، فعلى الصين " أن تتصرف كدولة مسؤولة تفي بالتزاماتها وتضمن الحرية السياسية والحرية الاقتصادية"، وإستراتيجية أمريكا تسعى إلى "تشجيع الصين على اتخاذ الاختيارات الإستراتيجية الصحيحة لشعبها مع قيام الولايات المتحدة في نفس الوقت باحتياطاتها لكافة الاحتمالات الأخرى". كما نظرت الوثيقة إلى روسيا نظرة أكثر حذرا وشكا مقارنة بسابقتها 2002 عندما كان وهج التقارب بين بوش وبوتين لا يزال ساطعا. فقد ورد في الوثيقة عند الإشارة إلى روسيا: "إنَّ الاتجاهات الحديثة تؤشر للأسف إلى تقلص الالتزام الروسي بالحريات والمؤسسات الديمقراطية".
كما أوضحت الوثيقة أنَّ "أفريقيا تكتسب أهمية جغرافية – إستراتيجية متزايدة وتشكل أولوية في جدول أعمال الإدارة"، وتوجه تحذيرا إلى شعوب أمريكا اللاتينية "من الانسياق وراء الدعوات المضادة للسوق الحرة" في إشارة للرئيس الفنزويلي، هوغو شافيز.
غريب المفارقات أن الوثيقة التي التزمت في أول كلمة فيها بنشر الديمقراطية تعترف بأن "الانتخابات ليست كافية في حد ذاتها"، كما أنها تقود أحيانا إلى "نتائج غير مرغوبة"، تقول الوثيقة "فهذه المبادئ قد تعرضت للاختبار عندما فاز مرشحو حماس في الانتخابات التي عقدت في المناطق الفلسطينية".
أخيرا لولا فضول الباحث وحشريته العلمية لن يجد غضاضة في الهرب من قراءتها والتدقيق فيها، فهي نسخة ليست منقحة ولا مزيدة عن سابقتها بل صيغت بعبارات ومفردات حاول من أسس لها، إن يوحي جديدا،وإذ كنا منصفين في معرض الدرس والنقد فلا نجد حرجا في القول، أن الجديد فيها قول الولايات المتحدة من جديد، أن لا جديد لدينا سوى الحروب الاستباقية وصناعة الأعداء الوهميين كيف ونحن الذين نحتاج دائما للأعداء لإثبات قوتنا على من اضعف منا !.

ثالثا: من أفغانستان إلى العراق بذريعة الحرب ضد الإرهاب
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن تشكيل تحالف دولي لمكافحة الإرهاب، رافقه تأييد دولي لتشكيله ، وقد تجاوبت الدول العربية مع هذا التحالف بالرغم من حساسية العالم الإسلامي إزاء مهاجمة دولة إسلامية (أفغانستان)، كان الهدف من وراء ذلك هو أصابع الاتهام الأمريكي للعرب لاشتراك مواطنين من الدول العربية في أحداث 11 أيلول / سبتمبر، وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية في تطبيق إستراتيجيتها لمحاربة الإرهاب ضمن تحالف دولي وتأييد عالمي بالهجوم على أفغانستان، لاتهامها بإيواء منظمات إرهابية وبخاصة تنظيم القاعدة.
لكن سرعان ما تبيَّن لدول العالم أن الهجوم على أفغانستان لم يكن سوى المحطة الأولى في طريق طويل، ربما سبق التخطيط له منذ فترة، وكانت أحداث 11 أيلول / سبتمبر إشارة للبدء فيه. وكانت المحطة التالية هي العراق بخاصة والخليج بعامة[12]. ومن ثَمَّ، بدأت واشنطن تكيل الاتهامات التي تسوغ المضي في طريق الهجوم عليها، فحاولت الربط بين العراق والإرهاب عبر تنظيم القاعدة ولم يقتنع العالم، فكان اتهامها بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وبالتالي تهديد أمن الولايات المتحدة الأمريكية إذا أمدّت بها منظمات إرهابية متطرفة، ومن ثمَّ جاء قرار مجلس الأمن بتعيين لجان تفتيش للتأكد من وجود هذه الأسلحة في العراق من عدمه، ولم يظهر لهذه اللجان أي أدلة لوجود أسلحة دمار شامل.
ولم تقتنع الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تنتظر لإتمام لجان التفتيش لمهامها، وهنا سقط القناع عن وجه الولايات المتحدة، فالضربة العسكرية للعراق قادمة، بدون انتظار قرار من مجلس الأمن أو موافقة دولية، ونجحت أمريكا في تشكيكها بامتلاك العراق لهذه الأسلحة، إضافة إلى سبب آخر، هو تغيير نظام الحكم ، ومن ثَمَّ، كان الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله، ولم تكن هذه الحرب حرباً عادية، بل استخدمت فيها الإدارة الأمريكية أحدث أنواع الأسلحة، وأكثرها شدَّة وعنفاً وتأثيراً، حيث راح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين العراقيين الأبرياء.
وتعدُّ هذه الحرب كارثة إنسانية للعراق بكل المقاييس، كما لم تقتنع معظم دول العالم بالمسوغات الأمريكية لشن الحرب، حيث أن أمريكا هي التي أمدته بعناصر تصنيع هذه الأسلحة وعاونت بريطانيا أيضاً في ذلك، وبالرغم من قيام الهند وباكستان بتجارب نووية في وقت سابق، وامتلاك إسرائيل لبرنامج نووي شامل وأسلحة ذرية ، ومع ذلك ركَّزت الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً على العراق، وهذا بالطبع لأهداف أخرى غير معلنة، سواء للسيطرة على مصادر الطاقة في العالم، أو للوجود العسكري في هذه المنطقة الإستراتيجية الهامة من أجل إعادة رسم الخريطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط.وإضعاف العالم العربي لصالح أمن إسرائيل، وكسب موضع قدم داخل آسيا سواءً في الوسط أو الشمال على الحدود الروسية والصينية، والاقتراب من إيران وسورية استعدادا لاستئناف الطريق التي بدأته من أفغانستان للوصول إلى محطات ودول أخرى تمانع وتقاوم النهج الأمريكي، وكلها نوايا قائمة وأهداف غير معلنة للإستراتيجية الأمريكية المبنية على القوة والغطرسة والمصالح النفطية[13].
لقد أخذت الولايات المتحدة الأمريكية على عاتقها لعب دور الشرطي في العالم، لتحاسب بعض الدول في المجتمع الدولي طبقا لتصنيفها من "دول معادية" أو "دول محور شر" أو "دول مارقة" أو "دول حليفة"، وأخطر من ذلك ما أصاب العالم العربي من هزّات عنيفة، ظهرت أولى معالمها في تصريحات المسؤولين الأمريكيين بتوجيه التهديدات إلى كل من سورية وإيران، والتي عُدّت محطات تالية على طريق الولايات المتحدة الأمريكية تحت مظلة مكافحة الإرهاب.
لقد أثار السلوك الأمريكي العديد من التساؤلات، حول ما هي المحطات التالية بعد العراق؟ فالقوات الأمريكية منتشرة في الخليج على استعداد للتدخل في إيران، ويمكن استخدامها تجاه سورية، وثمة قوات في البحر الأحمر تتمركز في بعض الدول الإفريقية وشرقها ، ويمكن استخدامها في اتجاه السودان، ومن هنا أصبحت التهديدات واضحة تماماً وواقعاً ملموساً.وأصبح من الواضح أن العالم العربي معرّض للضربات العسكرية الأمريكية، بهدف إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة، بما يهدد الأمن القومي العربي، ويصب في مصلحة إسرائيل، وهنا برز التساؤل بالنسبة لمستقبل الأمن القومي العربي، وهل يستطيع العرب أن يطوّروا أنفسهم وأهدافهم السياسية والاقتصادية والأمنية بما يحقق مستقبلاً أفضل، في ظل هذه الهجمة الشرسة، خاصة ما يحيط بها من شبهة في تضمنّها أهدافاً عقائدية تهدد العالمين العربي والإسلامي؟، وهذا بالطبع يحتاج إلى جهود عديدة تتعلق أساساً بتوفير آليات جديدة لمنظومة النظام الإقليمي العربي[14].
وبذلك أصبح هناك خطورة كبيرة في شنِّ حروب تحت عناوين مكافحة الإرهاب، باعتبار أن الولايات المتحدة – وفقاً لمصالحها – تختار الدول التي توجّه لها الضربات الوقائية، بما يعني الاعتداء على سيادة الدولة في إطار مفهوم الحرب ضد الإرهاب، وقد يكون اختيار توجيه الضربة الوقائية تحت زعم امتلاك تلك الدولة للقدرات النووية والكيميائية والبيولوجية، ما يتطلب توجيه ضربة إحباط فورية، كما كان محتملا التوجه الأمريكي قائماً على توجيه ضربة وقائية نووية لتحقيق الحسم في القضاء على القوة العسكرية المعادية، فالخيار النووي مُتاح في الفكر العسكري الأمريكي.
وبناء عليه، عمَّ عدم الاستقرار الدولي، والقلق المستمر في توقّع توجيه ضربات وقائية إلى البنية الأساسية للدول المستهدفة، فقد أدى هذا المفهوم الأمريكي إلى أن يكون الحرب بديلاً عن السياسة بما يجعلها عملية مستمرة لا تتوقف، مع إمكان فرض أزمات على دول غير مرغوب في سياستها، وبذلك يفتح الطريق أمام توجيه الضربات الوقائية التي تعتبر أحد أساليب إدارة السياسة الخارجية.
وقد أصبح المجتمع الدولي بعد هجمات 11 أيلول / سبتمبر مهيئاً لإقرار سياسة "الهجمات الوقائية"، حيث منح مجلس الأمن الولايات المتحدة الأمريكية موافقة على القيام بأي عمل عسكري طبقاً للمادة (51) من الميثاق على أساس أن الهجمات كانت ضخمة للغاية، ومن ثَم، فإن واشنطن من حقها توجيه ضربة في إطار الدفاع عن النفس، وتنبع خطورة هذه السياسة على المستويين الدولي والإقليمي في الآتي[15]:
- على المستوى الدولي: إن الولايات المتحدة الأمريكية لها الحق بمفردها في توجيه ضربة وقائية ضد أي دولة تقرّر أنها تقوم بتطوير أسلحة الدمار الشامل أو تدعم الإرهاب، الأمر الذي يمثل ضوءاً أخضر لشنِّ حرب أمريكية ضدَّ أية دولة، أو ضدَّ أي منطقة في العالم ترى واشنطن أنها تهدد مصالحها، دون أن تحتاج لأن تثبت تورّطها في أعمال من هذا النوع، ومن ثمَّ فإنه في حالة القبول بتقنين سياسة الإجراءات الوقائية، فإن هيكل السلام الدولي سوف يتعرّض للانهيار؛ إذ يمكن لأية دولة، أن توجّه ضربة لدولة أخرى بحجة أنها شعرت بتهديد، مهما كان هذا التهديد بعيداً.
- على المستوى الإقليمي: أنه إذا كانت لإستراتيجية "الهجمات الوقائية" الأمريكية، هذه الخطورة على الساحة الدولية، فإن الأمر الذي لا شكَّ فيه هو أنَّ هذه الخطورة ستكون أشدُّ وأكثر فداحة على المنطقة العربية، ذلك في ضوء عاملين: الأول، استهداف الدول العربية من قبل بعض الدول، خاصة من الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي يمكن أن توجّه، في إطار هذه الإستراتيجية، الهجمات الوقائية ضد دول، ترى أنها تهدد أمنها، وفي مقدمتها سوريا من الدول العربية، وإيران من الدول الإسلامية.والثاني، يتمثّل في التراجع المستمر للثقل العربي سياسياً على المستوى الدولي، وهذا ما يتيح للولايات المتحدة الأمريكية الاستمرار في "تصفية الحسابات القديمة" مع دول بعينها داخل المنطقة.
رابعا : لماذا العراق بعد أفغانستان؟
واقع الأمر لم يكن الغزو الأنغلو- أمريكي للعراق ساحقا فحسب، إنما كان أيضاً ضاراً ضرراً بليغاً بالمنطقة العربية ومن مختلف الجوانب وعن ذلك كتب توماس فريدمان، في صحيفة نيويورك تايمز[16] عن ذلك قائلاً: "إن السبب الحقيقي للحرب الأمريكية على العراق ناشئ من حاجة أمريكا بعد أحداث أيلول / سبتمبر2001، إلى إرضاء النزوع إلى الانتقام بالضرب في قلب العالم العربي والإسلامي"، ومن هنا كان اختيار العراق هدفا مركزيا.
كما كانت مشاهدة بغداد تحترق، تمثّل تجربة صادمة لمعظم العرب، وهي تعادل شعور الغربيين ما إذا دُمِّرت رموز حضرية مثل باريس أو روما أو فيينا، فاسم بغداد، يعني موطن الحضارة الإسلامية، فبغداد ظلت على مدى عدة قرون، مدينة لا نظير لها في العالم.فكانت حرب عام 2003 على الجانب الخاص بالعلاقات العربية ـ العربية والنظام الإقليمي امتدادا وتعزيزاً وتصعيداً لآثار حرب عام 1991.
اقتصاديا، حين كان أركان إدارة جورج بوش "تشيني، ورامسفيلد "خارج دائرة صناعة القرار، عكفوا على إعداد "مشروع القرن الأميركي الجديد"، ثم وضعوه على أمام الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، مطالبين بضرورة تغيير النظام العراقي، في إطار تأمين أحد أهم مصادر إمداد الولايات المتحدة بالنفط، من منظور يتجاوز الاحتياجات الآنية، إلى تأمين استحقاقات المستقبل على مدى القرن الواحد والعشرين وما يليه.
وبعد أن أصبح جورج بوش الابن، رئيسا للولايات المتحدة، وأصبح من كانا خارج الضوء ، صانعا للأحداث ، قدَّم تشيني - نائب الرئيس بوش، ورجل الإدارة القوي - تقريرا شدَّد فيه على العلاقة بين الأمن القومي الأميركي وأمن الطاقة، وطالب بوش بمنح أمن الطاقة أولوية قصوى في رسم السياسات الخارجية على المستويين الاقتصادي والسياسي، ولم يلبث إيقاع الأحداث طويلا حتى بات في خدمة التوجّهات التي حملها تشيني وطاقمه - وفي المقدمة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وصاغت بالتالي التفكير الاستراتيجي لإدارة بوش.
جاءت إستراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي تمَّ إعلانها بعد عام من أحداث أيلول / سبتمبر لتربط بوضوح تام بين حتمية السيطرة على الموارد الأساسية للطاقة في العالم، وإبعاد المنافسين المحتملين عنها، وبالتالي ضمان استمرار الهيمنة الأميركية، وتشكيل النظام العالمي الجديد، بقيادة أميركية منفردة باعتبار الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة.
هكذا أصبح النفط شأناً لصيقاً بالنفوذ الدولي، وقيادة النظام العالمي، ولم يعد مجرد أمر يتعلق بضمان الرفاهية للشعب الأميركي فقط ، ولم يكن ما تضمّنته وثيقة إستراتيجية الأمن القومي، مفصولا عن إعلان أميركي صدر في أوائل الثمانينيات يؤكد على أن حدود الأمن القومي هي آخر قطرة نفط في آبار منطقة الخليج العربي ، وكان ذلك الإعلان أيضا غير مفصول عن التطورات الدراماتيكية في السبعينيات من القرن الماضي، والتي مثّلت تحدّيات واضحة لإمدادات النفط الواصلة للسواحل الأميركية، ومرّة أخرى، فإن تشيني ورامسفيلد تحديدا، لم يكونا بعيدين عن الدائرة، فكلاهما كان ضمن طاقم الرئيس الأميركي ، جيرالد فورد، في ذروة استخدام العرب لسلاح النفط، الأمر الذي كان له تداعياته وانعكاساته على رئاسة فورد، بل وعلى خروج الجمهوريين من البيت الأبيض في انتخابات العام 1976.[17]
إن "منطقة الخليج وما تحويه من كميات هائلة من احتياطيات النفط تجعل من الضروري أن تحتفظ الولايات المتحدة بحرية التدخّل في الإقليم والاستفادة من تلك الثروة النفطية الهائلة" هذا ما أكده أنتوني زيني القائد السابق للقيادة المركزية قبل وصول جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض، ثم جاءت الأحداث وتداعياتها لتقدِّم الفرصة المناسبة لتحويل الأقوال إلى أفعال، وإذا كانت عاصفة الصحراء بمثابة المقدمة، فإن ما حمله نحو عقد من الزمن قد مهَّد الطريق أمام صقور واشنطن في الإدارة السابقة لتحقيق الغاية النهائية بعد حياكة التفاصيل بهدف التوصّل إلى إعادة رسم الخرائط الجيو إستراتيجية بما يخدم قيادة الولايات المتحدة منفردة للنظام العالمي الذي تتشكل ملامحه، ويطمح هؤلاء الصقور أن تثمر جهودهم في السيطرة على إمدادات النفط الدولية في ضمان الهيمنة الأميركية على مدى القرن الحالي.
ولم تعد خريطة النفط، الآبار والإمدادات وتأمين الطرق، مسألة تقع ضمن اهتمام أباطرة صناعة النفط ودوائر التجارة والمال والاقتصاد خارج الإدارة وداخلها، بل بات النفط محل اهتمام دوائر الدفاع والأمن القومي والمخابرات والشؤون الخارجية، وكان منطقيا في ظل ذلك أن يتمَّ بناء جهاز دبلوماسية الطاقة في إدارة جورج بوش بهدف ترجمتها إلى قرارات تنفيذية ضمن تعاون وثيق بين الأجهزة المعنية ، وأن يتولّى رئاسة الجهاز الجديد مفوَّض له حرية الحركة في كافة أنحاء العالم، وتحت التوجيه المباشر لنائب الرئيس ديك تشيني ، الذي أحاط اتصالاته الخاصة بسياسة الطاقة بسياج من السرية.[18]
وعلى الرغم من كل محاولات إدارة جورج بوش في التقليل من الاعتماد على النفط العربي وبخاصة الخليجي ، فإن هذا الحلم بات في عداد المستحيل، من ثمَّ فإنَّ الهدف تحوَّل من السعي لتقليل الاعتماد على النفط العربي، إلى استهداف السيطرة على منابعه للتحكّم في تدفقه وأسعاره. فحسابات "جهاز دبلوماسية الطاقة" أكدت على عدة حقائق أبرزها:
ـ حقول نفط عديدة خارج دول أوبك نضبت أو سوف تنضب في مدى زمني قريب.
ـ رغم كل ما أشيع عن ضخامة نفط بحر قزوين، إلا أن الواقع ليس كذلك.
ـ الرهان على تحالف استراتيجي في مجال الطاقة مع روسيا لا يخلو من مخاطر.
ـ الاكتشافات النفطية في المناطق الجديدة يعيبها ارتفاع تكلفة الاستخراج، أو انخفاض جودة الخام.
ـ رغم أن أوبك لم تعد بالقوة السابقة إلا أنها ما زالت قادرة على التأثير في صناعة القرار النفطي على المستوى الدولي.
ـ مشروع جورج بوش للتنقيب في آلاسكا لا يواجه معارضة أنصار البيئة فحسب، لكنه يلقى معارضة من حزب الرئيس!
ـ فشل الرهان على بدائل النفط من مصادر الطاقة الأخرى في المدى المنظور. وحقائق ومعطيات أخرى تقود إلى استخلاص مهم لا يمكن الالتفاف حوله أو تجاوزه: إن الاستغناء عن النفط العربي بشكل عام، والخليجي بشكل خاص، والعراقي بدرجة أخص، أمر مستحيل.
ثمَّة حقيقة أخرى، أنَّ معظم الاحتياجات ولمدى زمني غير قليل سوف تكون من منطقة الخليج ولأكثر من سبب، فاكتشاف النفط وإنتاجه هناك أقل تكلفة من أي منطقة أخرى في العالم، ثمَّ أنَّ جودته عالية، ولا بديل مناسب، وقد جربت واشنطن الاستغناء تدريجيا عن وارداتها النفطية من الخليج، لكنها فشلت، وأدرك أركان الإدارات المتعاقبة قبل وصول جورج بوش الابن، أنَّ الاعتماد على النفط الخليجي حقيقة لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها.
أمَّا البديل فيتمثل في السيطرة،والهيمنة على مصادر الطاقة يبدأ من الخليج، والحلقة الأخطر في ذلك المخطط تبدأ من العراق! أمَّا لماذا العراق؟ فالأسباب كثيرة ومتنوعة أبرزها:
ـ يحتل نفط العراق المركز الثاني من حيث الاحتياطي العالمي بعد السعودية.
ـ المخزون الحقيقي أعلى بكثير من الأرقام المتداولة، مع جودته العالية.
ـ احتمالات الاكتشاف الجديدة هائلة، مع قلة التكلفة الإنتاجية.
ـ التوقعات ترشحه كآخر نفط ينضب في العالم.
والمحصلة النهائية تؤكد أن السيطرة على العراق تعني التحكم فيما يقارب نحو ربع إجمالي احتياطي النفط العالمي، ثمَّ أنَّ العراق بموقعه الاستراتيجي يجعل من يسيطر عليه ،يسيطر على ثلثي الاحتياطي العالمي للنفط الذي يتركز في الخليج العربي.
ولعلَّ ذلك يضمن للولايات المتحدة تحقيق أكثر من هدف جزئي في سياق هدفها الأساسي:
ـ السيطرة على نفط العراق تقلل من اعتماد واشنطن على النفط السعودي.
ـ السيطرة على ثروة نفطية بهذا الكم تساعد على التحكّم في أسعار النفط، ومن ثمَّ الحد من تأثير"أوبك"، وفي تهميشها كمرحلة أولى.
ـ التأثير بقوة في المصالح الاقتصادية للقوى الطامحة في لعب دور في النظام الدولي، عبر التحكّم في إمداداتها من النفط الخليجي. فالسيطرة على العراق حرباً كانت أو سلماً تمثل الحلقة الأخطر في مخطط الهيمنة على مصادر الطاقة، عبر التأثير في الاقتصاد العالمي لعقود عديدة قادمة.

ثالثاً : 11 أيلول / سبتمبر والحرب ضد الإرهاب بغزو العراق
أتاحت أحداث 11 أيلول / سبتمبر أكثر من أي أمر آخر لمجموعة المحافظين الجدد الذين تولّوا مواقع رئيسة للسلطة في إدارة جورج بوش، أن تأخذ الولايات المتحدة الأمريكية للسير في مسار جديد في النظام الدولي، وقد حذَّر الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، من هذه المجموعة في مقال بصحيفة "واشنطن بوست"[19] قال فيها: "يبدو أن مقاربات جديدة تتطور مع مجموعة محورية من المحافظين، الذين يحاولون أنَّ يحققوا طموحات طال انتظارهم لها تحت غطاء الحرب المعلنة ضدَّ الإرهاب". لكن مثل هذه التحذيرات أخفقت في ثني الإدارة الأمريكية عن شنِّ حربها على العراق، التي كانت قد تقرَّرت بالفعل.
لقد فتح الغزو الأمريكي للعراق، الباب أمام تساؤلات عدّة حول الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة، ويأتي في مقدمة هذه التساؤلات: هل خرجت الولايات المتحدة في حملة صليبية لتغيير خريطة المنطقة، وخلق شرق أوسط جديد؟، وهل هدف الولايات المتحدة الهيمنة الكلية على نفط الخليج؟، وهل شنّت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الحرب خدمة لحليف إقليمي، هو إسرائيل؟. وهل هذا ما عناه بول وولفويتز حينما قال "إن العراق ليس يعني العراق فحسب"[20].
وبالطبع فإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية، قد شنَّت الحرب على العراق لا لتجلب الديمقراطية إلى شعبه، والتفسير العقلاني الوحيد، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت مدفوعة بأمرين هما: النفط وإسرائيل، وهو ما برز في عدة أمور من بينها[21]:
- إعلان الولايات المتحدة الأمريكية أنها ستبقى في العراق لمدة طويلة، حتى تنجح في إقامة نظام حكم ديمقراطي مستقر وصديق لها، وحتى عندما تفكّر في الخروج من العراق، فإنها ستترك قواعد عسكرية لها في كافة أنحاء العراق.
- توريط كل من إيران وسوريا في الحرب الأهلية داخل العراق، وبما ينشأ وضع جديد، يتيح للولايات المتحدة الأمريكية التدخّل ضدَّ هاتين الدولتين، أو استدراجهما لأزمات تؤدي إلى شنِّ الحرب ضدَّ أي منهما، مع إعطاء أسبقية لتدمير البرنامج النووي الإيراني.
- إنَّ احتلال العراق، سيضعف من المركز التفاوضي للفلسطينيين ومؤيديهم من العرب بدرجة كبيرة، ومن ثمَّ يصبحون على استعداد للتخلي عن قدر كبير من حقوقهم التاريخية والتراجع عن مواقعهم السابقة.
- العمل على إضعاف النظام الإقليمي العربي، وشلِّ القدرة على تبنّي عمل عربي مشترك.
- عندما احتل الأمريكيون العراق لم يقضوا على النظام فقط، بل قضوا على الدولة العراقية نفسها، فقد فككوا الدولة العراقية وأنهوها، وحلّوا الجيش وقوات الأمن، وسمحوا بنهب الإدارات الحكومية وحرقها، وبذلك أنهوا الدولة العراقية ليحاولوا إعادة تشكيلها كما يريدون، فكل ما قيل قبل الحرب عن أسلحة دمار شامل، تبيّن للعالم كله كذبه، وأن لا أسلحة دمار شامل بالعراق، وهو ما يوضح عدم صدقية الرئيس جورج بوش في خطابه للاتحاد في كانون الثاني/ يناير 2003، وكذب التقرير الذي قدمه وزير الخارجية، كولن باول، لمجلس الأمن عن أسلحة الدمار الشامل بالعراق في شباط / فبراير 2003.
رابعاً : العقيدة العسكرية الأمريكية والهدف الحقيقي للحرب
يتلخص الهدف الحقيقي للحرب من وجهة النظر العسكرية الأمريكية في العديد من الأوجه ابرزها[22]:
1 - تأكيد سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها على النظام العالمي الجديد، وصياغة مبادئ لهذا النظام تضمن سلامة الولايات المتحدة الأمريكية وأمنها في ضوء أحداث أيلول/ سبتمبر 2001، وكان العراق هو الوسيلة التي حدَّد من خلالها "بوش الأب" بداية نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة عام 1991[23]، فقد كان العراق أيضاً هو الوسيلة التي يعلن من خلالها "بوش الابن" هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على مقدرات العالم عام 2003.
2 - إن اختيار العراق هدفاً، المقصود منه التطبيق الأمثل لقدرة النظام العالمي للتعامل مع الدولة المناوئة، ولا سيما تلك التي تقع في مراكز الثقل من العالم، وربما تتضح صورة ذلك من خلال العديد من الإشارات التي أرسلت قبل الحرب وبعدها، منها:
- مبادرة كولين باول وزير الخارجية الأمريكي عن تحقيق الديمقراطية في دول الشرق الأوسط والتي طرحها في كانون الأول/ ديسمبر 2002، وأشار فيها إلى أن أنظمة الشرق الأوسط أدَّت إلى تصاعد الإرهاب.
- تعدّد الإشارات من المسؤولين الأمريكيين عن "دول الشر" و "الدول المناوئة"[24]، وربمَّا كانت الإشارة الأوضح التهديدات التي وُجِهت إلى سوريا في أعقاب النصر العسكري الأمريكي البريطاني في العراق، ومقولة باول: "على سوريا أن تقدر أن نظاماً جديداً نشأ على حدودها، وأنَّ أوضاعاً جديدة حدثت في المنطقة".
- إعلان الهند وباكستان عودة العلاقات بينهما، والتفاوض لإنهاء نزاع دام أكثر من نصف قرن.
- الاستجابة المتدرِّجة من كوريا الشمالية للشروط المملاة عليها من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت ترفضها تماماً في السابق أثناء اشتعال أزمة العراق.
- إعلان وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفليد، سحب قواته من السعودية قائلاً "إن قواتنا لن تبقى في دول لا تتمنى وجودنا"، ثمَّ إعلانه المفاجئ نقل القيادة الجوية الأمريكية من قاعدة الأمير سلطان من السعودية إلى دولة قطر.
3 - تأكيد السيطرة على المنطقة، وما حولها، حيث أنَّ العراق يشكل منطقة إستراتيجية مفصلية هامة تربط ما بين دول الخليج وتركيا، وهو الأقرب إلى دول آسيا الوسطى، ويمثل الحدود البرية مع كل من إيران وسوريا". وهي من الدول المناوئة التي يجب احتواؤها"، وهذا يعني احتلال العراق يكمل حلقة السيطرة على الشرق الأقصى والأوسط، ويحد من امتداد نفوذ كل من روسيا الاتحادية والصين، كما يحد من انتشار المصالح الأوروبية في منطقة الشرق الأوسط.
4 – إضافة إلى ذلك موارد العراق، ويأتي في مقدمتها النفط الذي يمثل 11% من حجم النفط العالمي، وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على نفط الشرق الأوسط، تعني تكامل العولمة الاقتصادية، ووضعها تحت سيطرة النظام العالمي الجديد إلى جانب السيطرة السياسية والعسكرية.
5 - إن الولايات المتحدة الأمريكية عندما كانت تتوجه للحرب ضد العراق، كانت تعلم أن الانتصار الأكبر، هو الانتصار على القوى العالمية، التي تحاول أن تجد لنفسها مكاناً في قمة النظام العالمي الجديد، فهناك الاتحاد الأوروبي الذي تتعاظم قوته، وروسيا التي تُسرع في اعتلاء مكانة مناسبة، وهناك الصين التي تحاول بناء قوتها العالمية في خطوات ثابتة.
6 - قيام الولايات المتحدة الأمريكية باتخاذ العديد من الإجراءات في إطار تنفيذ إستراتيجيتها، الهادفة لتحقيق الهيمنة في إطار النظام العالمي الجديد، ومنها على سبيل المثال:
- الإطاحة بالشرعية الدولية، من خلال تهميش دور مجلس الأمن، الذي حاولت دول "الضد" استغلاله في عدم تمرير قرارات تعتمد عليها الولايات المتحدة كذريعة للحرب.
- الاكتفاء بتحالف محدود عوضاً عن تحالف دولي كبير على نمط ما حدث في حرب الخليج الثانية، وكانت بريطانيا وأسبانيا، هما الدولتان الرئيستان في هذا التحالف.
- توجيه إنذار بعواقب وجزاءات سوف تتعرض لها الدول التي عارضت الولايات المتحدة الأمريكية في شنِّ الحرب.
7 - إشعار المواطن الأمريكي وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، أن الولايات المتحدة الأمريكية قوية وقادرة على تحقيق النصر في أي مكان من العالم وحماية أمنه، وأنَّ أي قوى تناوئ الولايات المتحدة الأمريكية لا بد من تدميرها.
8 - ضغوط لوبي التصنيع الحربي في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي تمكَّن من إنتاج كم هائل من الأسلحة الذكية ولا بد له من تصريفها حتى يواصل تطوير التكنولوجيا العسكرية، وكذلك تسويقها في أرجاء العالم، وهو عامل مؤثر.
خامسا : رائحة النفط قي الاتفاقية العراقية الأمريكية[25]
غريب المفارقات في الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية عدم ذكر كلمة النفط سوى ثلاث مرات في نص بلغ عدد كلماته حوالي الستة آلاف، والتي جاءت ضمن البنود الخاصة بالتعاون في المجالات الاقتصادية؛والأغرب من ذلك أيضا ما أثارته بنية الاتفاقية التي خلت من أي قسم خاص بهذا الموضوع الإستراتيجي، رغم تضمّنها أقساما عديدة لقضايا أقل أهمية.والمضحك المبكي ما ورد من إلزام الطرف الأمريكي نفسه بدعم جهود العراق بهدف استثمار موارده بهدف التنمية الاقتصادية والتنمية المستدامة، ذلك في نصوص تأويلية لا توضح ولا تحدد معنى الدعم ومجالاته وآلياته وكيفيته، خلافا لما جاء في أقسام أخرى ذُكرت فيها تفاصيل دقيقة يمكن الاستغناء عنها.
رغم ذلك، إن التدقيق في نصوص الاتفاقية يظهر ما اخفيَّ من مرجعية تحدد مصير النفط العراقي، وتمنع في نفس الوقت أية حكومة عراقية من التفكير في العودة إلى زمن التأميم.ويؤكد ذلك ما ورد في الاتفاقية عن التزامات عراقية تجاه النظام العالمي، وبخاصة الشريك الأمريكي. وكذلك ما جاء من نصوص بشأن صلاحيات الحكومة العراقية في مجال تنفيذ الاتفاقية نفسها. وبذلك تتيح الاتفاقية الفرصة للحكومة العراقية لشرعنة الإجراءات التي اتخذتها خلال السنوات الماضية بهدف ترجمة الرؤية الأمريكية المعلنة في الجانب النفطي، وكذلك على القوانين والقرارات والاتفاقات التي يمكن ان تصدرها أو تبرمها مستقبلا.ومهما يكن من تأويل وإبهام في النصوص ثمة اتجاهات ثلاث حددتها الاتفاقية.
- أولا، الإطار العام الذي يُنظِّم العلاقات الاقتصادية بين بغداد وواشنطن ، ولتحديد الآليات التي تحكم عمل الاقتصاد العراقي. ذلك عبر عدة مسارات متصلة منها: "بناء اقتصاد عراقي مزدهر ومتنوع ومتنام ومندمج في النظام الاقتصادي العالمي"، و"دعم جهود العراق لاستثمار موارده من أجل التنمية الاقتصادية المستدامة"، و"إدامة حوار ثنائي نشط حول الإجراءات الكفيلة بزيادة تنمية العراق"، و"تشجيع توسيع التجارة الثنائية من خلال حوار الأعمال التجارية الأمريكي العراقي وبرامج التبادل الثنائية مثل أنشطة الترويج التجاري، و"الوصول إلى برامج مصرف التصدير والاستيراد". ذلك يعني أن الحكومة العراقية ملتزمة بشروط المنظمات الاقتصادية الدولية، وبخاصة منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين ، لجهة تحرير التجارة ، أو فتح الحدود أمام الاستثمارات الأجنبية إلى داخل العراق، كما تعني أيضا أن الولايات المتحدة ستعطى ميزة الدولة الأكثر رعاية في المجالات المذكورة .كما يلاحظ أن الاتفاقية قد وفرت للطرفين العراقي والأمريكي آلية ثنائية لضمان ومراقبة تنفيذ ما جاء فيها، بما في ذلك ملف التعاون الاقتصادي، عبر لجنة تنسيق عليا تجتمع بصفة دورية، فضلا عن لجان مشتركة إضافية ستتشكل حسب ما تستدعي الظروف.وكجزء من تطبيق الرؤية الأمريكية للانفتاح الاقتصادي العراقي، سيكون ضخ النفط من العراق إلى مصافي التكرير في مدينة حيفا في فلسطين المحتلة جزءا من المشاريع المتوقع تنفيذها في ظل الاتفاقية؛بحسب ما ذكرته صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية، نقلا عن مسؤول في وزارة الدفاع من أنه سيتم نقل النفط من كركوك، حيث ينتج نحو 40% من النفط العراقي، عبر الموصل والأردن ليصل إلى "إسرائيل".
- ثانيا،خصخصة النفط بحجة التنمية، فالاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ في أول كانون الثاني/ يناير 2009، ستحرر السلطة العراقية من القيود التي فرضها مجلس الأمن طوال العقدين الماضيين، وبالتالي ستكون نظريا حرة في إدارة شؤون الدولة، وستمارس سلطانها الكامل على قطاع النفط.أما واقعيا، فتشكل الاتفاقية تتويجا لمجموعة الإجراءات والقرارات التي اتخذها الطرفان على الصعيد النفطي خلال السنوات الخمس الماضية، والتي تأسست على رؤية سلطة الائتلاف المؤقت التي حكمت العراق حوالي 14 شهرا بعد احتلال بغداد.وتقوم هذه الرؤية التي تبنتها مختلف التشكيلات الحكومية العراقية على ضرورة خصخصة العمل في مجال النفط، وعقد اتفاقيات لتقاسم الإنتاج لتطوير القطاع النفطي ، وإعطاء الأولوية إلى شركات النفط الأمريكية.كما أن الاتفاقية تتوافق مع ما جاء في الدستور العراقي، الذي ينص على أن "الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط سترسمان السياسات الإستراتيجية الضرورية لتطوير الثروة النفطية والغاز الطبيعي لجلب المنفعة الأكبر للشعب العراقي، اعتمادا على أكثر التقنيات تطورا فيما يخص مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار".وبحسب الأجواء التي أحاطت بإقرار الاتفاقية الأمنية في مجلس النواب العراقي، مقدمة لإقرار قانون النفط المتعثر ، والذي ينهي سيطرة الدولة على هذا القطاع، وينص بشكل صريح على فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية.
- ثالثا، تعطي الاتفاقية الأمنية الشركات الأجنبية، وبخاصة الأمريكية، فرصة الحصول على الحصة الأكبر من النفط الذي ازدادت تقديرات حجم الاحتياطيات المتاحة إلى 350 مليار برميل، ما يعادل ثلاثة أضعاف الاحتياطيات المؤكدة حاليا، كما أنه يتجاوز الاحتياطيات السعودية المقدرة بنحو 264 مليارا، والإيرانية البالغة نحو 137 مليارا.
إن تحقيق الأهداف والخلفيات غير المعلنة في الاتفاقية يتوقف على مجموعة عوامل متصلة بالوضعين الأمني والسياسي، فعدم الاستقرار الأمني وعجز الحكومة المركزية وقبلها قوات الاحتلال على حماية حقول النفط وأنابيبه تبقى مسألة مهمة في هذا الإطار.ومن الناحية السياسية، ستكون الخلافات بين السلطة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان حول شرعية قيام الأخيرة بتوقيع اتفاقيات منفصلة مع شركات أجنبية دون موافقة أو حتى إشعار وزارة النفط في بغداد، محددا رئيسا في تحديد حجم الاستثمار الأجنبي في حقول الشمال.كما أن التحدّي الآخر يظهر في عدم وضوح أوجه إنفاق عائدات النفط ؛ حيث يشك كثيرون في توجيه هذه العائدات لتمويل الاحتلال الأمريكي، فيما تصرُّ الحكومة على أنها ستخصصها للنهوض بالبنية الأساسية للبلاد، ولتحسين الخدمات العامة، وتسديد الديون الخارجية.
ثمَّة حديث يطول حول الاتفاقية بكافة جوانبها،إلا إن رائحة النفط المنبعثة من بين النصوص الأمنية تجعل العراق ومستقبله مرهون بشكل أساسي حول ما يحاك حول نفطه،فكيف سيتصرف العراقيون أولا؟ وكيف ستتصرف الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض مع الإرث الثقيل؟أم أنَّ الأمر سيان بين الجمهوريون الجدد والديمقراطيون الجدد؟.أسئلة ربما يصح الإجابة عليها في القادم من الأيام.



[1] - Anthony H. Cordesman (Author); Iraq and the War of Sanctions: Conventional Threats and Weapons of Mass Destruction, Praeger Publishers, (1999).
[2] - Milan Rai (Author), Noam Chomsky (Author); War Plan Iraq: Ten Reasons Against War with Iraq, W. W. Norton & Company, (2003),p98.
[3] - راجع لمزيد التفاصيل، سول لانداو، الإمبراطورية الاستباقية.. الدليل إلى مملكة بوش، شركة الحوار الثقافي، بيروت، 2005.ص ص 78-79.
[4] - لمزيد من التفاصيل حول السياسة الأمريكية تجاه نفط الخليج ،راجح حافظ برجاس،الصراع الدولي على نفط الخليج،بيسان للنشر والتوزيع والأعلام،بيروت،ط1 ،2000.

[5] - Dr Khalil hussein,International & regional organization,Dar Al Manhal Al loubnanee,(2006),P P 62 – 64.
[6] - للمزيد راجع محمد حسنين هيكل، الإمبراطورية الأميريكية والإغارة على العراق، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 2003.
[7]- International Politics And Society- Christoph BertramM ,Europe's Best Interest : Staying Close To Number One . January 2003 .
[8] - أشتون كارتر ووليام بيري ، الدفاع الوقائي.. إستراتيجية أمريكية جديدة للأمن، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة،ط 1، 2001.ص ص 33-34.
[9] - راجع خليل حسين،قضايا دولية معاصرة:دراسة في موضوعات النظام العالمي الجديد،دار المنهل اللبناني،بيروت، 2006،ص 332 وما يليها.
[10] - نعوم تشومسكي، الدول المارقة.. حكم القوة في الشؤون الدولية، دار الكتاب العربي، نينوى للدراسات والنشر، دمشق، ط 1 ،2003.
[11] - نُشرت هذه الدراسة لنا في صحيفة اللواء،بيروت، 18-4-2006.
[12] For more see Emirates Center for Strategic Studies and Research (Editor); Oil in the Aftermath of the Iraq War: Strategies and Policies, Emirates Center for Strategic Studies,(2006),p 83 - 84.
[13] - For more details see : Gerry Schumacher (Author), Steve Gansen (Editor); A Bloody Business: America's War Zone Contractors and the Occupation of Iraq ,Zenith Press,(2006),2nd ch.
[14] - راجع بهذا الخصوص خليل حسين،الجغرافيا السياسية،دار المنهل اللبناني،بيروت،2009،الفصل التاسع عشر،ص ص 267 – 291.
[15] - For more see: Jane Boulden (Editor), Thomas G. Weiss (Editor); Terrorism and the UN: Before and After September 11, Indiana University Press (2004),pp12-14.
[16] - New York Times;22-6-2003.
[17] فثمة ميراث عمره عقود ساهم بدرجة أو أخرى في صياغة التفكير الاستراتيجي لإعمدة حكم جورج بوش الابن، وبالتالي في صياغة مشروع القرن الأميركي الجديد، ثم وثيقة الأمن القومي الجديدة التي بلورت ما سمي بعقيدة جورج بوش.للمزيد راجع خليل حسين،النظام العالمي الجديد والمتغيرات الدولية،دار المنهل اللبناني، بيروت،2009،الباب الثالث.
[18] - هذا الأمر دعا إلى تحريك دعوى قضائية ضده من جانب مكتب المحاسبة بهدف دفعه للإعلان عن تفاصيل اتصالاته مع إصراره على الرفض، وادعاء أن تدخل المكتب المذكور يعد تطفلا على سرية مشاوراته في مجال الطاقة، بما يهدد الأمن القومي.والمثير للانتباه أنه ، بع أيام قليلة تمَّ إسقاط الدعوى القضائية ضد تشيني تحت ضغوط الجمهوريين بعد أن حصلوا على الأغلبية في الكونغرس خلال الانتخابات ، ليسجّل رجال صناعة النفط وصقور الإدارة نجاحا آخرا، وخطوة متقدمة على طريق تنفيذ مشروع القرن الذي يهدف إلى الهيمنة على مصادر الطاقة.

[19] - Washington Post ;9-5-2003.
[20] - راجع بهذا الخصوص:خليل حسين،العدوان الإسرائيلي على لبنان، الأبعاد والخلفيات،دار المنهل اللبناني،بيروت،2006،الفصل الأول،ص ص17 وما يليها.
[21] لمزيد من التفاصيل حول خلفيات وأهداف الغزو راجع:محمد حسنين هيكل،الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق،دار الشروق،القاهرة،ط 1 ،2003.
[22] - Center Of Military History (Author); American Military History, Kessinger Publishing, LLC, (2004),pp 121-122.
[23] - راجع خليل حسين،النظام العالمي الجديد ومستقبل العالم الثالث،مجلة مقاربات، المركز اللبناني للبحوث والتوثيق والإعلام،بيروت،العدد الأول،شتاء 1991.
[24] - For more see: Scott Taylor (Author); Spinning on the Axis of Evil: America's War Against Iraq, Esprit de Corps Books, (2003),pp 78 -79.
[25] - نشرت لنا هذه الدراسة في الخليج،الشارقة،16-12-2008.

عقوبة الإعدام والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان









عقوبة الإعدام والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان
د.خليل حسين
أستاذ المنظمات الإقليمية والعلاقات الدولية
في كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية


دراسة مقدمة إلى المؤتمر الأكاديمي القانوني الثاني
المنعقد في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية
صيدا : 24/4/2009





اختلف الفقهاء والمشرعون حول الإبقاء على عقوبة الإعدام أو إلغائها، وانعكس ذلك على مختلف دول العالم، فبينما احتفظت العديد من الدول بهذه العقوبة، ثمة دولاً أخرى قد ألغتها ولجميع الجرائم، في حين أن دولاً أخرى ألغتها لجميع الجرائم ما عدا الجرائم الاستثنائية كجرائم الحرب.وفي هذه الدراسة سأتعرض إلى هذه القضية وفقاً للمعاهدات والاتفاقيات الدولية الشارعة في مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان، كما سنتعرض لأهم النظريات الفقهية سواء القانونية أو الفلسفية التي تعرّضت لدراسة هذه المسألة الخلافية
أولا: مؤيدو عقوبة الإعدام
يستند المطالبون بالإبقاء على عقوبة الإعدام، على أنها وسيلة لحماية النظام والأمن في المجتمع، وباعتبارها عقوبة لا تُستخدم إلا لمواجهة فئة خطيرة في المجتمع، تهدد أمنه وبقاءه؛ لهذا يحرص المشرع على النص على هذه العقوبة، ردعاً للعتاة من المجرمين، وضمانا لحق الضحايا وعائلاتهم.وتستند هذه النظرية على أن من يقتل ظلماً لا بد من حماية حقوق ورثته. ما يستلزم معاقبه الظالم، وإلا صارت الحياة فوضى، واعتدى الناس بعضهم على بعض، وأن العدل يقتضي أن من يقتل غيره ظلماً وعدواناً ينبغي أن يعاقب بالقتل أيضاً لتكون ثمَّة مساواة وبالتالي تحقيق الردع؛ لأن القاتل الظالم عندما يعلم بمصيره إذا قتل، سيرتدع عن ارتكاب الجريمة، ويسود الأمان[1].وتستند حجج الإبقاء على الإعدام إلى عدة اعتبارات أهمها:
- تعرف عقوبة الإعدام على أنها وسيلة فريدة في فعاليتها وملاءمتها لمنع الجريمة والمعاقبة عليها. لذا نادت المدرسة الوضعية بالإبقاء عليها بوصفها وسيلة صالحة لتحقيق الدفاع الاجتماعي، وهو غاية العقاب.
- تفي عقوبة الإعدام بحاجات هامة للمجتمع من الصعب سدّها بطرق أخرى، سواءً نُفذت علناً أم حُجبت عن الأنظار وراء جدران السجن، فإن الحجة المستخدمة هي أن عقوبة الإعدام ضرورية، على الأقل مؤقتاً من أجل خير المجتمع.
- إن الحجة الأكثر شيوعاً لتبرير استخدام عقوبة الإعدام هي عامل الردع، وعقوبة الإعدام تحقق أقصى قدر من الزجر والإرهاب في النفس خشية سلب الحق في الحياة، وبالتالي فهي أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق أهداف الدولة، والمحافظة على نظامها الاجتماعي[2].
- حجة الإعجاز، وتتلخص في أنه ينبغي قتل المحكوم عليه للتأكد من عدم تكراره للجريمة.
- والى جانب حجج الردع والإعجاز، فإن حجة الجزاء تؤكد أنه يجب قتل مجرمين معيَّنين لا لمنع وقوع الجريمة، بل إرضاءً لمطالب العدالة.[3]
- ومن الأسباب التي تُستخدم لتبرير عقوبة الإعدام أنه من الأوفر ببساطة قتل سجناء معينين بدلاً من إبقائهم في السجن.
ثانيا: معارضو عقوبة الإعدام
تشكِّل عقوبة الإعدام، وفقاً لآراء العديد من المنظمات الدولية وفقهاء القانون الدولي، عقوبة في منتهى القسوة، واللاإنسانية، والإهانة. وهي عقوبة لا يمكن الرجوع عنها حال تنفيذها، ويمكن أن تُنزل بالأبرياء. ولم يتبين قط أنها تشكل رادعاً ضد الجرائم أكثر فعالية من العقوبات الأخرى.ويرى البعض أن عقوبة الإعدام هي الاسم الحكومي لكلمة القتل، فالأفراد يقتلون بعضهم بعضا، ولكن الحكومات والدول تُعاقب الأفراد بعقوبة الإعدام، وينبع مطلب إلغاء الإعدام ومنع القتل كلاهما من السبب نفسه؛ أي معارضة القتل المتعمد مع سبق الإصرار والترصّد من قبل شخص ما لشخص آخر، وسواءً قام بالقتل حكومة معينة أو مرجع ذو صلاحية، فلن يغيّر ذلك من حقيقة الأمر ، وهي أننا نواجه حالة قتل متعمّد. فعقوبة الإعدام هي أبشع أشكال القتل المتعمد وأبشعها وأشدها سخافة؛ لأن ثمّة مؤسسة سياسية تقرر أمام المجتمع، وتعلن مسبقاً وبأقصى درجات اللامبالاة وببرودة أعصاب والشعور بالحق عن قرارها في قتل شخص، وبإعلان اليوم والساعة التي ستقوم فيها بهذا الأمر.
وفي مقابل الدعوة للإبقاء على عقوبة الإعدام تقود منظمة العفو الدولية الدعوة إلى إلغاء تلك العقوبة حيث تكتسب مؤيدين وأنصاراً وأرضاً جديدة في دعوتها، فالمشاهد أن الدول التي ألغت عقوبة الإعدام من تشريعاتها الجنائية في ازدياد مستمر[4].
إن إحدى العقبات الغريبة في وجه إلغاء عقوبة الإعدام هي الإحساس الذاتي الذي يحس به الكثير من الناس من أنها تمنعهم هم أنفسهم من الانغماس في القتل وغيره من الجرائم التي عاقب عليها القانون بالإعدام، ومن ثم فإنها ، أي عقوبة الإعدام ، تمنع الناس الذين ربما كان احتمال ارتكابهم لتلك الجرائم أكثر من ارتكابها. وتؤيد منظمة العفو الدولية ذلك الرأي فتقرر[5]:من الخطأ افتراض أن جميع الذين يرتكبون جرائم خطرة كالقتل أو معظمهم يقومون بذلك بعد التفكير في النتائج بشكل عقلاني. فجرائم القتل تًرتكب، في معظم الأحيان، في لحظات انفعال عندما تتغلب العواطف الهائجة على الصواب. وقد ترتكب أيضاً تحت تأثير الكحول أو المخدرات أو في لحظات الذعر مثلاً عندما يفاجأ مرتكبها متلبساً بجريمة سرقة، وبعض الأشخاص الذين يقترفون جرائم عنف يفقدون توازنهم ويعجزون عن ضبط عواطفهم ، وفي كل هذه الحالات لا ينتظر أن يردع الخوف من عقوبة الإعدام من ارتكاب الجريمة[6].
ويستند مؤيدو إلغاء عقوبة الإعدام في دعم آرائهم إلى عدة أسباب من بينها[7] :
- يستحيل مع عقوبة الإعدام إصلاح المحكوم عليه وإعادة تقويمه. وهذا من الأهداف التي يجب أن تسعى إليها الدولة بفرض العقاب، ولو كأهداف ثانوية والعقوبة التي تقطع باب الأمل أمام الفرد لا يمكن أن تكون عادلة.
- إن عقوبة الإعدام غير مجزية وغير نافعة سواء من وجهة فردية أو من وجهة إقناعية، فهي تحول دون أن يشرع المحكوم عليه – تحت رقابة الدولة – في إصلاح آثار الجريمة كلما كان ذلك ممكناً. كما أن العقوبة تحرم الدولة من قوة عاملة يمكن أن تسهم في الإنتاج، وبخاصة بعد أن أصبح العمل في السجون عاملاً في زيادة الإنتاج.
- يستحيل إصلاح آثار هذه العقوبة حين يبدو أن العدول عنها حق وواجب، فقد تظهر براءة المحكوم عليه بعد تنفيذ العقوبة، باعتبار أن الأخطاء القضائية ليست نادرة والعدالة الإنسانية نسبية، حتى أن أغلب التشريعات الوضعية تقر الحق في تصحيح أخطاء الأحكام.
- عقوبة الإعدام غير عادلة؛ لأنها غير قابلة للتدرج وفقاً لمبدأ مسؤولية الجاني أو مدى خطورته أو مدى ما حققه من ضرر.
- تتسم عقوبة الإعدام بالضراوة والبشاعة، فالإعدام ليس فيه عظة تربوية أو إصلاحية بل يوقظ الشهوة إلى سفك الدماء.
- ثمّة وجهة فلسفية استند إليها أنصار الإلغاء، ذلك انه إذا كان أساس حق العقاب هو العقد الاجتماعي، فإن الإنسان، الذي ليس له الحق في القتل، لا يمكن أن يتنازل للدولة عن حقه في الحياة.
كما يستند بعض مؤيدي إلغاء عقوبة الإعدام إلى إحصائيات كثيرة تمّت في ظروف متعددة تشير إلى أن تشديد العقاب، بوجه عام، لم يؤد بالضرورة إلى تخفيف حِدّة الجريمة، كما أن تخفيفه لم يؤد بالضرورة إلى زيادتها، لكن ازدياد نسبة الإجرام أو تراجعها أمر يمكن أن يرجع إلى جملة عوامل وظروف شخصية واجتماعية، لعل من أقلها شأناً تأثير العقاب في النفوس مقداراً أو نوعاً ولو وصلت إلى حد الإعدام. ولعل هذا الاعتبار كان – بالإضافة إلى العوامل الإنسانية والحضارية والعلمية المتنوعة، من أقوى الاعتبارات التي أدّت إلى إلغاء عقوبة الإعدام في دول كثيرة متزايدة خصوصاً في مستهل هذا القرن حتى الآن.
ثالثا : ضمانات تكفل حماية حقوق الذين يواجهون عقوبة الإعدام
اعتمد المجلس الاقتصادي والاجتماعي لمنظمه الأمم المتحدة في قراره رقم 50/1984 تاريخ 25 أيار 1984 العديد من الضمانات التي تكفل حماية حقوق الأفراد الذين يواجهون عقوبة الإعدام، وهذا يؤكد الحرص والعناية التي أولتها منظمه الأمم المتحدة للحق في الحياة باعتباره حقاً أصيلاً، وقد راعى المجلس في قراره هذا العديد من الفئات والمجموعات والأفراد التي قد تواجه وقوع عقوبة الإعدام ضدها.
- في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام، لا يجوز أن تفرض عقوبة الإعدام إلا في أخطر الجرائم، على أن يكون مفهوماً أن نطاقها ينبغي ألا يتعدى الجرائم المتعمدة التي تسفر عن نتائج مميتة أو غير ذلك من النتائج البالغة الخطورة.
- لا يجوز أن تفرض عقوبة الإعدام إلا في حالة جريمة ينص عليها القانون وقت ارتكابها ، على أن يكون مفهوماً أنه إذا أصبح حكم القانون يقضي بعد ارتكاب الجريمة بفرض عقوبة أخف، استفاد المجرم من ذلك.
- لا يحكم بالموت على الأشخاص الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة، ولا ينفذ حكم الإعدام بالحوامل، أو بالأمهات الحديثات الولادة، ولا بالأشخاص الذين أصبحوا فاقدين لقواهم العقلية.
- لا يجوز فرض عقوبة الإعدام إلا حينما يكون ذنب الشخص المتهم قائماً على دليل واضح ومقنع لا يدع مجالاً لأي تفسير.
- لا يجوز تنفيذ عقوبة الإعدام إلا بموجب حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة بعد إجراءات قانونية توفر كل الضمانات الممكنة لتأمين محاكمة عادلة، مماثلة على الأقل للضمانات الواردة في المادة (14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بما في ذلك حق أي شخص مشتبه في ارتكابه جريمة يمكن أن تكون عقوبتها الإعدام أو متهم بارتكابها في الحصول على مساعدة قانونية كافية في كل مراحل المحاكمة.
- لكل من يحكم عليه بالإعدام الحق في الاستئناف لدى محكمة أعلى، وينبغي اتخاذ الخطوات الكفيلة بجعل هذا الاستئناف إجبارياً.
- لكل من يحكم عليه بالإعدام الحق في التماس العفو، أو تخفيف الحكم، ويجوز منح العفو أو تخفيف الحكم في جميع حالات عقوبة الإعدام.
- لا تنفذ عقوبة الإعدام إلى أن يتم الفصل في إجراءات الاستئناف أو أية إجراءات تتصل بالعفو أو تخفيف الحكم.حين تحدث عقوبة الإعدام، تنفذ بحيث لا تسفر إلا عن الحد الأدنى الممكن من المعاناة.
رابعا: عقوبة الإعدام وحقوق الإنسان
عاشت الأمم والشعوب لا يحكمها إلا قانون القوة وشريعة الغاب، فمن سلم من سيف السلطة قتل في حروبها التي جاءت معظمها تحقيقاً لنزوات حكام أو توسعاً في الهيمنة والاستعباد.. وفي العصر الحديث تعاظم اتجاه الأمم والشعوب التي أرهقها كل هذا الظلم والعبث جاء سعيها الحثيث لحياة السلم والأمن دون خوف أو قلق انطلاقاً من أن أمان الدولة الحديثة والأمم جميعها لن يتأتى إلا بصون الحياة الإنسانية وكرامتها، وهو ما يجب أن تقوم عليه التشريعات والقوانين محلياً وإقليمياً ودولياً مع ضمان أن يكون للقانون سيادته وإلزاميته.. وفي عصرنا هذا جاءت المجالس الدولية والإقليمية التي تشارك فيها حكومات العالم لتتفق على منظومات التشريعات التي تحقق للإنسانية الحياة الآمنة، فكان أن عرفنا ما نسميه اليوم بالمواثيق والاتفاقيات والعهود الدولية والإقليمية التي تلزم الدول حال مصادقتها على تعديل القوانين المحلية للتوافق معها، ويسعى المجتمع الدولي وبمطالبات كل من سخروا أنفسهم للدفاع عن حقوق الإنسان، بشكل مستمر، لتطوير تلك المواثيق الدولية لتحقيق ضمانات أكبر للحفاظ على الكائن البشري، وحمايته، وصون كرامته. وفي هذا الإطار كان من البديهي أن يكون "الحق في الحياة" هو الحق الأول والأساسي لكل المواثيق الدولية والإقليمية والدساتير والقوانين المحلية. وفي ضوء هذا الحق توالت النضالات الحقوقية لتفعيل هذا الحق وتجسيده ومن ذلك المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام من القوانين المحلية استناداً إلى أن هذه العقوبة يتم استخدامها من قبل الأنظمة وخصوصاً الدكتاتورية منها للتخلص من معارضي هذه الأنظمة أكثر منها فيما هو جنائي. وسنستعرض في هذه الورقة بإيجاز المسار التاريخي الحديث لأهم المواثيق الحقوقية الدولية والإقليمية التي أكدت على حق الحياة وصولاً إلى البروتوكولات التي تمَّ التوافق من خلالها على إلغاء عقوبة الإعدام بشكل مطلق أو ضمن تقنين محدد، وذلك على النحو التالي:
1- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:
وهو الإعلان الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948، والتي أكدت المادة (3) منه على حق كل إنسان في الحياة، والحرية، والأمان على شخصه.. ومن المعلوم أن الحقوقيين يتوافقون على أن هذا الإعلان يمثل إحدى الخطوات الأساس الأولى للدفاع عن حياة الإنسان وأمانه.
2- العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية:
ولأن الإعلان في العرف الدولي لا يتطلب مصادقة، فإنه ليست له قوة إلزامية، وهو ما جعل المطالبات الإنسانية مستمرة للوصول إلى معاهدة دولية أكثر تفصيلاً للحقوق، ولها قوة إلزامية على الدول المصادقة عليها. من هنا جاء العمل من أجل هذا العهد الذي تمّت صياغته ورفعه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1954 ، إلا أن الجمعية العامة لم تعتمده إلا بعد اثني عشر عاماً، ذلك في 16 كانون الأول / ديسمبر 1966 ولم يدخل حيز النفاذ إلا في 23 آذار/ مارس 1976. وجاءت المادة (6) من هذا العهد لتقدم تفصيلاً أوسع من ذي قبل للدفاع عن حق الحياة، والتأكيد على إلزاميته وفقا لما يلي:
1- الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان. وعلى القانون أن يحمي هذا الحق. ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً.
2- لا يجوز في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام، أن يحكم بهذه العقوبة إلا جزاء على أشد الجرائم خطورة وفقاً للتشريع النافذ وقت ارتكاب الجريمة وغير المخالف لأحكام هذا العهد ولاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. ولا يجوز تطبيق هذه العقوبة إلا بمقتضى حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة.
3- حين يكون الحرمان من الحياة جريمة من جرائم الإبادة الجماعية، يكون من المفهوم بداهة أنه ليس في هذه المادة أي نص يجيز لأية دولة طرف في هذا العهد أن تعفي نفسها على أية صورة من أي التزام يكون مترتباً عليها بمقتضى أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
4 - لأي شخص حكم عليه بالإعدام حق التماس العفو الخاص أو إبدال العقوبة. ويجوز منح العفو العام أو العفو الخاص أو إبدال عقوبة الإعدام في جميع الحالات.
5- لا يجوز الحكم بعقوبة الإعدام على جرائم ارتكبها أشخاص دون الثامنة عشرة من العمر، ولا تنفذ هذه العقوبة بالحوامل.
6- ليس في هذه المادة أي حكم يجوز التذرع به لتأخير أو منع إلغاء الإعدام من قبل أية دولة طرف في هذا العهد.
3- البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بشأن إلغاء عقوبة الإعدام:
وهذا البروتوكول، وبرغم كونه اختيارياً في المصادقة عليه، إلا أنه يمثل توجهاً دولياً، وخصوصاً من الدول الأكثر إلتزاماً بالحرية والديمقراطية. وقد بدأ نفاذ البروتوكول على الدول المصادقة عليه في 11 تموز / يوليو 1991، وفي ديباجة البروتوكول تمَّ توضيح أن الدول الأطراف فيه، إذ تؤمن بأن إلغاء عقوبة الإعدام يسهم في تعزيز الكرامة الإنسانية والتطوير التدريجي لحقوق الإنسان، وأن المادة (6) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تشير إلى إلغاء عقوبة الإعدام بعبارات توحي بشدة بأن هذا الإلغاء أمر مستصوب، واقتناعاً منها بأنه ينبغي اعتبار التدابير الرامية إلى إلغاء عقوبة الإعدام تقدماً في التمتع بالحق في الحياة.
وأشتمل البروتوكول على إحدى عشرة مادة لم تسمح بالتحفظ على البروتوكول من قبل الدول المصادقة إلا بالنسبة لتحفظ تم إعلانه من قبل أثناء مصادقتها، وينص التحفظ على تطبيق عقوبة الإعدام في وقت الحرب طبقاً لإدانة في جريمة بالغة الخطورة، وتكون ذات طبيعة عسكرية، وترتكب في وقت الحرب.
4 - مبادئ المنع والتقصي الفعالين لعمليات الإعدام خارج نطاق القانون، والإعدام التعسفي، والإعدام دون محاكمة:
وهي المبادئ التي اعتمدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة في قراره رقم 65 تاريخ 24 أيار / مايو 1989 واعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 15 كانون الأول/ ديسمبر1989. وهذه المبادئ التي تقدم لنا إشارات أخرى للحرص الدولي للحد من تطبيق هذه العقوبة، والتضييق عليها، ذلك من خلال 20 فقرة أدرجت تحت محاور ثلاثة هي: (الإجراءات الوقائية؛ والتحقيق؛ والإجراءات القانونية) لتقدم مجموعة من المبادئ الوقائية والقانونية التي تلزم الدول التي ما زالت تطبق هذه العقوبة بمهام المنع لعمليات الإعدام خارج نطاق القانون أو الإعدام التعسفي الذي قد يحدث في أثناء التحقيق أو الاحتجاز في السجون أو أقسام الشرطة أو أي أماكن احتجاز تستخدمها السلطات، كما يعتبر القتل المقترف لأسباب سياسية، ويكون للسلطة مصلحة فيه ضمن الإعدام التعسفي، كما تلزم هذه المبادئ الدول بمنع الإعدام دون محاكمة بل وتطالبها بأن يتضمن قانونها المحلي اعتبار كل ذلك جرائم يعاقب مرتكبوها مع تفعيل العقوبات مع توخي الدول لوضع رقابة دقيقة لما يدخل في هذا النطاق من الأعمال مع تأكيد المبادئ على ضرورة التقصي الدقيق في التحرّي والإجراءات للقضايا التي قد تصل عقوبتها الإعدام.

5- البروتوكول السادس الملحق بالاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان بشأن إلغاء عقوبة الإعدام:
في 4 تشرين الثاني / نوفمبر 1950 أطلقت الدول أعضاء مجلس أوروبا حينها (الاتحاد الأوروبي حالياً).الاتفاقية الأوروبية لحماية الإنسان والحريات الأساسية، وهي الاتفاقية الإقليمية الأولى في مجال حقوق الإنسان، ولها القوة القانونية الإلزامية على الدول الأوروبية المصادقة عليها. وعلى امتداد العقود الماضية تمَّ إضافة أحد عشر بروتوكولاً إضافياً لهذه الاتفاقية لتفعيل كل الحقوق الإنسانية التي تضمنتها، ومنها البروتوكول الخاص بالتزام الدول الأوروبية بإلغاء عقوبة الإعدام. وقد بدأ العمل بهذا البروتوكول في الأول من آذار / مارس 1985، ويشمل تسع مواد تلغي العقوبة مع جواز استخدامها فيما يتعلق بالأعمال التي تُرتكب وقت الحرب أو للتهديد الوشيك بالحرب مع توضيح عدم جواز انسحاب الدول من البروتوكول بعد المصادقة، وعدم جواز استخدام البروتوكول في أقاليم محددة من الدولة.
6- البروتوكول الخاص بالاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لإلغاء عقوبة الإعدام:
في إطار منظمة الدول الأمريكية تمَّ التوقيع على الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في نوفمبر 1969 ويطلق على هذه الاتفاقية (ميثاق سان خوسيه) وهي المدينة التي أطلقت منها في كوستاريكا. ومع تزايد المطالبات والضغط المدني والحقوقي، تمَّ التوقيع على هذا البروتوكول، وإلحاقه بالاتفاقية في 8 حزيران / يوليو. وقد حوى البروتوكول على مقدمة وأربع مواد أكدت على التزام الدول المصادقة على عدم تطبيق هذه العقوبة في أراضيها أو على من يخضع لولايتها مع إمكانية تطبيق العقوبة في وقت الحرب فقط ، وذلك في الجرائم الخطيرة للغاية ذات الطبيعة العسكرية.
خامسا : حقائق وأرقام حول عقوبة الإعدام[8]
1. الدول التي ألغت العقوبة والدول التي تحتفظ بها
ألغت أكثر من نصف دول العالم عقوبة الإعدام في القانون والممارسة. وتبين آخر معلومات منظمة العفو الدولية أن : 89 دولة ومنطقة ألغت عقوبة الإعدام بالنسبة لجميع الجرائم؛ وأن عشرة دول ألغت عقوبة الإعدام بالنسبة لجميع الجرائم باستثناء الجرائم غير العادية مثل جرائم الحرب؛ ويمكن اعتبار 30 دولة بأنها ألغت العقوبة عملياً: فهي تحتفظ بعقوبة الإعدام في القانون لكنها لم تنفذ أية عمليات إعدام طوال السنوات العشر الماضية أو أكثر، ويُعتقد أنها تنتهج سياسة أو لديها ممارسة تقضي بعدم تنفيذ عمليات إعدام ما يرفع مجموع الدول التي ألغت عقوبة الإعدام في القانون والممارسة إلى 129 دولة. كما تحتفظ 68 دولة ومنطقة أخرى بعقوبة الإعدام وتستخدمها، لكن عدد الدول التي تعدم السجناء فعلاً في أي سنة بعينها أقل من ذلك بكثير.
2. التقدم الذي تحقق نحو إلغاء العقوبة عالمياً
ألغت أكثر من 40 دولة عقوبة الإعدام بالنسبة لجميع الجرائم منذ العام 1990. وهي تشمل دول في أفريقيا (كوت ديفوار والسنغال)، وفي الأمريكتين (كندا والبراغواي)، وآسيا ومنطقة المحيط الهادئ (بوتان، وساموا، وتركمانستان) وأوروبا وجنوب القوقاز (أرمينيا، والبوسنة والهرسك، وقبرص، واليونان، وصربيا، والجبل الأسود، وتركيا).
3. تحركات لإعادة العمل بعقوبة الإعدام
عندما يتم إلغاء عقوبة الإعدام ، نادراً ما تتم إعادة العمل فيها. فمنذ العام 1985، ألغت أكثر من 50 دولة عقوبة الإعدام في القانون أو أنها بعد أن ألغتها سابقاً بالنسبة للجرائم العادية، انتقلت لإلغائها بالنسبة لجميع الجرائم. وخلال الفترة ذاتها أعادت أربع دول مُلغية فقط العمل بعقوبة الإعدام. إحداها – نيبال – التي ألغت العقوبة مرة أخرى منذ ذلك الحين؛ واستأنفت دولة أخرى هي الفليبين تنفيذ أحكام الإعدام لكنها توقفت فيما بعد. ولم تُنفذ أية عمليات إعدام في الدولتين الأخيرتين وهما (غامبيا، وبابوا غينيا الجديدة).
سادسا: مستقبل عقوبة الإعدام
لا تكفي عقوبة الإعدام لنفي وظيفة الردع العام من أساسها، لأن مقدار العقوبة ونوعها ليسا هما كل شيء في توجيه إرادة الجاني نحو إتباع أحكام التشريع العقابي، بل ثمَّة اعتبار آخر له قيمته البالغة من الصعب تجاهله، وهو مدى إحساس الجاني بضمان وصول العدالة إليه، فهو يلعب في توجيه إرادته دوراً قد يتجاوز دور العقوبة النظرية التي قد تهدده نوعاً أو مقداراً متى كانت فرص الإفلات منها تبدو له كثيرة ولهذا لاحظ منتسكيو وغيره ، أن سبب الانحلال الحقيقي يكمن في إفلات الجرائم من العقاب لا في اعتدال العقاب، فالعقوبة الخفيفة المحققة أو القوية الاحتمال قد تكون بالتالي أقل أثراً في توجيه إرادة الجاني – وفي تحقيق وظيفة الردع العام – من العقوبة الشديدة إذا كانت غير محققة أو ضعيفة الاحتمال، وبالتالي فإن ظاهرة تزايد بعض الجرائم رغم تشديد العقاب لا تصلح بمفردها لنفي حرية الاختيار، كما لا تصلح ظاهرة تناقص هذه الجرائم لإثبات هذه الحرية سواءً أكان التناقص مصحوباً بتشديد العقوبة أو تخفيفها. وعلى أية حال، فإنه ليس من النظر السديد ما ذهبت إليه هذه المدرسة بالأقل في جناحها المتطرف – من أن المسؤولية الأدبية أو حرية الاختيار لا تصلح لأن تعتبر أساساً مقبولاً لحق العقاب، ومن أن الإنسان المجرم ينبغي أن ننظر إليه كالإنسان المريض الذي لا ذنب له في مرضه، وبالتالي من أن إحساس حق العقاب في الشرائع الحديثة ينبغي أن يكون مجرد علاج الجاني من جريمته، كما ينبغي أن يكون مجرد رغبة الهيئة الاجتماعية في وقاية نفسها من حاملي جراثيم الأمراض الخلقية والنفسية المتنوعة وعلاجهم من أمراضهم إذا أمكن ذلك[9].
أخيرا يرى الفيلسوف الألماني" كانت " أنه إذا ارتكبت جرائم قتل في جزيرة قرر جميع أهلها تركها بصفة نهائية، فإن العدالة تقتضي قيام سكانها بتنفيذ عقوبة الإعدام على جميع القتلة فيها قبل تركها، ذلك إرضاءً للعدالة رغم انتهاء وجود المجتمع بترك الجزيرة، ومن ثم زوال ضرورة حمايته.


[1] ويؤيد فريق من الفقهاء الإبقاء على عقوبة الإعدام منهم، بصفة خاصة، روسي، ولاكاني، ورومانبوزي، وكانت، وفون.
[2] تظهر إحدى الدراسات إلى وجود أثر رادع واضح لعقوبة الإعدام هي دراسة أجراها العالم الاقتصادي الأمريكي،إسحاق ارليج، واستخدم فيها أسلوباً إحصائياً "تحليل التراجع" عبر فحص التأثير المحتمل للإعدامات وغيرها من المتغيرات في جرائم القتل في الولايات المتحدة الأمريكية بمجملها في الفترة الواقعة ما بين عام 1932 - 1970 من القرن الماضي فخلال تلك الفترة، وبخاصة في الستينيات، ارتفع عدد جرائم القتل، بينما انخفض عدد الإعدامات. وفي مقالة نشرت عام 1975 استنتج "إسحاق ارليج" أن بحثه أشار إلى وجود رادع فعال لعقوبة الإعدام، وذكر أن تنفيذ إعدام إضافي كل سنة طوال الفترة موضوع الدراسة ربما أدى إلى انخفاض في عدد جرائم القتل بمعدل سبع أو ثماني جرائم. إسحاق ارليج، الأثر الرادع لعقوبة الإعدام، المجلة الاقتصادية الأمريكية، المجلد 95، العدد 30 ، حزيران 1975، ص 398 – 414.
[3] فالإعدام يعتبر مجازاة على فعل مجرم قاتل، وبقتل المجرم يظهر المجتمع شجبه لجريمته، والإقناع بهذه الحجة يستمد جذوره من النفور الشديد الذي تثيره جرائم العنف في المواطنين الحريصين على القانون، فالرأي العام يطالب ويتمسك بها.

[4] ومن أبرز معارضي هذه العقوبة "كراراcarrara " وعلى سبيل المثال يتحدث الدكتور "هانز أيزنك hans eysenck " أستاذ علم النفس بجامعة لندن، عن أثر عقوبة الإعدام في الردع العام نافياً هذا الأثر، وقائلاً "وقد تركزت المناقشات التي دارت حديثاً حول عقوبة الإعدام شيئاً فشيئاً حول نقطة واحدة حاسمة وهي: هل تعوق العقوبة أو لا تعوق الناس من ارتكاب الجرائم التي وضعت هذه العقوبة من أجلها؟ .ومن الناحية الإحصائية هناك دلائل مقنعة على أن عقوبة الإعدام لم تمنع الناس من ارتكاب الجرائم، فقد أتضح مراراً أن إلغاء عقوبة الإعدام لم ينتج عنه ازدياد في جرائم القتل، وأنه عند إعادة العقوبة لا يقل، عددها وزيادة على ذلك، فإنه منذ عام 1975 عندما ألغى القانون عقوبة الإعدام (في انكلترا) بالنسبة لبعض الجرائم وأبقاها بالنسبة لبعض الجرائم الأخرى، ازداد عدد تلك الجرائم التي ظلت العقوبة قائمة بالنسبة لها، وما تزال توجد حجج انفعالية ضد إلغاء عقوبة الإعدام، ولكن الحجج العقلية تبدو في صف إلغائها.
[5] منظمة العفو الدولية ، الوثيقة رقم 2005 / 006 / 50 – 5 نيسان 2005 .
[6] تبين الأرقام أن الإلغاء لا يؤثر سلباً في معدلات الجريمة، ففي كندا انخفض معدل القتل لكل 10000 نسمة من 3.09 في العام 1975 (العام الذي سبق الإلغاء) إلى 1.73 في العام 2003 وهو أدنى معدل في ثلاثة عقود.
[7] راجع يسر أنور علي ،أصول علم العقاب، دار النهضة العربية، القاهرة، 1983 ، ص 62 وما يليها.

[8] حملة منظمة العفو الدولية ضد عقوبة الإعدام ، رقم الوثيقة act 2005 / 006 / 50 . 5 نيسان 2005 .
[9] رؤوف عبيد ، أصول علمي الإجرام و العقاب ، دار الجيل للطباعة ،1989 ، ص 89 .