28‏/02‏/2012

ايران وجيوبولتيكا البحار المفتوحة

إيران وجيوبولتيكا البحار المفتوحة
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في جريدة الخليج الإماراتية بتاريخ 28/2/2012

قبل عام دشنت إيران سياسة جغرافية هي أقرب إلى الجيوبولتيكا من أي أمر آخر،بعدما عبرت سفنها البحرية قناة السويس،فكانت رسالة واضحة الأبعاد في ظل انطلاق الحراك المصري وغيره آنذاك، اليوم عبرت بارجتان حربيتان القناة وصولا إلى مناطق بحرية تشكل حساسية جيوسياسية إقليمية ودولية،مترافقة مع اختلاف الظروف نسبيا،كما تغيّر حجم وقوة اللاعبين الإقليميين،فما هي أبعاد وتداعيات هذه السياسة؟وهل يمكن صرفها سياسيا وأمنيا وعسكريا في هذه الأوضاع؟
ثمة نظريات كثيرة في الجغرافيا السياسية غالبا ما تتحول وبسهولة إلى وجهات جيوبوليتيكة،وهنا تكمن حساسية الموضوع بتداعياته على دول الجوار لأي دولة تتخذ سياساتها الخارجية ذلك النطاق والإطار. وغالبا أيضا ما تحوّلت تلك النظريات وتطبيقاتها إلى تجميع عناصر وعوامل تشكل قلقا وتوجّسا وخوفا لدول الجوار الجغرافي لتلك الدولة أو الدول التي تعتمد مثل تلك السياسات.
في الواقع أيضا،ليس بمستغرب على مطلق دولة طامحة للعب أدوار إقليمية كبرى ان تنحو باتجاه تلك السياسات،إلا ان الأهم في ذلك تحديدا اختيار الظرف المناسب للتنفيذ،لئلا يتحوّل الأمر إلى مبرر لإطلاق النزاعات والحروب التي ليست بالضرورة تخدم أو تفيد هذه السياسات.
استعملت إيران قبل شهر ونيف مضيق هرمز لإيصال رسائل باتجاهات مختلفة منها القريبة والبعيدة،وقبلها العبور الأول لقناة السويس وهي سابقة في ظل الجمهورية الإسلامية،العبور الثاني باتجاه المتوسط وبالتحديد الشواطئ السورية، مع الإعلان الواضح باستتباع هذه الخطوة بخطوة بحرية أخرى باتجاه المحيط الأطلسي، ما يعني أيضا قدرتها العملية والفعلية على الإبحار في أعالي البحار أيضا وفي المحيط الهادئ الذي يعتبر بحر العرب جزءا ومدخلا له.
في التحليل المبدئي، يعتبر التوسّع الجيوسياسي البحري الإيراني ان لم يكن الجيوبولتيكي، مسارا نوعيا في السياسات الخارجية الإيرانية،وهو طموح عالي الكلفة إقليميا ودوليا، فمن الصعب على الدول المعنية به، بلع وهضم تلك الرسائل بيسر وسهولة،ان لم تكن هذه الخطوة هي سياق سياسي لمسار تفاوضي قادم يهدف إلى المبادلة فيه بأحجام أخرى من النوع الاستراتيجي، فما هي الأثمان المحتملة لذلك؟
أولا،ان الإبحار الإيراني في أعالي البحار وصولا إلى مناطق إستراتيجية حساسة ، هو من نوع التحدّي القابل للصرف السياسي بحدود معينة، لكنه في المقابل من الصعب التعويل عليه لحسابات إستراتيجية ذات وزن عالٍ،باعتبار ان الإبحار في تلك الحالات يتطلب بيئة إضافية غير متوفرة من حيث المبدأ لدى إيران، من بينها استمراريته والقدرة على حمايته،كما توفير البيئة الرادعة له في حال عدم قبول الخصم به، ما يعني ان طهران باستطاعتها استثماره لأهداف محددة في المكان والزمان المناسبين بالنسبة لها،ولا تستطيع المضي في كسب مواقف أو فرض برامج ذات أبعاد إستراتيجية.
في الحالة الراهنة، التوجه نحو البحر المتوسط وبالتحديد الساحل السوري رسالة واضحة للمعنيين في ملف الأزمة السورية، وهي تفسير واضح على ان الأمر بات يستدعي رسائل نوعية بصرف النظر عن نتائجه العملية. كما هي رسالة واضحة لإسرائيل بأن سفنها الحربية هي على مسافة لصيقة منها،وهي بطبيعة الأمر لا تحتملها إسرائيل لذلك ترافق الوصول الإيراني إلى المتوسط مع وصول المستشار الأمريكي لشؤون الأمن القومي إلى إسرائيل،الأمر الذي يضع الموضوع ضمن التحديات الجدية التي يفترض عدم تمريره أو تبسيطه من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية.
ان تمكّن طهران من تثبيت تلك السياسة البحرية ولو بحدود معينة، يعني بشكل أو بآخر تكريس جيوسياسي لمساحات أرضية مترامية الأطراف تبدأ من إيران نفسها مرورا بالعراق وسوريا ولبنان، علاوة على تشكيل سوابق المرور غير الاعتراضي في كل من مضيقي باب المندب جنوب البحر الأحمر وقناة السويس في شماله،وان كان هذا المرور مغطى قانونا باتفاقية القسطنتينية لعام 1888.
في المرور الأول كانت الولايات المتحدة الأمريكية لا زالت رسميا في العراق ،وكانت إيران تمثل الدولة المتوجسّة من ذلك الاحتلال،اليوم وفي العبور الثاني الذي سيليه الثالث باتجاه المحيط الأطلسي، واشنطن رسميا خارج الصورة العراقية في الوقت الذي تشغل فيه طهران حيزا مهما من الساحة العراقية وهي التي بحاجة لعدم المسِّ بأي امتداد جيوسياسي شرقي والمعني به هو سوريا بالتحديد.
في الانطلاق السياسي البحري الأول قبل شهر،استعملت طهران التهديد بإغلاق مضيق هرمز كرزمة رسائل،فاستقبلت وزير الخارجية التركية داوود اوغلو، وسلمته همسات التفاوض بشأن البرنامج النووي، لم تنطلق المفاوضات ،بل وجِهت رزم إضافية من العقوبات الدولية على طهران، قابلته بالإعلان عن انجاز نووي آخر متصل بالتخصيب ذات الآليات المتسارعة،فماذا سيكون ثمن الإبحار الثاني؟
الظروف الإقليمية والدولية في المنطقة دقيقة جدا،ولا تحتمل المقايضات من العيار الاستراتيجي، بخاصة اذا كانت تداعياتها المستقبلية تشكل أخطارا صلبة على إسرائيل من الوجهة الكيانية ،الأمر الذي يبقي باب الأزمة مفتوحا على أبواب التصعيد وربما وصولا إلى اللجوء للكي وهو صورة من صور الحرب التي ستكون مكلفة ومؤلمة في آن معا.
ان الوصول للبحر الأبيض المتوسط، يستلزم المرور في مضيقين يشكلان تاريخيا مفتاحا للأمن القومي العربي، والمفارقة ان هذين المضيقين يجمعان بين دفتيه بحر أحمر سببه المرجان،فهل سيكون حَمارته هذه المرة دما يسال من حرب إقليمية عظمى من السهل ان تنزلق إلى حرب ذات أبعاد عالمية؟.

26‏/02‏/2012

العراق من الاحتلال الى الانحلال

العراق من الاحتلال الى الانحلال
الدكتور خليل حسين
نشرت في مجلة الشروق الاماراتية بتاريخ 13-2 -2012
العدد 1036













18‏/02‏/2012

هل ستفعلها اسرائيل؟

هل ستفعلها إسرائيل؟
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 18/2/2012
في 5 حزيران 1982 ،أطلقت إسرائيل عملية سلامة الجليل ضد لبنان انتقاما لما أسمته آنذاك، لمحاولة اغتيال سفيرها في لندن شلومو آرغوف، فغزت لبنان واحتلت بيروت ثاني عاصمة عربية بعد القدس. اليوم ثمة أصوات إسرائيلية ترتفع لاستعادة الأجواء نفسها،بعد تفجيري الهند وجورجيا ضد سفارتيها،فهل سيكون رد الفعل الإسرائيلي مماثلا لما جرى في العام 1982،أم سيكون الأمر مختلفا؟
في الوقائع أولا،ربطت إسرائيل الهجومين بأعمال أخرى في أذربيجان وتايلاند متهمة حزب الله بتدبير العمليتين، هذه المرة ربطت الهجومين والذي سبقهما أيضا بإيران،وأرفقت بردود أفعالها الأولية مواقف تحمِّل المسؤولية لكل من طهران وحزب الله متوعدة بالرد في المكان والزمان المناسبين.طبعا ثمة سيناريوهات متعددة لتنفيذ إسرائيل لتهديداتها،يأتي على رأسها تنفيذ ضربة نوعية لإيران،أو تنفيذ عملية غزو للبنان يكون حزب الله هدفها الأول.فأين المكان وأين الزمان في الأجندة الإسرائيلية؟
في المبدأ،في العادة لا تنتظر إسرائيل أي مبرر لتنفيذ اعتداءاتها على أي كان، رغم إصرارها بالظهور في وضعية الحمل الوديع. ففي العام 1982 نفذت عدوانها على لبنان بذريعة آرغوف،وتبيّن بعد عقد من الزمن ان فصائل المقاومة الفلسطينية لم يكن لها يد في ذلك،بل أكثر من ذلك ان الموساد الإسرائيلي هو من كان مدبر العملية لتنفيذ العدوان. وبصرف النظر عمن دبر ونفذ عمليتي نيودلهي وتبليسي،ثمة أجواء محلية وإقليمية ودولية متشابهة لما كان سائدا العام 1982. مع فروق بسيطة في الأدوات والوسائل.
استعرت الحرب الباردة بين موسكو السوفيتية وواشنطن العام 1982 على منطقة الشرق الأوسط، غزت إسرائيل لبنان وأنزلت فيه قوات متعددة الجنسيات قوامها الأساسي أميركي - فرنسي، ما لبثت ان أخرجت بعمليتين كبيرتين ضد المارينز وقوات المظليين الفرنسيين حصدت المئات من القتلى، اتهمت إيران وحزب الله بالعمليتين.اليوم ثمة تنافس روسي أميركي في المنطقة عبر البوابة السورية وأزمتها،في وقت يشتد الضغط على مثلث طهران – دمشق – بيروت،في الوقت الذي تتجمع به عناصر التفجير، كل له حسابات ووسائل وأدوات ما فيها.
في المقلب الإسرائيلي، ثمة رعب متواصل من البرنامج النووي الذي تعتبره تهديدا كيانيا لها،الأمر الذي يستوجب في الإستراتيجية الإسرائيلية أي عمل استباقي بصرف النظر عن مبرر العمليتين، يساعدها في ذلك انشغال العالم بأزمات الأنظمة العربية والحراك القائم فيها،علاوة على تعثر المسارات الدبلوماسية للبرنامج النووي الإيراني. فهل تشن إسرائيل عمليتها وسط انشغال دمشق بأزمتها، وتهيأ كل من موسكو وباريس وواشنطن الانغماس في انتخاباتها الرئاسية القادمة؟ وهل ستعيد أجواء ضرب مفاعل تموز العراقي في طهران بمعزل عن التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية؟ أم ستختار السقف الأدنى بمحاولة ضرب حزب الله في لبنان عبر استنساخ تجربة 2006؟ في كلا الحالتين ثمة حسابات من الصعب تحديد أولوياتها لارتباط الخيارين ببعضهما البعض في حال البدء في أي منهما.
في المقلب الإيراني، تعلمت طهران من تجاربها السابقة في حربها مع العراق، كما الكيفية التي ينبغي التعامل مع أي أزمة تمسُّ إستراتيجياتها الإقليمية كنموذج احتلال أفغانستان 2001 والعراق 2003 والعدوان على لبنان 2006 وغزة 2008، في جميع تلك الحالات حققت مكاسب وازنة دون دفع أثمان كبيرة.اليوم طهران كما يبدو ليست مستعدة لفتح معارك غير واضحة المعالم وبخاصة مع إسرائيل أو الغرب،في وقت يشهد أحد حلفائها الاستراتيجيين أزمة داخلية غير معروفة النتائج بالتحديد.وإذا كانت طهران وفقا لهذه البيئة ستحاول عدم الإنجرار،فهل ستسمح إسرائيل بتفويت أي فرصة سانحة لها؟ علمتنا التجارب الإسرائيلية باستغلالها أي ظرف لتنفيذ ما تود فعله،فماذا سيكون الموقف المقابل؟ من البديهي ان طهران ستعتمد على اذرع السياسة الخارجية ومنها الواقع اللبناني، كما من الممكن ان يشمل أيضا سوريا التي يمكن أن ترى هذا الخيار مخرجا من الأزمة الداخلية.
في المقلب الإقليمي والدولي الآخر، ثمة انسداد في الأفق السياسي لمجمل أزمات المنطقة،ما يعزز خيارات اللجوء للخيارات العسكرية لحسم بعض القضايا التي يصعب حلها بدون كسر موازين القوى القائمة حاليا.وعلى الرغم من بروز هذه الخيارات أكثر من أي وقت آخر،ثمة رعب وخوف متبادل،باعتبار ان اشتعال فتيل أي حرب ولو كانت إقليمية صغيرة، من الممكن ان تتحول إلى إقليمية كبيرة أو دولية،وبذلك من الصعب التحكّم بمساراتها ونتائجها وتداعياتها. وبخاصة ان تلك الحرب ستعيد رسم موازين قوى إقليمية جديدة ستسهم بشكل مباشر في إعادة رسم صورة النظام العالمي في الفترة القادمة.
ان الظروف والوقائع التي تتجمع في المنطقة، تنذر بظهور سلوك سياسي جديد ، يعيد أجواء التنافس الدولي بداية ثمانينيات القرن الماضي الذي أسس لنظام عالمي جديد بداية التسعينيات،فهل التاريخ يعيد نفسه بأدوات ووسائل أخرى؟.الصورة تكاد تكون متطابقة إلى حد بعيد، مع اختلاف في الأحجام والأوزان وحتى التداعيات المحتملة.فهل ستتحمل المنطقة حربا إقليمية عظمى تقول بعض التقارير الاستخبارية سيصل عدد ضحاياها إلى أكثر من مليون ونصف المليون ضحية؟ أم لغة العقل والتعقل ستأخذ مكانها؟ عندما يتعلق الأمر بمسائل تغيير موازين القوى وإعادة ترتيبات جديدة،لن تتورع أية قوة في فعل أي شيء للحفاظ على مكانتها ودورها وما امتلكت من وسائل قوة،وهذا ما ينطبق بالتحديد على كل من إسرائيل وإيران.

العراق من الاحتلال الى الانحلال

العراق ... من الاحتلال إلى الانحلال
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في مجلة الشروق الإماراتية بتاريخ 15-2-2012
صورة لا يُحسد عليها مجتمع ولا دولة،باختصار فوضى سياسية عارمة، فلتان أمني،أنهر من الدماء،فساد ينخر النظام،دولة آيلة للسقوط!.ربما هذه الصورة السوداوية ليست بجديدة لا على المجتمع العراقي،ولا على من يتتبع أخباره، لكن الجديد فيها،إعادة تعويم أزمة سياسية عمرها من عمر سقوط نظام صدام حسين وما أعقبه من احتلال أمريكي لبلاد روافد الحضارات والثقافات.ولا تكمن المشكلة بالأزمة السياسية نفسها بقدر ما تكمن في خلفياتها وتداعياتها المستقبلية الكيانية.
انسحبت القوات الأمريكية من العراق وتركته لقدره، فتلقف سياسيوه الانسحاب ليكون منصة لتصفية الحسابات والانطلاق كل بمشروعه على ليلاه.كانت البداية بإشعال فتيل الخلاف بين رئيس الحكومة نوري المالكي ونائب الرئيس طارق الهاشمي،لأسباب ظاهرها المشاركة بأعمال عنف، أدت إلى قتل عراقيين،وباطنها سياسي – مذهبي على قاعدة الخلاف والاختلاف على تقاسم السلطة والاستئثار بالحكم والمقدرات.
مكونات سياسية بملامح مذهبية
ثمة واقع جديد ترسخت دعائمه ومرتكزاته إبان السنوات الثماني الماضية، قوامه فرز حاد في التركيبة الاجتماعية التي تفرّع عنها مكوِّنات ظاهرها سياسي وباطنها مذهبي – قومي، يصل مداها وتداعياتها إلى العرقي.ومما عزز هذا الفرز مجموعة من العوامل والأسباب الداخلية والخارجية المحيطة بالمجتمع العراقي ومكوناته ومعتقداته؛ويأتي في طليعتها عدم قدرة السياسيين الذين حكموا العراق بما يسمى الإدارة بالأزمات، لمجمل المشاكل التي واجهتهم إبان الاحتلال، ويبدو أنهم مستمرون به حاليا.
هذا الواقع الحاد بملامحه الانقسامية، جاء كنتاج لتموضع مذهبي في اطر ائتلافية ،جمعت متناقضات في السياسة وتقاطع في المصالح، وصل إلى حد التطابق في استغلال السلطة وتوزيع الغنائم كما الاسترسال في المفاسد.ويمكن تمييز عدة مكونات سياسية انخرطت في انتخابات آذار 2010، وما أعقبها من تشكيل حكومة ائتلافية، ولدت قيصرية بعد مخاض لامس سنة من المفاوضات والمساومات والتي لم تحسم إلا بضغوط خارجية.
أبرز المكونات الرئيسية الأربع ضم، القوى والأحزاب السياسية والدينية الشيعية ، التي وجدت نفسها فجأة في الحكم،ممسكة بسلطة واسعة وبمقدرات كانت بيد غيرها قبلا. لكن مشكلتها أنها لم تتعلم من تجارب غيرها السابقة، فمارست السلطة كما مورست عليها قبلا، وتواجه بما واجهته هي أيضا،تقف وراءها كتلة شعبية واسعة،لكنها غير منظمة وتعاني ما تعاني الكتل الشعبية الأخرى من التهميش والعوز. مارست النخب الشيعية السلطة بنوع من النرجسية السياسية،لكنها افتقدت إلى الكادر عالي التخصص،بفعل مشاركتها الفعالة في عمليات اجتثاث البعث، ما حرمها كادرات النظام السابق وخبراته، وبالتالي وجدت نفسها في أتون مشاكل السلطة بعدما حُرمت من نعيمه لقرون مضت.
المكوِّن الثاني الوازن في الحياة السياسية العراقية، يتمحور حول السُنة العرب، الذين فقدوا السلطة عمليا بعد انهيار نظام صدام حسين.استنهضت هذه الجماعة قوتها إبان الاحتلال على قاعدتين أساسيتين،الأولى مواجهة الاحتلال،والثانية التشكيك بمفردات العملية السياسية من انتخابات وما أفرزت من نتائج تشريعية وتنفيذية على قاعدة بطلان أي مظهر يتمخض خلال الاحتلال.ما أدى إلى التشكيك في مجمل العملية السياسية وما نتج عنها، وظهر بشكل واضح وصريح بعد خروج القوات الأمريكية من العراق،تمثل بمطالب إعادة النظر بصياغة العديد من نصوص الدستور ،كما المطالبة بتحويل بعض المحافظات إلى أقاليم.علاوة على مجموعة من الاعتراضات التي تمثل نوعا من الإحساس بالقهر والاستئثار بالسلطة من قبل الجانب الآخر.
المكوِّن العراقي الثالث،يتمثل في التحالف الكردستاني الذي يقود مجموعة الكرد من الشعب العراقي، والذي قدّم نفسه بخطاب برغماتي، استفاد من خلاله وبه من تركيز بيئة الدولة القومية اذا ما أراد يوما إعلانها. وما عزَّز هذا المكوِّن الاجتماعي - السياسي من وضعه،هو استغلال التناحر والاختلاف بين المكونات العراقية الأخرى، الأمر الذي منحه الفرصة والهامش الواسعين للعب ادوار إضافية في التكتلات البرلمانية، كما ضمن مبدأ الفدرالية في الدستور الجديد، كما استتبعه بالبحث عمن يمنحه كركوك كثقل وازن إضافي في لعبة تقاسم القوة في الداخل العراقي. وما يعزز هذا التحرك وتلك الرؤية، احتضانه بتاريخ 28/1/2012 لمؤتمر الأكراد السوريين،حيث كانت الشعارات وبرامج عمل المؤتمر تعبّر عن الرؤية المستقبلية ذات الملامح الانفصالية حين نضوج الظروف الإقليمية والدولية.
أما المكوِّن الرابع الذي قدَّم نفسه بلبوس العلمانية، فكانت أدواته وقواعده مذهبية. وهو تشكَّل من قواعد شيعية وسنية برئاسة أياد العلاوي،لكن هذا المكوِّن لم يأخذ دورا وازنا كما كان منتظرا منه أو له، بفعل العديد من الأسباب والاعتبارات ،من بينها ابتعاده عن إيران،والخلافات التي نشبت بينه وبين مكونات سياسية شيعية وسنية أخرى،علاوة على مراهنة الأمريكيين عليه مما افقده الكثير من مقومات الانطلاق في بيئة تحتضن التيارات المقاومة للاحتلال.

جيش من الأزمات
في اليوم التالي الذي أعلن فيه رسميا عن خروج القوات الأمريكية من العراق،أثار رئيس الحكومة نوري المالكي،قضية نائب الرئيس،طارق الهاشمي،على قاعدة تسببه بمقتل عراقيين عبر أعمال غير مشروعه،من بينها تفجير البرلمان العراقي،ومحاولة اغتيال المالكي.كانت إثارة هذه القضية بمثابة الفتيل الذي أشعل كومة التناقضات والمشاكل والأزمات التي رافقت مسيرة الحكومة منذ ولادتها العسيرة قبل سنة تقريبا؛ولم تكن هذه الحادثة سوى نذير إشعال أزمة سياسية سرعان ما ستتحول إلى أزمة كيانية، بفعل الشعارات المرفوعة حاليا، علاوة على الحِراك القائم لجهة الانسحابات من الكتل البرلمانية الائتلافية، ما سيؤدي إلى إعادة خلط الأوراق السياسية وإعادة توزيع المشهد السياسي الذي يبدو سوداويا في أحسن حالاته كما تقدره مجمل المكونات الوازنة في الساحة العراقية.
أولى مظاهر الأزمة وتداعياتها،الانسحابات التي جرت من القائمة العراقية التي يرأسها أياد العلاوي، حيث أعلنت حركة الوفاق انسحابها من الائتلاف وتشكيل حزب جديد، تبعه انسحاب شخصيات بارزة مثل شاكر الكتاب المقرب من طارق الهاشمي، أعقبه أيضا انسحابات شملت محافظات النجف والبصرة وواسط وبابل وذي قار ، مما أعطى الأزمة أبعادا إضافية يصعب السيطرة عليها وإدارتها في ظل أجواء سياسية – مذهبية ضاغطة وقاسية.
إن التدقيق في هذه الانسحابات والتبدّلات السياسية التي نجمت عنها، يظهر بشكل واضح تحوّل القائمة العراقية إلى مكوِّن سياسي يغلب عليه الطابع السني، بعدما كانت هذه القائمة تشكل تجمّع سياسي مختلط فيه قيادات سياسية شيعية وسنية بارزة، علاوة على قيادات كردية وتركمانية وصائبية،مضافا إليها الكتلة البيضاء، وبانسحاب نوابها من الكتلة البرلمانية،يزيد مظاهر الفرز العام،حيث يتجه الوضع العام إلى تأسيس ثلاث قوى،واحدة على أساس قومي كردي،والأخريتان على أساس مذهبي. وما يعزز هذا المشهد الموقف الكردي من مجمل الأزمة السياسية الحالية،حيث تمسك العصا من الوسط في سياق الوساطة المطروحة لقضية الهاشمي، علاوة على استضافة إقليم كردستان لزعماء سياسيين يشكلون جزءا من الأزمة مثل علاوي،والمطلك والملا والدملوجي إضافة إلى الهاشمي،الذي أثار حفيظة واستهجان ائتلاف دولة القانون .
ان الكتل السياسية الثلاث وما تحتويه من مكونات سياسية لم تتأسس على قواعد حزبية، ذات قناعات مشتركة،بل قامت على أسس ائتلافية فضفاضة. وآلت بها الأمور إلى نهايات معروفة كما تنتهي أية كتلة ائتلافية في أي نظام سياسي، حيث تقاسمت السلطة ومقدراتها بداية،وسرعان ما افترقت عند أول خلاف على مغانم ومصالح معينة.ففي الوقت الذي برز بشكل واضح ان القائمة العراقية فشلت في تقديم نفسها باعتبارها شريكا فعليا في السلطة، نجح الطرفان الآخران وان بوجهات سلبية في تنفيذ برامجهما، فائتلاف دولة القانون تمكّنت عبر رئيسها مثلا بإمساك السلطة بكافة مفاصلها وبشكل آثار حفيظة المكونات السياسية المقابلة، التي أخذت تنحو باتجاه مطالب خاصة متعلقة بالمحافظات ذات الأغلبية السنية مثل محافظات صلاح الدين والموصل وديالى والأنبار،وبموازاة الصعود الفارق للمكون الكردي الذي بات بمثابة الحكّم بين الطرفين بعدما انتزع قوته من ضعف الطرفين الآخرين.
أزمة ثقة
ثمة أزمة ثقة قائمة بين أطراف المكِّون السياسي العراقي،فالكل لا يثق بالكل، والجميع يدير أزمت النظام بافتعال أزمات موازية للمفاوضة والمقايضة،ما يوسّع فجوة الخلاف ويبعد المسافات ويؤجج النزاعات والصراعات، فمنذ العام 2003 حتى وقتنا الراهن،لا يخرج النظام من أزمة حكم إلا ويكون قد تهيأ للدخول في الثانية. نظام برلماني اتحادي فدرالي قائم على مثلث قومي كردي ومذهبي سني شيعي، اعتبره البعض حلا على الأقل في مرحلة انتقالية خلال فترة الاحتلال،سرعان ما حولته الكتل نفسها إلى وسيلة إما للقهر والاستئثار،وإما وسيلة للانفصال،فيما عامة المجتمع العراقي من كل الطوائف والمذاهب والقوميات عانت وتعاني من أشكل التهميش الاجتماعي والاقتصادي.
ان ما يصطدم به كل من التحالف الوطني وائتلاف دولة القانون في ظل الأزمة الحالية، خياران أحلاهما مرٌّ بالنسبة لكليهما. فإما الرضوخ لمطالب القائمة العراقية وبدعم من التحالف الكردستاني، بتنفيذ بنود مؤتمر أربيل 2010؛وإما انتظار تحالف خصومهم مع التحالف الكردي بشقيه في البرلمان بهدف إسقاط حكومة المالكي،ما يعني ان الدخول في هذا السيناريو المزيد من تعقيد العملية السياسية،حيث استغرق تشكيل حكومة المالكي بعد انتخابات آذار 2010 ما يقرب من السنة،فكيف سيكون عليه الوضع حاليا في ظل الانقسام االعامودي الحاد بين مختلف أطياف الشعب العراقي؟
لا تقتصر الأزمة الحالية على هذا الجانب،بل يتعداه الأمر إلى أسباب وخلفيات أخرى لا تقل شأنا أو خطرا على مستقبل العراق ومكوناته الاجتماعية والسياسية. فثمة أزمة في تركيبة السلطة وتوزيعها،التي استأثر بها تحالف دولة القانون، ما أدى إلى ظهور شعارات اللامركزية التي لامست الجانب السياسي عبر المطالبة بتحويل بعض المحافظات إلى أقاليم،وبالتالي تحوّل بعض مظاهر الأزمة السياسية إلى مظاهر أزمات ذات بُعد كياني مآلاته التفتيت والتقسيم والتجزئة كما ينظر إليها بعض العراقيين.
أبعاد خارجية
وما يراكم الخوف والقلق من تلك الأزمات الكيانية، الأبعاد الخارجية للأزمة الحالية، وهي متعددة الأوجه والأبعاد؛فهي عربية من جهة وغير عربية من جهة أخرى.باختصار باتت دول الجوار الجغرافي للعراق اللاعب الأقوى في تحديد سياساته الداخلية والخارجية،كما الأفعل في ترتيب أولوياته وتحالفاته.
فالعراق المتروك إقليميا ودوليا لقدره، محاط بدول طامحة للعب ادوار إقليمية عظمى، كما ان موقعه الجيو سياسي بات موقعا للشد والجذب المذهبي.شيعيا في شرقه وغربه،وسنيا في شماله وجنوبه؛وفي كلتا الحالتين ثمة تراخٍ وعدم قدرة واضحتين، على ان يكون للعراقيين دور في تحديد موقعهم السياسي،وباتوا مجرد توابع ارتدادية لهزات مذهبية وقومية تشهدها المنطقة حاليا.فإيران الفارسية الشيعية تبحث عن مواقع تشد أزر أذرع سياساتها الخارجية ومن بينها الساحة العراقية المهيأة لذلك؛ كما تركيا العثمانية السنية التي تخلت عن سياسة "تصفير المشاكل" وانطلقت أيضا للعب الدور نفسه من خلال الساحة العراقية وغيرها. ان هذين التجاذبين يجعل من العراق بيئة مناسبة للضم والفرز السياسي والمذهبي والقومي ما يعزز سيناريوهات الدخول بالأزمات المتلاحقة التي يصعب السيطرة عليها وإدارتها بأكلاف تقليدية معتادة.

المؤتمر الوطني ... أزمة سياسية منتظرة
ثمة آمال معلقة على انعقاد المؤتمر الوطني الذي دعا إليه،الرئيس العراقي جلال الطالباني، فهل هناك أمل من انعقاده أولا؟ وإذا كان الأمر ممكنا هل ثمة اتفاق على مكانه وجدول أعماله؟ وما هي مواقف الأطراف المفترض دعوتها لحضوره؟ أسئلة كثيرة بحجم المشاكل والأزمات التي يتخبط بها العراق،لكن الإجابة عليها تستلزم التدقيق في المواقف والخلفيات التي يقف وراءها كل طرف من الأطراف العراقيين.
أولا، ثمة خلاف على مكان انعقاد المؤتمر،فالأكراد يصرّون على عقده في أربيل،المكان الذي يعطيهم قوة معنوية إضافية لإدارته والتحكم بمساراته، فيما يطالب ائتلاف دولة القانون والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي والتيار الصدري وحزب الفضيلة وتيار الإصلاح الوطني انعقاده في بغداد.وثانيا لجهة ربط المكان بنوعية الحضور،فثمة سياسيون يربطون حضورهم بحضور سياسيين آخرين، فمثلا يربط أياد علاوي حضوره بحضور رئيس المجلس الأعلى عمار الحكيم وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ورئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني،فيما شدد آخرون على ضرورة حضور الرئيس العراقي جلال الطالباني،باعتباره صاحب الدعوة،والجهة الأكثر قدرة على الـتأثير في تقريب وجهات النظر،لكن غيابه لفترة ربما تطول بسبب العلاج في ألمانيا ، يعزز الشكوك بإمكانية انعقاد المؤتمر أصلا برعايته وحضوره في القريب العاجل كما يأمل البعض.
أما لجهة جدول أعمال المؤتمر، فقد شكّلت قضية نائب الرئيس طارق الهاشمي منصة للشروط والشروط المضادة، فبينما تضع القائمة العراقية شروطا ومطالب محددة بمسألة الهاشمي لحضور المؤتمر، يطالب التحالف الوطني بعدم إدخال القضية في أي ملفات سياسية كما يرفض إدراجها كقضية في جدول أعمال المؤتمر. في الوقت الذي لن تتاح الفرصة للهاشمي حضور المؤتمر سيُفرض ملفه عمليا على فعاليات المؤتمر وسياقات مناقشاته في حال انعقاده.
ان احتمالات الفشل تطغى على الأجواء السياسية السائدة، وما يؤكد هذه الفرضيات بعض المواقف، ومن بينها الخيارات التي طرحها رئيس القائمة العراقية أياد علاوي،والتي تتلخص في حل الحكومة وإجراء انتخابات نيابية مبكرة،فيما الخيار الثاني قيام التحالف الوطني باعتباره الكتلة الأكبر في البرلمان بتسمية رئيس حكومة جديد ،وإما ثالثا تشكيل حكومة شراكة استنادا إلى اتفاقية أربيل الموقعة أواخر العام 2010 بين المالكي وعلاوي والبرزاني.فيما يدعو المالكي إلى حكومة أغلبية بعد انسحاب القائمة العراقية من الحكومة وتشكيلها كتلة برلمانية معارضة، في الوقت الذي تتحمس الكتلة البيضاء لهذه الطروح أملا بكسب بعض المقاعد الوزارية. فيما الأكراد يدعون إلى الالتزام باتفاقية أربيل وحل قضية الهاشمي عبر تسويات سياسية.
إنَّ التدقيق في مجمل مواقف وطروح الفئات السياسية العراقية تشير إلى ان العراق مرشح للدخول في أزمة أخرى ظاهرها سياسي وباطنها كياني ما يوجب البحث عن خيارات أخرى لتفادي الأسوأ والذي لن يكون أي طرف بمنأى عن تداعياتها وذيولها.
ما العمل؟
ان محاولة تجاوز الأزمة والولوج في رسم معالم المرحلة المقبلة يتطلب التوافق على سلة من المكونات الرئيسة من بينها:
- ان بناء دولة المؤسسات أمرا لازما وضروريا من خلال الشراكة التي ينظمها الدستور وبخاصة المادة 66.
- الشروع بعملية التعديلات الدستورية وبخاصة الثغرات الناجمة عن انتخابات آذار 2010،التي كانت سببا رئيسا للأزمات السياسية المتلاحقة.
- الالتزام بنصوص اتفاقية أربيل.
- تأسيس أحزاب سياسية عابرة للطوائف والمذاهب والقوميات.
- بناء القوات المسلحة على أسس وطنية لا فئوية تعيد دوره في الحفاظ على مكونات العراق.وتعزيز الثقة بالنظام القضائي.
- نقل بعض الصلاحيات من الحكومة المركزية إلى حكومات المحافظات.
- تطوير وتعزيز آليات المشاركة والابتعاد عن الاستئثار في السلطة والتفرد.
قدر العراق كغيره من البلدان العربية، التخبط بأزمات داخلية ذات أبعاد خارجية، لكن هذا القدر ليس بالضرورة واقع يستوجب الاستسلام، واعتباره أمرا مقضيا؛ فاستعراض تاريخ الدول وحضاراتها زاخر بالتجارب والمحن المماثلة،لكنها تمكنت بفضل إرادة شعوبها العبور إلى بر الأمن والأمان الذي بات مطلبا ضروريا لكل عراقي.

08‏/02‏/2012

ادارة الازمات بالروح الرياضية الدموية

إدارة الأزمات بالروح الرياضية الدموية
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

ثمة ما يُعرف بنظريات إدارة الأزمات الداخلية للدول، ومن بينها الإدارة بالأزمات،ومفادها افتعال أزمات إضافية، للتغطية أو لإدارة أزمات أكثر حساسية أخرى لم تتمكن السلطة الخروج منها. وفي الواقع برعت أنظمتنا العربية بهذا النوع من الهروب إلى الأمام عبر هذه الوسائل.

وفي الواقع أيضا ، أجادت أنظمتنا وتفننت في ابتكار وحتى اختراع وتسخير ما لا يخطر على البال في سبيل تغطية فشلها في حل العديد من قضايانا وأزماتنا ، التي كانت هي في الأساس أول من تسبَّب بها. والمفارقة المضحكة المبكية في هذا المجال استغلال الألعاب الرياضية وسيلة لإلهاء الشعوب عن مشاغلها الحقيقية.وثمة حالات كثيرة شائعة في مجتمعاتنا العربية غرقت في هذا النوع من الإلهاء وساعدت طبعا بغير قصد، هذه الأنظمة على التفلت من مسؤولياتها.

فما حدث في مصر على سبيل المثال ليس بسابقة لا في مصر ولا بغيرها من الدول العربية والغربية،لكن المفارقة فيها، مجموع أعداد الضحايا بين قتلى وجرحى،إذ سجلت أعدادا مفزعة عند مقارنتها ومقاربتها،بأرقام الضحايا الذين سقطوا إبان الثورة على نظام الرئيس حسني مبارك.

فمن المفجع ان يسقط في عِراك رياضي ربع الإعداد التي أدت إلى إسقاط النظام، كما يماثل هذا الرقم وهذه النسبة أيضا أعداد الجرحى. فبحسب الإحصاءات الرسمية لم يتجاوز عدد الضحايا في الثورة الـ 400،والجرحى 6500؛فيما سقط في بور سعيد بحسب الإحصاءات الأولية 75 قتيلا وأكثر من 300 جريح. فماذا يعني ذلك،هل هي من نوع الروح الرياضية والشهامة التي يتباهى بها العرب؟ أم ثمة خلفيات أخرى لهذا الوضع يمكن الاستفادة منه عمليا؟

في الواقع ثمة سلوك اجتماعي أنتجته أنظمتنا عند كل مطب وقعت فيه،ومن بين هذه الوسائل إنتاج صراعات اجتماعية على خلفيات رياضية. فماذا حدث في مصر بعد العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في العام 1967،ألم تنطلق الفرق الرياضية العربية في غير بلد عربي ومنها مصر للتغطية على مأساة ما حصل، وتوجيه السلوك السياسي والاجتماعي للمواطنين باتجاهات مغايرة، ومثال ذلك انقسام الشارع المصري بين الأهلي والزمالك. وماذا حدث في لبنان كذلك بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، ببساطة انتشرت الجمعيات والفرق الرياضية في القرى والبلدات اللبنانية كالنار في الهشيم،وسجل إعطاء تراخيص بشكل وبحجم لم يسبقه مثيل في تاريخ إنشاء الجمعيات الرياضية في لبنان. وقس على تلك النماذج الكثير من الحالات في مختلف بلداننا العربية.

اليوم ما جرى في مصر ، هي حالة ينبغي النظر إليها بدقة، لجهة تداعياتها وأبعادها ودلالاتها. فهي تؤسس لشرخ اجتماعي مناطقي ومن الممكن ان يُجيّر طائفيا ومذهبيا، بحسب انتماءات الشرائح الاجتماعية،وعندها لن يعتبر الموضوع مجرد أزمة ناجمة عن تشجيع رياضي لهذا الفريق أو ذاك.علاوة على ذلك ان ما جرى يشير إلى سلوك اجتماعي ضاغط ومتفلت يصعب السيطرة عليه،وان كانت الحالة الشعبية المصرية تشهد حراكا تغييرا بمواجهة من يصفونهم بآكلي ثورتهم.

ان الوضع العام المصري ،يشهد حاليا تحوّلا على قاعدة مواجهة محاولات احتواء الثورة، وهي حالة تنم عن سخط شعبي لما آلت إليه الثورة، وفي المقابل ثمة من ينفخ في شق وتأجيج الشرائح الاجتماعية المصرية للتخفيف من حجم ضغوطها وآثار تحركاتها،في وقت يبدو ان ظروف الاختراق متوافرة وقابلة للتمدد في غير اتجاه.

من الطبيعي ان تكون المناسبات الرياضية موقعا وموضعا للتنافس الرياضي، وليست مرتعا لإشعال الفوضى والانقسامات، في بلد هو بأمس الحاجة لوسائل تعزّز وحدته الوطنية السياسية كما الرياضية. كما انه من غير الطبيعي أيضا ان تنساب الروح الرياضية الدموية بين فئات وشرائح اجتماعية من المفترض اعتبارها خزانا للقضايا الإستراتيجية الوطنية.

إحدى الشعارات الأولى التي انطلقت في غير مكان وموقع مصري ،" كلنا إيد واحدة"،اليوم تُفرّق أقدام الكرة،ما جمع المصريين في ثورة ينبغي ان تكون نبراسا لباقي المجتمعات العربية الباحثة عن حريتها بروح ثورية، لا بوسائل رياضية دموية.



02‏/02‏/2012

حراك العرب وتحديات السودان

حراك العرب وتحديات السودان
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 1/2/2012

خلال عام من الحراك العربي ،شهد السودان تحولات لافتة ربما تهيئ لظروف مساعدة على تغيير الوضع القائم.من بين هذه التحولات،انفصال الجنوب، وحالة التمرّد في جنوب ولاية كردفان ولجوء زعيمها عبد العزيز الحلو إلى الحدود مع دولة الجنوب، وانفجار الوضع الأمني في المناطق الحدودية بعد توقيع الحكومة السودانية اتفاقيتين مع الحركة الشعبية لتحرير السودان والمتعلقتين بمنطقة ابيي المتنازع عليها ومنطقتي كردفان والنيل الأزرق في ظل حركة التمرّد التي يقودها مالك عقار في النيل الأزرق ولجوئه أيضا إلى جنوب السودان، في الوقت الذي لم تكن حكومة الإنقاذ لتلبي طموحات الشرائح السياسية والاجتماعية السودانية.

وان كانت هذه التحوّلات لا ترنو عمليا إلى مستويات الحراك التغييري،فثمة تحدّيات كبيرة تواجه المجتمع السوداني وسلطته، وتجعله على قاب قوسين أو أدنى لحراك قادم، من الصعب التنبؤ بنتائجه بالنظر للظروف الذاتية والموضوعية للسودان.فعلى الرغم من التجارب التي مرّت بها كل من تونس ومصر وليبيا،التي تعتبر مفتاحا لأي تغيير في الدول العربية الأخرى في أفريقيا، ثمة عوامل داخلية مثبطة من بينها عدم المبالاة الشعبية وضعف أحزاب المعارضة وانعدام التواصل بين مختلف مكونات المجتمع السوداني.

إلا ان ثمة تحديات كبيرة تواجه السودان في المرحلة الراهنة تدفع باتجاه حتمية الحراك والتغيير، وهي بمجملها تحدّيات داخلية،مع وجود عناصر خارجية مساعدة،ويمكن رصد العديد منها وأبرزها:

ثمة تحديات إقليمية ودولية تتمثل في إعادة صياغة الواقع الجيو سياسي لدول الجوار الجغرافي للسودان، وهي في الواقع تحديات تلامس أمنه القومي، وهي بطبيعة الأمر تشكّل خصما وازنا في مكانته العربية والأفريقية. علاوة على مجموعة الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية على الرئيس حسن البشير من بوابة المحكمة الجنائية الدولية،والتي كانت إحدى نتائجها موافقته على الاستفتاء الذي أدى إلى انفصال الجنوب.

أما التحدي السياسي ، فيتمثل في انقسام النخب السياسية على نفسها، وافتقادها لبرامج ورؤى لمستقبل السودان بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. في ظل شعور سياسي عام بحالة الاستئثار بالسلطة التي تمارس من قبل الحكومة على حساب مكونات سياسية رئيسية في البلاد، مثل حزب المؤتمر الشعبي وحزب الأمة، علاوة على حركات التمرّد القديمة منها والجديدة في دارفور والنيل الأزرق وكردفان،ما يعوق صياغة سياسية دستورية لنظام الحكم المفترض.

ثالث التحدّيات يكمن في الوضع الأمني والعسكري في غير منطقة سودانية، ففي المناطق الحدودية الجنوبية وبخاصة النيل الأزرق وجبال النوبة وجنوب كردفان،ثمة إعادة إنتاج لحركات تمرّد مسلحة تنذر بمزيد من الانقسامات وحفلات الانفصال والتفتيت والتجزئة، علاوة على السلام البارد الذي تعيشه حاليا قبائل شرق السودان والتي تعزز مظاهر انهيار الأطراف السودانية.فوق ذلك كله الوضع في دارفور حيث تتعثر الرعاية القطرية لعملية السلام في ظل استمرار حركة العدل والمساواة بحمل السلاح والعمل على إسقاط نظام الرئيس حسن البشير.

رابع التحديات الوضع الاقتصادي، إذ خسر السودان غالبية عوائده النفطية بعد انفصال الجنوب، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسب التضخم والضائقة الاقتصادية لشرائع واسعة في المجتمع السوداني،الذي يعاني في الأساس نظامه من مشاكل اقتصادية ومالية بنيوية.

ان التحديات التي تواجه مستقبل السودان هي من النوع الذي يتطلب حلولا عاجلة ،في الوقت الذي يبدو فيه الحراك السياسي السوداني بطيئا مقارنة بما يدور حوله من عمليات تغيير،وبالتالي ان تصوّر مشاريع الحلول في مثل تلك الأوضاع يتطلب جرأة واضحة من النظام نفسه قبل غيره،انطلاقا من إمكانية ان يكون النظام نفسه جزءا من حل يمكن التوافق عليه بدلا من ان يكون جزءا من المشكلة القائمة والمرشحة إلى مزيد من التعقيدات.

ثمة من يدعو في السودان إلى تشكيل حكومة جديدة تتمثل فيها جميع مكونات السودان السياسية والعرقية، على ان تكون من أولوياتها قيادة عملية الإصلاح من خلال صياغة النظام السياسي بعد تحديد العديد من القضايا المختلف عليها في طبيعة النظام كالهوية والدين والمواطنية والمشاركة وغيرها من المسائل التي كانت سببا في تشرذم الواقع السياسي السوداني في العقود الماضية.

ربما يختلف السودان في بعض الحيثيات عن غيره من دول الجوار العربي لجهة نظام الحكم الذي استمر بوجوه مختلفة بعد الاستقلال،علاوة على التعددية القومية والعرقية والقبلية التي أثرت في سلوك القيّمين على السلطة وكيفية إدارة أزماته، لكن المشترك بين المجتمع السوداني بشكل عام وغيره من المجتمعات العربية ، حاجته الماسّة لصياغة نظام حكم يتطلع إليه السودانيون في عصر باتت قضايا حقوق الإنسان ومفراداتها من مخلفات القرن الماضي!.فهل سيستجاب لمتطلبات التغيير الحقيقية؟أم سيكون السودان مرتعا للفوضى والاقتتال والتناحر؟ سؤال لا يملك الإجابة عليه إلا السودانيين أنفسهم.