29‏/08‏/2011

تداعيات سقوط القذافي

تداعيات سقوط القذافي
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 29-8-2011
ثمة أسئلة لا تنتهي، بدءا من التداعيات الخارجية وبخاصة على بعض الأنظمة العربية التي تشهد حراكا مستمرا منذ شهور،مرورا بجملة تقاطع المصالح وتباينها إقليميا ودوليا بحكم موقع ليبيا الجيوسياسي والنفطي، وصولا إلى التداعيات الداخلية وكيفية تركيب النظام القادم.
فعندما انطلقت ثورة بو عزيزي التونسي، لم يكن أحد يتخيل أنها ستصل إلى باب العزيزية في ليبيا، كما ان لا أحدا كان يتخيل ان حكاما عربا سيحاكمون،وبالتالي صح شعار "الشعب يريد ..." ، ما يعني ان تداعيات انهيار النظام الليبي سيستتبع سقوط أنظمة أخرى لا زالت تتمايل على وقع مطالب عمرها من عمر كيانات هذه الأنظمة. وبصرف النظر عن أي نظام سيأتي عليه الدور لاحقا، إلا ان دروسا مستفادة ينبغي استخلاصها ومن بينها،التعلم على كيفية إدارة الأزمات الداخلية للأنظمة بهدف تقليل الخسائر ما أمكن،سيما وأن ظروفا ليست بالعابرة تعصف بها،وبالتالي عدة الشغل القديمة لم تعد صالحة للانتقال إلى مراحل جديدة من عمر هذه الكيانات والأنظمة،وبالتالي ان الدرس الليبي الأول الذي ينبغي التعلم منه،هو ان الحلول الأمنية ليست هي البديل لأي حل ممكن ولو على حساب التنازل عن السلطة،والتّعوّد على تداول السلطة ولو مكرهين.
وربما أخطر التداعيات وان كانت خارجية هنا، فتكمن بين حفلة الصراعات الباردة والحامية بين الفواعل الإقليميين والدوليين المتدخلين في الأزمة الليبية حاليا.والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا،مدى تقاطع المصالح ضمن حلف الناتو نفسه،وبالتحديد القطبين الفرنسي والأمريكي مقرونا بالألماني والايطالي، على تقاسم جبنة ليبيا النفطية.هل ثمة تصورا واضحا لما بعد القذافي بين المنتصرين الحقيقيين في ليبيا وخارجها؟ أم ان الخلافات ستعصف فيما بينهم حول عقود إعادة اعمار ما كان من شبه دولة قائمة؟ وما هي خطط إقامة نظام لبيبي يحاكي المتغيرات العالمية القائمة حاليا؟.
عندما غزت أميركا العراق في العام 2003 ألغت عقودا نفطية كانت قائمة مع فرنسا وروسيا بمئات مليارات دولار، وكانت شركة توتال الفرنسية الخاسر الأكبر في حفلة الهيمنة على العقود لا تقسيمها،باعتبار ان حسابات لقوى الصف الثاني في الغزو. اليوم ربما الصورة معكوسة نسبيا في ليبيا حيث تعتبر فرنسا معنية ببوابة أفريقيا الشمالية، والعصب النابض للاتحاد المتوسطي،فهل ستكون باريس لقمة سائغة في حسابات النظام القادم في ليبيا مستقبلا؟ وهل ستكون مجرد مدعوة على وليمة كبرى بدل من ان تكون شريكة فيها. الأمر نفسه ينطبق أيضا على باقي الأطراف شبه الفاعلين في القضية الليبية.
وإذا انتقلنا إلى المقلب الآخر، حول الموقع الروسي في كل تلك العملية بتفاصيلها الجغرافية والاقتصادية، فهل ستقف موسكو حيث هي الآن، وهي المتأخر الأول في سياق إدارة الأزمة الليبية منذ بداياتها،حيث عارضت سياقات القرارات الدولية وبالكاد التحقت بالركب الأميركي الأوروبي.وهل ستبقى مكتوفة الأيدي لتخرج خالية الوفاض من البحر المتوسط،الحلم الدفين بالمياه الدافئة،بعدما تركته عنوة، وبخاصة ان وضعها في قاعدة طرطوس السورية ليس بأحسن حال في ظل ظروف سوريا الضبابية. الأمر ينطبق أيضا على موقع الصين مثلا التي استثمرت مئات مليارات الدولارات في غير بلد أفريقي،والذي لن تكون هذه الدول بمنأى عن التداعيات الليبية القادمة على القارة السمراء.
ثمة أسئلة محرجة على الصعيد الليبي الداخلي، هل ستتمكن التشكيلات السياسية القائمة حاليا وبالتحديد المجلس الانتقالي من نقل البلاد من ضفة إلى أخرى في ظروف ليبية معروفة هي أقرب إلى المشاع السياسي البعيد كل البعد عن مفهوم الدولة العصرية وأسسها ؟ هل يمكن تخطي الواقع الاجتماعي - السياسي القائم بتشكيلاته القبلية المعقدة التي حُكمت سابقا بآليات عجيبة غريبة؟ هل يمكن إعادة العصب الاقتصادي الليبي النفطي الانطلاق مجددا بسرعة لإعادة الإعمار ؟ أم سيكون مرهونا بمؤتمرات إقليمية ودولية على شاكلة السوابق العربية مثل العراق ولبنان وغيرهما؟ كلها أسئلة محيّرة تبحث عن أجوبة في خضم ضباب يكتنف الوضع الليبي برمته.
طبعا، ليبيا كغيرها من الدول التي تتميز بموقع جيو استراتيجي،لكنها تقترن أيضا بميزات إضافية ذات طبيعة إستراتيجية حيوية، فهي تشكل 2 بالمئة من إنتاج النفط العالمي، وهي بوابة أفريقيا الشمالية،وهي بمثابة أفغانستان آسيا، وعلى قياسها تفصل السياسات القارية والدولية. هي صاحبة أطول شواطئ الاتحاد المتوسطي، وهي على حدود ثورة مصر التي بدأت تأخذ مناحي أخرى متعلقة باتفاقات كامب دايفيد وأخواتها،وهي عصب الجغرافيا السياسية للمغرب العربي،وهي على بعد مرمى حجر من الولايات المتحدة الأوروبية الموعودة، وهي تختزن برمال صحاريها الكثير من الاحتمالات المفتوحة على شتى صنوف الخيارات الداخلية والخارجية.
أخيرا وبصرف النظر،عن المآلات المتصلة بالتداعيات الداخلية ومنها مثلا مصير إمبراطورية القذاغي الراقدة على ثروة 130 مليار دولار،ومن ضمنها طبعا الأموال الليبية المجمدة في الخارج، وكذلك إمكانية محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية، ثمة خوف كبير ان تلحق ليبيا بما سبقها من أنظمة عربية تهاوت سابقا، فيصبح تحرير الأنظمة مقرونا بالاحتلال الأجنبي، وهي طامة أنظمتنا العربية التي سادت عقودا من الزمن، وغريب مفارقاتها أنها بادت في لحظات غفلة من الزمن. أنها كلمة الشعب الذي أراد.

22‏/08‏/2011

قراءة قانونية لاتهامات سياسية

قراءة قانونية لاتهامات سياسية
خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
من الثوابت في إطار القانون الدولي الجنائي ،استناده إلى قواعد وإجراءات دقيقة ، بهدف تحقيق اكبر قدر ممكن من العدالة الدولية،وهو في ذلك ينبغي الاستناد إلى أدلة صلبة ينبغي ان ترقى إلى مستويات غير قابلة للدحض أو التأويل أو التخمين.علاوة على ذلك،ان مسارات التحقيق والتدقيق والتمحيص في أية قرائن ذات صلة بجريمة مصنفة دولية،ينبغي ان تراعي معايير وإجراءات لا لبس أو ازدواجية فيها،بهدف ان يكون أي قرار اتهامي صادر عن محكمة دولية ذات طابع حكمي،وذات منسوب عالٍ من الدقة والتأكيد على وقائع ليست عابرة،أو مرتبطة بغيرها من الوقائع غير الصلبة أو غير الثابتة، وإلا اعتبر مجمل القرار مبني على متغيرات يصعب الإتكاء عليه في عمليات المحاكمة.
طبعا،ان القرار الإتهامي الصادر عن المحكمة الخاصة بلبنان، ذات طبيعة خلافية في الأساس،للعديد من الأسباب،منها ما هو متعلق بطبيعة المحكمة ذاتها وطريقة إنشائها وأسلوب عملها سابقا،ومنها مرتبط بالظروف السياسية الإقليمية والدولية التي رافقت ظروف الاغتيال والتحقيق وصولا إلى القرار ألاتهامي.
وإذا كان ثمة إجماع بين اللبنانيين على وجوب الوصول إلى الحقيقة الكاملة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري،إلا ان ليس ثمة إجماعا على الوسيلة أو الطريقة التي تُدار فيها هذه القضية.وبصرف النظر عن المآلات التي وصلت إليها المحكمة والمواقف منها أو من القرار الإتهامي الأخير ،فإن جملة ملاحظات قانونية يمكن أن تطرح أو توجه لمن مع القرار أو ضده.
بداية، ثمة إجماع بين مختلف التيارات الفقهية والقانونية على وجوب سرية التحقيقات والقرارات الاتهامية التي ينبغي عدم تجاوزها،باعتبارها أحد القواعد الأساسية التي ينبغي على المحكمة السير بها، وفي مقاربة بسيطة لما جاء في القرار الإتهامي ،الذي سُميَّ رفع السرية عنه قانونا، يتبين من خلال القراءة القانونية الدقيقة لنص الاتهام،انه كان متطابقا إلى حد كبير مع ما هو معروف سابقا،والذي سُرِّب في الإعلام قبل شهر ونيف،وما نشر في صحف ألمانية وفرنسية وكندية،مثال لوفيغارو ودير شبيفل،ومحطة سي بي أس،ذلك في فترات سابقة تمتد إلى أكثر من سنتين،ما يعني ان القرار الإتهامي لم يكن سريا بل معروفا للعامة من الجمهور وليس المختصين فقط.وبالتالي هي عامل سلبي أول بمواجهة قواعد الإجراءات العائدة للمحكمة.
لقد ورد في سياق النص القانوني للقرار الإتهامي الذي من المفترض ان تكون اللغة المستعملة فيه، لغة قانونية صلبة،ولا يستند إلى مصطلحات وتعابير ذات معانٍ مبهمة أو قابلة للتأويل،أو في حدها الأدنى ينبغي ان لا تأخذ القارئ إلى أماكن غير قطعية.فعلى سبيل المثال لا الحصر،ورد تعبير،"من الممكن" اثنتي عشرة مرة"، و"من المعقول الاستنتاج" مرتين، و"يمكن الاستنتاج" ثلاث مرت، وهي مصطلحات استعملت في موضع استنتاج أدلة وقرائن،اعتمدها التقرير بشكل مباشر لإسناد الاتهام المباشر لأشخاص بعينم،وليس إلى مجموعات على سبيل المثال ومن بينها هؤلاء المتهمين،على الأقل مراعاة لأسلوب الاستنتاجات وهي بطبيعتها تخمينية،لا قاطعة.
وبعكس المرات السابقة،لقد تم توجيه الاتهام إلى الأشخاص الأربعة بصفتهم الحزبية،لا الشخصية،وصوّر الفئة السياسية التي ينتمي إليها منظمة إرهابية،الأمر الذي تم تجنبه في المرات السابقة. بناء على سوابق تعود لثلاثين عاما مضت من وجهة نظر سياسية معينة.
لقد استند القرار إلى أدلة ظرفية ،متصل بالمكان والزمان،الذي سبق عملية الاغتيال وبعدها،اعتمادا بشكل أساسي ورئيسي على شبكة الاتصالات الخلوية.وفي هذا الإطار يمكن تسجيل ملاحظات أخرى، من بينها،ان قواعد الإثبات والأدلة في القضايا الجنائية،ينبغي ان تكون دامغة بطبيعتها وغير مرتبطة بأي ظرف زماني أو مكاني متغير،في عنصريه أو في واحد منهما. علاوة على وجوب ان تكون هذه الأدلة قائمة بذاتها،بينما تم إبرازها عبر الاستنتاجات المرتبطة بعدد من الاتصالات الخلوية،على قاعدة تقاطع بعض الاتصالات لبعض المتهمين في وقت محدد، ويقال في مكان محدد. وهو أمر وان كان يمكن الاستناد عليه في إطار التحقيقات الأولية،إلا انه لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة اليقين للاستناد عليه لتوجيه اتهام لجريمة ذات توصيف دولي.
ان القضية المركزية في القرار الإتهامي،متصلة بالاستناد بشكل أساسي على شبكات الاتصالات الخلوية، وهو أمر مختلف عليه من الناحية العملية إضافة إلى السياسية والتقنية. فبصرف النظر عن التكييف القانوني لإمكانية الاستناد عليها من عدمها،فقد أثبتت الوقائع العملية المدعمة باعترافات موثقة،ان بعض المسؤولين في شبكتي الخلوي اللبنانية،عملوا لمصلحة "الموساد الإسرائيلي"،وسلموا مشغليهم ما يلزم للسيطرة على "داتا المعلومات"،كما ان ثمة تقارير علمية من أصحاب اختصاص، أفادت ان ثمة تلاعب قد حصل ،وان ثمة إمكانات كثيرة يمكن من خلالها التلاعب بهذه الداتا وتوليف الاتصالات التي تخدم توجه محدد في إطار التحقيقات. الأمر الذي يعتبره كثير من المختصين القانونيين والتقنيين ،ان ما ورد في القرار لا يشكل أدلة قاطعة مباشرة بعينها.
ان استبعاد أي إشارة من قريب أو بعيد إلى "إسرائيل" كطرف يمكن إدخالها في إطار التحقيقات، يضفي على التقرير الطابع السياسي أكثر منه الطابع القانوني القضائي،والذي يثير علامات استفهام كثيرة على نوايا التقرير وما يمكن ان يرمي إليه،من أهداف بنظر كثير من اللبنانيين. علاوة على جانب الاستبعاد، فالتقرير الذي أشار مثلا إلى تظهير شخصية المفجر الانتحاري،لم يشر أيضا إليه،اسما أو جهة أو جنسية.
كما ان عملية التظليل التي تمت في النص، بهدف إخفاء بعض المعلومات من نص التقرير،يثير أسئلة أخرى، فإذا كانت السرية قد رفعت عن التقرير ،فلماذا تم إخفاء بعضها، ولمصلحة من؟ هل ثمة دفعة جديدة من الاتهامات سوف تبث مستقبلا؟ وماذا عن التسريبات الصحفية الأسبوع الماضي عن تورط سوريين وإيرانيين في هذه القضية؟
ثمة كثير من السياسة وقليل من القانون والقضاء ، في تقرير اتهامي استغرق العمل فيه خمس سنوات ونيف، في وقت ان أغلب المعلومات الواردة فيه كانت متداولة منذ سنوات ومعروفة للعامة قبل الخاصة من أصحاب الشأن،فإلى متى ستظل هذه القضية عدة شغل سياسية بأيدي إقليمية ودولية؟ وهل يمكن الاسترسال في مثل هذه الوسائل لكشف حقيقة ربما لن تظهر إلا بالإفراج عن الأسرار الحقيقية المتعلقة بالاغتيال والموجودة لدى بعض الدول الكبرى.

14‏/08‏/2011

تركيا وسوريا بين المُهل والتمهّل

تركيا وسوريا بين المُهل والتمهّل
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 14-8-2011
،عند الإعداد لقوات التحالف الدولي لتحرير الكويت من غزو العراق، اعتبر الرئيس التركي آنذاك تورغوت اوزال ان ثمة وليمة كبرى في المنطقة،وبدلا من ان تكون تركيا مجرد مدعو عليها،ينبغي ان تكون شريكة فيها.وبصرف النظر عن الموقع والدور في تلك الحفلة قبل عقدين من الزمن، وعلى الرغم من سياسة "صفر مشاكل" التي اعتمدت لاحقا مع دول الجوار التركي ومنها سوريا، ثمة الكثير من العوامل التي دفعت أنقرة للتطلع إلى أدوار إقليمية عظمى في المنطقة.
ومع وصول الإسلاميين إلى السلطة في أنقرة،وبروز مظاهر مطمئنة للعرب،بعد اهتزاز علاقة تركيا الإستراتيجية بإسرائيل،اتخذ الموقع التركي في فواعل الشرق الأوسط مناحٍ أكثر انفتاحا تجاه سوريا،وتطورت العلاقات الاقتصادية والسياسية باتجاهات إستراتيجية لافتة، وكأنها محاولة سورية لإقامة علاقات إقليمية متوازية مع الضلع الثالث في المنطقة المتمثل بإيران.
رافقت تلك العلاقات أيضا طموحات تركية ساعدها في ذلك العديد من القضايا العربية تحديدا،من بينها الحراك القائم في غير بلد عربي ومنها سوريا.ونظرا لحساسية الجغرافيا السياسية للدولتين،رأت أنقرة انه من غير الممكن ان تقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يجري في سوريا،تحت مسميات متعددة ومتنوعة،وبصرف النظر عن المبررات التي وقفت ورائها في مقاربة الملف السوري،ثمة جملة معطيات اذا ما تطورت يمكن ان تؤدي بوضع العلاقات إلى مزيد من السلم البارد.
في المقابل،وان بدت سوريا أكثر تفهما للأوضاع التي تمر بها المنطقة وبالتحديد سياسات الضغوط الموجهة ضدها، إلا أنها عرفت مؤخرا كيف تدير سلسلة الأزمات الداخلية بأوراق خارجية.فبعد التصريحات التركية العالية السقف ذات الصلة بالأحداث الداخلية السورية، والكلام الذي سبق زيارة وزير الخارجية التركي داوود اوغلو إلى دمشق، من نوع "المهل" وما شابه في عملية التحفيز والتشجيع على السير في خطى الإصلاح، جوبه باستيعاب واحتواء سوري،على قاعدة "التمهل" لا التسرع،سيما وأن سياسة دمشق الإصلاحية، بدأت بمسارات محددة،وان كان من يعتبر نفسه معنيا بها خارجيا غير راضٍ عنها.
صحيح ان سوريا هي جزء من منظومة إقليمية غير معتدلة وفقا لبعض التوصيفات المتداولة،إلا ان ما اتسمت بها سياسة دمشق في آليات إدارة الأزمات التي تتعرض لها عفوا أو قصدا،هي اقرب لسياسات التسويات منها إلى سياسات التصعيد وحفة الهاوية،بدليل ان ولاية الرئيس بشار الأسد منذ بداياتها وهي تتعرض لضغوط غربية وعربية هائلة، وتمكّنت دمشق بفضل تلك التسويات من بلع وهضم معظم المشاريع التي لا تتوافق مع التزاماتها الإقليمية الأخرى.وهذا ما يفسر صمودها حتى الآن بوجه أعاصير عاتية هبت على الشرق وكان من تداعياتها احتلال العراق وتموضع الولايات المتحدة في خاصرتها الشرقية.
ان مجمل تلك البيئات التي تكيّفت معها دمشق،ساعدت وشجعت أنقرة على الانخراط أكثر فأكثر في سياسات طموحة، لم تر منفذا لها سوى القضايا السورية،الجار ذات التاريخ المتأزم منذ سلخ لواء الاسكندرونة.فلعبت دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل ابيب في العامين 2006 و2007،وبصرف النظر عن نتائجها المعروفة سلفا بالنسبة لأنقرة ودمشق،فقد أسست لبيئات أشد وأقوى، ساعدت تركيا على ان تكون فاعلا حتى في النظام الإقليمي العربي أكثر من أي وقت مضى.
لقد صوّرت أنقرة نفسها وهي قادرة يبدو حتى الآن، في موقع القادر على لعب أدوار رئيسة في ترتيب بعض ملفات المنطقة الحساسة،وان كان مدخلها في ذلك، المشاركة في إدارة ملفات الحراك الشعبي العربي في كل من ليبيا وسوريا ولبنان على سبيل المثال.وبصرف النظر عن هذه الواجهة السياسية ثمة ملفات أكثر أهمية وحساسية يمكن لأنقرة ان تفكر في إعادة إحيائها مجددا،ومنها ملفات الصراع العربي الإسرائيلي وقضاياه لا سيما المفاوضات السورية الإسرائيلية تحديدا،وما يستتبعها من تداعيات على منظومة التحالفات السورية الإيرانية في غير مكان عربي.
ربما ان هذا الملف ليس موضوعا في واجهة الحراك الإقليمي والدولي، في وقت تنشغل إسرائيل حاليا بمواجهة عرض الفلسطينيين دولتهم في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر القادم، ورغم ذلك ان جوهر الغليان وتحالفاته في المنطقة يتركز على هذا الملف،تحديدا موقع سوريا فيما تبقى من صراع مع إسرائيل.فهل ستكون "المهل" التركية المعلنة هي إصلاحات سورية مطلوبة،بينما المخفية منها ملفات أخرى تحتاج إلى مزيد من "التمهل" السوري لارتباط الموضوع بأطراف آخرين فاعلين أيضا منهم عربا وغير عرب.!
وبصرف النظر عن نظريات المؤامرة التي ترمى من هنا وهناك،تبقى القضية المركزية شئنا أم أبينا، هي الصراع مع إسرائيل،وثمة كثير ممن يعتبر ان أي حراك أو محددات معينة تجرى محليا في البلدان العربية، هي مرتبطة بسلة من القضايا الإستراتيجية ذات الصلة بالملفات الإقليمية أكثر منها داخلية. كما أن سياق الحراك الإقليمي والدولي هو مرتبط بأزمة كيانات الدول العربية منذ نشأتها،أكثر منها أزمة أنظمة وشعوب تريد التخلص منها.
لقد تراجعت العلاقات التركية الإسرائيلية إلى مستويات غير مسبوقة خلال العقدين الماضيين، فيما لم تتمكن أنقرة من صرف هذا المعطى كما يحلو لها مع العرب،فهل هي بصدد إعادة إنتاج ادوار لتعيد التوازن في علاقتها مع كل من سوريا وإسرائيل؛ كما تمكنت دمشق من ذلك قبلا مع كل من أنقرة وطهران،ان ذلك مرهون بالقريب من الزمن، وبالتحديد بين آمال المهل،وآلام التمهل.

02‏/08‏/2011

هل تغرق أميركا بديونها أم بسياساتها؟
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 2-8-2011
مفارقة الولايات المتحدة الأمريكية أنها الأولى عالميا بكل ما يخطر ولا يخطر على بال.كذلك هي السباقة في كل توليد للأزمات الداخلية التي لها بعد وامتداد دولي.فما كاد العالم ينسى أو بالأحرى يتناسى أزمة العقارات الأمريكية التي امتدت إلى مختلف بقاع العالم وأصابته أكثر مما أصاب الأمريكيين أنفسهم من أزمت مالية واستثمارية ذات محتوى مصرفي دولي، حتى قفزت أزمة المديونية الأمريكية إلى الواجهة وهي ليست بجديدة،بل هي ظاهرة طبيعية في السياق المالي والاقتصادي الأمريكي منذو عقود طويلة. لكن الجديد في الأزمة هو الحرب الباردة بين الجمهوريين والديمقراطيين على إدارة الأزمة من خلال رفع سقف المديونية في محاولة للإيفاء بالديون الخارجية وجلها صينية وعربية - خليجية.
فالولايات المتحدة التي بلغت مديونيتها 14300 مليار دولار، والتي تنفق يوميا 200 مليار دولا أكثر من إيراداتها،سجلت مفارقة أخرى هي ان احتياطها الآن الذي لا يتجاوز 73.3 مليار دولار هو أقل من رأسمال شركة آبل للبرمجيات الذي وصل إلى 76.4 مليار دولار،ما يعني ان شركة عملاقة رمزيا هي أقوى ثقة من الولايات المتحدة نفسها.
في الواقع ان أزمة واشنطن ليست بجديدة، وهي انعكاس لسياسات داخلية وخارجية لا تستطيع تخطيها في ظل قيادتها للنظام العالمي حاليا.فلها حاليا 750 قاعدة عسكرية حول العالم،وهي تنفق المساعدات المالية والاقتصادية "المشروطة" دون رصيد سياسي قابل للصرف الاستثماري المالي، بل جله سلف سياسية مسبقة الدفع رصيده تأمين السمع والطاعة في ظروف دولية ينهشه العوز والاتكال على برامج المساعدات التي غاليا ما تدفع من جيوب الدول الثرية لا من جيوبها لكن بإدارتها ولحسابها الخاص.
فخلال أيام ينبغي على الإدارة الأمريكية ان تتخذ قراراتها الحاسمة لرفع مستوى سقف الاستدانة لعدم الوقوع في مطب الإفلاس المالي والعجز عن سداد المستحقات، ورغم أهمية الموضوع من الناحية المالية والاقتصادية، إلا ان تداعيات الإفلاس السياسي هو أخطر بكثير من الإفلاس المالي.فهي تواجه استحقاقات كثيرة لا تقل خطورة من بينها الوضع في أفغانستان وكذلك في العراق،فكيف يمكن التوفيق أو الموالفة بين السياسية والمال وإدارة الأزمات الدولية الناجمة عن سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الحكم.
الجمهوريون يريدون اليوم السعي لحلول جزئية هدفها إغراق الديمقراطيون بوحول الإفلاس المالي والسياسي قبل سنة تقريبا من إشعال الحملات الانتخابية الرئاسية القادمة،فيما الديمقراطيون يسعون لآماد أطول بهدف تغطية تلك الفترة والعمل على برنامج مريح دعائيا وانتخابيا بصرف النظر لباراك اوباما أم لغيره.وفي كلتا الحالتين،يتنافس الحزبان الرئيسان على إبعاد تجرع الكأس المرة في ظروف داخلية وخارجية سيئة تمر فيها الولايات المتحدة.
لا ندعي الجزم ان واشنطن غير قادرة على تقطيع أزمتها وهضمها، ففي النهاية هي البلد الوحيد في العالم الذي يصدر الأوراق المالية دون تغطية ذهبية،وتكتفي لنفسها الادعاء عنوة ان ثقة العالم مردها الثقة الاقتصادية المعنوية والرمزية في العقل الباطني للاقتصاد الدولي الذي يحيط بها.
قبل سنتين ونيف تحولت أزمة العقارات الأمريكية إلى أزمة مصارف أمريكية،سرعان ما انتشرت عالميا،فغرقت دول ومصارف ذات سمعة وازنة في عالم الاستثمارات والأموال وتمكنت هي من إعادة تعويم نفسها على حساب الآخرين،فهل ستعيد الكرة اليوم؟.
ان استقراء تاريخ العلاقات الأمريكية المالية والاقتصادية الدولية يثبت ان واشنطن لم تكترث يوما لأزمة تمر بها،لأنها تدرك ان خصومها وأعدائها ليسوا أقوياء كفاية لمواجهتها،بل هي قادرة على إلباسهم الثوب الذي تريد. فجل الديون الأميركية الحالية هي للصين ولبعض المستثمرين من دول ثرية ، وهي قادرة على فتح ملفات كثيرة تجبر الآخرين على المضي في ركب سياساتها.مثال ذلك بدأ اليورو العملة الأوروبية الموحدة لا يتجاوز الدولار ونيف من السنتات،واليوم تجاوز اليورو الدولارين،فهل يعني في السياسة والمال ان أوروبا باتت أقوى بضعفين من الولايات المتحدة،أم عكس ذلك؟.
طبعا تقاس الدول باقتصادياتها واستثماراتها،لكن ذلك مرهون بفعاليتها في المستويين الإقليمي والدولي.الولايات المتحدة تعاني اليوم من مجموعة استحقاقات داهمة تتطلب جهدا استثنائيا للخروج منها،المهم أننا في الدول النامية ومنها نحن العرب أيضا،كيف يمكن لنا الاستفادة من هذه الأوضاع لتحسين مواقعنا على الخريطة السياسية الدولية؟وهل بمقدورنا استثمار تلك الأزمات أم سيكون الحل مثلما سبق على حساب أموالنا واستثماراتنا في المصارف الأمريكية وغيرها؟.ربما أسئلة حرجة لكن ينبغي رفع الصوت والجهر بها!.