16‏/01‏/2019


التداعيات القانونية لاعتراف استراليا بالقدس الغربية

بروفسور خليل حسين

رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية

 

             شكَّل إعلان رئيس الوزراء الاسترالي سكوت مريسون،الاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل انعطافة نوعية في السياسات الخارجية الاسترالية، والتي دأبت خلال العقود الماضية على محاولة التوازن في القرارات المتصلة بالصراع العربي الإسرائيلي وبالأخص الفلسطيني الإسرائيلي. وعلى الرغم من إن الاستعداد لهذا الاعتراف لم يكن جديدا ،فله خلفيات سياسية وقانونية مهدت لها استراليا منذ شهور وكان آخرها منتصف اكتوبر / تشرين الأول الماضي، من خلال سلسلة نقاشات داخلية وإعلانية خارجية.

      وعلى الرغم من محاولة مريسون التخفيف من وطأة الإعلان بالاعتراف، عبر ربطه بالإجراءات العملية لنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس حين الاتفاق بين الفلسطينيين وإسرائيل حول الوضع النهائي، والملفت في ذلك أيضا إعلانه ربطا بالموضوع فتح مكتب تجاري وملحقية عسكرية في القدس الغربية في محاولة لاسترضاء إسرائيل، فما هي الخلفيات القانونية والسياسية لهذه الخطوة غير المفاجئة؟ وهل هذا الاعتراف المشروط يمكن أن يصرف في السياسة والقانون عربيا وفلسطينيا؟

       الاعتراف وفقا لمبادئ وقواعد القانون الدولي العام وبخاصة الاتفاقيات الدولية الشارعة،يمكن الاعتداد به ، فخلفياته عادة ما تكون سياسية مراعاة لظرف أو وقائع ومعطيات معقدة، وعادة ما تلجأ إليها الدول حين تعرّض الاعتراف لقضية حساسة يمكن أن تشكل خطرا على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، وهي الحالة المتصلة بالقدس والاعتراف الاسترالي، وبذلك إن إعلان مريسون يعتبر اعترافا واضحا وكاملا وله تداعياته القانونية والسياسية على طرفي النزاع وفي هذه الحالة تعتبر إسرائيل المستفيد الوحيد من هذا الإعلان وان أحجمت القيادات الإسرائيلية عن التعليق بحدة ، باعتبارها خطوة ناقصة من الجانب الاسترالي والتي اعتبرها أيضا الناطق باسم الخارجية الإسرائيلي خطوة ناقصة ينبغي تصويبها لاحقا، أي بمعنى آخر الاعتراف بكامل القدس عاصمة لإسرائيل.

    ومهما حاولت استراليا التخفيف من إعلانها هذا، عبر تأجيل نقل سفارتها إلى القدس ، فلن يغير من أساس المشكلة، فاتفاقية العلاقات الدبلوماسية للعام 1961 وكذلك العلاقات القنصلية للعام 1963 ، ليس فيهما أي نص موجب للتبادل الدبلوماسي والقنصلي في عواصم الدول، وان تكن السفارة عادة في عاصمة الدولة المضيفة فلها رمزية سياسية وليس لها علاقة بالاعتراف، وهي تنشأ في العواصم بهدف تسهيل الاتصالات بين الدولة الموفدة والدولة المضيفة، وفي الحالة الاسترالية فعدم نقل السفارة الاسترالية إلى القدس لا يغيّر شيئا بقيمة الاعتراف من حيث المبدأ، ولا يعدو كونه تلطيفا سياسيا للسلطة الفلسطينية لا أكثر ولا أقل.أما بخصوص فتح ملحقية عسكرية في القدس إلى جانب المكتب التجاري، فيعتبر أيضا لجهة القيمة القانونية للاعتراف سندا معنويا له، فعادة ما توفد الدول ملحقيات عسكرية للتعبير عن حسن ودفء العلاقات البينية طبعا ، إضافة إلى الاهتمام بصفقات السلاح وغيرها، إلا أن الجانب الأول في هذه الحالة هو من له أولوية إسرائيلية واسترالية، وبالتالي كذلك يعتبر إضافة سلبية على الوضعين الفلسطيني بعامة والقدس بخاصة.وعلاوة على كل ذلك لاستراليا قنصلية عاملة في القدس وهي أحد مظاهر التمثيل وإن يكن غير سياسي ومقتصر بشكل عام حماية الرعايا الاستراليين في علاقاتهم الخاصة.

       في أي حال من الأحوال من الصعب التخفيف من تداعيات الخطوة الاسترالية، بصرف النظر عن آي تلطي وتخفي وراء إجراءات أو مواقف مشروطة، فالاعتراف هو اعتراف ، ويرتب حقوقا وواجبات بين الطرفين الاسترالي والإسرائيلي، أما تداعياتها السلبية فتقع على الفلسطينيين ومستقبل القدس لاحقا.إضافة إلى ذلك ثمة سوابق مماثلة منذ أن أعلنت الولايات المتحدة الأميركية قرارها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في مايو/ أيار 2017، حيث تلطت بعض الدول عبر طرق ملتوية للتعمية والتخفيف من وطأة القرار الأميركي، حيث احتجت بالعمل القنصلي في القدس كما فعلت بعض الدول.

       

        

الاطار القانوني لعودة سوريا إلى الجامعة العربية

د.خليل حسين

رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية

      

         جمّد مجلس جامعة الدول العربية في نوفمبر / تشرين الثاني 2011 عضوية سوريا في الجامعة، على خلفية تداعيات الأزمة السورية بمختلف أوجهها الداخلية والخارجية. وفي أواخر العام الماضي 2018، بدأت بالظهور أشارت لإعادة سوريا إلى الحضن العربي، والتي بدأت بخطوة لافتة من الإمارات العربية المتحدة بإعادة فتح سفارتها في دمشق، وسبقها زيارة الرئيس السوداني حسن البشير، إلى أن تقرّر بحث الإعادة على مستوى مجلس الجامعة ، فما هي الخطوات والإطار القانوني المفترض؟.

      بمقتضى المادة الأولى من الميثاق ، لكل دولة عربية الحق في الانضمام إلى الجامعة، ووفقا لهذا النص لا مشكلة فيها سورياً، فهي عضو أصيل موقع على ميثاق الجامعة من بين الدول السبع المؤسسة، إلا أن القضية تنطلق من تجميد العضوية، وهي حالة قانونية مختلفة عن الفصل ؛ مثلا. فالفصل يكون بقرار من مجلس الجامعة بالإجماع دون صوت الدولة المستهدفة، وهو قرار لا إرادي ، لا يتعلق بقبول الدولة المستهدفة  أو رفضها، وفي الحالة السورية ينعقد الأمر على قاعدة تجميد العضوية، الذي لا ينهي عمليا مفاعيل العضوية، إنما يمنع الدولة عن ممارسة حقوقها وواجباتها في الجامعة طوال نفاذ القرار ويبقى مقعدها شاغرا، إلى إن يتخذ قرار يلغي مفاعيل التجميد، وفي هذه الحالة بالذات لا يلغي تجميد العضوية، بل تحتفظ الدولة بمقعدها الشاغر دون تمكنها من الاستفادة منه؛ وبالتالي إن عودة سوريا إلى الجامعة وفقا للميثاق يمكن أن ينشئ حالتين قانونيتين، الأولى وهي مبادرة سوريا إلى ذلك ، أما الثانية فهي مبادرة بعض الدول الأعضاء إلى بحث الموضوع لاتخاذ ما تراه مناسبا في ذلك.

         

          فوفقا لنص الميثاق ليس ثمة نص لتجميد العضوية، إنما هو إجراء يمنع الدول المستهدفة من ممارسة حقوقها وواجباتها في الجامعة وليس له علاقة بالفصل أو الطرد كالحالات الموجودة في ميثاق الأمم المتحدة كقياس على الوضعين العربي والأممي، فوفقا للفقرة الثانية من المادة 18 من الميثاق، لمجلس الجامعة أن يعتبر أية دولة لا تقوم بواجبات الميثاق، منفصلة عن الجامعة،وذلك بقرار يصدره بإجماع الدول عدا الدولة المشار إليها. وبالتالي فقد أباح الميثاق لمجلس الجامعة ، أن يقرر بإجماع أعضائه عدا العضو المقرر فصله، فصل إي عضو إذا ثبت، أن ذلك العضو لا يقوم بتنفيذ الالتزامات التي يفرضها الميثاق، ويترتب على فقد العضوية حرمان الدولة من الحقوق وتحللها من الالتزامات التي قررها الميثاق، على انه بإمكان الدولة إعادة عضويتها في الجامعة بتقديم طلب إلى مجلس الجامعة. إلا أنه في هذه الحالة وجهة أخرى يمكن البحث فيها،وهي متعلقة بتقديم طلب إعادة العضوية في حالة الفصل، وهي حالة تحدثت عنها المادة الأولى لجهة طلب العضوية وليست العودة أو الإعادة؛ وبما أن تجميد العضوية جاء في الأساس بقرار لا إرادي سوري ، بل عبر قرار مجلس الجامعة، فمن الناحية القانونية والعملية يمكن لأي دولة عربية طرح الموضوع على المجلس لاتخاذ القرار فيه، وليس شرطا لازما أن تبادر الدولة المعنية به أمام مجلس الجامعة، أما لجهة حجم التصويت ففي المبدأ هو الإجماع وفقا للمادة الأولى في قبول العضوية والمادة 18 في الفصل، لكن المجلس وفي قرارات سابقة، اعتمد التصويت بالثلثين على ما جاءت به المادة 18 قياسا على المسائل المتعلقة بتعديل الميثاق مثلا. 

       ليس ثمة مشكلة قانونية لعودة سوريا أو إعادتها إلى جامعة الدول العربية، وما جرى من إشكاليات التجميد وما أثارته من جدل قانوني آنذاك، قد تخطته الوقائع والظروف العربية، وباتت العودة مرهونة بقرار المجلس الذي يعقد جلساته في التاسع من يناير / كانون الثاني 2019،.إن لمَّ شمّل العرب في هذه الظروف بات شرطا ضروريا لإعادة بناء نظام اقليمي عربي يحمي مصالح دوله التي باتت مهددة بفعل سيطرة دول إقليمية ودولية على الحل والعقد في معظم القضايا، ولعلَّ مشروع الانسحاب الأميركي من سوريا يكون مقدمة لانجاز هذا الملف الحيوي.

 

تداعيات الانسحاب الأميركي من سوريا

د.خليل حسين

رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية

     بصرف النظر عن حجم ونوعية الانسحاب الأميركي من الساحة السورية، ثمة تداعيات وظروف ناظمة للعملية المفترضة ، سيما وإنها تأتي في ظل متغيرات شرق أوسطية فرضتها الأزمة السورية والقضايا ذات الصلة بها. وفي الواقع لطالما شكلت سوريا حلقة شد وجذب إقليمية ودولية بفعل وضعها وموقعها الجيو سياسي في منطقة تعتبر الأشد التهابا في العالم،وغالبا ما كانت إعادة ترتيب النظام الإقليمي العربي تمر فصوله وقواعده عبر سوريا، وهذه المرة كانت عبر البوابة الإماراتية التي أعادت فتح سفارتها في دمشق مؤخرا .

       وبفعل الإعلان الأميركي عن الانسحاب ، ظهرت وقائع ومواقف متعددة الاتجاهات رسائل وإشارات، كان أولها الدفع الأميركي باتجاه تسليم الواقع السوري الشمالي إلى تركيا، ما يعني أن ثمة خلط أوراق جديدة تتعلق بالعامل التركي وإعادة تموضعه في الأزمة السورية، وهذه المرة تحديدا في الورقة الكردية، وسبق أن أعلنت تركيا التحضير لعمليات عسكرية وازنة ستكون تداعياتها المباشرة على الوضع الكردي تحديدا، وحيازة أوراق جديدة ضاغطة في أي مقترحات حلول مستقبلية.

      في الجانب الإسرائيلي الآخر، ثمة تخوّف وتوجّس ظاهرين لدى القيادات السياسية والعسكرية، إذا تعتبر الانسحاب خسارة مدوية ، وذات صلة بقضايا إستراتيجية متعلقة بأمنها القومي، وهذا ما أوحى به رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بُعيد لقائه بوزير الخارجية الأميركي بومبيو في البرازيل، حيث خفّف هذا الأخير من التداعيات المحتملة للانسحاب الأميركي، مجددا دعم العلاقات الإستراتيجية مع إسرائيل، ومحاولا تفهم الهواجس الإسرائيلية لجهة الوجود الإيراني في سوريا ، ذلك في ظل سعي إسرائيل الحثيث لإعادة رسم قواعد اشتباك جديدة في سوريا،بعد إسقاط الطائرة الروسية وإعادة موسكو آنذاك لخلق قواعد اشتباك كانت إسرائيل مرتاحة لها قبلا. وفي أي حال من الأحوال لن تترك واشنطن تل أبيب بالنظر لعضوية واستراتيجية العلاقات البينية، وبالتالي ان الانسحاب لن يغير بطبيعة الالتزام الأميركي تجاه إسرائيل. 

        أما بخصوص الطرف الإيراني، وان تعتبر طهران الانسحاب نوعا من أوراق سياسية وأمنية رابحة بالنسبة إليها، إلا أن الانسحاب لا يعتبر مؤثرا واضحا وحاسما لجهة العمليات العسكرية والأمنية، فالقوات الأميركية لا زالت متواجدة عمليا في العراق وتركيا علاوة إلى قواعدها وأساطيلها المنتشرة في غير مكان من العالم. وهي قادرة عمليا وفعليا على تنفيذ عملياتها من خارج الأراضي السورية ، وهي بطبيعة الأمر اقل كلفة معنويا من التواجد المباشر واحتمال تحملها خسائر بشرية في حال الاصطدام المباشر.

      وتبقى الجهة الرئيسة المعنية بالموضوع وهي سوريا،  الأكثر استفادة وان كانت معنوية بالدرجة الأولى، فهي تعتبر الخطوة ورقة رابحة في ظل التنافس الأميركي الروسي الساخن في الساحة السورية، وأمر من شأنه تعزيز فرصها في التسويات المحتملة القادمة للكثير من الملفات الداخلية. كما بدا الأمر مترافقا مع إشارات قوية وذات طابع تنفيذي لعودة سوريا إلى الحضن العربي مجددا عبر العديد من الوقائع الحاصلة سابقا. ما يعزز فرص إعادة ترتيب البيت العربي ، ومحاولة إعادة ترميم النظام الإقليمي العربي الذي تأثر بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة بفعل الحراك العربي في غير دولة.

        وربما تعتبر موسكو من أكثر الدول استفادة من الانسحاب المعلن، بالنظر لظروف التنافس الحاد ، الذي وصل أحيانا إلى الاصطدام المباشر في ظل قواعد اشتباك هشة، وهو أمر تعتبره موسكو تحديا انتصرت فيه ولو مؤقتا في الساحة السورية رغم انه ليس حاسما.

     إن تداعيات الانسحاب تبدو جلية على فواعل النظام الإقليمي الأساسيين من غير العرب ، كإسرائيل وتركيا وإيران، إضافة إلى روسيا، وهو سيعيد خلط أوراق محدَّدة بصرف النظر عن نهاياتها الفعلية والعملية، وهي في مطلق الأحوال ستحرك المياه الراكدة في موازين القوى الإقليمية في المنطقة ،لجهة محاولة كل طرف إعادة رسم قواعد اشتباك جديدة لمصلحته، وهو أمر ليس بالضرورة أن يمر بوقائع وظروف هادئة.  

 

العلاقات الإماراتية السورية نموذجا

د.خليل حسين

رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية

 

       يبدو أن الحدث الأبرز نهاية العام 2018 في العلاقات البينية العربية ما صاغته الإمارات العربية المتحدة من تنفيذ لسياسة خارجية مترسخة في علاقاتها الخارجية، ويتمثل بإعادة فتح سفارتها في الجمهورية العربية السورية، الذي سيشكل منعطفا بارزا في  مجمل العلاقات العربية العربية، وهي بالأصل ليست سابقة بل ترجمة عملية لسياسة خارجية صاغها مؤسس الدولة المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، على أسس واضحة وثابتة قاعدتها لمّ الشمل العربي عبر سياسة معتدلة ، ومحاولة التوفيق الدائم بين المحاور العربية التي لعبت الإمارات دورا بارزا في التوفيق فيما بينها.

        وتأتي خطوة الإمارات هذه ترجمة هادفة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات البينية العربية وبخاصة السورية الإماراتية لما لهذين البلدين من خصوصيات في محيطهما العربي والإقليمي والدولي، ولما سبق لهذين البلدين من وسائل وأدوات للتعاطي مع القضايا العربية المركزية، ورؤى بعيدة للقضايا الإستراتيجية وبخاصة بين البلدين.

        لقد كانت الإمارات العربية المتحدة سبّاقة في إعادة سوريا إلى الحضن العربي، وهي خطوة تعبّر عن بُعد نظر وقراءة دقيقة لمجمل المتغيرات في المنطقة، وهي رغبة حثيثة في حماية الصف العربي، من أي ضغوط وتدخلات خارجية كما وصفتها وزارة الخارجية الإماراتية في سياق افتتاح السفارة في دمشق، والتي جُمد التمثيل فيها بداية الأحداث السورية في العام 2011. والملفت في هذا الأمر أن العلاقات الدبلوماسية قد جُمدت في الأساس ولم تتعد هذه الخطوة إلى قطع العلاقات أو سحب الاعتراف، وهو تعبير عن سياسات خارجية واقعية وهادفة في إطار آي متغيرات مستقبلية، وهذا ما حصل فعلا.

       ثمة سياق طويل من العلاقات الواقعية بين البلدين العربيين، وقد ترجمت من كلا الطرفين، فقد وقفت الجمهورية العربية السورية إلى جانب الإمارات العربية المتحدة في نزاعها مع إيران حول الجزر الثلاث، واتخذت مواقف ايجابية لافتة إلى جانب الإمارات في عز تحالف دمشق مع طهران في العديد من المحطات والقضايا العربية الخليجية، وهذا ما يؤكد عمق العلاقة وبخاصة في القضايا العربية المركزية، وهو أمر من شأنه أن يعزز العلاقات البينية ويدفع بها إلى مستويات أرقى على المستوى العربي.وهذا ما تشي به الأيام القادمة ، حيث ستشكل الخطوة الإماراتية بابا واسعا لإعادة سوريا إلى العرب من البوابة الإماراتية التي تشكل مغزى مهما في المحيط الخليجي.، والذي يعتبر قرارا وازنا في إعادة توجيه بوصلة التعاون العربي في هذه الظروف الدقيقة التي تمر فيها الدول العربية جمعاء.

       ثمة حديث عن انسحاب أميركي من سوريا وتلزيم الوضع السوري إلى تركيا كما صرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما يعني مزيد من الضغوط على سوريا، الأمر الذي يستلزم مزيد من خطوات الحماية العربية وهو ما أقدمت عليه الإمارات والتي ستسهم بشكل أو بآخر في عودة دمشق إلى الجامعة العربية، وهو أمر أكثر من ضروري في هذه الظروف الدقيقة.

         ربما اليوم نحن العرب أكثر حاجة من أي وقت مضى لمثل تلك الخطوات الرائدة والواعدة في إعادة ترتيب الصف العربي وحمايته من الضغوط الهائلة التي تمارس عليه من أطراف دولية كالولايات المتحدة وروسيا ومن أطرف إقليميين كإسرائيل وتركيا وإيران، وجميعها لاعبون مؤثرون في الواقع العربي الراهن، ما يؤكد أهمية الخطوة الإماراتية في زمانها ومكانها الصحيحين، والتي ينبغي أن تتابع بخطوات عربية أخرى في السياق نفسه، علَّ وعسى آن يُعاد التضامن العربي إلى ما كان عليه في غابر الزمان.

        لطالما شكلت الإمارات ركنا بارزا في أعمدة التضامن العربي بفضل سياسات خارجية معتدلة ورؤية ثاقبة في المحيطين العربي والإقليمي، كما شكلت سوريا مركز استقطاب اقليمي ودولي، ما يستدعي أولا وأخيرا صياغة علاقات وسياسات بينية إماراتية وسورية تراعي متطلبات الوضع العربي الراهن ما يسهم بشكل واضح في إعادة ترتيب البيت العربي التي بدأت بهذه الخطوة الواعدة.والاهم من ذلك كله يطوي البلدان العام 2018 ببارقة أمل ، علَّ العام 2019 يشهد ترجمة عملية لما سبق، فكل عام والعرب بخير بفضل الخطوة الإماراتية.

بروفسور خليل حسين

احتجاجات فرنسا ومصير الليبرالية الجديدة

رئيس قسم العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

 

        عندما طالب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في احتفالية القرن لانتهاء  الحرب العالمية الثانية بإنشاء جيش أوروبي موحد،ثارت ثائرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ،معتبرا هذا التصريح استفزازا للمنظومة التي تقودها الولايات المتحدة ،اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وبصرف النظر عن خلفيات هذا الربط ، ثمة أزمة حقيقية تسود النظم السياسية وتضعها أمام تحديات توجب الإجابة عنها. ومن بينها طبيعة النظم التي سادت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية وإعادة تظهير الليبرالية الجديدة كايدولوجيا قادرة على استيعاب واحتواء المشاكل الاجتماعية الاقتصادية السائدة.  

      وفرنسا التي اعتبرت مهد هذه النظرية أواخر العقد الأربعين من القرن الماضي، اتسمت بميزة البحث الدائم  عن الرفاهية الاجتماعية في ظل نظام ليبرالي حر حاول التميّز به عن نظم أخرى، وبدا في الكثير من جوانبه نظاما موجها يراعي حقوق ومطالب فئات الطبقة الوسطى التي تشكل ثمانون بالمئة من مجتمعه. إلا أن السياسات التي اعتمدت في مختلف الحقبات الرئاسية أدت إلى ضمور ميِّزة الرفاه الاجتماعي لصالح  سيطرة الشركات الكبرى وترسيخ قوانينها وضوابط حماية مصالحها، الأمر الذي أدى بديمومة الصحوات النقابية والحزبية في مواجهة تلك الظاهرة، والتي عُبِر عنها في العديد من المحطات الكبرى، ومن بينها الاحتجاجات في عهود الرؤساء ديغول وشيراك وميتران وصولا إلى ماكرون.

       إلا أن ما جرى مؤخرا ينذر بصور مختلفة للواقع الفرنسي والذي امتد لساحات أخرى كبلجيكا وايطاليا وغيرها من ساحات مرشحة لاحقا، وبدت الأمور وكأنها تتفلت من عقالها لتنتقل من حالة المطالب الاجتماعية إلى مستويات سياسية وصولا إلى الدعوة لاستقالة الرئيس وانتخابات مبكرة وغيرها، وكأنها على طريقة الربيع العربي مؤخرا. ومن الصعب التعمية على هذا المشهد الذي نزل فيه أكثر من خمسة وسبعون إلف متظاهر خارج إطار الأحزاب والنقابات وهي ظاهرة ملفتة وذات دلالات لافتة ووسط أعمال شغب واسعة، أدت إلى تراجع الرئيس ماكرون  وتقديمه تنازلات اعتبرت مدخلا لتسوية مؤقتة بالتأكيد ستنفجر لاحقا بعد ستة أشهر وفقا لجدولة المطالب التي قدمت.

        في أي حال، إن تجميد الضرائب والرسوم على مستلزمات الطاقة ليست الحل ، وهي بطبيعة الحال تأجيل للمشكل الكبير المتعلق بالسياسات الاقتصادية الفرنسية التي تعتبر مقياسا وازنا للبيئة الاجتماعية الاقتصادية الأوروبية ، فهل ستظل الليبرالية الجديدة معتنقا ومجال تسويق للسياسات الفرنسية وغيرها في وجه الطبقات الوسطى التي بدأت بالضمور في مختلف الدول الأوروبية، ليحل مكانها طبقتان الغنى الفاحش والفقر المدقع الذي يتبلور يوما بعد يوما وبخاصة في أحزمة الفقر في العديد من العواصم الأوروبية.

       فسياسات رفع الضرائب والرسوم والإحجام والتراجع عن دعم السلع الأساسية، وسياسات التخصيص، وتخلي الدولة عن دورها الرعائي المفترض، إضافة إلى تمكين الشركات العابرة للحدود من اخذ دور الدول والأنظمة في فرض السياسات، جميعها مظاهر أدت وستؤدي إلى كشف مثالب وثغر الليبرالية الجديدة التي ظهرت كبديل رقيق للرأسمالية الفجة. والسؤال الذي يطرح حاليا، هل أن ما جرى في شوارع باريس هو تعبير عن واقع اجتماعي مرفوض؟ أم أن تظهير التبرم والتذمر الاجتماعي وراءه خلفيات أخرى؟

      من الصعب إنكار أو استبعاد الجوانب الاجتماعية من الاحتجاجات ما يستدعي التساؤل فعلا عن قدرة الليبرالية الجديدة في احتواء المشاكل الاقتصادية الاجتماعية،أم أن ثمة خلفيات تحرك هذه الاحتجاجات؟ وكما هناك صعوبات وازنة ومقنعة لعدم استبعاد الفرضية الأولى، هناك مؤشرات لصحة الفرضية الثانية، وهي تأجيج الوضع الاجتماعي السياسي الداخلي في فرنسا وحتى بعض الدول الأوروبية الأخرى ، في محاولة لإبقاء تلك الدول تحت سيطرة السياسات الأميركية.  وهذا ما جعل الرئيس الأميركي يرد بعنف على الرئيس ماكرون حول الجيش الأوروبي الموحد. وما يعزز بعض جوانب هذه الفرضية حجم أصحاب السترات الصفراء وما تحقق عبرهم من مطالب، في غياب قيادة واضحة ومعروفة لهم، فهل يرسم لفرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى ما رسم للعرب في ربيعهم المفترض؟ الإجابة على ذلك يستلزم بعض الوقائع والوقت.

واقع قمة العشرين ووعودها المنتظرة

بروفسور خليل حسين

رئيس قسم العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

 

        في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري ، تبدأ قمة العشرين اجتماعاتها وسط أجواء دولية متوترة ، ظاهرها أزمات سياسية وباطنها أزمات بنيوية اقتصادية وتجارية ومالية، وبين تلك الأزمات ، ثمة مجموعة لا تحصى من التباينات في الرؤى والأهداف والغايات التي يحاول قادتها التوفيق بينها، والوصول إلى حد أدنى من الاتفاق على التزامات تبدو ملحة في الظروف الدولية الحالية.

        وفي تتبع سريع لمجريات قممها السابقة وما نتج عنها، وبخاصة القمتين السابقتين في تركيا وما قبلها في الصين، يلاحظ عدم التمكن من تنفيذ الحد المعقول من الـ 113 التزاما التي أخذت القمم المتتالية على عاتقها البدء في تنفيذها، وهي بمعظمها تدور في فلك مصالح الدول الغنية وتخدم البيئة التي تحفّز وتراكم إنتاجها، فأين المشكلة وهل ثمة أفق للحلول المجدية؟

      في المبدأ تعتبر اجتماعات قمة العشرين بمثابة منتدى مالي واقتصادي لمجموعة أنشئت على هامش قمة مجموعة الثمانية في 25 سبتمبر / ايلول 1999 في واشنطن، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي ممثلا برئيس البرلمان الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي، والهدف منها تعزيز الاستقرار المالي الدولي وإيجاد فرص للحوار ما بين البلدان الصناعية والبلدان الناشئة، التي لم تتمكن اجتماعات وزراء المالية مع مجموعة السبعة من حلها.   كما تستضيف في اجتماعاتها كلا من المؤسسات الدولية، الرئيس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، ورئيس البنك الدولي، واللجنة النقدية والمالية الدولية ولجنة التنمية التابعة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وبالتالي تضم المجموعة 85 % من مجموع الاقتصادات الدولية المؤثرة في العالم. ورغم هذا التحكّم الهائل، ليس ثمة آليات تنفيذية ملزمة لمجمل ما تبحثه وتقرره ،  وهذا ما ظهر في قممها منذ العام 1999.

      علاوة على ذلك، تمثل هذه القمة تحدّيا من نوع آخر، ويتمثل بأنها القمة الأولى بعد رزمة الضرائب الجمركية التي رفعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب،على التبادلات التجارية لدول في المجموعة والتي تشكل تحدّيا قويا للعلاقات البينية من جهة والعلاقات التجارية مع دول العالم الأخرى. ما وصفها الكثير من المراقبين بأنها بداية حرب تجارية بدأها الرئيس الأميركي وبخاصة على بعض الدول الأوروبية والصين، والتي شكلت ضربة قاسمة لأسس التبادل التجاري الدولي وفي مقدمتها منظمة التجارة العالمية التي بدأت الإدارة الأميركية بالتفلت من الكثير من التزاماتها خلال السنتين الماضيتين، والتي كان لواشنطن في الأساس الدور الريادي في نشأتها وإدارة دفة عملها على الصعيد الدولي.

       والأمر لا يقتصر على الجانبين المالي والاقتصادي ، بل تعدى تراجع الالتزامات إلى جوانب أخرى، كموضوع البيئة والتي وقعت الولايات المتحدة على الاتفاقية الإطارية للمناخ قبل انعقاد قمة العشرين في الصين في العام 2016 إلا أنها ما لبثت أن تنصلت منها،علاوة على الوعود التي قدمت لمساعدة اللاجئين في السنتين الماضيتين، والتي مشى الرئيس الأميركي بخطوات معاكسة لها بل وضع أسس ضربها والتراجع عنها.

        ثمة الكثير من التحديات التي تواجه القمة، وهي تحديات وازنة في العلاقات الاقتصادية والمالية الدولية، وهي من النوع التي تستلزم حلولا جذرية قبل فوات الأوان، فثمة تقارير ذات مصداقية عالية،تشي بان العالم يمر بأزمة اقتصادية دقيقة ومن المتوقع إن تنفجر في مطلع العام  2021 ،ما لم يتم تداركها بوسائل وأسس مغايرة عن التي سبقتها. إلا أن التجارب المعتادة لا تبشر بالخير، فالعالم لم ينس بعد أزمة النمور الاقتصادية الأسيوية في العام  1999 والتي كانت من احد أسبابها ظهور مجموعة العشرين في الساحة الدولية، وكذلك أزمة العام 2008 التي بدأت في الولايات المتحدة واجتاحت دول العلم قاطبة. اليوم ثمة قضايا دولية مزمنة ومتراكمة في غير اقليم من العالم، فهل ستسود لغة التعقل في اجتماع بوينس ايرس أم سيكون متمما للسياسات التي سبقتها؟ ثمة الكثير من الوقائع والمواقف غير المشجعة التي تلف أجواء القمة.    

      

 

 

     

 

حكومة نتنياهو إلى المراقبة الحثيثة

د.خليل حسين

رئيس قسم العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

 

        على قاعدة العدوان الإسرائيلي على غزة وما افرزته من تداعيات إسرائيلية داخلية وخارجية،تمكن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من الإفلات من الورطة التي أوقعه فيها بعض الائتلاف الحاكم، على الأقل في المدى المنظور، وسط تشديد الخناق الرقابي على سلوكيات وقرارات حكومته، التي كانت قاب قوسين أو ادني من فرط عقدها في ظروف إسرائيلية دقيقة، لا تحتمل في الأصل إجراء انتخابات مبكرة، في جو يشي بسقوط اليمين  وصعود اليسار مجددا إلى قيادة إسرائيل، وهي تجربة مخيفة لليمين الإسرائيلي بشكل عام، بالنظر للتجارب السابقة في هذا المجال.

      فقد تمكّن نتنياهو من إبعاد تفكيك الحكومة والحيلولة دون اللجوء للانتخابات المبكرة، أقله في الأشهر القليلة القادمة من عمر حكومته المفترضة عبر ثني رئيس (البيت اليهودي) نفتالي بينت، ورئيس حزب (كولانو) موشيه كحلون، من الاستقالة وبالتالي إبعاد الفرصة لتوفير الغالبية للمعارضة في  الكنيست وبالتالي إسقاط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة. فقد استمال  كحلون عبر ملفات اجتماعية متصلة برفع الرواتب التي يطالب بها، ومع بينت، عبر إحراجه سياسيا باعتباره كمن يسقط  حكومة اليمين في فترة حساسة وإبعاد اليمين عن السلطة، كما جرى في العامين 1992 و1999. إضافة إلى الإيحاء بأن حكومته تسير في مواجهات عسكرية خارجية في حال لم تتم الاستجابة لطروحاته.

        في أي حال من الأحوال ستبقى حكومة بنيامين نتنياهو تحت رقابة مشددة بالنظر لعدم استنادها على تحالفات ذات وزن عددي في الكنيست والتي وصلت فقط إلى 61 عضوا من 120 ،علاوة على هشاشة برامجها وكثرة معارضيها ، إضافة إلى الصفعة القوية التي نالتها في مواجهات غزة مؤخرا، وعدم قدرتها في الفترة الحالية الهروب إلى المواجهات الخارجية كما هو معتادة عليه.

        وإذا كان نتنياهو قد تمكّن بقدرة قادر على توليف تحالفاته مجددا ، إلا أن المدى الزمني للحكومة الحالية لن يطول لسنة قادمة كما يتم الترويج له، فثمة أصوات إسرائيلية أخرى تسير إلى إمكانية إجراء انتخابات في آذار المقبل، وان كان هذا الطرح من باب إبقاء الضغوط على الحكومة وإخضاعها لسلسلة من السياسات الخارجية والداخلية التي لا تنتهي في مثل الظروف التي تمر بها الحكومات الإسرائيلية ومنها الحالية. 

       وفي الواقع إن تتبع الظروف السياسية الداخلية والتدقيق في تحالفات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على السلطة ، يشير بوضوح إلى هشاشة معظم التحالفات وقيامها على قواعد غير صلبة في الكثير من الجوانب ،ما يعرضها للتنكيل من خصومها ، وما يلفت أيضا في هذا الشأن دوام تعرض الحكومات إلى الصدمات وهروبها بشكل مستمر إلى المواجهات الأمنية والعسكرية مع الخارج وبخاصة مع الفلسطينيين وغيرهم، وهذا الأمر ليس مستبعدا في المرحلة اللاحقة،إذ أن عقيدة حكام إسرائيل لا يطيقون في الأساس العيش في ظل توازن استراتيجي ليس لمصلحتهم. وبالتالي عادة ما يتم اللجوء إلى إعادة خلط الأوراق العسكرية والأمنية في أكثر الظروف الداخلية والخارجية حساسية بالنسبة لهم، وهي إستراتيجية ترقى إلى مستوى الثبات في رسم الخارطة الإستراتيجية المتعلقة بالأمن الإسرائيلي.

        وإذا كانت ثمة عوامل وظروف محددة مكّنت رئيس الحكومة نتنياهو من إعادة نسج تحالفاته بصعوبة بالغة، إلا أن إعادة آليات الحكم ووسائل المراقبة الدقيقة والحثيثة التي تجيدها المعارضة، ستضع الحكومة الإسرائيلية في وضع دقيق من الصعب التفلّت من تداعيات إقالتها في أي منعطف متاح للمعارضة، وبالتالي إن خيار الانتخابات المبكرة يظل سيفا مسلطا في الحياة السياسية الإسرائيلية، وهذا ما تم اللجوء إليه في العديد من الحقبات السياسية التي شهدت فيها إسرائيل أزمات ذات شأن خارجي وبخاصة في المسارات المتصلة بالفلسطينيين تحديدا.

       

 

 

 

تحديات الجيش الأوروبي الموحد

د.خليل حسين

أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

 

       على هامش احتفالية القرن لانتهاء الحرب العالمية الأولى شكَّل تصريح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حول الدعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد، مناسبة لاستفزاز الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي دعا الأوروبيين لدفع ما عليهم لحلف الناتو قبل التفكير بخطوات أمنية دفاعية مستقلة. ولمعضلة الأمن تاريخ حافل في السلوك الباطني الفرنسي، إذ كانت مناسبة دائمة لمحاولة التميّز عن حلف الناتو والرؤية الأميركية للأمن الأوروبي، فكانت الخطوة الفرنسية الفارقة حين خروجها من المظلة النووية الأطلسية في ستينيات القرن الماضي وتشكيلها منظومة أمنية مستقلة، إلى أن عادت وانخرطت مجددا في هذه المنظومة في العام 2007.

     وبصرف النظر عن خلفيات التميّز الفرنسي والى حد كبير أيضا الألماني في سياق مقاربة الموضوع الأمني الأوروبي، تبقى العديد من التحديات التي تواجه المجتمع الأوروبي بشكل عام والدول الرائدة فيه بشكل خاص ، للوصول لأوربة الأمن بمعزل عن التحالفات الأخرى كالناتو مثلا.وهي تحديات متصلة بالأساس ببيئات من الصعب على القادة الأوروبيين التقرير فيها منفردين أو بمعزل عن ضغوط أو مؤثرات خارجية وازنة. وبالتالي ثمة العديد من التحديات الذاتية والموضوعية الأوروبية التي تسهم في إعاقة التوصل لمثل تلك المشاريع.

      فالولايات المتحدة التي احتضنت أوروبا بداية عبر مشروع مارشال وحلف الأطلسي،لا تزال تعتبر أن الأمن الأوروبي معضلة أميركية لا أوروبية، ولا مناص للانفكاك أو الانفصال، سيما وأن الربط يأتي في سياقات إستراتيجية متصلة بالعلاقات مع روسيا وريثة عقود من العداء والحروب الساخنة والباردة إبان الحقبة السوفياتية وما تلاها. وبالتالي إن واشنطن التي تعتبر الجغرافيا السياسية الأوروبية مجالا حيويا لها، تعتبر أيضا أن المظلة الأمنية للناتو هي أداة فعّالة للضغط على موسكو في اتجاهات متعددة ، بدءا في شرق أوروبا وصولا إلى وسط آسيا مرورا بالشرق الأوسط.

      كما يشكّل استبدال الناتو بجيش أوروبي مخاوف متزايدة لدى العديد من الدول الأوروبية المحاذية لروسيا، على اعتبار أن معالم هذا الجيش وقدراته المفترضة ، لا تزال غير واضحة المعالم ولا معروفة الأهداف، بينما قدرات حلف الناتو محددة وواضحة ولها تجارب عديدة في ميادين تدخلت فيها سابقا.

      ثمة جدل قانوني واسع حول آليات الإنشاء، ظهر مؤخرا في سياقات فرنسية ألمانية متباينة، على قاعدة أن مثل هذا الاتفاق ينبغي أن يتم بموافقة الدول، بحسب الاتفاقيات المؤسسة للاتحاد، وليس عبر قرار منفرد يأخذه رئيس المفوضية. في مقابل ذلك برز موقفان بارزان خلال زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى برلين؛ الأول كان للمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل إذ اعتبرت "أنه من الممكن تغيير المعاهدات إذا كان لذلك معنى"، والموقف الثاني من الرئيس الفرنسي الذي أشار إلى عدم وجود "محرمات" إزاء فكرة إنشاء الجيش الموحد.

       ثمة مظاهر متصاعدة في الاتحاد نفسه وتشكل خطرا حقيقيا عليه، ما تسهم بتقويض فكرة الجيش الموحد أصلا، ذلك عبر تنامي الشعبوية في المجتمعات الأوروبية ودولها، ، كمنافسة زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية ماري لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية ، ووصول حزب البديل إلى البوندستاغ الألماني لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى ظهور نزعات انفصالية في دول الاتحاد ذاته، مثال حالتي اسكتلندا وكاتالونيا، علاوة على معضلة البركست البريطاني من الاتحاد الأوروبي أصلا. مضافاً إلى العديد من الأزمات الاقتصادية التي ضربت دول الاتحاد، مثال أزمة الديون اليونانية وتصاعد نسبة البطالة وانخفاض الدخل الفردي وقضايا الهجرة. ما  يطرح العديد من الأسئلة حول مصير هذا الجيش المقترح في حال تفكك الاتحاد الأوروبي نفسه مستقبلاً.

      إضافة إلى كل تلك المعطيات التي من الصعب القفز عن مؤثراتها السلبية الوازنة، ثمة مخاوف واضحة حول قيادة البيئة الأمنية الأوروبية ومن بينها الجيش الموحد، إذ ثمة خشية كبيرة من السيطرة الألمانية ذات الإمكانات الاقتصادية والبشرية الهائلة، فهل يسير المقترح الفرنسي في إنشاء الجيش الأوروبي في الاتجاه الصحيح ؟ أم انه مجرد صورة سريالية أطلقت عند استذكار أدوات السلام المفترض بعد قرن من الزمن على انتهاء الحرب العالمية الثانية؟

احتفالية القرن لنهاية الحرب العالمية الأولى

د.خليل حسين

أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

       في مشهد سريالي يجري العالم في 10 و11 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي احتفالية هي الأضخم بمرور قرن كامل على نهاية الحرب العالمية الأولى، وهي مناسبة تخفي خلفها تحديات كثيرة للدول الكبرى المشاركة فيها، باعتبار أن ما نتج عن الحرب عناوين أساسية لقيادة العالم ومن بينها نظام الآمن الجماعي الذي قامت عليه عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة. وفي قراءة سريعة ودقيقة يظهر أن الهاجس الأمني بخلفياته الاجتماعية والاقتصادية لا زال يشغل حيزا واسعا في إطار تنظيم التحالفات في العلاقات الدولية، وبخاصة الدول الطامحة للعب ادوار مهيمنة في النظام العالمي.

      لا شك في أن المناسبة تمثل حيثية بارزة للنظم الديموقراطية التي انتصرت في الحرب والتي فرضت معاهدة فرساي ، التي لم تكن سوى تنظيم هدنة لمدة عشرين سنة كما وصفها وزير الخارجية الفرنسي آنذاك وكان محقا في ذلك، إذ اندلعت الحرب العالمية الثانية في العام 1938 ،لتعيد تجربة ما أرسته نتائج الحرب الأولى لكن بأدوات ووسائل مبتكرة لم تتمكن هي الأخرى من لجم الصراعات والحدِّ منها، بل أخذت وجها جديدا تمثَّل بالحروب الباردة بين حلفاء الأمس، وكلفت البشرية خسائر لا تقل فداحة عن الحربين السابقتين، ذلك عبر الحروب والنزاعات في غير منطقة وإقليم في العالم.ما يستدعي إثارة أسئلة مركزية في العلاقات بين الدول ومن بينها الوسيلة الأنجع لفرض السلم والأمن الدوليين بعد عدم التمكّن من حمايته، وهي معضلة لطالما قضّت مضاجع الدول الكبرى المهتمة بذلك.

       على هامش الاحتفالية المئوية في باريس سيتم لقاء الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، وسيكون عابرا يبدو كما أرادته فرنسا لبقاء الاحتفالية بعيدة عن أي تأثير، لكن ذلك لا يلغي بالضرورة مسؤولية الدول الكبرى في معالجة العديد من القضايا الدولية الحساسة ومن بينها مثلا الصواريخ البالستية المتوسطة المدى والتي أعلنت واشنطن رغبتها في الانسحاب منها، علاوة على الأزمات الإقليمية ذات الأبعاد الدولية التي تضفي المزيد من التوتر الدولي، ومن المؤكد أن هذه القضايا ستُرحّل إلى أواخر الشهر الحالي لمناسبة انعقاد قمة العشرين الصناعية في الارجنتين، والتي على ما يبدو ستكون مناسبة لمحاولة رسم خارطة طريق لحل بعض القضايا.

      وبصرف النظر عن حدود النجاحات والفشل في تنفيذ ما يمكن الاتفاق عليه بين موسكو وواشنطن، تبقى معضلة الأمن الجماعي التي كانت عنوانا لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، ومن ثم مرحلة انفراد الولايات المتحدة في قيادة العالم، من التحدّيات القائمة، والتي تزداد ظهورا ورسوخا مع الوقت، فما هي السبل الكفيلة بالحد من تداعيات المشكلة إن لم يكن بالإمكان حلها بطرق حاسمة؟

      حتى الآن، لم تتمكن أيا من المنظمات الدولية أو الإقليمية من احتواء معضلة الأمن الجماعي، وإيجاد البيئات الكفيلة للولوج بسياقات حلول ممكنة، مرد ذلك سياسات الدول المهيمنة في الأمم المتحدة وعدم رغبتها أولا وأخيرا التنازل عن الكثير من الامتيازات التي قطفتها نتيجة انتصاراتها في الحربين العالميتين السابقتين والحروب اللاحقة التي كانت نتائجها وتداعياتها لا تقل وزنا عن السابقتين،فهل ستكون هذه الاحتفالية مناسبة لإيقاظ ما تبقى من أحلام البشرية جمعاء؟

      بالنظر للتجارب السابقة ومحطاتها المتنوعة والمتعددة، لا أمل بذلك، بل تشي بصور تمجيد وتعظيم وسائل القوة التي توصلت إليها هذه الدول، وإظهار مدى قدرتها على استعمال عناصرها ووسائلها بفعالية عالية، وهو أمر معتاد عليه ومتكرر في كل مناسبة، وهو أيضا لا يتباين ولا يتناقض مع الخلفيات التي تتحكم بالعلاقات الدولية، بل تعتبر هذه المظاهر من أسسها وأدوات تنفيذها. وفي أي حال من الأحوال ، لا تشكل هذه الاحتفالية سوى تميزا برقمها المئوي، الذي لم يختلف عما قبله أو بعده!.      

ترامب ومعاهدة الصواريخ البالستية

د.خليل حسين

أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

 

      في وقت يجري حلف الناتو أضخم مناورات عسكرية على الحدود الروسية منذ العام 1988، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ، نية بلاده الانسحاب من معاهدة الصواريخ البالستية القصيرة والمتوسطة المدى،متهما روسيا بخرق المعاهدة التي وقعت إبان الحقبة السوفياتية في العام ديسمبر 1987. ويأتي هذا الإعلان في ظروف هي الأشد توترا بين الطرفين،بعد  عودة أجواء الحرب الباردة وتفاقم الأزمات الإقليمية والدولية التي يديرها الطرفين في غير منطقة من العالم.

        والجديد في الموضوع المثار إشارة الرئيس الأميركي إلى الصين في هذه القضية رغم أن هذه الأخيرة ليست طرفا فيها، ما يعني إن التهديد المتصور أميركيا ليست موسكو وحدها وإنما بكين أيضا التي ردت وبسقف عال على التهديدات الأميركية، ما يعني أن ثمة أجواء تصعيدية ربما ستأخذ مسارها ،رغم محاولات واشنطن السير بإدارة الأزمة عبر إيفاد مستشارها للأمن القومي جون بولتن إلى موسكو، وإثارة القضية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل صريح.  

       والمعاهدة من حيث المبدأ هي من مخلفات الاتفاقيات الثنائية التي تعود للحقبة السوفياتية، وهي مسار تفاوضي طويل بين الجانبين ،امتد من حقبة الوفاق أواخر ستينيات القرن الماضي والتي أنتجت اتفاقيتي "ستارت1" و"ستارت2 " للحد من انتشار الأسلحة غير التقليدية ووسائل إطلاقها إي الصواريخ البالستية.وفي أي حال من الأحوال، فقد اعتبرت هاتين الاتفاقيتين بداية لمسار طويل بين الجانبين للحد من احتقان العلاقات الدولية ومحاولة لتعزيز الأمن والسلم الدوليين الذي ظل مهتزا عند بروز إي أزمة إقليمية أو دولية والتي كان أبرزها أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا في العام 1961.

     ورغم محدودية المعاهدة مقارنة بغيرها من المعاهدات ذات الصلة،إلا إن روسيا تحديدا تخلت عن الكثير من بيئتها الدفاعية والهجومية بعد وراثتها للترسانة السوفياتية،ذلك عبر اتفاقيات ثنائية مع واشنطن مقابل الدعم الاقتصادي والمالي إبان حقبة الرئيس بورس يلتسين، إلا أن أوضاع تلك المعاهدات وغيرها باتت موضع جدل عالي المستوى بعد وصول الرئيس بوتين إلى السلطة المترافقة مع طموحات المنافسة الدولية وتصاعد الأزمات الإقليمية وبخاصة الأزمة السورية التي شكلت منعطفا حادا في العلاقات البينية مؤخرا.

         لقد شكلت قمة هلسنكي بين الجانبين الروسي والأميركي في يوليو / تموز الماضي مناسبة للبحث في المعاهدة، ورغم تأكيدات الطرفين على جدية المتابعة في هذا الملف، إلا أن المستجدات الأخيرة وخرق قواعد الاشتباك في الأزمة السورية أعاد الملف إلى مستويات حادة، ويبدو انه سيكون على رأس جدول أعمال القمة المزمعة بين الطرفين في ديسمبر / تشرين الثاني القادم في باريس، فهل ستكون مناسبة ملائمة لحل هذه الأزمة الناشئة.

         وإذا كان الأمر كذلك، ما هو الموقف الأميركي وبالتحديد الرئيس ترامب من إدخال الصين أو غيرها مستقبلا في القضية، سيما وان الصين على سبيل المثال ظلت خارج الاتفاقيات الدولية والثنائية المعقودة مع الطرف الأميركي ، وهي إلى جانب ذلك ، تعتبر حليفا اقتصاديا وتجاريا للعديد من الدول التي تناصب العداء لواشنطن، فهل لواشنطن خلفيات أخرى في إشراك الصين في التصعيد الأخير؟

       في أي حال من الأحوال، ثمة سقوف عالية أثيرت فيها القضية، وثمة حذر روسي في التعامل مع الملف وسط تصريحات مرنة نسبيا كما أطلقها الرئيس بوتين عبر لقائه مع بولتن في موسكو، معتبرا أن لقائه مع الرئيس ترامب في قمة هلسنكي كان بناَءَ ، ما يعني أن الكلمة الفصل في هذا الموضوع ربما ستكون في قمة باريس المزمعة بين الجانبين، إذ ثمة الكثير من الملفات ذات الصلة يمكن أن تكون من بين وسائل إدارة القضية لاحقا، إذ أن استرجاع قراءة العلاقات الثنائية والتدقيق في كيفية إدارة الأزمات بين الطرفين تشي بذلك.

  

أي إستراتيجية للناتو؟

د.خليل حسين

أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

 

         يستعد حلف الأطلسي لإطلاق اكبر مناوراته العسكرية في العقد الحالي (ترايدنت جانكتشيه 18) في الفترة ما بين 25 اكتوبر / تشرين الأول والسابع من نوفمبر /تشرين الثاني ، ويعكس حجم المشاركة فيها المخاوف من الأعداء المفترضين والمحتملين وفي طليعتهم روسيا والصين، إذ سيشارك فيها 45 ألف جندي من دول الحلف. وتعتبر رد مباشر على مناورات (فوستوك 2018) الروسية ـــ الصينية التي شارك فيها 30000 من القوات الروسية و3200 من القوات الصينية، والتي اعتبرت الأضخم منذ العام 1980 ،أي قبل عقد من انهيار الاتحاد السوفياتي. وتترافق هذه الاستعدادات مع حملات دعائية واسعة تتهم موسكو بشن هجمات سيبرانية على الولايات المتحدة وكمدا وبلجيكا وغيرها ، تشي بتركيز على الأخطار التي تشكلها موسكو على دول الحلف، وهو أمر ليس بجديد وله خلفياته التاريخية إبان الحقبة السوفياتية.

       إلا أن الجديد في هذا الموضوع ظهور تيارات سياسة ذات طابع استراتيجي في الولايات المتحدة نفسها، تهدف إلى تحويل الأنظار في الحلف من الخطر الروسي المفترض أو المحتمل إلى خطورة الصعود الصيني الذي يشكل برأي هذه التيارات التحدي الأصعب لواشنطن في العقد المقبل وما سيليه للعديد من الاعتبارات الاقتصادية. وفي لغة الأرقام  بدأت الحرب التجارية التي شرع بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد بكين، عبر رفع الرسوم الجمركية إلى 10 في المئة على 5745 صنفا صينياً حتى الأول من كانون الثاني 2019، على أن ترفع هذه الرسوم إلى 25 في المئة،وهي أرقام مهولة في التبادلات التجارية وضرائبها وتشكل مصدر قلق للصين وسلة التصديرات إلى الولايات المتحدة.

        ويرى المهولون بالصعود الصيني ، أن مع حلول العام 2025، سيتركز نمط من التعددية القطبية غير المتوازنة على المستوى العالمي، وفيها تحتفظ واشنطن بتفوّق نسبي، ومرد ذلك امتلاكها سلة من أوراق القوة التي لا منافس فعلي لها في مجالات القدرة الاقتصادية والتطور التكنولوجي النوعي والقدرات العسكرية والجيوسياسية ، إلا أن المنافسة الفعلية ستكون في أعلى المستويات مع اللاعب الدولي الذي يليها وهو الصين. كما تؤكد هذه التيارات أن الفروق في القدرة والقوة سيكونان كبيرين بين بكين وواشنطن وحتى مع أطراف أخرى كروسيا وألمانيا واليابان والهند. وتنطلق هذه الرؤى من مقاربات معتبرة كعدد السكان في الدول الأوروبية مجتمعة الذي يصل حاليا إلى 500 مليون نسمة،فيما روسيا تبلغ140 مليوناً وهو مرشح للتراجع. وحجم اقتصاد أوروبا الذي يقدّر بـ17 تريليون دولار، بينما حجم اقتصاد روسيا لا يتجاوز حسب التقديرات السائدة تريليوني دولار. وتنفق الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الأطلسي أربعة أضعاف ما تنفقه روسيا على التسلح سنوياً. وبالتالي إن التركيز المبالغ به على الخطر الروسي يحرف النظر برأي هذه التيارات عن التهديد الفعلي للصين. وبالتالي ضمور الدور الأميركي في القارة الأوروبية على حساب الاستدارة نحو آسيا والتحدّي الصيني تحديدا.

      إزاء ذلك ثمة تحد واضح للحلف بشكل عام وواشنطن بشكل خاص، يستتبع استراتيجيات نوعية مثال كبح جماح الصعود الصيني تكنولوجيا على سبيل المثال، والمضي في سياسة الاحتواء كما تنادي هذه التيارات على قاعدة ما سارت به واشنطن لمواجهة الاتحاد السوفياتي سابقا، إلا أن ما يواجه هذا الخيار عمليا أن ظروف الصين حاليا هي مغايرة تماما لما كان عليه الاتحاد السوفياتي،إذ تمتلك من أوراق القوة ما يضعضع هذه السياسة على قاعدة الاستثمارات الصينية في السندات الأميركية والتي يعتبرها الكثيرون كأسلحة دمار شامل اقتصادية بيد بكين رغم مخاطرها المزدوجة على الطرفين. لذا يثار السؤال مجددا حول تخبط حلف الأطلسي في استراتيجياته لجهة تحديد المخاطر المفترضة وهي أسئلة تواجهه منذ حل حلف وارسو وتبدد الكثير من المبررات الفعلية والواقعية لاستمراره.

السجال الصاروخي الروسي الإسرائيلي وتداعياته

د.خليل حسين

أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

 

      ليست سابقة أن تشهد العلاقات الروسية الإسرائيلية توترا عالي المستوى، إذ سبق حادثة إسقاط الطائرة الروسية ايل 20 ، توترات في مناسبات عدة وبخاصة عندما تحاول إسرائيل خرق قواعد الاشتباك المنظمة بين أطراف الأزمة في سوريا. وقد أتت حادثة إسقاط الطائرة لترفع من منسوب التوتر وتعطيه أبعادا أخرى، إضافة إلى احتمال بروز  تداعيات ذات صفة نوعية واستراتيجية في سياق إدارة الأزمة السورية.

      ففي خلفية الموضوع اعتبرت موسكو أن إسرائيل هي المسؤولة مباشرة عن إسقاط الطائرة عبر تخفي طائراتها الأربعة من نوع اف 16 في المجال الجوي للطائرة المستهدفة والتي أسقطت خطأ بصواريخ سورية في أثناء تصديها للغارة الإسرائيلية. ووقفت موسكو عند رأيها بالموضوع وسط سجال روسي إسرائيلي في أعلى المستويات ، أعقبه إجراءات عسكرية روسية في شرق البحر المتوسط وبخاصة قبالة الشواطئ الإسرائيلية والذي اعتبرته هذه الأخيرة عملا استفزازيا. وترافق ذلك مع تأكيدات موسكو بأنه ستسلم خلال أسابيع منظومة الصواريخ أس 300 ، مما خلق جوا تصعيديا آخر بين الطرفين.

      وفي الواقع لا يعتبر السجال حول منظومة أس 300 جديدا بين الطرفين، فقد سبق لإسرائيل أن  تمكنت من منع تسليم دمشق لهذه المنظومة في العام 2013 ، ما أسهم بشكل أو بآخر في رسم قواعد اشتباك فوق الأجواء السورية لمصلحة إسرائيل ، إذ تمكنت من خلالها تنفيذ العديد من الاعتداءات على الأراضي السورية لأهداف سورية وإيرانية وغيرها.وفي الحقيقة تنطلق إسرائيل في معارضتها الشديدة لحصول دمشق على هذه المنظومة من منطلقات دقيقة بالنسبة إليها.فهذه المنظومة بالذات تعتبر من الأسلحة الصاروخية الإستراتيجية نسبيا والتي تلبي الحاجات السورية في تغطية أجوائها عمليا، وتمنع الطائرات الإسرائيلية من التحرك إلا وفق قواعد اشتباك جديدة تتوافق مع قدرات المنظومة الصاروخية. فالمنظومة تمتلك قدرات وازنة في مسح الأجواء على مسافة تصل إلى 250 كيلومترا وبفعالية عالية جدا، وبالتالي قادرة على وضع الطائرات الإسرائيلية تحت السيطرة والمراقبة الحثيثة عند تحركها من المدرجات، بمعنى آخر شل القدرات الإسرائيلية عمليا عند بدء التحرك، إذ تعتبر هذه المنظومة من المنظومات الدقيقة جدا القادرة على تغطية الأجواء بنسب عالية جدا، وقادرة على حمل رؤوس يصل وزنها إلى 145 كيلوغرام ، وهي قادرة على التعامل مع أهداف متعددة وبفعالية عالية جدا. وسبق لموسكو أن باعت هذه المنظومة للقليل من الدول بينها الصين وإيران وفنزويلا ، ورغم ان كفاءتها اقل من منظومة أس 400 التي تحاول العديد من الدول الحصول عليها، إلا أنها تبقى في أولوية الأجندة السورية التي تلبي حاجاتها اللصيقة في التعامل مع الاعتداءات الإسرائيلية على أراضيها.

        في المبدأ، إن حصول دمشق على هذه المنظومة ونشرها على الأراضي السورية ،وبصرف النظر عن حجم ونوعية السيطرة على تشغيلها واتخاذ القرار بهذا الشأن لاحقا، يعتبر منعطفا وازنا في العمل الجوي في السماء السورية، وبالتالي هي محاولة روسية جادة لإذعان إسرائيل على القبول بقواعد اشتباك جديدة في المنطقة بصرف النظر عن حجمها ونوعيتها، إلا أنها ستكون مغايرة للتي سبقتها، سيما وان موسكو ألمحت أيضا في ظل هذا السجال إلى دور فرنسي وأميركي محتملين في إسقاط الطائرة، ذلك على غرار ما حدث في إسقاط طائرتها في الأجواء التركية المحاذية لسوريا سابقا، وما تبين في أثنائها لدور الناتو وواشنطن في هذا الشأن.

        وفي أي حال من الأحوال، إن الوقائع التي أفرزتها حادثة إسقاط الطائرة الروسية، سترخي ظلالا كثيفة على العلاقات بين موسكو وتل أبيب، وستحدد اطر جديدة للتعاطي مع أطراف آخرين في الأزمة السورية، إلا أن هذا التصعيد من غير المحتمل أن يصل إلى حد  الصدام المباشر، سيما وان إسرائيل تعرف كيف تستفيد من علاقاتها مع واشنطن واستثمارها في العلاقة مع موسكو، كما تعرف هذه الأخيرة كيف توازن علاقاتها مع كل من تل أبيب وطهران وأنقرة ودمشق وغيرها من العواصم الفاعلة في الأزمة السورية.