30‏/08‏/2013

مفارقة الأنظمة العربية وثوراتها

مفارقة الأنظمة العربية وثوراتها
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 27/8/2013
     
خليل حسين
غريب المفارقات في الثورات العربية تضمنها أفعالاً وسلوكيات تبدو غريبة عن الأعراف والغايات والأهداف التي تتفاخر وتتغنى بها أي ثورة أو تحرك يهدف نحو الأفضل والأحسن . والمفارقة الأغرب أن كلا الفريقين القائم بالثورة أو النظام يمارس وسائل وأساليب متشابهة، بحيث أظهرت هذه الممارسات أعرافاً وسياقاً وسلوكاً عملياً في التعاطي مع المجريات القائمة .
فالأنظمة مارست الاستبداد والتهميش للآخر والاستقواء بالدين لتقوية مواقعها السلطوية، في محاولة للاستمرار والبقاء، فيما الحركات المعارضة مارست الأمر نفسه عندما تسلّمت السلطة وربما في بعض الحالات لجأت إلى أساليب عنفية غير مبررة، وأنتجت حالات ومظاهر أشد قسوة مما كانت تعانيه وهي خارج السلطة .
لقد تمكّنت بعض الأنظمة من تأمين أمن مجتمعي موصوف،لكنه كان على حساب الحريات العامة . فكان أمناً تمارسه السلطة بقبضة حديدية يقابله خوف وذعر مجتمعي . فيما لم تؤمن الثورات أي بيئة أمنية، بل جل ما توصلت إليه انفلات وفوضى عارمة مستتبعان بظروف هي أقرب إلى الحروب الأهلية .
تمكنت بعض الأنظمة من استبدال الحريات العامة بتأمين الحاجات الأساسية الاقتصادية والاجتماعية، كالتعليم والطبابة وغيرهما، شرط عدم مواجهتها أو ممانعتها لسياساتها العامة . فيما لم تتمكن الثورات العربية - في معظم بيئاتها الاجتماعية - من تأمين الحد الأدنى لمتطلبات الحياة الكريمة التي كانت ترفعها شعاراً لها .
قامت الثورات العربية على مبدأ التحرك السلمي لتحقيق مطالب محقة، لكنها حملت السلاح وواجهت أنظمتها بعنف مفرط، وصل إلى ممارسة فظائع وجرائم بحق الإنسانية وفي بعض الحالات لجأت بعض الأنظمة والثورات إلى التفنن في استعمال هذه الجرائم، لتبرير أو تغطية مواقف وانتصارات مزعومة ولو على بني جلدتها .
في معظم الأنظمة التي شهدت تحولات دراماتيكية في الفترة الأخيرة مارست الحكم تحت واجهة حزبية واحدة وببرامج وسياسات محددة بصرف النظر عن حقيقتها وأهميتها، فيما غابت عن تحرك الثورات الأحزاب السياسية، وحل محلها الحراك الشبابي من دون برامج محددة، ما أدى بشكل أو بآخر إلى تهميش شرائح واعدة في المجتمعات العربية .
لم تتمكن أي من الثورات من تثبيت دعائمها في السلطة بل تخبطت في ممارستها، فيما رموز الأنظمة وأدواتها الاقتصادية والسياسية لا زالت الحاكم الفعلي والمسيّر لمفاصل الأنظمة الموجودة فيها .
لقد عُزل وقتل وحوكم وتم تهريب رؤساء، فيما لم يقدم أي تقييم لأي تجربة في أي بلد، فظل الحراك أو الثورات يعدّان من المقدسات التي لا ينبغي تناولها، تماماً كما كان الأمر متبعاً في الأنظمة الحاكمة .
ثمة مفارقات لا تعدّ ولا تحصى في الأنظمة العربية وثوراتها، بحيث يعجز علم الاجتماع السياسي بكل مدارسة واتجاهاته عن تفسير تلك الممارسات والسلوكات والمظاهر، ما يستدعي وقفة تأمل حقيقية لما جرى وسيجري مستقبلاً . فالمجتمعات العربية باتت اقرب إلى التمزق والاحتراب بفعل عدم قدرتها على تحمل تداعيات ما وضعت فيه من جانب الأنظمة والثورات القائمة عليها .
إن ما فعلته الأنظمة بشعوبها ومجتمعاتها يفوق القدرة على التحمل، وهذا ما يفسر سرعة الحراك في أكثر من نظام عربي، وفي مقابل ذلك لم يكن لأي حراك أفق واضح لاستيعاب ما يواجهه، ما أدى إلى تندر وتحسر المجتمعات الحاضنة لها على ماضيها، ولو كان سيئاً، وهذا لم تسجله أية سابقة في العالم .
ثمة مظاهر مخيفة تعمّ المجتمعات العربية، فهي منقسمة عامودياً على نفسها، تُمارس عليها سلطة أمر واقع وتدفعها إلى اقتتال مرعب، وسط غياب لأي أفق واضح للخروج مما تتخبط فيه . تُمارس فيها وعليها جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب، في وقت يدخل فيه رئيس إلى السجن ويخرج آخر من دون معرفة العامة لهذه المفارقة .
في عزّ حكم الأنظمة كانت حفلات التندر تنطلق من حركات التصحيح، اليوم ربما نحن بحاجة ماسّة إلى تصحيح أوضاعنا قبل فوات الأوان، باعتبار أن ما وصلنا إليه يكاد يقضي علينا وعلى فكرة الدولة والمجتمع التي طالما حلمنا بها منذ عقود طويلة . ربما هذا المطلب المتواضع الذي يعد من أبسط حقوق الإنسان بات أملاً يستحيل تحقيقه .

الأزمة السورية والعلاقات الروسية - الأمريكية

الأزمة السورية والعلاقات الروسية - الأمريكية
نشرت قي صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 22/8/2013
    
خليل حسين
تصوّر كثير من المتابعين أن سقوط الاتحاد السوفييتي أنهى حقبة الحرب الباردة، وبنيت تصورات ورؤى مختلفة لهذه النظرية، وما عزّز تلك الرؤية ضعف انطلاقة روسيا كقوة فاعلة في النظام العالمي آنذاك للعديد من الأسباب والاعتبارات الذاتية والموضوعية . وبصرف النظر عن غياب العامل الأيديولوجي في تأجيج النزاعات والصراعات حالياً، إلا أن ثمة أسباباً كثيرة يمكن أن تعيد رسم صورة قاتمة لعلاقة موسكو بواشنطن في ظل ظهور أزمات ذات بعد إقليمي ودولي ومن بينها الأزمة السورية .
وعلى الرغم من وجود فواعل كثيرة تلعب أدواراً مختلفة في تحديد مستوى العلاقة بين الدولتين، إلا أن الأزمة السورية شكّلت عاملاً أساسياً في تحديد مستقبل العلاقة وما يمكن أن ينتج عنها من تداعيات إقليمية ودولية في غير اتجاه .
لقد اعتقدت موسكو مؤخراً أن عودتها إلى النظام العالمي كقطب فاعل إن لم يكن موازياً لواشنطن، مرهون بإعادة صياغة سياسة خارجية ذات بُعد صدامي، أي بمعنى آخر لقد لجأت موسكو في قراءتها للسياسات الدولية المفترضة ومنها الأزمة السورية، على أنها بوابة ممتازة لطموحاتها، رغم الصعوبات والمعوقات الكثيرة التي يمكن أن تواجهها في ترجمة الطموح إلى واقع ملموس .
صحيح أن روسيا تمكنت خلال العقد المنصرم من تكوين بيئة اقتصادية وسياسية واجتماعية مناسبة لانطلاقة جديدة على المستوى الدولي، إلا أن مستجدات كثيرة برزت مؤخراً، بحيث لم يعد بمقدور روسيا الاتكال على هذه البيئة لتأكيد حضورها المفترض، باعتبار أن مرتكزات السياسة الخارجية الروسية انطلقت من بيئات مختلفة على الصعيد العملي، ومنها محاولة إعادة تقويم سياساتها على منطلقات ليست قادرة على ضبطها واستثمارها بشكل دقيق ومفيد، ومن بين هذه المنطلقات محاولة التدخل في التحولات الجارية في المنطقة العربية .
لقد شعرت موسكو بأنها تلقت ضربة قاسية من خلال إدارتها للأزمة الليبية وخروجها خالية الوفاض مما آلت إليه أوضاع منطقة شمالي إفريقيا وتحديداً المنطقة العربية، لذا عملت جاهدة على تركيز قوتها في محاولة لإعادة التوازن في منطقة أخرى، فكانت الساحة السورية والقبرصية ملعباً ممتازاً لعمليات الشد والجذب مع واشنطن . والسؤال المفترض هل إن استمرار موسكو في هذا التوجه سيعيد لها ما خسرته في مناطق أخرى ويعيد ترسيم العلاقة مع واشنطن وفقاً لتصوراتها .
في واقع الأمر، وإن كانت موسكو تحاول جاهدة إعادة ترتيب أوضاعها على أسس تعتبرها مقبولة نسبياً، إلا أن المستجدات الحاصلة في المنطقة العربية تحديداً تعتبر من العوامل المثبطة أو أقله غير المساعدة على تطوير قدراتها الدبلوماسية والعملية، فالتحولات الجارية في غير بلد عربي ومنها سوريا من الصعب استثمارها بشكل مقبول نظراً لأكلافها العالية وعدم وجود قواعد صلبة لإمكانية البناء عليها في أي مشروع حل للأزمة السورية أو غيرها، وبذلك فإن ركون روسيا ووضع ثقلها بمختلف أوجهه في الأزمة السورية لن يثمر نتائج مقبولة لموسكو في ظل تشدد واشنطن في هذه الملفات، وفي ظل عدم وجود أي مؤشرات على إمكان تبدلات دراماتيكية سريعة في مواقف كل من موسكو وواشنطن .
إن قراءة متأنية لماضي العلاقة بين البلدين يشير بوضوح إلى أن تنافساً قوياً قد جرى في غير ملف وقضية في غير منطقة من العالم، حيث جرت تنازلات متبادلة وإعادة صياغة مختلفة لمواقف متباينة، إلا أن التدقيق في مواقف الدولتين تجاه الأزمة السورية يشير إلى نوع من الاستحالة في التوصل إلى قواسم مشتركة لتحديد قواعد للحل السياسي المفترض، وما يعزز هذه الفرضية أن مؤتمر “جنيف 2” الموعود منذ أشهر عدة لم يتم حتى الآن ترتيب قواعده وأسسه حتى الفرعية منها .
إن تشعب الأزمة السورية حتى بتفاصيلها السياسية وغير السياسية المملة، أثرت وستؤثر في تكوين البيئة المناسبة لكل من واشنطن وموسكو في إعادة صياغة علاقة طبيعية في حدها الأدنى . فكل من البلدين انطلق من مرتكزات ومبادئ غير قابلة للتفاوض وتبادل المغانم والمصالح، فالأزمة السورية شكّلت وتشكل بيئة قابلة للتشدد في المواقف، وهي من النوع الاستراتيجي في حسابات الدولتين، وفي تلك الحالة من الصعب إيجاد ثغرات يمكن النفاذ إليها لبناء قواعد الثقة في التعاملات الدولية المفترضة
إن وصف الرئيس الأمريكي باراك أوباما للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنه كالتلميذ المشاغب الذي يجلس في مؤخرة الصف، تعبير واضح على نظرة واشنطن للسياسات المتبعة في موسكو، وفي هذه الحالة فهي تعتبر أن المشاغبة لن تصل إلى نتيجة، وبصرف النظر عن رؤية وقراءة واشنطن لهذا التوصيف، فمن المعروف أن المشاغبة هي نوع من عدم القدرة على إيصال ما يريده الشخص إلى نهاياته السعيدة . وبالتالي ثمة مسافات بعيدة بين الطرفين ينبغي ردمها قبل التفكير بأي بيئة حل لأي أزمة ومنها الأزمة السورية، بل الأصح القول إن الأزمة السورية تحديداً ستسهم في مزيد من الفراق والبعاد قبل أن تنضج ظروف أخرى تعيد رسم السياسات الإقليمية والدولية بين البلدين، وهو أمر غير منظور في المستقبل القريب!

أزمة المثقف العربي في زمن التحولات

أزمة المثقف العربي في زمن التحولات
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 17/8/2013
   
خليل حسين
ثمة رأي شائع بأن المثقفين في أي مجتمع، يعتبرون رأس الحربة لأي تغيير أو تحوّل، ربما هذا الاعتقاد هو صائب في أماكن كثيرة وأثبت الركون إليه تقديم نجاحات لافتة، إلا أن الأمر لم يكن كذلك في مجتمعاتنا العربية، ومرد ذلك إلى العديد من الاعتبارات والأسباب الذاتية والموضوعية لهؤلاء المثقفين الذين صرفوا جهداً كبيراً من دون نتائج مرضية .

وعلى الرغم من الدور الذي لعبه مثقفو مجتمعاتنا العربية من تكوين البيئة المناسبة لإطلاق أي تحوّل، فإن دورهم الريادي المفترض كان غائباً، وفي أحسن الأحوال مغيباً . وفي قراءة هادئة لما جرى في غير نظام عربي، يتبيّن أن حجم الدور وفعاليته كان متواضعاً جداً مقارنة مع شرائح اجتماعية كان ينظر إليها نظرة دونية باعتبارها شرائح لا حول لها ولا قوة .
لقد وضع المثقفون العرب أنفسهم في هالة يصعب اختراقها أو الدخول إليها، واعتبروا أنفسهم منزهين عن الخطأ، في وقت كانت الخطايا السياسية تلف سلوكهم وتغلف مواقفهم ورؤاهم، ما وسع الهوة بينهم وبين نظرائهم من ذوي التوجهات والأهداف نفسها، وانعكس سلباً على مجمل وضعهم ضمن الأطر الاجتماعية والسياسية التي يتواجدون فيها . فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان دور المثقفين في مجمل الحراك الشعبي في مصر وتونس وليبيا وسوريا ولبنان ثانوياً جداً، فيما الدور الأكبر والأبرز في هذه الدول كان لجيل الشباب الذي لم يكن يمتلك الخبرة الكافية أيضاً للوصول إلى ما كان يطمح إليه .
علاوة على ذلك، فإن غياب الأطر الحزبية المنظمة لأي جهد أسهم في تشتيت دور المثقفين، وجعل تحركاتهم مقتصرة على أطر تنظيرية لا عملية، وفي أفضل الأحوال اتجهت هذه النخب إلى بيئات إعلامية دعائية في وقت كانت الساحات العربية بحاجة ماسة إلى برامج ذات بُعد عملي تنفيذي لتأطير الجهود وإيصالها إلى أماكنها الطبيعية التي تحفّز أصحابها على المضي أكثر فأكثر في عمليات التغيير والتحوّل المفترض .
والأسوأ من ذلك كله، لقد تمكنت بعض هذه الفئات في بعض الأنظمة من التسلل إلى مؤسسات السلطة وقطفت بعض نتائج التحوّل دون تمكنها من تغيير لا الواقع ولا الوقائع، ما أحدث ردات فعل عكسية لدى الطبقات الشابة التي كان لها الدور الأبرز في الحراك، الأمر الذي أدى بدوره إلى إحباط نفسي سياسي أجج تحركات أخرى في محاولة لتصحيح الأوضاع القائمة، وهذا ما حدث مثلاً في مصر وبدأت مظاهره تبرز أيضاً في تونس وليبيا وغيرها، وهي موجات ثانية من الحراك يبدو أنها تؤسس لمزيد من حفلات الاقتتال المجتمعي على قاعدة الانقسام العمودي الحاد في غير مجتمع عربي
إن هذا الواقع المرير الذي تعيش فيه الشرائح العربية المثقفة له أسبابه الذاتية والموضوعية المزمنة، فهي لم تتمكن على مدى العقود الماضية من الدخول إلى آليات السلطة بشكل مستقل، وإنما بأغلبيتها أدخلت إلى السلطة كجوائز ترضية، إما بهدف فصلها عن محيطها الطبيعي، وإما بهدف استيعابها والحد من فعاليتها، وإما تهميشها أو التنكيل بها، ما أدى إلى انفصام سياسي حاد في سلوكها وبرامجها إن وجدت، وفي أحسن الأحوال بقائها في أطر مغيبة عن واقعها المفترض .
إن الخروج من تلك الدوامة القاتلة يتطلب جهداً مضاعفاً يأتي في طليعته العمل على إيجاد آليات عمل تنظيمية حزبية ذات طابع مدني علماني بعيداً عن التأصيل التنظيري لمعتقدات وأيديولوجيات باتت من الماضي . وما يعزز وجوب المضي في هذه السلوكات الفشل الذي وقعت فيه معظم التجارب السابقة التي تزعمها هؤلاء المثقفون، بحيث لم تتمكن معظم التجارب من تقديم الجديد المفيد لبيئاتها الاجتماعية والسياسية، بل تسببت بتداعيات سلبية كبيرة على كيفية ممارسة السلطة والأدوات والخطاب السياسي الموجه للداخل والخارج، ما أنتج بدوره مظاهر التطرف في التعبير عن التبرم الاجتماعي .
ربما يحتاج المثقفون العرب إلى معجزات موصوفة للخروج من مأزقهم، فهم فقدوا دورهم المفترض، كما افتقدوا الثقة والصدقية اللتين تعتبران الأرضية الصالحة لنجاحاتهم، وبالتالي ثمة جهد كبير مطلوب لإعادتهم إلى الصورة وأخذ موقعهم في التحولات الجارية حالياً . إنه مطلب، بل تحدٍ ينبغي العمل عليه، وإلا إلى مزيد من التقهقر والتدهور المجتمعي والسلطوي الذي بدأنا الدخول فيه وعندها لن ينفع الندم .

التحول من التدخل الإنساني إلى الديمقراطي

التحول من التدخل الإنساني إلى الديمقراطي     
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 2/8/2013
خليل حسين
 ظهرت في العقود الماضية موجة من الديمقراطية في مناطق مختلفة من العالم، كأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية والوسطى وآسيا وإفريقيا، ووصلت إلى تركيا وباكستان وألبانيا وإندونسيا في العالم الإسلامي، والملاحظ في ذلك أنه ليس ثمة تجربة مشابهة للأخرى، إذ لكل تجربة ظروفها الخاصة، فليس ثمة نماذج أو مسارات للتقليد أو الاستنساخ، ورغم صعوبة التعميم يمكن ملاحظة خمسة أنماط من التحولات الديمقراطية هي:

أولاً التحول الديمقراطي نتيجة الثورات الاجتماعية، ولهذه الثورات صيغتان، إحداهما تاريخية والأخرى معاصرة، ففي الأولى حدثت ثورات لدواع اقتصادية وكانت نتاج تحالف طبقي بين البرجوازية المتعلمة والدنيا ضد النخب الحاكمة من ملوك وأمراء إقطاع، فأدت إلى وضع قيود سياسية وقانونية على ممارسات هذه النخب، ومثال ذلك التحول الديمقراطي نجده في إنجلترا في القرن السابع عشر والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا في القرن الثامن عشر، أما الصيغة الثانية المعاصرة فكانت نتيجة للعوامل السياسية والدستورية، فقد تعرضت القوى السياسية المختلفة إلى درجة من القمع لم يعد ممكنا معها إلا أن تغامر بكل ما تملك من أجل إجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية، ويعد نموذج القضاء على تشاو شيسكو في رومانيا وثورة كوستاريكا في عام ،1948 وثورة بوليفيا عام 1948 وثورة جورجيا عام 2003 وأوكرانيا 2004-2005 وثورة مصر وتونس وليبيا عام ،2011 وما يجري الآن في سوريا من الأمثلة البارزة لهذا التحول .
والثاني التحول الديمقراطي في ظل سلطة الاحتلال أو بالتعاون معه، مثال هذا النمط دور الاحتلال البريطاني في الهند والأمريكي في اليابان وألمانيا الغربية وفي العراق عام 2003 .
والثالث، التحول الديمقراطي في ظل نخبة ديمقراطية وهو نموذج للتحول الديمقراطي الذي ظهر بعد انهيار النظم الاستبدادية، إما لوفاة الحاكم المستبد أو لهزيمة عسكرية تفقده شرعيته ما يؤدي إلى وصول نخب ديمقراطية تدير عملية التحول وتختار بنفسها وضع قيود دستورية على ممارستها، كمثال النخب الجديدة في البرازيل في عام ،1973 وإسبانيا في عام ،1976 وتايوان في عام ،1986 وتعد الحالة الإسبانية مثالاً قوياً في هذا المجال، فموت الجنرال فرانكو سمح بعودة الملكية إلى إسبانيا وقاد الملك (خوان كارلوس) عملية التحول باقتدار من ملكية استبدادية إلى ملكية دستورية وفق النمط البريطاني، واكتمل التحوّل في عام ،1982 بعد أول تداول سلمي للسلطة في أعقاب الانتخابات البرلمانية .
والرابع الانفتاح السياسي التكتيكي الذي يؤدي إلى مطالب ديمقراطية، وهذا النمط من التحول يبدأ عادة بمحاولة من النخب الحاكمة تمديد فترة بقائها في السلطة من خلال منح قليل من الانفتاح السياسي التكتيكي، مثل السماح بوجود أحزاب معارضة ثم التضييق على حقها في بناء قواعد شعبية مستقلة . لكن ما يحدث هو أن المعارضة تستغل هذا القدر من الانفتاح لخلق شرعية بديلة بما ينتهي بفقدان النخبة المستبدة القدرة على وقف عملية الانفتاح .
ولنجاح هذا النمط ينبغي توفر شروط من بينها وجود معارضة قوية والتمتع بمصداقية كافية لدى تيارات واسعة من المواطنين مثلما حدث في الاتحاد السوفييتي (السابق) عام ،1990 وكوريا الجنوبية عام ،1987 وجنوب إفريقيا عام 1990 .
 والخامس، انسحاب النخبة المستبدة من الحياة السياسية بعد ارتفاع تكلفة القمع، ويعد هذا النموذج نقيض النموذج السابق . فلا النخب قادرة على القمع ولا تملك القدرة على إدارة عملية التحول الديمقراطي، ومن هنا يكون أفضل بديل ممكن لها أن تنسحب من الحياة السياسية بعد أن توقع عقداً يضمن لها عفواً سياسياً وبعض الامتيازات على ألا تقف حجر عثرة في مواجهة السلطة الحاكمة الجديدة، مثلما حدث في اليونان عام ،1973 وفي البرتغال عام ،1974 وفي بيرو عام ،1977 وكذلك ما جرى في اليمن عام 2012 .
والسادس، التحول الديمقراطي عن طريق التدخل الدولي: مثلما حدث في ليبيا، عبر القرارين 1970 و،1973 اللذين صدرا عن مجلس الأمن الذي أجاز استخدام القوة ضد النظام الليبي وكذلك تدخل مجلس الأمن لإعادة الديمقراطية في هايتي .
 ويمكننا القول إن دعم الأمم المتحدة للحراك العربي، وبالأخص تدخل مجلس الأمن بالقوة في ليبيا بهدف مساندة إنهاء النظام وإنشاء نظام ديمقراطي، وأيضاً موقف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي تجاه سوريا واليمن، إنه إذا كان التدخل الإنساني عنوان التدخلات العسكرية في النصف الأخير من القرن العشرين، فالتدخل من أجل الديمقراطية سيكون عنوان التدخلات الدولية في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين .

ياخونت بعد “اس اس 300”

ياخونت بعد “اس اس 300”
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 21/7/2013
      
خليل حسين
ضجت أخبار الصاروخ الروسي “اس اس 300” خلال الشهور الماضية وربطاً بالأزمة السورية، أعقب ذلك الغارة “إلاسرائيلية” على ضواحي دمشق وتبعها رد فعل سوري هو الأعنف والأكثر صراحة بإمكانية الرد على “إسرائيل” . ضجة أخرى حول صواريخ ياخونت الروسية مترافقة مع أخبار غارة على اللاذقية، ما يعني أن سياقاً مبرمجاً من تفاعلات الأزمة السورية عالمياً، وبالتحديد صراعات باردة تخفي أنماطاً من الأهداف الاستراتيجية الروسية والأمريكية وبالطبع “إلاسرائيلية” . وبصرف النظر عن وقوع الغارة “إلاسرائيلية” من عدمها على مخازن الصواريخ، ثمة خلفيات كثيرة يمكن ملاحظتها لطريقة تسريب الخبر، وتداعياته إن صح ذلك .
أولاً في المبدأ، وأن أخذ صاروخ اس اس 300 حجماً وافراً من الإعلام، يبقى أن مفاعيل منظومة الصاروخ رغم أهميتها، ليست بالقدر الاستراتيجي الذي تم الترويج له، مقارنة مع صواريخ ياخونت . فصاروخ اس اس 300 باتت تقنياته معروفة ومتداولة ولا يشكل خطراً استراتيجياً بالمعنى العسكري على المتضررين منه وبخاصة “إسرائيل”، فيما صاروخ ياخونت إضافة إلى مميزاته العسكرية اللافتة، فإن تهديداته الخاصة ب”إسرائيل” يعتبر مساً بأمنها القومي الذي يلامس حدود الخطر “الوجودي الاقتصادي” الذي عبّرت عنه “إسرائيل” تلميحاً وتصريحاً في الفترة الأخيرة بعد تهديدات “حزب الله” بقصف حقول الغاز البحرية
علاوة على ذلك، أن مدى الصاروخ الذي يصل إلى حدود 300 كلم وفعاليته، يعني إنه يشكل خطراً استراتيجياً على المياه الحيوية الجنوبية لحلف الأطلسي وهو بالتالي قادر على الوصول إلى عمق الساحل الأوروبي وما يحتويه من قدرات بحرية هائلة .
أما الجانب الأهم من ذلك، هو الإعلان الأمريكي “إلاسرائيلي” الواضح بمواجهة التمدد الاستراتيجي الروسي في البحر الأبيض المتوسط وبشكل يهدد المصالح الحيوية الغربية عبر مواجهة هذه الصورايخ في سوريا التي تعتبر قاعدة طرطوس الملجأ الروسي الأخير في المياه الدافئة بعد خسارة العمق الاستراتيجي الليبي سابقاً .
لقد باتت حرب الصواريخ وضربها قبل إطلاقها مساراً اعتمدته “إسرائيل” في الفترات السابقة، ما يشكل جملة من التساؤلات أبرزها الموقف الأمريكي من ذلك، فهل هذه العمليات تنفذ بمعرفة ورضا الولايات المتحدة، أم هي مبادرة “إسرائيلية” صرف وليس على واشنطن إلا تحمل تبعات العمل؟ في كلتا الحالتين يعتبر التصرّف “إلاسرائيلي” من النوع الذي يمكن أن تبنى عليه سوابق أخرى في حالات قد تكون مماثلة في المستقبل، ومن بينها التصرف “إلاسرائيلي” المحتمل تجاه البرنامج النووي الإيراني باعتباره يشكل تهديداً وجودياً “لإسرائيل” يبرر فعل أي شيء من وجهة نظرها .
أما الأخطر من ذلك كله، أن صناعة القرار السياسي للرد على أي اعتداء “إسرائيلي” على سوريا، لم تعد دمشق بقادرة على اتخاذه أو التصرف منفردة فيه، بل بات من الواضح ان قرار الحل والربط بات بيد موسكو ومجموعة من الفواعل الإقليمية الثانوية في هذا المجال . ما يعني أن التوازن لم يعد مختلاً بين “إسرائيل” وسوريا فقط بل هو انتهى عملياً وواقعياً بفعل الأزمة السورية وتداعياتها ومخلفاتها .
لقد تمكنت “إسرائيل” من الانتقال من القبول بمبدأ مرونة التوازن الاستراتيجي في المنطقة لمصلحتها، إلى رفض إمكانية أحداث تغييرات استراتيجية نوعية، ومن بينها ما تشكله كل من منظومتي صواريخ ياخونت وإلى حد ما اس اس ،300 والواضح في هذا المجال أن “تل أبيب” باتت في حكم محاولة المواجهة المباشرة مع موسكو، باعتبار أن هذه الأخيرة تعتبر أن البحر المتوسط حالياً يجب أن يشكل حديقة بحرية حيوية وحلماً طالما راودها وسعت إليه بجد لعقود طويلة سابقاً .
أخيراً وللأسف، ربما قدر العرب أن يبقوا طليقي اللسان ومقيدي الأيدي، لقد تمكنت “إسرائيل” من احتلال عاصمتين عربيتين القدس وبيروت، وتمكنت من قصف عواصم عربية أخرى في الوقت الذي مازلنا نبحث عن جنس الملائكة وكيفية الرد على اعتداءات الكيان . إننا أمة لا تعيش فقط على أمجاد الماضي الغابر، بل باتت تعيش اليوم خارج تاريخها، وربما تطرد خارج جغرافيتها في الوقت الذي تضرب صواريخنا وهي جاثمة وننتظر قراراً لن يأتي أبداً .