30‏/05‏/2008

حدود الرعاية التركية للمفاوضات السورية الإسرائيلية

حدود الرعاية التركية للمفاوضات السورية الإسرائيلية
د.خليل حسين
رئيس المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية

مفارقة الرعاية التركية للمفاوضات السورية الإسرائيلية،تكمن في ظروف انطلاقها وامكانات نجاحها أو على الأقل التوصل إلى بيئة تفاوضية قابلة للحياة بين الجانبين على مستوى سياسي رفيع تنتج شيئا يمكن البناء عليه.فماذا في الظروف؟وما هي امكانات النجاح،في الواقع ثمة ملاحظات كثيرة ذات صلة يمكن الإضاءة عليها ومنها:
- في ظروف الانطلاق الإقليمية ثمة وقائع مغايرة ومختلفة عن السوابق التي تمت فيها لقاءات متعددة ومتكررة بين الجانبين ،أولى المحاولات اللافتة كانت بعد انتهاء حرب الخليج الثانية التي تم فيها تحرير الكويت من العراق،والتي شاركت فيها سوريا بقوات رمزية بأبعاد سياسية،وصورت المفاوضات آنذاك كأحد جوائز الترضية للانخراط السوري في سياق مسار أمريكي طويل للمنطقة،ورغم تهيئة الكثير من العوامل المساعدة كإطار التفاوض المتعدد الأطراف والإغراءات المالية والاقتصادية لم يتمكن الجانبان من التوصل إلى نهايات ثابتة ومؤكدة.
- كما أن ظروف الانطلاقة آنذاك كانت مغايرة للظروف الحالية وبخاصة لجهة أوراق السياسة الخارجية الداعمة للموقف السوري في المفاوضات،وهي متصلة بواقع العلاقات اللبنانية السورية آنذاك عبر تلازم المسارين والمصيرين في عملية التفاوض والنتائج التي يمكن ان تترتب عليها.
- في الرعاية الأولى اجتمعت أمم الأرض وهيئتها بدءا من الدول الخمس الكبرى مرورا بمنظمات إقليمية ودولية وصولا إلى دول ذات وزن مالي اقتصادي على المستوى الدولي، وعلى الرغم من وضوح الرعاية الأمريكية المباشرة وخفوت باقي الأطرف ظلت المظلة الدولية لها نكهة خاصة في رعاية المفاوضات أملا في قطف نتائج سياسية قابلة للتجير الدولي والإقليمي.
في مقابل تلك الوقائع والظروف ثمة ما يعاكسها في ظروف الرعاية التركية والتي يمكن أن تؤثر في النتائج المرجاة على الأقل ممن يرعاها ومن بينها:
- انطلقت المفاوضات بصورة غير مباشرة ويبدو أنها كانت جارية قبل الإعلان عنها بصرف النظر عن مستواها أو نوعيتها أو مداها أو أهدافها ،ثم تم الكشف عنها ليس بداعي الإعلان بقدر ما هو الإحراج لدمشق وهو أسلوب مسبوق اعتاد عليه الطرفان في محاولات سابقة،ورغم ذلك لا تعتبر إشارة مشجعة للراعي التركي الذي يأمل وككل راعي في مثل هذه الظروف يأمل إبقائها طي الكتمان إلى إن تصل الأمور إلى مكان يستثمر عمليا.
- إن الوضع الإقليمي لسوريا في هذه الفترة ليس كسلفه فهي خارج لبنان وقد فقدت عمليا ورقة هامة في آليات التفاوض،وعليه إن قدرات دمشق التفاوضية ستتأثر بهذا الواقع ،ولتفادي تلك الفجوات الاستراتيجية وطدت علاقاتها الاستراتيجية مع طهران لإعادة بعض التوازن حتى في المسارات التفاوضية بصرف النظر عن عدم وضوح نهاياتها.
- ثمة تباين في مرتكزات التفاوض،ففيما تعبر سوريا عن موقفها الواضح بالتمسك بمبادرة السلام العربية المقرة في قمة بيروت 2002،تجرى المفاوضات في اطر يمكن أن توصف خارج السياق الذي تفترضه المبادرة العربية السالفة الذكر،رغم وجود ما تبرره دمشق لهذه الفرضية.
ولو سلمنا جدلا بتجاوز تلك التباينات في الظروف بين الانطلاقة الحالية والسوابق المماثلة لها،ثمة شروط لنجاح الرعاية التركية وما تستلزم من شروط لاحقة لتخطي مبدأ الرعاية إلى التدخل كوسيط عند اللزوم وفي هذا الإطار يمكن إدراج ملاحظات من بينها:
- صحيح أن تركيا بدأت تنسج علاقات خارجية على قاعدة أنها دولة إقليمية كبرى تمكنها من بلورة إطار دبلوماسي للمساعدة في حل مشكلات لها انعكاساتها على الواقع التركي الجيو سياسي،إلا أنها في نفس الوقت ليست قادرة على لعب تلك الأدوار من دون تغطية من أطراف دولية فاعلة في النظام العالمي،وبالتالي افتقدت شرطا ضروريا ولازما لنجاح رعايتها وكما أسلفنا بصرف النظر عن حجم التوقعات والآمال المعقودة على نلك المفاوضات.
- إن مثلث العلاقات التركية مع كل من سوريا وإيران وإسرائيل يعطيها ميزة الانطلاق لكنها ليست كافية فحدود التأثير في مسارات التفاوض وان كانت من نوع الرعاية لا تمتلك قوة الدفع الكافية في منعطفات التعثر،فعلى الرغم من أن الرعاية تتطلب قدرة الضغط المعنوي على الأطراف،إلا أن هذه الحالة ليست متوفرة بالقدر الكافي للدفع باتجاه التواصل.فقدرة أنقرة على جذب سوريا باتجاه المفاوضات وإبعادها عن طهران لا تمتلك مفاتيحه بشكل كاف،في الوقت الذي تمتلك طهران أذرع سياسة خارجية قادرة من خلالها على فرملة أي تجاوز لخطوط تعتبرها مؤثرة في سياق تحالفها مع دمشق ومدى إسقاطاته وتداعياته في الساحة اللبنانية مثلا.في مقابل ذلك ثمة قدرة إسرائيلية لا يستهان بها للتأثير في قدرات تركيا ومثال ذلك استثمارها لموقعها الدولي ومدى قدرته في محاكاة الحنين التركي لدخول الاتحاد الأوروبي الذي يستلزم من وجهة النظر الإسرائيلية رضا تل أبيب على أنقرة ،ما يؤثر على حدود الرعاية التركية قبل الانتقال إلى مرتبات تفاوضية أعلى.
- إن توقيت انطلاقة التفاوض ليس مناسبا لجهة الاستحقاقات في الدول المؤثرة في مثل هذه الحالات،فالإدارة الأمريكية المعنية أولا وأخيرا في هذا الملف وبخاصة من وجهة النظر الإسرائيلية قد دخلت عمليا في كوما الانتخابات الرئاسية،وفي أحسن الأحوال لن تتمكن من التدخل وإعطاء أي دفع إلا في النصف الثاني من العام 2009 بعد ترتيب ملفات سياساتها الخارجية.
- إضافة إلى ذلك إن وضع رئيس الحكومة الإسرائيلية ايهود اولمرت ليس بأفضل حالاته،فهو يعاني من انهيارات سياسية متتالية على قاعدة اتهامات ذات أبعاد قضائية،وهو يترنح وقاب قوسين أو أدنى من السقوط ،الأمر الذي لا يؤهل تل أبيب الولوج في مفاوضات يعتد بها من الناحية المبدئية.
وعليه إذا كانت الأمور تؤخذ على محمل الجد فظروف نجاحها ليست متوفرة أو أقله تستلزم المزيد من الشروط الإضافية،أما وإذا كانت من نوع جس النبض السياسي بهدف تحضير علاجات لملفات أخرى فهي أيضا ليست مستوفية الشروط باعتبار أن بعض الملفات القابلة للمقايضة ليست من النوع القابل للدفع المسبق،وهي من الأمور القابلة للجر في ملفات وتداعيات كثيرة يصعب تصور نتائجها بوضوح ومدى أكلافها إذا ارتبطت بأطراف آخرين.
كثير من اللقاءات والمفاوضات عقدت بين سوريا وإسرائيل،وقليل من نتائجها يمكن البناء عليه،اثنا عشرة جولة ثنائية وأخرى متعددة،ومن ثم لقاءات على مستو سياسي وعسكري عال لم ينتج سوى "وديعة" سرعان ما تنكرت إليها إسرائيل لاحقا رغم تواضع موضوعاتها مقارنة مع الشعارات والآمال التي كانت معلقة على أساس موضوع التفاوض.
من مربط خيل اللاءات الثلاثة عام 1967 انطلق العرب لتحديد موقعهم في مواجهة إسرائيل،ومع انطلاق سباق البدل في مشاريع التسويات سقطت الخيول العربية واحدة تلو الأخرى، ولم يبق منها سوى قلة لا تعرف أين تتجه،أضاعت البوصلة وحُملت رايات السلام شمالا،بينما الجنوب ينتظر،فأين انتم يا عرب؟ وكأنهم في المريخ حتما!

28‏/05‏/2008

ماذا بعد تكليف السنيورة تشكيل الحكومة اللبنانية؟

ماذا بعد تكليف السنيورة تشكيل الحكومة اللبنانية؟
د.خليل حسين
رئيس المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية والدولية

ثمة أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح حول ما جرى في اتفاق الدوحة لجهة اتفاقات الجنتلمن والتي لم تكتب في نص الاتفاق،ومنها هل جرى الاتفاق مسبقا على استبعاد السنيورة من تكليف حكومة الوحدة الوطنية ومن ثم تم تجاوز هذا الخيار الاتفاق؟ وإذا صحت هذه الفرضية فما ستؤول إليه أوضاع لبنان القادمة؟ وهل هذا التكليف سيطيح ببنود أخرى وردت في نص الاتفاق؟
بداية من غير المعروف إذا تم الاتفاق على استبعاد السنيورة أم ظلت هذا الموضوع مبهما ومتروكا لأمور أخري،باعتبار أن التوافق السريع كان مطلوبا حينها،لكن في وقائع ما تم في الدوخة أن ثمة اتفاقا قد تم على تشكيل حكومة وحدة وطنية فيها الثلث الضامن للمعارضة،وهذا يعتبر إنجازا ومكسبا وبالمقابل ثمة سكوت عن إعادة تكليف السنيورة برئاسة الحكومة وان لم ينص الاتفاق على ذلك.
وما يعزز هذه الفرضية،أن عمر الحكومة الحالية لن يتجاوز العشرة اشهر وفيها بند واحد ملح التنفيذ وهو قانون الانتخاب الذي ستجرى انتخابات 2009 على أساسه،إضافة إلى ذلك فان مشروح الحكومة الاقتصادي والمالي السابق ارتكز على ما يتعلق بمقررات مؤتمر باريس 2007 لجهة الإصلاحات والمساعدات الاقتصادية والمالية للبنان،ومن هذا المنطلق فان السنيورة أولى بالبرامج الذي بدأها سابقا،وعليه يأتي هذا التكليف.
إلا أن ذلك لا يخفي أمورا أخرى متعلقة بسياسات وخيارات إقليمية ودولية،فمن المعروف أن كل الملفات ذات الوزن في المنطقة هي عمليا مؤجلة إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية،وبالتالي فان توابع هذه الملفات ينبغي تجميدها أو عدم إجراء تبديلات جوهرية فيها،ويأتي اتفاق الدوحة ليساير هذا الخيار من منطلق إبقاء الأمور في لبنان إلى ما هو عليه في هذه الفترة ومن هنا جاء تكليف السنيورة تشكيل الحكومة.
لكن الأمر لن يقف عند ذلك،فثمة عقبات كثيرة يمكن أن تقف في وجه تشكيل الحكومة لجهة نوعية الأسماء التي ستطرح للتوزير،إضافة إلى نوعية البيان الوزاري الذي ستأخذ الحكومة على أساسه ثقة المجلس.
في المقلب الأول فان حجم التوزير لكل فريق هو محسوم من الناحية المبدئية،16 للموالاة 11 للمعارضة و3 لرئيس الجمهورية، إلا أن العقبة الأولى ستظهر في توزير بعض الشخصيات المحسوبة على المعارضىين والتي يمكن أن تشكل استفزازا لأقطاب منافسة لها في الموالاة،وبخاصة من الطائفة الدرزية والسنية.إضافة إلى ذلك إن نوعية الوزارات سيكون لها عمليات شد وجذب كثيرة وبخاصة وزارات الخدمات والسيادية.
وإذا تم تخطي هذه العقبات ثمة البيان الوزاري الذي سيكون مطرحا لمناقشات ومداولات حادة وبخاصة ما يتعلق بالمقاومة وسلاحها،وهي حجر الرحى في أية سياسة عامة ستقدم عليها الحكومة مستقبلا.
ثمة مصاعب كثيرة تنتظر السنيورة في تشكيل الحكومة وبيانها الوزاري،إلا إن ما يستشف من أجواء إقليمية ودولية أن ثمة اتفاق مبدئي على تجميد الأمور في لبنان وعدم وصول الأوضاع إلى نهايات غير قابلة للسيطرة عليها،وبالتالي ثمة مصاعب كثيرة سوف يتم تذليلها وبخاصة من قبل الراعي القطري.
غريب المفارقات في لبنان،ما يكون محسوما مئة بالمئة،يصبح في اليوم التالي أمرا مغايرا تماما،وهذا ما حدث لجهة تكليف السنيورة،فمن يسمع مواقف المعارضة، يشعر بأن الحشيش سينبت على أدراج بيت السنيورة قبل أن تتاح له العودة مجددا للحكم.لكن للسياسة ومن يتحكم فيها في لبنان قول آخر.
في 30 حزيران نال السنيورة موافقة 126 من اصل 126 نائبا يمثلون مجلس النواب اللبناني ( اغتيال الرئيس الحريري والنائب باسل فليحان) أي كان ثمة إجماع عليه،اليوم نال 68 من اصل 127 (اغتيال انطوان غانم)،أي انه فقد ثقة نصف أعضاء مجلس النواب إذا استثنينا صوت ميشال المر،فهل يعلم السنيورة ذلك؟ وكيف ستكون السنة الأولى من ولاية الرئيس ميشال سليمان؟وألا يمكن القول أن التوافق على اسم رئيس الجمهورية ينبغي التوافق أيضا على اسم رئيس الحكومة؟ أسئلة ينبغي الإجابة عليها قبل فوات الأوان.
إن المفاجئة الأبرز إذا لم يتمكن السنيورة من تشكيل الحكومة في خلال شهر كما نص على ذلك الدستور،ومن ثم العودة إلى نقطة الصفر أي إعادة تكليفه وبالتالي استمرار ألازمة،عندها سيكون الوضع العودة إلى ما كان عليه قبل قراري حكومته الشهيرين،أي تقطيع الوقت حتى الانتخابات النيابية العام 2009 إذا تمت أيضا،وهذا ما توقعناه في خلال حوار الدوحة!

24‏/05‏/2008

ماذا بعد اتفاق الدوحة؟

ماذا بعد اتفاق الدوحة؟
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية

ثمة مفارقة وثابتة في تاريخ لبنان السياسي مفادها دوام تعرضه لأزمات وطنية حادة غالبا ما يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي لتفجر الواقع اللبناني الذي يعوم على بحر من التناقضات والتي تجد دائما من يجيد استثمارها ويعرف كيف يستفيد منها،وما جرى مؤخرا لا يعدو كونه انعكاسا لهذا الواقع،فما الذي جرى؟وكيف تمَّ التعامل معه؟ وما هي حظوظ اتفاق الدوحة؟
أولا في الوقائع ثمة ثغرات بل فجوات كبيرة في السياسات التي اتبعت بعد اتفاق الطائف على الصعيدين الداخلي والخارجي،أزمات دستورية متلاحقة يتداخل فيها الدستوري بالطائفي وحتى المذهبي،حلول على قاعدة تقطيع الوقت بأقل الخسائر الممكنة.في المقلب الآخر سياسات خارجية وتحالفات وعلاقات تعكس تباينات الشرائح اللبنانية في نظرتها والتي تتقاطع مع سياسات المحاور العربية والإقليمية التي لا تتقاطع إلا على مصالحها الخاصة وعلى حساب لبنان تحديدا.عدم اتفاق واضح وجلي على وضع لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي وبالتالي دوام بقاء سلاح المقاومة سؤالا مطروحا من قبل الأكثرية وبخاصة بعد عدوان 2006 على لبنان.
بعد اغتيال الرئيس الحريري تغيرات دراماتيكية حدثت وكأنها كانت تنذر بمنعطفات كبيرة في تاريخ لبنان السياسي القادم،وكان ابرز ما في هذه الانعطافات مصير المقاومة وسلاحها بالترافق مع ضغوط المحكمة الدولية الخاصة للبنان،تراكمت المطالب والضغوط الداخلية والخارجية إلى أن وصلت الأمور إلى مكان يصعب التراجع عنه لكلا فريقي المعارضة والموالاة،فكانت مناسبات عدة للصدام المسلح بين الطرفين،إلى أن توجت بقراري الحكومة الشهيرين لتفجر الوضع ولتؤكد الشر المستطير الذي نبه منه أكثر من طرف سياسي لبناني وإقليمي.وفي هذا المجال نذكر الملاحظات التالية ذات الصلة بالصراع القائم حاليا ومن بينها:
- ثمة خلاف وصل إلى حد الصراع حول تحديد موقع لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي وبالتالي تحديد موقف المقاومة من سلاحها بعد القرار 1701 وغيره من القرارات ذات الصلة بالوضع اللبناني.
- ثمة متغيرات كثيرة طرأت على أدوات الصراع ودوافعه ودعائمة ودخول أطراف عربية وغير عربية مباشرة في ألازمة القائمة،وبات الشروط والمطالب أضخم وأعظم بكثير من سابقاتها إبان الحرب الأهلية بين الأعوام 1975 و1990.
- ثمة تداخل وسباق محموم بين مشاريع كبرى في المنطقة انقسم اللاعبون الفرعيون فيها بين مراكز إقليمية ودولية فاعلة لا تتيح للأطراف اللبنانيين التحرك بسهولة في واقع أزمتهم.
- انفجار الأزمة اللبنانية في التوقيت القاتل انتخابات رئاسية أمريكية،تضعضع الحكومة الإسرائيلية وترنح رئيسها أيهود اولمرت، انقسام عربي واضح بعد قمة دمشق بين معتدلين وممانعين. غياب واضح للأطراف الأخرى كالأوروبيين.تهاوي الأمريكيين في المنطقة بدء من أفغانستان مرورا في العراق وصولا إلى لبنان.
- داخليا محتوى النظام السياسي فُصل على مقاسات أطراف بعضها لم يعد موجودا بالمعنى السياسي،وبعضه الآخر أعطي في ظله أكبر من حجمه الواقعي،فيما البعض الآخر تمدد دوره على حساب أطراف آخرين،في الوقت الذي عانت آليات النظام ومنها الدستوري خللا فاضحا وواضحا،في الوقت الذي كانت فيه الطوائف والمذاهب تبحث في هذا الخلل عن فجوات أخرى فيه لتزيد استثماراتها في خلاله وتساعد في تهاويه؛وعليه بات الكل مقتنع في السر قبل العلانية أن الطائف ضاق على مقاس البعض وترهل على البعض الآخر لكن أحدا لم يتجرأ حتى الآن البوح صراحة عما يريد،فالظروف لم تنضج لذلك وبالتالي حوار الدوحة الحقيقي مؤجلا إلى توازنات جديدة تتيح الجهر بما هو غير معلن.
وفي ظل هذا الجو المضطرب جاء التحرك القطري بغطاء من جامعة الدول العربية في محاولة للدخول على حل ألازمة اللبنانية فما الذي تمَّ التوصل إليه في الدوحة تحديدا،وهل يعتبر من الحلول القابلة للحياة عمليا أم أن مستلزمات نجاحه مرتبط بأمور أخرى خارجه عن نطاق أطراف الحوار الحاليين؟
في ظاهر اتفاق الدوحة وباطنه ثمة نصف ربح ونصف خسارة لكلا طرفي المعادلة اللبنانية المعارضة والموالاة،لجهة اولويات النقاط التي تم بحثها أو الاتفاق عليها،فاتفاق فينيسيا الذي تم الذهاب به إلى الدوحة تمت مناقشته وفقا لوجهة نظر المعارضة واولوياتها،فاستبعد موضوع سلاح المقاومة،إلا أن الأكثرية تمكنت من الحصول عمليا على صياغات يمكن تأويلها مستقبلا لجهة اصل البحث في هذا الموضوع لاحقا،وعلية فإن المعارضة لم تقدم تنازلا لكي يسجل نصرا كاملا للموالاة،رغم أن هذا الموضوع هو أصل المشكلة للأكثرية،وعليه فان سلاح المقاومة هو الفتيل القابل للتفجير عند أي منعطف مستقبلا في الحياة لسياسية اللبنانية.
أما في قانون الانتخاب الذي على أساسه سيعاد تركيب النظام السياسي ومنهج سياساته العامة الداخلية والخارجية مستقبلا،فدونه ملاحظات كثيرة من بينها،فهو وان طالب واقتنع به الغالبية في التركيبة الحالية إلا أن ما كان يعترض عليه كل فريق قد تمكن من تعديله وفقا لوجهة نظره،إضافة إلى ذلك إن طريقة الاتفاق عليه هي مخالفة دستورية واضحة من حيث المبدأ،فقوانين الانتخاب ينبغي أن تصدر بقوانين وبالتالي ينبغي أن يكون حر المناقشة في المجلس النيابي وليس خارجه.إضافة إلى ذلك إن ما تم التوافق عليه لجهة تقسيم الأقضية يعتبر جوائز ترضية للطوائف والمذاهب التي تقبض على السلطة حاليا،وبالتالي إن أي مجلس قادم وفقا لهذا النظام سيعيد إنتاج قواعد وكتل نيابية على أساس طائفي ومذهبي وهو بالتالي إعادة لبنان إلى حكم المتصرفيات الطائفية التي كانت سببا في اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1958 و1975 والتي بدأت ظروفها تتكون في العام 2004 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أما العنوان الثالث المتعلق بالحكومة والمتعلق بتوزيع الأحجام الوزارية فقد حققت المعارضة مطلبها عبر أخذ الثلث الضامن أي 11 مقعدا في تركيبة الثلاثين فيما أخذت الأكثرية أغلبية النصف،لكن هذه التركيبة دونها التباسات فارقة،سيما وان صياغات اتفاق الدوحة قد حرمت المعارضة من إمكانية استعمال ثلثها الضامن أو المعطل،فحق الممارسة مشروط بعدم تعطيل عمل مجلس الوزراء،وكذلك بشرط عدم الاستقالة وغيرها،فيما الأكثرية قادرة على إنتاج مراسيم عادية دون المواضيع التي تتطلب أكثرية موصوفة،وفي مطلق الأحوال فان الحكومة القادمة سيكون أبرز مواضيع عملها قانون الانتخاب المتفق عليه مسبقا وبالتالي إن التركيبة المتفق عليها من نوع لزوم ما لا يلزم.
وفيما يتعلق بانتخاب الرئيس التوافقي فأمر آخر،فقائد الجيش الذي اجمع عليه الأطراف علنا واختلفوا عليه ضمنا،فهو في حكم المنتخب الأحد القادم،إلا أن الموضوع ليس في الرئيس فمن المعروف أن رئيس الجمهورية لم يعد له كلمة الفصل في النظام السياسي في اتفاق الطائف، وعل الرغم من إعطائه ثلاث وزراء في الحكومة القادمة فان هذا الحجم لا يجعله مؤثرا من الناحية العملية إلا في ظروف رمزية واستثنائية وبخاصة في بدء ولايته.وآيا يكن الأمر لجهة انتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهورية فان الخاسر الأكبر في فريق المعارضة يعتبر رئيس التيار الوطني الحر،ميشال عون،الرئيس غير المنتخب منذ العام 1988.
وفي هذه القراءة السريعة لنتائج اتفاق الدوحة،ما هي أبعاده وخلفياته والى ماذا سيفضي؟داخليا سيشكل فرصة لهدنة مرتبط زمانها بظروف بملفات خارجة عن قدرة اللبنانيين في التحكم بها،وبالتالي غير محددة أو معروفة الوقائع،لكن أقلها الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستعيد إنتاج الإدارة الجديدة بملفاتها وأولوياتها،إضافة إلى ملف المفاوضات السورية الإسرائيلية الجارية في أنقرة وبالتالي موقع لبنان في هذه المفاوضات وزمن انضمامه إذا استمرت وأنتجت منطلقا ما. بمعنى آخر إن الاتفاق قد أعاد ترتيب حالة من الستاتيكو السياسي الذي كان متفقا عليه قبل انفجار الوضع في الثامن من أيار.
أما خارجيا فيبدو أن اتفاق الدوحة قد حدد معالم مرحلة الرعاية العربية للبنان عبر قطر واتفاق الدوحة مطعما بما بقي من نكهة سعودية عبر الطائف،مقرونا بضبط إقليمي واضح المعالم ومراقبا مراقبة دولية لصيقة.
لقد تعوَّد اللبنانيون العيش في ظل تسويات الممكن بصرف النظر عن منتجها أو الفاعل فيها،لكن الثابت في تاريخ لبنان السياسي أن يتحضّر ويُحضّر لحفلات انفجار داخلي كل عقد ونيف،فهل ستمتد هدنة الدوحة كمثيلتها الطائف،أم أن طوائف لبنان ستجعل دوحة لبنان نارا يغطي مشاريع قادمة إلى المنطقة؟ في كلا الحالين يبدو أن لبنان غير قادر على تحديد موقعه بما يجري حوله وفيه!

15‏/05‏/2008

ماذا بعد حوار الدوحة؟

ماذا بعد حوار الدوحة؟
د.خليل حسين
رئيس المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية والدولية

في العام 1998 وعند انتخاب الرئيس إميل لحود رئيسا للبنان،كانت أزمات لبنان والمنطقة تتراكم وتنذر بشر مستطير رغم أن الكلام عن تفجير الواقع اللبناني في تلك الفترة كان نوعا من التبصير ،لكن التدقيق في بعض السوابق اللبنانية كانت تثبت ما كنا نتوقعه أو نتحدث عنه والذي كان يقابل باستهجان.واليوم انكشفت الأمور فما هي خلفيات ألازمة الحالية؟وكيف تدار الآن؟وهل من طريق لحلها عبر اجتماعات الدوحة؟.
أولا في الوقائع ثمة ثغرات بل فجوات كبيرة في السياسات التي اتبعت بعد اتفاق الطائف على الصعيدين الداخلي والخارجي،أزمات دستورية متلاحقة يتداخل فيها الدستوري بالطائفي وحتى المذهبي،حلول على قاعدة تقطيع الوقت بأقل الخسائر الممكنة.في المقلب الآخر سياسات خارجية وتحالفات وعلاقات تعكس تباينات الشرائح اللبنانية في نظرتها والتي تتقاطع مع سياسات المحاور العربية والإقليمية التي لا تتقاطع إلا على مصالحها الخاصة وعلى حساب لبنان تحديدا.عدم اتفاق واضح وجلي على وضع لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي وبالتالي دوام بقاء سلاح المقاومة سؤالا مطروحا من قبل الأكثرية وبخاصة بعد عدوان 2006 على لبنان.
بعد اغتيال الرئيس الحريري تغيرات دراماتيكية حدثت وكأنها كانت تنذر بمنعطفات كبيرة في تاريخ لبنان السياسي القادم،وكان ابرز ما في هذه الانعطافات مصير المقاومة وسلاحها بالترافق مع ضغوط المحكمة الدولية الخاصة للبنان،تراكمت المطالب والضغوط الداخلية والخارجية إلى أن وصلت الأمور إلى مكان يصعب التراجع عنه لكلا فريقي المعارضة والموالاة،فكانت مناسبات عدة للصدام المسلح بين الطرفين،إلى أن توجت بقراري الحكومة الشهيرين لتفجر الوضع ولتؤكد الشر المستطير الذي نبه منه أكثر من طرف سياسي لبناني وإقليمي.وفي هذا المجال نذكر الملاحظات التالية ذات الصلة بالصراع القائم حاليا ومن بينها:
- ثمة خلاف وصل إلى حد الصراع حول تحديد موقع لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي وبالتالي تحديد موقف المقاومة من سلاحها بعد القرار 1701 وغيره من القرارات ذات الصلة بالوضع اللبناني.
- ثمة متغيرات كثيرة طرأت على أدوات الصراع ودوافعه ودعائمة ودخول أطراف عربية وغير عربية مباشرة في ألازمة القائمة،وبات الشروط والمطالب أضخم وأعظم بكثير من سابقاتها إبان الحرب الأهلية بين الأعوام 1975 و1990.
- ثمة تداخل وسباق محموم بين مشاريع كبرى في المنطقة انقسم اللاعبون الفرعيون فيها بين مراكز إقليمية ودولية فاعلة لا تتيح للأطراف اللبنانيين التحرك بسهولة في واقع أزمتهم.
- انفجار الأزمة اللبنانية في التوقيت القاتل انتخابات رئاسية أمريكية،تضعضع الحكومة الإسرائيلية وترنح رئيسها ايهود اولمرت، انقسام عربي واضح بعد قمة دمشق بين معتدلين وممانعين. غياب واضح للأطراف الأخرى كالأوروبيين.تهاوي الأمريكيين في المنطقة بدء من أفغانستان مرورا في العراق وصولا إلى لبنان.

وفي طل الوقائع السالفة الذكر أتت اللجنة العربية برئاسة قطر لتحاول الولوج في الحل فما هي حظوظها وهل بالإمكان الركون إلى جهودها فقط؟في الواقع ما أعلن من بيان بعد سلسلة لقاءاتها مع الأطراف المعنيين لا يعدو كونه بيان حسن نوايا من دون التطرق إلى الأطر الحقيقية للحل ذلك للعديد من الاعتبارات من بينها:
- صحيح إن الحوار هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحل المرتجى كما يدعي الجميع لكن هل الأطراف اللبنانية بجميع مكوناتها تمتلك القدرة على اتخاذ القرارات منفردة وتنفيذها يبدو أن ذلك متعذرا حتى إشعار آخر،فانطلاق الحوار في الدوحة إشارة مهمة لكنها ليست كافية،إذ لم تستبع بخطوات إقليمية ودولية باتجاه ترك اللبنانيون وشأنهم وهذا الأمر أيضا ليس متوفرا الآن.
- إن المواضيع المطروحة للحوار ومنها حكومة الوحدة الوطنية وقانون الانتخاب وانتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهورية تبدو منطقية التسلسل من وجهة نظر المعارضة لكنها غير قابلة للتطبيق في إطار حوار محدود التوقيت والامكانات،فحكومة الوحدة الوطنية سبق وأن نوقشت مطولا حتى ضمن إطار المشروع العربي أي المثالثة ولم تر النور، وسبق أن اتفق على العديد من مشاريع قوانين الانتخاب ولم يتخذ فيها القرار اللازم رغم موافقة الأطراف اللبنانية الأساسية على معظمها،وكذلك الأمر بالنسبة للعماد ميشال سليمان المتوافق عليه والذي يؤجل انتخابه حتى الآن فكيف لو كان غير توافقي؟
- عمليا لقد تمَّ اللجوء من جميع الأطراف إلى الجيش اللبناني كملاذ أخير،لكن السؤال المركزي هل بمستطاع الجيش المضي في هذا السياق في ظل زجه في زواريب السياسة الداخلية اللبنانية وعتاهية السياسات الإقليمية والدولية في الوقت الذي يعلم الجميع وضعه الخاص وعدم قدرته تحمل المزيد من آليات الزج والحشر السياسي والعسكري والأمني وبخاصة ما ربط به من مشاريع ومخارج مؤخرا وكأنه يراد تحميله مسؤوليات الفشل الذي ينتظر حصوله في أول منعطف قادم.
- صحيح أن متغيرات قد حصلت في الواقع السياسي اللبناني مؤخرا لكنها غير قابلة للصرف السياسي في واقع الأزمة الحالية وهي من النوع كالنفخ في البوق الذي لا يصل منه سوى الصدى،ذلك مترافق مع ثبات إقليمي ودولي في المواقع لا يتيح تغيير قواعد اللعبة الخارجية ولا الداخلية،الأمر الذي لا يبشر من الناحية العملية بإختراقات ذات وزن في حوار الدوحة،وهو في أحسن حالاته سيعيد إنتاج واستنساخ قواعد اللعبة الداخلية منذ تسلم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مهام رئاسة الجمهورية.
إن واقع ألازمة اللبنانية الحالية التي وصلت إلى حد غير مسبوق حتى في حفلات الصراع السابقة لم تعد قابلة للحل في اطر حوارية تقليدية،فظروفها ووقائعها ومتطلبات ظروف حلها باتت اعقد بكثير من السابق،فباتت مرتبطة بإسس جديدة متعلقة بطبيعة النظام وسياساته الداخلية والخارجية،وصحيح أن هذا الواقع كان شرطا في السابق إلا انه بات اليوم شرطا ضروريا للحل،فهل اكتملت ظروفه؟
داخليا محتوى النظام السياسي فُصل على مقاسات أطراف بعضها لم يعد موجودا بالمعنى السياسي،وبعضه الآخر أعطي في ظله أكبر من حجمه الواقعي،فيما البعض الآخر تمدد دوره على حساب أطراف آخرين،في الوقت الذي عانت آليات النظام ومنها الدستوري خللا فاضحا وواضحا،في الوقت الذي كانت فيه الطوائف والمذاهب تبحث في هذا الخلل عن فجوات أخرى فيه لتزيد استثماراتها في خلاله وتساعد في تهاويه؛وعليه بات الكل مقتنع في السر قبل العلانية أن الطائف ضاق على مقاس البعض وترهل على البعض الآخر لكن أحدا لم يتجرأ حتى الآن البوح صراحة عما يريد،فالظروف لم تنضج لذلك وبالتالي حوار الدوحة الحقيقي مؤجلا إلى توازنات جديدة تتيح الجهر بما هو غير معلن.
خارجيا، الطرف الدولي الفاعل في سياسات المنطقة دخل كوما الانتخابات الرئاسية،ففي واشنطن من الصعب إيجاد معادلة سياسية يمكن استثمارها السياسي في الانتخابات من قبل الجمهوريين أو الديموقراطيين في واقع الأزمة اللبنانية،وربما تُعتبر هذه ألازمة حاليا كالجمرة التي يصعب التقاطها واستثمارها،وبالتالي ترك الأمور عما هي عليه أفضل الممكن.في الوقت الذي يمكن استثمار الواقع اللبناني الحالي بشكل جيد من الأطراف الإقليميين في الوقت الضائع ،فلماذا يكون الحل في الدوحة وفي هذه الظروف تحديدا؟
إن القراءة الدقيقة لتاريخ لبنان الحديث والمعاصر يفضي إلى ثابتة مؤكدة مفادها أن لا حل لأزمات لبنان المتلاحقة من دون توفر شرطان أساسيان،الأول توازنات إقليمية ودولية مستجدة تراعي المصالح المتبادلة في واقع ملفات الصراعات القائمة في المنطقة وهي في طور التشكّل ولم تبلغ نهاياتها المرجوة؛والثاني متعلق بالأطراف الداخلية التي ينبغي أن تستنفد قواها في حروبها الداخلية على قاعدة حرب "داحس والغبراء" وهي في بدايتها.
ثمة إدارة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية تطل برأسها وتحمل مشاريع سلام عربية إسرائيلية بدأت طلائعها في الظهور،الأمر الذي يستلزم دخانا كثيفا في المنطقة،فهل بدأ إضرام النار في لبنان كالتي سبقت زيارة السادات للقدس،وهل بامكان الأطراف اللبنانية لعب الدور نفسه؟وأي ثمن سيدفعه اللبنانيون؟ربما سؤال جريء يستحق الإجابة سريعاً لكن الأكيد لن يكون في حوار الدوحة،بل في أروقة السياسات الدولية والإقليمية التي تجيد استثمار الأوطان المشرعة على كافة الاحتمالات.

11‏/05‏/2008

تحولات سياسة إسرائيل الخارجية في عقدها السادس

تحولات سياسة إسرائيل الخارجية في عقدها السادس
د.خليل حسين
رئيس المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية والدولية

ثمة مفارقات لافتة في سياسات إسرائيل الخارجية منذ نشأتها وبخاصة مع بعض الدول الأوروبية التي كانت محل اتهام دائم لجهة ما سمته بالهلوكوست ،فعلى الرغم من أن لا صداقات ولا عداءات دائمة في العلاقات الدولية فقد ظلت كل من ألمانيا وبولندا تترأس لائحة الابتزاز السياسي والاقتصادي في سياسة إسرائيل الخارجية،ورغم أن متغيرات دولية كثيرة حدثت في العقد الأخير من القرن الماضي انتظرت تل أبيب لأشهر خلت لتظهير تحولات لافتة في علاقاتها الخارجية مع كل من بولندا وألمانيا،فما هي خلفيات هذا التحول ؟وكيف ستصرفه إسرائيل عمليا في الذكرى الستين لاغتصابها فلسطين؟
لقد شهدت السياسات الخارجية الإسرائيلية، بالتزامن مع الاحتفال بستينية الدولة، مجموعة من التحولات السياسية غير المسبوقة التي أثرت بدورها على توجهات وأنشطة الدبلوماسية الإسرائيلية، ففي الوقت الذي تهتم فيه إسرائيل خلال احتفالاتها السنوية بذكرى قيام الدولة بإثارة التاريخ ألعدائي الذي ربطها بتلك الدول والشعوب على قاعدة ما تعرضوا له في أوروبا خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي من النازيين، يلاحظ ما شرعت به تل أبيب في تدشين علاقات إستراتيجية غير مسبوقة مع عدد من بين تلك الدول؛ والتي يمكن رصدها بالتالي:
مع مطلع شباط 2008 توالت الإشارات التي أظهرت بوضوح على تتابع البدايات الأولى لدخول العلاقات الألمانية - الإسرائيلية مرحلة التعاون غير المسبوق، عبر إعلان السفير الإسرائيلي لدى ألمانيا يورام بن زائيف عن اقتراح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تطوير العلاقات الألمانية – الإسرائيلية إلى مستوى لم تصل إليه من قبل، ذلك بمناسبة مرور ستين عامًا على إقامة دولة إسرائيل، أعقب ذلك قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بزيارة رسمية لألمانيا بتاريخ 10/2/2008 استغرقت ثلاثة أيام؛ تم في خلالها الترتيب لمجموعة من اللقاءات التشاورية السنوية بين زعماء الدوليتين، والاتفاق على عدد من اللجان المشتركة بين أطقم وزارية من الجانبين الإسرائيلي والألماني أكثر من مرة خلال العام الواحد، الأمر الذي يصل بدرجة العلاقات بين برلين وتل أبيب إلى مستوى التي تربط بين عواصم البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وفي نفس السياق، قامت المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" بزيارة إلى إسرائيل هي الأولى من نوعها في آذار 2008، استمرت ثلاثة أيام، أعربت "ميركل" خلالها عن تضامنها الكامل مع إسرائيل في مواجهة التهديدات التي تتعرض لها، رغم الجدل الواسع الذي أثارته هذه الزيارة غير المسبوقة في الأوساط السياسية والفكرية الإسرائيلية؛ على قاعدة ما يربط إسرائيل بألمانيا تراث من الكراهية والعداء ، الذي من الصعب توقع تجاوزه.
ويمكن القول إن تطور العلاقات الألمانية – الإسرائيلية إلى هذا الحد، يأتي في إطار إدراك كل من تل أبيب وبرلين بأن ثمة حدودًا معينة للسياسة الألمانية في الشرق الأوسط، لا تنجم فقط عن العلاقة الخاصة مع إسرائيل، بل أيضًا عن الدور النسبي الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط مقارنة مع دور الولايات المتحدة، الأمر الذي يدفع الطرفين الألماني والإسرائيلي لمحاولة الارتقاء بهذه العلاقات لتفعيلها وتطويعها في اتجاه خدمة المصالح المشتركة سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.
التحول الآخر جرى في العلاقات مع بولندا التي لا تختلف كثيرا عن ألمانيا، بالنسبة لإسرائيل لجهة التراث العدائي الذي يربطها بها، على خلفية ما يعرف بـتمرد غيتو وارسو وهو تمرد منظمة يهودية بولندية مسلحة في 28 تموز 1942، ويعد من أكثر الأحداث التاريخية ذات التأثير السلبي على العلاقات بين كل من وارسو وتل أبيب؛ إذ أنه يُذكر بأحداث "الهولوكوست" النازية.
رغم ذلك، شهد شهر نيسان 2008 مجموعة من الزيارات الرسمية بين مسؤولين بولنديين وإسرائيليين على مستوى القمة، فقد قام "دونالد تاسك" رئيس الوزراء البولندي بزيارة تل أبيب التي وصفت بأنها "زيارة جديدة وتؤذن ببداية مرحلة جديدة أكثر ثراءً في العلاقات بين البلدين، وتؤشر إلى رغبة مشتركة في تجاوز الماضي وبناء مستقبل مشترك، احتفالا بالذكرى الستين لقيام إسرائيل، ذلك رغم أن التاريخ شكل غالبًا لعنة بالنسبة إلى البولنديين واليهود"، في حين قام الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بزيارة للعاصمة وارسو خلال الشهر نفسه ، أعرب خلالها عن أمله في تجاوز الماضي وتدشين علاقات قوية مع بولندا.
وفيما يتعلق بالظروف والخلفيات المحيطة بهذا التحسّن الطارئ على العلاقات البولندية - الإسرائيلية، فيأتي على رأسها تنامي التعاون العسكري بين الدولتين مؤخرا، فمنذ العام 1994 وقعت إسرائيل وبولندا على اتفاق تعاون أمني وعسكري، تبعه العام 2003 عقد وارسو صفقة عسكرية مع إسرائيل تقدر بحوالي 260 مليون دولار، اشترت بموجبها صواريخ مضادة للدبابات ؛ لتدعيم قدرات الجيش البولندي، كما أعربت بولندا أكثر من مرة عن رغبتها الشديدة في الاستعانة بخبرات سلاح الجو الإسرائيلي لتدريب الطيارين البولنديين.
كما يأتي موضوع تعويض اليهود عن ممتلكاتهم التي فقدوها في بولندا، كأحد أهم الدوافع الإسرائيلية تحديدا لتطويرالعلاقة مع بولندا، ذلك في إطار سعي إسرائيل الدائم للحصول على أكبر المكاسب المادية الممكنة جراء ما تعتبره الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا، على غرار ما تحصل عليه من تعويضات مالية ألمانية حتى الآن.ولا شك أن هذا التحسن في العلاقات مع بولندا وألمانيا يؤشر على تصميم إسرائيل تحسين علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة مع تلك الدول التي يربطها بها تاريخ من العداء، بشكل يؤشر على وجود تحول في السياسيات الخارجية الإسرائيلية بشكل عام وتجاه أوروبا بشكل خاص.
إن التحولات في السياسات الخارجية الإسرائيلية التي تترافق مع احتفالها بعقدها الستين، تحمل خلفيات واضحة تتلخص في محاولة إسرائيل خدمة مصالحها السياسية التكتية والإستراتيجية المستقبلية حتى لو كلفها ذلك تخطي عقبات تاريخية كانت تقف في طريق تحقيق ذلك، وفي ذلك الإطار جاء تطوير علاقاتها مع كل من ألمانيا وبولندا في الآونة الأخيرة، كمنطلق لتحسين علاقتها بشكل عام مع الاتحاد الأوروبي، والذي تهدف إسرائيل من ورائه إلى تحقيق عدد من الأهداف أبرزها:
- كسب جبهة أخرى في مواجهة إيران، عبر تطوير وتقوية العلاقات مع دول ذات تأثير فاعل في السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي كألمانيا والعمل على الاستفادة من ذلك للضغط على الاتحاد لاتخاذ إجراءات أكثر شدة وفعالية تجاه طهران، وتكثيف الضغط الاقتصادي والدبلوماسي على إيران لإرغامها على كبح برنامجها النووي؛ وخاصة أن إسرائيل ترى في ذلك فرصة جيدة لاستثمار مثل هذه العلاقات بشكل يأتي على حساب العلاقات التي تربط طهران بالاتحاد الأوروبي، على غرار ما نجحت في تحقيقه من خلال تقاربها مع الصين في الآونة الأخيرة، والذي برز بشكل واضح عقب زيارة الرئيس الصيني جيانغ زيمين لتل أبيب عام 2000، والذي أدى بدوره إلى تخفيض التعاون الصيني- الإيراني في المجال العسكري.
- العمل على تطويع الموقف الأوروبي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ إذ من المعروف أن ثمة حالة من الجدل المستمر بين الدوائر السياسية الإسرائيلية ونظيرتها الأوروبية فيما يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى حدوث فتور ملحوظ في العلاقات بين تل أبيب والاتحاد، ينتج عنه بشكل غير مباشر زيادة الضغوط الدولية على نل أبيب في حال مبالغتها في ممارساتها الوحشية تجاه الشعب الفلسطيني، إضافة إلى حرص إسرائيل على الحفاظ على المقاطعة الأوروبية لحركات المقاومة وعلى رأسها حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني.
- تعزيز وتنمية التعاون الاقتصادي والعسكري بين أوروبا وإسرائيل، فمن المعروف أن إسرائيل تربطها علاقات اقتصادية وثيقة بالاتحاد الأوروبي منذ العام 1994، الذي شهد إعلان مجلس الاتحاد الأوروبي اعترافه بحق إسرائيل في التمتع بمكانة خاصة في الاتحاد على قاعدة الدولة الأكثر رعاية بحكم المستوى العالي للتطور الاقتصادي في إسرائيل، كما شهد العام 1995 توقيع الاتحاد الأوروبي وإسرائيل على "اتفاقية الشراكة"، التي جاءت لتحل مكان اتفاقية التعاون المبرمة بين إسرائيل والمجموعة الأوروبية سنة 1975. أما من الناحية العسكرية فثمة مجالات اهتمام مشتركة بما يتصل بتطوير وإقامة شبكات العلاقات الحيوية للتعاون الأمني مع دول أوروبا؛ فثمة عدة مجالات عمل ذات صلة بإنشاء أُطر التعاون الإسرائيلي - الأوروبي، سواء مع كل دولة أوروبية على حدة، أو في إطار شبكة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ككتلة واحدة.
في عقدها الستين تحاول إسرائيل تجديد شبابها بعلاقات دبلوماسية اقتصادية سياسية غير مسبوقة مع دوليتين كانتا حتى الأمس القريب تشكلان نموذجا فريدا للعداء بين الدول،ذلك يدل على حرفة في اقتناص المكاسب حتى من أعداء تقليديين،فأين نحن العرب من هذه السياسات المحترفة غي الذكرى الستين لنكبة فلسطين؟يبدو أننا لا زلنا نعيش على كوكب آخر!

01‏/05‏/2008

بعد التفرّد والهيمنة : نظام عالمي بلا أقطاب

بعد التفرّد والهيمنة : نظام عالمي بلا أقطاب
د.خليل حسين
مدير المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية والدولية

يشهد العالم نوعًا من التعددية القطبية، فعلى الرغم من أن القوى الكبرى كالاتحاد الأوروبي، الهند، اليابان، روسيا، والولايات المتحدة تضمُّ بمفردها على نصف مجموع سكان العالم، وحوالي 75% من الناتج القومي الإجمالي العالمي و80% من معدل النفقات العالمية على قضايا الدفاع، ولكن المظاهر قد تبدو مختلفة ،فثمة العديد من مراكز القوى، والقليل من هذه الأقطاب دول قومية.

إن أبرز سمات النظام الدولي الحالي أن الدول القومية قد فقدت احتكارها للقوة، فالدولة تواجه تحديات من جميع الاتجاهات، سواء بواسطة المنظمات الإقليمية والدولية على الصعيد الخارجي، أو التنظيمات المسلحة من الداخل أو منظمات المجتمع المدني المتنوعة والمؤسسات، وبذلك فعناصر القوة وتأثيراتها باتت متوزّعة ولم تعد حكرا على الدولة.

وفي هذا العالم تظل الولايات المتحدة أكبر "تجميع فردي للقوة"، فهي تنفق أكثر من 500 مليار دولار سنويا على القوة العسكرية وتصبح أكثر من 700مليار دولار إذا أضيفت نفقات العمليات العسكرية في أفغانستان والعراق، إلى جانب امتلاكها قوى برية وجوية وبحرية على درجة عالية من الكفاءة، ومكانتها كمصدر رئيسي للثقافة والمعلومات والابتكار.ورغم ذلك، ينبغي أن لا يُخفي أن مكانة الولايات المتحدة في العالم قد تراجعت، الأمر الذي أدى إلى تراجع نسبي في التأثير والمكانة الدوليتين.وفي هذا الإطار يمكن إدراج العديد من الملاحظات أبرزها:

- يمثل معدل الناتج القومي الإجمالي الأمريكي 25% من النسبة العالمية ورغم ذلك فإنه معرض للانخفاض مع الوقت، مع الأخذ في الاعتبار التباين في معدل نمو الناتج القومي الإجمالي بين الولايات المتحدة والقوى الآسيوية الصاعدة وبعض الدول الأخرى التي يصل نمو معدل الناتج القومي الإجمالي لها بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف الولايات المتحدة.

- لا يعتبر الناتج القومي الإجمالي المؤشر الوحيد على تراجع الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة؛ فثمَّة تراكم الثورات لدى العديد من الدول مثل الصين والكويت وروسيا والمملكة العربية السعودية والإمارات؛ويرجع هذا التراكم بشكل أساسي إلى صادرات النفط والغاز؛ حيث جلبت لهذه الدول حوالي 3 تريليون دولار وبمعدل نمو سنوي تريليون دولار سنويا، الأمر الذي يجذب الشركات الأمريكية؛ فارتفاع أسعار النفط العالمية التي ترجع إلى تزايد الطلب الصيني والهندي من المتوقع أن تستمر لبعض الوقت ما يعني، أن حجم هذه التراكمات المالية سوف يزداد.

- تواجه الهيمنة الأمريكية تحدّيا في مجالات أخرى كالفاعلية العسكرية، فالقدرة العسكرية تختلف عن معدل الإنفاق العسكري، وقد أوضحت هجمات أيلول / سبتمبر 2001 كيف أن مجموعة لا وزن لها تمكّنت من إحداث نتائج كارثية على الولايات المتحدة..كما أن الأسلحة الحديثة المكلفة قد تبدو غير مفيدة في الصراعات الحديثة؛ حيث استبدلت أراضي المعارك التقليدية بحروب المدن والتي يستطيع فيها مجموعة من الجنود المسلحين تسليحا تقليديا أن يوقفوا ويفشلوا خططا عسكرية مكلفة.

- إن القوة ستزداد انفصالا عن التأثير، والدعوات الأمريكية للإصلاح ستتعرض لمزيد من التجاهل، والمساعدات الأمريكية ستنخفض، وفاعلية العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة ستتقلص أيضا،؛ فالصين تمتلك التأثير على كوريا الشمالية أكثر بكثير من الولايات المتحدة، وقدرة الولايات المتحدة الضغط على إيران بمساندة الدول الأوروبية تقلصت بسبب الدعم الروسي والصيني لإيران.
إن صعود بعض القوى العالمية في فترة الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي لم يكن بمستوى الفاعلية التي تؤدي إلى تغيّرات لافتة في الفواعل الإقليمية والدولية،وبالتالي لم تظهر حالة منافسة حقيقية لواشنطن ويعود ذلك إلى عدة اعتبارات أبرزها:
- إن الفجوة بين القوة الأمريكية وأي منافس آخر محتمل كبيرة جدا.فعلى الرغم من أن الصين قد تصل مع الوقت إلى ناتج قومي إجمالي مماثل لنظيره الأمريكي ،لكن هذه الزيادة ستذهب إلى العدد الهائل من السكان والذي يمثل الفقراء نسبة لافتة منه، كما تشهد الهند تحدّيات ديموغرافية وتعاني من التضخم البيروقراطي ونقص البنية التحتية، وعلى الرغم من أن الناتج القومي الإجمالي للاتحاد الأوروبي أكبر من الولايات المتحدة فإنه لا يتحرك بشكل موحد كدولة واحدة، أما اليابان فتعاني من انكماش عدد السكان وغياب الثقافة التي تؤهلها للعب دور قوة عظمى، فيما روسيا تواجه صعوبات اقتصادية وتناقص في عدد السكان ومشكلات تتعلق بالتماسك الاجتماعي.

- على الرغم من أن إدارة الرئيس جورج بوش تسببت في بعض المتاعب للدول الأخرى إلا أن هذه الدول لم تتصرف على نحو يمثل تهديدا للمصالح القومية الحيوية، وبرغم الشكوك حول الحكمة والشرعية التي تتمتع بها السياسة الخارجية الأمريكية فإنها أدت فقط إلى امتناع الآخرين عن التعاون معها وليس مقاومتها.

- تعتمد العديد من القوى الكبرى على النظام الدولي للمحافظة على الرفاهية الاقتصادية والاستقرار السياسي وبالتالي لا تريد هذه القوى التعرّض لنظام يحقق لها مصالحها القومية، المرتبطة بتدفق السلع والخدمات والبشر والاستثمارات والطاقة والتكنولوجيا وهي أمور تلعب فيها الولايات المتحدة دورا بارزا.

- إن عدم ظهور التعددية القطبية لم يؤد إلى بقاء الأحادية القطبية، بل على العكس فقد انتهت هذه الأحادية، ويعود ذلك إلى ثلاثة اعتبارات الأول: تاريخي والمتعلق بعملية نمو الدول التي تشهد توليد وتراكم الموارد البشرية والمالية والتكنولوجية والتي تؤدي إلى الرفاهية كما تشكل العماد الرئيس للشركات والمؤسسات، ولكن هذه القوى الجديدة لا يمكن إيقافها، ما يثنتج بالتالي عدد أكبر من الفاعلين المؤثرين إقليميا وعالميا.والثاني: متعلق بالسياسة الأمريكية لجهة ما تمَّ تحقيقه وما فشلت فيه، فالولايات المتحدة ساعدت بسياساتها على ظهور مراكز قوى جديدة وأضعفت من موقفها في النظام الدولي.فالسياسة الأمريكية تجاه الطاقة مثلا كان لها دور كبير في نهاية القطبية الأحادية؛ حيث أدى تزايد الطلب الأمريكي على الطاقة بنسبة 20% في السنوات الأخيرة إلى ارتفاع أسعار البترول من 20 دولارًا للبرميل إلى أكثر من 110 دولار للبرميل في أقل من عقد من الزمان،ما تسبب في نقل رؤوس الأموال إلى الدول التي تمتلك هذه الاحتياطات النفطية وبالتالي ساهمت واشنطن في تحويل منتجي النفط والغاز إلى مراكز للقوة الدولية.كما أن السياسة الاقتصادية الأمريكية لعبت دورًا في إرساء التحوّل نحو عالم بلا أقطاب، فالنفقات التي زادت نتيجة الحربين التي شنتهما الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان قد ساهمت في تراجع مركز الولايات المتحدة المالي من فائض في الموازنة عام 100 مليار عام 2001 إلى عجز 250 مليارًا عام 2007.ما أدَّى إلى مزيد من الضغط على الدولار وتحفيز التضخم والمساهمة في تراكم الثروة والقوة في أماكن أخرى من العالم.كما رسَّخت العولمة نظام غياب الأقطاب من خلال التدفقات عبر الحدود والتي تتم بعيدا عن سلطة الدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى تزيد من قوة الفاعلين الآخرين غير الدول كالشركات المتعدية الجنسية.
إن التحوّل في النظام الدولي سوف يترك آثارا سلبية على الولايات المتحدة نتيجة لتعدد مراكز القوى وسعي كل منها للتأثير الأمر الذي سيؤدي إلى صعوبة الوصول إلى توافق.فغياب أقطاب محددين سيؤدي إلى تزايد التهديدات التي تتعرض لها دولة مثل الولايات المتحدة من تنظيمات إرهابية ومن الدول المصدرة للنفط التي قد تخفض صادراتها للولايات المتحدة.ولكن برغم أن غياب القطبية هو أمر حتمي فإن الولايات المتحدة تبقى حتى الآن أكثر قدرة من أي فاعل آخر على تبديل طبيعة النظام الدولي إن أرادت ذلك.

الخلاصة إن غياب القطبية يعقد من الدبلوماسية، فغياب القطبية لا يؤدي فقط إلى تعدد الفاعلين بشكل غير منظم بل إلى غياب الهياكل الثابتة والعلاقات والتي كانت تتسم بها الأحادية والتعددية والثنائية القطبية.كما أن التحالفات في ظل غياب القطبية أيضا ستكون أكثر صعوبة، والعلاقات ستكون انتقائية وموقفية، ويصبح من الصعب تصنيف الدول كأعداء أو أصدقاء وبالتالي تختفي الثنائية الأمريكية "إما معنا أو ضدنا".