24‏/05‏/2010

اتفاق نووي ومشروع عقوبات فوري

اتفاق نووي ومشروع عقوبات فوري
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
لم تنتظر الولايات المتحدة الامريكية لكي يجف حبر الاتفاق الثلاثي الايراني التركي البرازيلي،حتى تقدمت بمسودة مشروع عقوبات الى مجلس الامن وهي الموجة الرابعة التي تطلقها واشنطن بوجه البرنامج النووي الايراني.فماذا في الاتفاق وما هي تداعياته؟وماذا عن الرد الغربي في مجلس الامن؟
في المبدأ ،يعتبر الاتفاق الثلاثي نتاج سياسة حافة الهاوية التي اجادت طهران السير بها،كما يعتبر الاعلان عنه لجهة الزمان والمكان والأطراف المشاركين فيه والمؤيدين او الرافضين له، بمثابة التركيبة السياسية الدولية التي ستعيد انتاج بيئة تفاوضية ستتمكن طهران وكعادتها من كسب المزيد من الوقت الذي يعطيها فرص التعويض في المضمون بدل التنازلات في الشكل.
فالاتفاق بمواده العشرة، التي صيغت بجمل افتراضية وبمواد معطوفة ومشروطة على بعضها البعض،تبدو كشروط السلة الواحدة،غير قابلة للعزل او التجزأة،وبالتالي اعطت لطهران فرص التحكم بما تريد والتفلت مما لا تريد،في الوقت الذي لم تدفع سوى اثمان معنوية بخسة تقابلها امكانية االحصول على اثمان استراتيحية كبيرة.
لقد تمكن الاتفاق في المبدأ من افراغ اتفاق فيينا من مضمونه عمليا،الذي هدف الى تعطيل البرنامج النووي الايراني لمدة عام منذ تشرين الاول 2009، ريثما يتمكن الغرب من التقاط انفاسه للمواجهة الكبرى.فأولا يتعلق الأمر بـ 1200 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.5% المنصوص عليها في اتفاق فيينا،فيما بلغت الكميات المخصبة حاليا بحسب التقديرات الغربية ضعف هذا الرقم ما افقد مفهوم اخراج هذه الكمية من ايران معناه العملي.وثانيا،ان الكمية التي سيتم نقلها الى تركيا ستكون تحت عنوان "الأمانة" بمعنى آخر تحت السيطرة الايرانية بخاصة ان الاتفاق نص على تأليف لجنة للإشراف علاوة على النص باسترجاعها "سريعا" في حال لم تف مجموعة فيينا بما عليها.وثالثا، تأكيد طهران المضي في تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% وبناء المزيد من المفاعلات واجهزة الطرد المركزي ،بخلاف اتفاق فيينا الذي دعا الى "التجميد" ، ورابعا نجحت طهران في توسيع دائرة الأطراف المعنية بهذا الملف بدءا من وكالة الطاقة الذرية واعضائها وصولا الى الطرفين الوسيطين التركي والبرازيلي بعدما كانت ايران بمواجهة فرنسا واميركا وروسيا.
طبعا لم يتلقف الغرب بشكل عام هذا الاعلان وبخاصة واشنطن التي اعتبرته مكسبا دبلوماسيا ايرانيا يهدف الى الهروب من سيف العقوبات عبر مجلس الامن.وهذا ما تأكد عمليا عبر تحريك مشروع العقوبات الذي سيُصوّت عليه الشهر المقبل، وهي فترة اضافية لكسب المزيد من الوقت اما للمضي به بشكل قاسٍ،واما فتح ثغرات اضافية في جدار المفاوضات عبر الوسيطين الجديدين غير المرحب بهما غربيا.
ان الاعلان النووي الثلاثي لن يشكل عاملا لبناء الثقة بالملف النووي الايراني من وجهة النظر الغربية، بل سيزيده تعقيدا عبر تخصيب الموجة الرابعة من العقوبات في مجلس الامن،بخاصة عما يحكى من تبدّل الموقفين الروسي والصيني بشكل خاص لجهة نوعية العقوبات والى من ستوجه تحديدا في دائرة المؤسسات الايرانية وبالتحديد الى مؤسسات الحرس الثوري الايراني.
طبعا ان آلية العقوبات المطروحة في مشروع القرار المعروض على مجلس الأمن يشكل نوعا من تضييق الخناق على المؤسسات الأكثر فاعلية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية الايرانية، ما يسهل عمليا استصدار القرار لكن العبرة في التنفيذ اللاحق له،سيما وان الموجات الثلاثة الماضية من العقوبات افلحت طهران التفلت منها والدليل على ذلك ما وصلت اليه الأمور حاليا.
لا شك ثمة سباقا مع الزمن تقوده طهران بحنكة دبلوماسية لافتة يصعب مواجهتها واحتوائها بسهولة، كما ثمة سباقا في التذاكي بين واشنطن وطهران في كيفية رمي الأوراق التفاوضية المترافقة مع عروض لعضلات القوة العسكرية والاقتصادية والمالية، فالى من ستحسم الأمور في النهاية؟ ربما تكون الاجابة ان ليس بالضرورة يكون الحسم هو الجواب ،بقدر ما تكون مجددا لعبة سياسة حفة الهاوية وعض الاصابع على اطرافها هي البديل في هذه المرحلة بالذات، لكن السؤال الأهم ما هو موقف "اسرائيل" تحديدا من كل تلك الصياغات الملتبسة بالنسبة لها،فهل تقبل بها رغما عنها والى متى؟.ان قراءة "اسرائيل" للملف النووي الايراني على انه مسألة مصير كيان وبالتالي حياة او موت، يعني ان حسابات الربح والخسارة الاسرائيلية في الاقدام على اي عمل غير مدروس ليس بذي أهمية في هذه الحالة. وفي هذه الحالة يثار سؤال آخر هل ستتصرف اسرائيل منفردة ام بتواطؤ امريكي؟ ثمة سابقتين اسرائيليتين في هذا المجال،الأولى ضرب مفاعل تموز العراقي عام 1981،والثانية الغارة التي نفذتها على موقع سوري ادعت انه منشآت نووية في العام 2008.
في اي حال،ثمة اتفاق ثلاثي دفعت به طهران للهروب من سيف العقوبات الغربية،لكن الرد الغربي اظهر الاتفاق الايراني وكأنه هروب نحو العقوبات،اذ لم يمض اكثر من اربع وعشرين ساعة الا وكان مشروع القرار يناقش على طاولة مجلس الامن بمواقف من الدول الخمس الكبرى مغايرة عن السابق، وهو بمثابة الرد الواضح والحازم برفض الاتفاق شكلا ومضمونا،الامر الذي يعيد خلط الكثير من الأوراق.

13‏/05‏/2010

دبلوماسية المآدب النووية بين العقوبات والعقبات

دبلوماسية المآدب النووية بين العقوبات والعقبات
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية في 13-5-2010
www.drkhalilhussein.blogspot.com
في وقت تتحضر مجموعة الست لتقديم مشروع عقوبات هذا الاسبوع عبر مجلس الامن لمواجهة البرنامج النووي الايراني، عمدت طهران عبر وزير خارجيتها،منو شهر متكي ،الى جمع اعضاء مجلس الامن لعشاء نووي في محاولة للتخفيف من تخصيب النتائج المتوقعة للحراك القائم حاليا في الأروقة الدولية.وبصرف النظر عما يمكن ان تقدمه او تنتجه تلك المآدب،ثمة وقائع وملاحظات يمكن ان ترصد في اتجاهات متعددة من مواقع القرار في هذا الملف.
في المبدأ،يعتبر هذا الاجتماع سابقة دبلوماسية ايرانية تمكنت من تحقيقها في وقت يشتد خناق الضغط الدولي عليها،وإن كان يبدو من غير فاعلية تذكر لجهة النتائج المتوخاة او المرغوب فيها.فمن حيث الشكل وبصرف النظر عن المستوى ، يعتبر اللقاء الاميركي الايراني هو الأول من نوعه منذ الثورة الاسلامية على الاقل لجهة العلنية او الآلية المتبعة في اللقاءات الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول. وفي مطلق الأحوال ثمة اهداف ايرانية يأتي في مقدمها محاولة كسب الوقت وتسجيل مواقف على هامش مؤتمر دولي دوري يتعلق بجوهر ازمتها مع الغرب،علاوة على انها من قبيل احراج المجتمع الدولي بالكثير من القضايا ومن بينها ربط البرنامج النووي الايراني في سلة مشروع اخلاء منطقة الشرق الأوسط من اسلحة الدمار الشامل،والمعني به "اسرائيل" تحديدا.
في مقابل ذلك،ان تلبية الولايات المتحدة لهذه النوعية من المآدب ولو كان عبر مستوى دبلوماسي متدنٍ،يعكس رغبة اميريكية برغماتية معتادة في تعاطيها مع ادارة الأزمات الدولية، وفي مطلق الأحوال هو تعبير آخر عن مسك العصا من النصف بهدف التحكّم بالخطوات القادمة التي تتهيأ للقيام بها.فمن الناحية النظرية ان المشاركة لن تقدم او تؤخر في المواقف الاستراتيجية المتخذة او التي ستتخذها، ومن الناحية الواقعية والعملية تعتبر واشنطن هذه الخطوة بمثابة السلفة السياسية المسبقة الدفع للدول التي لا زالت تعارض سرا وعلنا مشاريع العقوبات المؤذية على ايران والمقصود هنا تحديدا روسيا بشكل عام والصين بشكل خاص.
لقد استنفدت ايران خلال المرحلة الماضية كامل وقتها المستقطع من عمر ازمة برنامجها النووي،وهي عمدت في اللقاء الدبلوماسي الى محاولة استجرار الوقت الاضافي عبر اشراك الدبلوماسية البرازيلية في آلية التخصيب المقترحة،وهي لعبة ذكية ذات اتجاهات متعددة،فالبرازيل التي تخلت عن برامجها النووية طواعية هي العضو الرابع في تجمع الـ "بريك" الذي يضم ايضا الصين وروسيا والهند والذي يعتبر ايضا أكبر تجمع دولي لجهة المساحة وعدد السكان والناتج القومي،فبهذه التوليفة السياسية النووية محاولة لكبح الجماح الامريكي باتجاه الضغط على كل من الصين وروسيا لتأييدها في مشروع العقوبات القادم من جهة، ومحاولة ايرانية للظهور بمظهر الدولة دائمة البحث عن الحلول الاقل كلفة للمجتمع الدولي،وبالتالي احراج مجموعة الست في مشروعها امام مجلس الامن.
ان طبيعة المرحلة المقبلة التي يمكن ان تتحكم في مسار مشروع العقوبات ربما تكون مختلفة عن سابقتها،فواشنطن على سبيل المثال تتهيأ لرفع العقوبات عن اربع شركات روسية متهمة بخرق قرارات العقوبات على ايران،وهي بمثابة الرشوة السياسية – الاقتصادية لموسكو لثنيها عن المواقف المترددة وغير الواضحة في مجاراة الموقف الامريكي في هذا الشأن،فهل ستكون هذه الرشوة قابلة لدفع موسكو باتجاهات أكثر تشددا ووضوحا في المرحلة القادمة؟ بخاصة ان ما تسعى اليه واشنطن هو فرض عقوبات تطال مختلف الشرائح الاجتماعية الايرانية وهي محاولة للضرب على اليد التي تؤلمها،بخلاف نوعية العقوبات السابقة التي لم تؤثر على التركيبة السياسية الاجتماعية للنظام السياسي الايراني.
في أي حال، ثمة عقوبات قادمة بصرف النظر عن حجمها وشكلها ونوعيتها، او بمن سيمشي بها او يصل الى نهايتها، لكن المشكلة ليست في العقوبات تحديدا ،بل بالعقبات التي يمكن ان تواجهها لجهة الأطراف الرئيسيين المعنيين بها كموسكو وبكين مثلا،او بأطراف دوليين آخرين مستفيدين من خلال علاقات تجارية واقتصادية مع ايران، وفي هذا المجال يُسجل قانون داماتو الامريكي الساري المفعول منذ العام 1996 والتي تمكنت طهران من بلعه وهضمه خلال عقد ونصف من الزمن.
لقد لعبت ايران لعبة مالية اقتصادية داخلية ذكية جدا، عبر محاولة خصخصة مشاريع متعلقة بتكرير النفط الذي يعتبر جوهر الأزمة النفطية الايرانية ، وهو القطاع الذي ستصوّب عليه العقوبات مستقبلا، وكأنها محاولة ايرانية لتفريغ العقوبات القادمة من مضمونها وآثارها الداخلية المحتملة من جهة، ومحاولة للظهور بمظهر الدولة التي تُوَجّه العقوبات ضد شعبها لا ضد نظامها.
ان الحراك القائم حاليا،لا ينبغي حرف النظر عما يتداول به من امكانية قيام مجلس المحافظين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية لبحث البرنامج النووي الاسرائيلي من ضمن مشروع دول عدم الانحياز لتخلية الشرق الأوسط من اسلحة الدمار الشامل،باعتباره مشروعا يمكن البناء عليه لمعالجة كافة الملفات ذات الصلة بالبرامج النووية سلمية كانت ام عسكرية؛وهو تحدّيا كبيرا للمجتمع الدولي الذي لا يزال يكيل بمكيالين. فسياسة الغموض النووي التي تتبعها اسرائيل باتت امرا غير مقبول من وجهة نظر القوانين والشرائع الدولية التي تحكم سير عمل الوكالة،فهل ستتحرك فعلا وتجبر اسرائيل على اخضاع منشآتها للتفتيش ام ستظل خارج اطار معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية التي وقّع عليها حتى الآن 189 دولة من اصل 192 دولة تنتمي الى الامم المتحدة؟
ان مصداقية عمل الوكالة الدولية على المحك كما مصداقية جميع الدول الفاعلة في النظام العالمي وهو امر مشكوك فيه أصلا،فإلى اي مدى ستنجح العقوبات المفترضة؟ وما هي سر العقبات التي ستواجهها؟ وهل ان دبلوماسة المآدب كافية لتأجيل المواجهة الكبرى؟ ام ان سياسة الغموض "الاسرائيلي" النووي ستظل قائمة؟ ان اصرار "اسرائيل" على خيار الحسم العسكري للبرنامج النووي الايراني يظهر أن غربانا سودا تلوح في افق المنطقة،الامر الذي يستدعي مزيدا من فن الطهي في المطابخ الدبلوماسية وكواليسها.

07‏/05‏/2010

الجرائم الدولية ومحاكمها في القانون الدولي الجنائي

الجرائم الدولية ومحاكمها في القانون الدولي الجنائي
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
نشرت في مجلة الحياة النيابية اللبنانية العدد 66 آذار 2007

تعددت وتنوعت الجرائم التي يرتكبها البشر لدوافع مختلفة،وظهرت الكثير من المدارس التي فسّرت هذه الأفعال وحاولت أن تضع لها أسبابها ونتائجها وآثارها؛ والأمر انسحب كذلك على طريقة وأسلوب المعالجة فكان من بينها المحاكم التي حاولت تحقيق العدالة.فما هي طبيعة الجرائم الدولية وما هي أركانها؟ وما هي المحاكم الدولية عبر التاريخ التي نظرت بالعديد منها؟وهل تمكنت من تحقيق الغايات المرجوة منها؟وأخيرا ما هي طيعة المحكمة الخاصة بلبنان وما هي حقيقة الانتقادات التي وجهت إليها؟ وهل لديها القدرة على كشف ملابسات جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق،رفيق الحريري؟
أولا : الجهود الحقوقية لتعميق مفهوم الجريمة الدولية
تُعرّف الجريمة الدولية بأنها "واقعة إجرامية تخالف قواعد القانون الدولي وتهدد السلم والأمن الدوليين سواء ارتكبت بفعل الجاني الايجابي أو امتناعه عن القيام بفعل ـ الفعل السلبي ـ مع توافر القصد الجنائي"
وبناءً على ذلك، فإن للعناصر الواجب توافرها في الفعل كي يستوجب المساءلة الجنائية على الصعيد الدولي هي: الركن الشرعي ويقصد به النص القانوني الذي يجرم الواقعة ويستمد من الأعراف والمواثيق الدولية والاتفاقيات الدولية الموقعة بين الدول. والركن المادي إي أن يكون الفعل المرتكب آو الامتناع عن فعل مخالفا للقانون الدولي، أي يشكل انتهاكا لأحكام هذا القانون سواء كانت مستمدة من العرف الدولي أم المعاهدات والمواثيق.
وان يكون الفعل ذا عنصر دولي، أي إن يشكل اعتداء على القيم والمصالح الأساسية للجنس البشري حتى لو ارتكب بدافع شخصي. وهذا الشرط يعد جوهريا، وذلك لان الفعل المستوجب للمساءلة الجنائية الدولية لابد أن يتضمن انتهاكا للقيم الأساسية في المجتمع الدولي سواء أكان المجني عليه فردا أم دولة أم المجتمع البشري بأسره.والركن المعنوي إي اتجاه النية لارتكاب الجريمة الدولية على ما عرفها القانون وذلك بتوافر العلم والإرادة.
ويرتكب الفرد الجرائم الدولية إما لحسابه الخاص بوصفه شخصا عاديا، وإما لحساب دولته أو باسمها. ويستهدف الفرد الذي يرتكب الجرائم الدولية لحسابه الخاص أو بوصفه شخصا عاديا تحقيق منافع أو أهداف شخصية بحتة، وهذه الجرائم منها ما قرره العرف ومنها ما عرف بمواثيق دولية ومثال هذه الطائفة من الجرائم القرصنة والمتاجرة بالمخدرات وتزوير العملة والإرهاب .
أما الجرائم التي يرتكبها الفرد لحساب دولته فهي إما أن تقع بتشجيع دولته ورضائها أو بناء على طلبها وهذه الجرائم هي الجرائم ضد السلام والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.
وهذه الطائفة من الجرائم يبرز فيها الطابع الدولي بصورة واضحة فهي جرائم دولية بطبيعتها باعتبار أن الأفعال المكونة لتلك الجرائم لا يمكن أن ترتكب إلا بناء على خطة مرسومة من دولة ضد رعاياها أو ضد دولة أخرى أو رعايا تلك الدولة، ويرتكب إما عن طريق سلطاتها أو بطلب منها أو بتشجيعها ورضائها وهذه الأفعال تمسُّ في الغالب المصالح الجوهرية للدولة الضحية أو مواطنيها بشكل يهدد السلم والأمن الدوليين.
وتعد الجرائم ضد الإنسانية من أكثر جرائم هذه الطائفة انتشارا قي وقتنا الراهن، إذ تُرتكب في خلال النزاعات المسلحة الدولية والداخلية على حد سواء، كما أنها تُرتكب في أوقات السلم. والضحايا في هذه الجرائم إما أن يكونوا رعايا الدولة التي ترتكب هذه الأفعال أو رعايا دولة أخرى .
لقد مرَّ مفهوم الجرائم ضدَّ الإنسانية بتطورات كثيرة، كان أولها في اتفاقية لاهاي 1907 من خلال شرط "مارتنز" الذي وضع الأساس لتجريم الأفعال التي تشكّل حاليا جرائم ضدَّ الإنسانية، خصوصاً أن الطائفة التي عمل شرط "مارتنز" على حمايتها هي طائفة السكان المدنيين الذين ليسوا طرفاً أساسياً في الحرب.
وينص شرط مارتنز على أنه "حتى صدور منظومة مدونة قانونية كاملة لقوانين الحرب، وفي الحالات التي لا تتضمن القواعد الموضوعية، فإن الدول المتعاقدة ترى الفرصة مناسبة للإعلان بأن السكان المتحاربين يظلون تحت سلطان وحماية مبادئ قوانين الأمم المؤسسة على ما هو مستقر بين الشعوب المتمدنة وقوانين الإنسانية ومقتضيات الضمير العام. وباستعراض النص يلاحظ بأنه يهدف إلى حماية السكان المدنيين الذين يشكلون متطلباً أساسياً من متطلبات الجرائم ضد الإنسانية مقارنة مع بقية النصوص الأخرى التي تعمل على تنظيم الأوضاع بين المتحاربين، إذ وضع النص معياراً يفترض عدم خرقه وإلا ارتكبت جريمة ضد الإنسانية، وهذا المعيار هو القوانين الإنسانية ومقتضيات الضمير العام للإنسانية والمبادئ المستقرة بين الأمم المتمدنة.
ولم تُعرِّف اتفاقية لاهاي القوانين الإنسانية في متنها أو في ملاحقها، كما لم تشر إلى مخالفات أو انتهاكات معينة على أنها جرائم ضد الإنسانية، ولم تنص على أي عقوبات جرمية لمعاقبة مرتكبي هذه الجرائم. ورغم ذلك فإن شرط مارتنز الوارد في الاتفاقية يُعتبر سابقة استرشدت بها الاتفاقيات اللاحقة عند النص على حماية السكان المدنيين . كما لم تتطرق معاهدة فرساي إلى الجرائم ضد الإنسانية بسبب معارضة بعض الدول بقيادة الولايات المتحدة إدراج انتهاك قوانين الإنسانية، وقوانين الحرب ضمن هذه المعاهدة، ولم توافق الولايات المتحدة على استخدام مصطلح الجرائم ضد الإنسانية إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لقد تطور نقاش هذا الأمر في الفترة الأخيرة فخلال اجتماعات اللجنة التحضيرية لمؤتمر روما لم يكن هناك أي خلاف بين الوفود على تضمين الجرائم ضد الإنسانية ضمن الجرائم المعاقب عليها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن ما أثار خلافاً بين الوفود المشاركة هو الوصول إلى تعريف محدد لهذه الجريمة.وقد تباينت الآراء في المؤتمر حول تعريف الجرائم ضد الإنسانية بسبب عدم وجود اتفاق موحد على تعريفها وكان محور الخلاف يتراوح بين رأيين:
- الرأي الأول: أصرَّ على الأخذ بتعريف أكثر دقة وتفصيلاً من التعريف الذي جاءت به المواثيق السابقة، ذلك أن هذه المحكمة سوف تتعامل مع أوضاع محددة، واختصاص هذه المحكمة هو اختصاص عالمي بعكس المواثيق الأخرى.
- الرأي الثاني: طالب بتعريف واسع يتضمن تعريفاً مفصلاً لهذه الجريمة، وذلك انعكاساً للتطورات الكثيرة التي حصلت في المجتمع الدولي مؤخراً. وفي هذا السياق اقترح مؤيدو هذا الرأي الانتظار لحين انتهاء لجنة القانون الدولي من عملها في مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها واقتباس التعريف منها وذلك بسبب عدم وجود تعريف محدد للجرائم ضد الإنسانية بموجب المعاهدات.
وبعد مناقشات طويلة بين الوفود المشاركة، تم الاتفاق على تعريف للجرائم ضد الإنسانية ينص على أن يشكل "أي فعل من الأفعال جريمة ضد الإنسانية عندما يتم ارتكابها في إطار هجومي منهجي أو واسع النطاق والذي يتم توجيهه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين على علم بالهجوم، القتل العمد، الابادة، الاستعباد (الاسترقاق)، النفي أو الإبعاد والنقل ألقسري للسكان، السجن أو الحرمان الشديد من الحرية انتهاكاً للقواعد الأساسية للقانون الدولي، التعذيب، الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الدعارة الإجبارية أو الحمل الإجباري، التعقيم الإجباري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي من نفس الخطورة، الاضطهاد السياسي أو العنصري أو الوطني أو القومي أو الثقافي لأي فئة أو جماعة محددة كما هو منصوص عليه في الفقرة رقم (3) وأي قواعد أخرى لا يجيزها القانون الدولي ارتباطاً بأي عمل مشار إليه في هذه الفقرة أو أي جريمة يتم ارتكابها وتدخل في اختصاص المحكمة الإجباري أو أي أعمال للإنسانية أخرى من نفس الشكل أو ما شابه والتي تسبب آلاماً أو معاناة شديدة أو إصابة بالغة لسلامة البدن أو العقل .
وقد احتوت هذه المادة على ثلاث فقرات: الفقرة الأولى تتضمن تعداداً للجرائم ضد الإنسانية على نحو ما هو منصوص عليه في المواثيق السابقة، وبشكل خاص المواثيق الأساسية لمحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا مع توضيح للأوضاع التي ترتكب في إطارها الجرائم ضد الإنسانية، أما الفقرتان الثانية والثالثة فقد تناولتا تعريف بعض المصطلحات الموجودة في الفقرة الأولى بناء على طلب بعض الوفود وأشار بعضها إلى المعايير العامة التي تميّز الجرائم ضد الإنسانية عن الجرائم العادية ذلك منعا لحدوث تداخل بين ولاية هذه المحاكم والمحاكم الوطنية.
أما التطورات التي طرأت على تعريف الجرائم ضد الإنسانية في مؤتمر روما فأهمها :

- وضع هذا التعريف معيارين إذا تحققا فان أي اعتداء على البشر يعتبر جريمة ضد الإنسانية، وهو أن يتم ارتكاب هذه الجريمة ضد السكان المدنيين، وان تكون هذه الاعتداءات جزءاً من اعتداءات واسعة النطاق أو منهجية.كما توسَّع هذا النظام كثيراً في قائمة الجرائم ضد الإنسانية، كما ترك المجال مفتوحاً لإضافة إي جرائم أخرى، وأدى هذا التوسّع إلى إثارة حفيظة بعض الدول المشاركة في المؤتمر فيما يتعلق بتعارض هذه الجرائم مع المعتقدات الدينية أو القانون الوطني لبعض الدول .
-عرَّف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم ضد الإنسانية ولم يقتصر على تعداد هذه الجرائم كما فعلت المحاكم السابقة، فأوضح المقصود بالكثير من المصطلحات الواردة في الفقرة الأولى مثل الابادة، الاستعباد، النقل الإجباري للسكان، التعذيب، الحمل الإجباري والاضطهاد.
واللافت أن ثمة تشابها بين الجرائم ضد الإنسانية والجرائم التي تخضع للاختصاص الداخلي لمحاكم الدول من حيث الأركان العامة للجريمة، فالقتل جريمة معاقب عليها في القوانين الداخلية، ومعاقب عليها كجريمة ضد الإنسانية إذا توفر فيها متطلبات معينة، ومعاقب عليها أيضا كجريمة حرب إذا كانت مرتكبة في زمن الحرب. وفي جميع هذه الأحوال لا بد من توفر الأركان القانونية للجريمة: الركن المادي والركن المعنوي والركن الشرعي، كما أن عوامل تحديد المسؤولية لها قد تتشابه أحيانا.
- إن متطلبات الجرائم ضد الإنسانية هي عبارة عن معايير عامة تميّزها عما يشابهها من الجرائم سواء في القوانين الداخلية أم في القانون الدولي، وتكمن أهمية هذه المعايير في منع التداخل بين اختصاص كل من القانون الدولي والقانون الداخلي من جهة ، إذ أنها تدخل الجرائم ضد الإنسانية في نطاق الاختصاص القضائي الدولي، وتزيل التداخل والغموض بين الجرائم ضد الإنسانية وبقية الجرائم الدولية التي تتشابه معها من جهة أخرى مثل جرائم الحرب وجريمة الابادة الجماعية، وفي غياب تحديد هذه المعايير فإن خلطاً والتباسا سوف يكتنف هذه الجرائم. فالمعايير العامة للجرائم ضد الإنسانية هي أربعة :
ـ ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح.
ـ ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالهجوم واسع النطاق والمنهجي.
ـ توجيه هذه الجرائم ضد السكان المدنيين.
ـ ارتكاب هذه الجرائم على أساس تمييزي.
إن أهم ما يميز هذه المعايير أن احدها قد يكون ذو أهمية كبيرة في مرحلة معينة أو نزاع معين، وقد يصبح اقل أهمية في نزاع آخر، ويبدو هذا واضحاً من خلال مقارنة تطلب النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية في إطار النزاع المسلح، بينما ركَّز النظام الأساسي لمحكمة رواندا على الأسس التمييزية كمعيار لحدوث هذه الجرائم، وهذا التباين في الأسس ـ التي اعتمدت عليها المحكمتان ـ يعود إلى طبيعة كل من النزاعين اللذين نشأت في ظلهما هاتان المحكمتان فالنزاع في رواندا هو نزاع مبني على نزاع طائفي بين أقلية الهوتو وأغلبية التوتسي، بينما أراد النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة الإبقاء على الصلات مع القانون الدولي التقليدي ممثلاً بميثاق لندن الذي اشترط ارتكاب الجرائم في إطار النزاع المسلح، ولو أن النظام الأساسي لمحكمة رواندا قد اشترط نفس الشروط لأسفر ذلك بالضرورة عن إفلات مجرمين كثر من العقاب.
لقد انتقل الجدل إلى مرحلة جديدة حيث مضت حوارات روما إلى نقاش أن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين، ولم يربط هذا النظام الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح وذلك بسبب الخلاف الشديد بين الوفود المشاركة على الإبقاء على هذا الارتباط أو إزالته، وقد دار الجدال أساسا بين فريقين:
- الفريق الأول: أكد على ضرورة وجود نزاع مسلح لارتكاب هذه الجرائم وذهب بعض المؤيدين لهذا الفريق إلى ابعد من ذلك حيث اشترط أن يكون هذا النزاع دولياً. ولتأييد وجهة النظر هذه احتجَّ الفريق بالنص على ذلك في كل من محاكم نورمبرغ وطوكيو ويوغسلافيا السابقة كما احتجَّ بقرار محكمة يوغسلافيا الجنائية الدولية في قضية نيكولنسن، وبأن القانون العرفي لم يتغير بسبب اعتماد صكوك حقوق الإنسان.
- الفريق الثاني: والذي يتكون من أغلبية الوفود المشاركة أكد بأن القانون الدولي التقليدي لا يتطلب النزاع المسلح كمتطلب أساسي للجرائم ضد الإنسانية، وأضاف أن تطلب هذا الارتباط في محاكم نورمبيرغ وطوكيو ويوغسلافيا السابقة يعتبر قيداً على اختصاص هذه المحاكم ولكن إمكانية حدوث الجرائم ضد الإنسانية في الحرب والسلم متساوية، وبرر هذا الفريق موقفه بعدم اشتراط ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح في كل من المادة الأولى من اتفاقية الابادة الجماعية وقانون مجلس الرقابة واتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والنظام الأساسي لمحكمة رواندا وقرار محكمة الاستئناف لمحكمة يوغسلافيا السابقة في قضية تادتيش ومشروع المدونة الصادر عن لجنة القانون الدولي وقيل أيضا أن اشتراط ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية بالارتباط مع النزاع المسلح سوف يؤدي إلى خلط الجرائم ضد الإنسانية بجرائم الحرب.
وقد أشارت محكمة رواندا الجنائية الدولية في قضية keyisbema أن جميع من يحافظون على النظام العام ويطبقون القانون بصورة شرعية هم غير مدنيين وكل فرد من أفراد القوات المسلحة التابعة لأحد أطراف النزاع هو مقاتل وكل مقاتل يقع في منطقة العدو هو أسير حرب وجميعهم لا يعتبرون من السكان المدنيين. بينما عرفت السكان المدنيين في قضية akayesu تعريفا موسعا ليشمل الأشخاص الذين لا يشاركون في العمليات العدائية، بما في ذلك أفراد القوات المسلحة الذين استسلموا أو انسحبوا من القتال نتيجة المرض أو الإصابة أو الحجز أو إي سبب آخر.
إن مصطلح السكان المدنيين (civilian population) استخدم في تعريف الجرائم ضد الإنسانية للدلالة على أن هذه الجرائم ترتكب ضد المدنيين وليس ضد الإنسانية بحيث لا تقتصر على ضحية واحدة فقط فما هو مدى أهمية احتواء تعريف الجرائم ضد الإنسانية على هذا الاصطلاح,ولقد تمّت الإشارة إلى هذا المتطلب بطريقتين:
الأولى: بشكل مباشر حيث نصّت النظم الأساسية لمحكمة رواندا الجنائية الدولية والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ومشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها على أن الجرائم ضد الإنسانية يجب أن ترتكب في إطار هجوم منهجي وواسع النطاق. والثانية: بشكل غير مباشر حيث نصَّ مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها لعام 1954 على أن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب من قبل سلطات الدولة أو من قبل فئة خاصة من الأفراد تعمل لحساب هذه السلطات ونص النظام الأساسي لمحكمة طوكيو بان القادة والمنظمين والباحثين والمشاركين في صياغة خطة معروفة يكونون مسؤولين عن الأعمال التي ترتكب من أي شخص تنفيذا لهذه الخطة.
ثانيا: فكرة المحاكم الجنائية الدولية
لا يعتبر القضاء الجنائي الدولي حديث العهد ولو بصوره البدائية، إذ تعود جذوره إلى عصور تاريخية قديمة، وفي هذا الصدد يذهب العديد من الباحثين إلى إنَ أولى تطبيقات القضاء الجنائي الدولي تعود إلى التاريخ المصري القديم حيث الاعتقاد بأن ظهوره كان سنة 1286 قبل الميلاد الذي شكل علامة فارقة لبداية ما يمكن ان يسمى العدالة الدولية، ونرى كذلك محاكمة ملك بابل نبوخذنصر لملك يودا المهزوم سيد بيترياس، كما جرت محاكمتان إحداهما لـ (Cnradin Von Hohenstafen ) في نابولي عام 1268 والأخرى لمحاكمة ارشيدوق النمساSire Pierre de Hagenbach) ) في إقليم الراين حيث تمّت محاكمته وإصدار الحكم علية بالإعدام. ولذلك أخذت فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب تبرز بين أوساط القانونيين في المجتمع، ولكن يلاحظ بان فكره معاقبة مجرمي الحرب ووضع آليه لعقاب منتهكي القانون الدولي الإنساني بدأت بمبادرات فردية أكثر منها رؤى حكومات ودول، ودفعت بها جماعات ومنظمات غير حكوميه لتصبح ابرز انجازات القرن.
فقد نادى ، غوستاف مونييه ،احد مؤسسي اللجنة الدولية للصليب الأحمر عام 1872 أي بعد صدور اتفاقيه جنيف لعام 1864 الخاصة بمعالجة جرحى الحرب، بضرورة إنشاء واستحداث محكمة جنائية دولية لمنع مخالفات الاتفاقية والمعاقبة عليها، وتقدم بمشروعه إلى اللجنة الدولية لغوث العسكريين الجرحى واقترح أن تضم المحكمة ممثلا عن كل طرف من الطرفين المتحاربين وثلاثة ممثلين عن الدول المحايدة ينتخبون بالقرعة، وبيَّن في مقترحه بأن المحكمة لا تنظر في قضية ما من تلقاء نفسها بل تنتظر رفع دعوى من قبل دولة متحاربة، أما تنفيذ الحكم فانه يقع على عاتق ألدوله التي صدر الحكم ضد احد رعاياها. ويلاحظ بأن، المقترحات التي تقدم بها غوستاف مونييه قد ظلت حبرا على ورق ولم ترَّ النور رغم كل الجهود التي بذلها.
ومن خلال ما تقدم عرضه من الجهود والمحاولات الرامية إلى إنشاء قضاء جنائي دولي، وعلى الرغم من إنشاء عدد من المحاكمات الدولية التي سبقت الحرب العالمية الأولى، إلا أنَ ثمة الكثير من الفقهاء والباحثين في إطار القانون الدولي يرون بأن فكرة إنشاء محكمه جنائية دوليه تعود إلى الحرب العالمية الأولى. .
ثالثا: مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى
بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وراح ضحيتها ما يقارب العشرين مليون شخص؛ شعر العالم بحاجة ماسة إلى ضرورة إيجاد قواعد قانونية ملزمة واتخاذ إجراءات جديدة تحول دون وقوع حرب عالمية أخرى، وكذلك بهدف وضع حد لتصرفات الأشخاص والدول التي تهدد السلم والأمن الدوليين، وفرض الجزاء الجنائي بدلاً من الجزاء المدني على مجرمي الحرب.
فقد عرف المجتمع الدولي الحاجة إلى وجود محكمة من نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وجاء ذلك على اثر تطور الحس الجماعي الدولي بخطورة ترك بعض الأعمال المرتكبة زمن النزاعات المسلحة بدون تحريم وملاحقة ومعاقبة من
يقترفها، لذلك تمخّض عن هذه الدعوات لإنشاء محكمة جنائية دولية عدة تطبيقات لها، منها ما جاء في معاهدة فرساي بشان تشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة الإمبراطور الألماني السابق غليوم الثاني، وكذلك ما جاء به عهد عصبة الأمم في المادة (14) منه، وكذلك ما جاءت به اتفاقيتا 16 / 11 /1937.
1 - معاهدة فرساي عام 1919
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وما خلفته من ضحايا وانتهاكات فاضحة للمعاهدات الدولية والأعراف من قبل القوات الألمانية، شعر المجتمع الدولي بالحاجة الماسّة إلى إيجاد قواعد وإجراءات قانونية تحول دون وقوع حرب عالمية أخرى، ولذلك تعالت الأصوات التي تدعو إلى إنشاء محكمة جنائية دولية لمعاقبة مجرمي الحرب.
اثر ذلك اتجه المنتصرون في الحرب إلى إنشاء لجان تحقيقية مهمتها إثبات مخالفات قوانين وأعراف الحرب ومعاقبة مجرمي الحرب الألمان عن الجرائم التي ارتكبوها وكان من هذه اللجان، لجنة تحديد مسؤوليات مبتدئي الحرب ومعاقبة مجرمي الحرب الألمان. ولذلك جاءت معاهدة فرساي لعام 1919، لتنص في المادة (227) منها على تحميل الإمبراطور الألماني غليوم الثاني المسؤولية الجنائية الدولية. وإحالته إلى الحلفاء لمحاكمته طبقاً لأسمى بواعث السياسة الدولية عن جريمة عظمى ضد الأخلاق الدولية وقدسية المعاهدات. ولكن الظروف السياسية حالت دون أن تلقى المبادئ التي قررتها معاهدة فرساي التطبيق الصحيح، إذ إن جريمة شن الحرب التي اتهم بها إمبراطور ألمانيا لم تجر بشأنها محاكمة. لأنَ الإمبراطور غليوم قد حصل على حق اللجوء السياسي في هولندا، ورفضت الحكومة الهولندية تسليمه حتى توفى عام 1941. وهنا يمكن القول بان هنالك عدة اعتبارات أثرت في قرار هولندا وهي تدخل البابا لمصلحة الإمبراطور الألماني ومعارضة الوفد الأمريكي والياباني باعتبار أنَ الرؤساء في حال ارتكابهم جرائم، يجب أن يحاكموا أمام شعوبهم فقط .
وعلى الرغم من أن الحلفاء طلبوا تسليم الإمبراطور الألماني. إلا أنَ حكومة هولندا أصرّت على حقها في منح اللجوء للاجئين السياسيين. وهو اتجاه رحَّبت به الدول المنتصرة.
2 - عصبة الأمم ومحاولات إنشاء محكمة دولية
نصَّ عهد العصبة الذي أصبحت نصوصه سارية المفعول بتاريخ 10/12 /1920، على وجوب صيانة السلم العالمي والتزام الدول باللجوء إلى الطرق السلمية لحل نزاعاتها وتوقيع العقاب على الدول المعتدية. وخلال هذه الفترة أثير موضوع إنشاء محكمة جنائية دولية من جديد، فقد نصَّت المادة (14) من عهد العصبة على أن يتولى مجلس ألعصبه مشروع إنشاء محكمة العدل الدولية الدائمة وعرضه على الدول الأعضاء، وبموجب ذلك تألفت لجنة استشارية من قبل مجلس العصبة تأخذ على عاتقها مهمة تقديم المشروع لتأسيس المحكمة.
وفي الوقت الذي قُدِّم فيه هذا المشروع، قُدِّم مشروع آخر بتأسيس محكمة عليا خاصة بمحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون جرائم دولية أو أعمال تهدد السلم و الأمن الدوليين، والى جانب هذا المشروع قدم مشروع أخر يقضي بعدم إنشاء محكمة مستقلة بمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم دولية، وإنما بتأسيس شعبة جنائية خاصة لهذا الغرض تعمل ضمن نطاق محكمة العدل الدولية الدائمة. ،ولكن لم يكتب لأي من هذين المشروعين الأخيرين النجاح، ذلك لأن الرأي السائد آنذاك كان يقضي بأن مشروع تأسيس محكمة دولية جنائية لا يمكن أن يكتب له النجاح، ما لم يسبق ذلك اتفاق بين الدول على القانون الواجب تطبيقه، ولذلك وافقت الجمعية العمومية على المشروع الأول وهو إنشاء محكمة العدل الدولية الدائمة.
3 - اتفاقيتا 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1937
في سنة 1937 تقدم الوفد الفرنسي باقتراح إلى عصبة الأمم يدعو إلى ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لمنع قيام الأعمال الإرهابية وضرورة معاقبة مرتكبيها من قبل محكمة جنائية دولية. ؛ وجاء هذا الاقتراح كرد فعل للأعمال الإرهابية التي أودت بحياة ملك يوغسلافيا الملك السكندر، وكرد فعل ضد الأعمال الإرهابية التي ارتكبت ضد وزير الخارجية الفرنسي المسيو باترو في مرسيليا في تشرين الأول/ اوكتوبر 1934.
وعلى اثر هذا الاقتراح وجهت الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي في 16تشرين الثاني/نوفمبر يتم بمقتضاه الالتزام بتحديد معنى عبارة (أعمال ألإرهاب) ومن ثم اعتبارها أعمالا جنائية تستحق العقاب. وخلال هذا المؤتمر تم الأتفاق على تحديد أعمال الإرهاب في المادة الأولى من المعاهدة. كما جاءت المادتان الثانية والثالثة لتتناولا أنواع الجرائم التي تعتبر من قبيل الأعمال الإرهابية.
وفي نفس اليوم الذي عقد فيه المؤتمر الأول الخاص بتعريف أعمال الإرهاب، عقد مؤتمراً ثانياً من اجل إيجاد صيغة قانونية لمحاكمة المتهمين بالجرائم التي حددها المؤتمر الأول، لذلك جاءت المادة الأولى من الاتفاقية الثانية التي تتكون من ستة وأربعين مادة، لتنص على ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة المتهمين بالجرائم التي حددها المؤتمر الأول.
أما المادة الثالثة من هذه الاتفاقية، فقد نصت على أن تكون المحكمة الجنائية الدولية المراد تكوينها، محكمة دائمة،على أن تُدعى إلى الاجتماع كلما رفعت إليها دعاوى تدخل ضمن اختصاصها.
ولكن يلاحظ بأن الجهود الكبيرة التي بذلها المؤتمرون في هذين المؤتمرين لم تلق النجاح على الصعيد العملي، حيث لم يكتب النجاح لأي من الاتفاقيتين أن توضع موضع التنفيذ على الصعيد العملي، ذلك لعدم التصديق عليها، وكذلك لنشوب الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من ذلك، فإن هاتين الاتفاقيتين تبقيان بحق من الاتفاقيات التي ساهمت في تطور مفهوم المسؤولية الجنائية الدولية، واعتبرتا فيما بعد من السوابق المهمة التي خدمت تطور القانون الدولي.
رابعا: بعد الحرب العالمية الثانية
شهد العالم خلال فتره انتهاء الحرب العالمية الثانية تطورات عدة تتعلق بإنشاء المحاكم الجنائية الدولية، إذ تمَّ تشكيل عدّة محاكم جنائية دولية تختلف من حيث طبيعتها وإنشائها، فبعضها قد تمَّ تشكيلها من قبل الحلفاء المنتصرين، وهي محكمة نورمبرغ عام 1945 ومحكمة طوكيو عام 1946، وكذلك المحاكم ألمشكله من قبل مجلس الأمن والتي تشمل محكمة يوغسلافيا السابقة عام 1993، ومحكمة رواندا عام 1994.
وعلى الرغم من أن المحاكم الدولية التي شكلها الحلفاء تختلف عن المحاكم الدولية المشكلة من قبل مجلس الأمن من حيث طريقة إنشاءها، إذ أن كلاً من محكمة نورمبرغ ومحكمة طوكيو قد تمّ تشكيلهما باتفاق بين الدول المتحالفة المنتصرة خلال الحرب العالمية الثانية، في حين نشأت كلاٌ من محكمة يوغسلافيا السابقة ومحكمة رواندا بقرار من مجلس الأمن ، إلا انه يلاحظ على هذه المحاكم السابقة أنها محاكم مؤقتة وليست دائمة، ولذلك جاءت فكرة المحكمة الجنائية الدولية الدائمة والتي تمَّ وضعها موضع التنفيذ من خلال إقرار نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة ودخوله حيز التنفيذ عام 2002.
1 - المحاكم الدولية المؤقتة
بداية يمكن القول بأن المجتمع الدولي قد عرف نوعين من المحاكم المؤقتة، فكان للمنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية إن شكلوا محاكم لتتبع الخارجين عن أحكام القانون الدولي، ثم تكفل مجلس الأمن بتكوين محاكم جنائية دولية خاصة لنفس الغرض.
ا - محكمتي نورمبرغ وطوكيو
على الرغم من إبرام العديد من معاهدات السلام بعد الحرب العالمية الأولى كمعاهدة فرساي عام 1919، إلا إنها لم تنجح في ترسيخ السلام على ركائز ثابتة ومتينة، ولم تستطع عصبة الأمم وقف التدهور الحاصل على المستوى الدولي والإخلال بالسلم العالمي، لذلك باتت التصريحات الصادرة من المسؤولين تشكل أساسا جديدا للمسؤولية عن الجرائم الدولية خاصة في وقت الحرب.
ففي 25 تشرين الأول /أكتوبر1941 اعتبر الرئيس الأمريكي روزفلت " بأن الإرهاب والترويع لا يمكن أن يجلب السلام إلى دول أوروبا، انه لا يفعل شيئاً سوى بث الحقد الذي سيؤدي يوما ما إلى قصاص رهيب " وفي الوقت نفسه صرح رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل " بأن الجزاء على الجرائم المرتكبة يعد من الآن من المقاصد الرئيسية للحرب".
وفي 13/1/1943 أكد تصريح سان جيمس بالاس والصادر عن تسع دول أوروبية. بان هذه الدول تضع من بين أهدافها ومقاصدها ضرورة توقيع العقاب من خلال قنوات عادلة ومنظمة على المجرمين و المسؤولين عن جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية سواء أمروا بها أو نفذوها أو ساهموا في ارتكابها.
وبمقتضى هذا التصريح فقد تمَّ تشكيل لجنة خاصة للنظر في جرائم الحرب المرتكبة وتتكون هذه اللجنة من ( 17) دولة ممثلة بأعضاء عنها. وقد أطلق على هذه اللجنة (لجنة الأمم ألمتحدة لجرائم الحرب).
ومن ابرز التصريحات التي صدرت خلال هذه الفترة هو تصريح موسكو في30/ تشرين الأول/ اكتوبر عام 1943 الصادر عن الرؤساء (روزفلت – تشرشل – ستالين). فقد أرسى هذا التصريح قواعد أكثر تحديدا في مجال المسؤولية الجنائية الدولية ومحاكمة المجرمين بشكل حاسم، إذ بموجبه – أي التصريح- يجب أن تطال المحاكمة كل من ارتكب جريمة دولية أو جرائم ضد الإنسانية .
وبعد استسلام ألمانيا، ثم اليابان، اختلف الحلفاء فيما بينهم بشان مرتكبي الحرب، فكان رأي البعض منهم عدم الالتجاء إلى المحكمة والاكتفاء بإصدار قرار مشترك يقضي بأن مجرمي الحرب يعتبرون خارجين عن القانون، بيد أن البعض الأخر قد ذهب مذهبا عكسيا تماما ينادي بوجوب إجراء محكمة عسكرية وعادلة، وهو الرأي الذي خلص إليه المجتمعون وتبناه مؤتمر لندن الذي كان منعقدا في تلك الأثناء، وتمخضت اجتماعاته عن عقد اتفاقية (لندن) الشهيرة في 8/8/1945.
وبمقتضى هذه الاتفاقية التي تتكون من سبع مواد قانونية، فقد تمَّ إنشاء محكمة عسكرية دولية عليا لمحاكمة مجرمي الحرب، والحق باتفاقية لندن السابقة نظام المحكمة العسكرية المسمى بنظام محكمة نورمبرغ.
وقد عقدت هذه المحكمة جلساتها في مدينة نورمبرغ الألمانية الجنوبية والتي كانت المركز الرئيس للحزب النازي، وحكمت هذه المحكمة بالإعدام على عدد من القادة النازيين الألمان، أمثال المارشال هرمان، وفون وينشيروب، والفرد روزنبرغ، وغيرهم من القادة والزعماء الألمان الذين كانوا مسؤولين عن سلسلة من المذابح وأعمال القتل الجماعي. ومن الجير بالذكر القول هنا بأن أخر سجين نازي أمام هذه المحكمة قد انتحر وهو(رودولف هس) عام 1987.
أما فيما يتعلق باليابان فبتاريخ 19/1/1946 أصدر القائد العام لقوات الحلفاء في اليابان قرارا بإنشاء محكمة عسكرية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب اليابانيين عن الجرائم والمجازر التي ارتكبوها وقد أطلق على هذه المحكمة (محكمة طوكيو) لانعقادها في مدينة طوكيو في اليابان.
وقد تمَّ إصدار قرار إنشاء المحكمة استنادا إلى ما تمَّ الاتفاق علية في مؤتمر بوتسدام بين ترومان وستالين وتشرشل بشان محاكمة مجرمي الحرب.
وتختص هذه المحكمة بالنظر في الجرائم ضد السلام والجرائم ضد الإنسانية وكذلك جرائم معاهدات الحرب وهي مخالفات قوانين وأعراف الحرب. وقد أصدرت هذه المحكمة في 12/11/1948 عده أحكام منها (6) أحكام بالإعدام. ولذلك انتهت هاتان المحكمتان بانتهاء مهمتيهما المؤقتة. ولنا أن نثير تساؤلاً مضمونه" ما هو واقع هاتين المحكمتين ؟". بتعبير آخر "هل إن إنشاء هاتين المحكمتين قد تم لتستكمل به الدول المنتصرة انتصارها ضد الدول المهزومة أم إن إنشاءهما لاعتبارات قانونية وإنسانية تقوم على الردع وتحقيق العدالة ؟"
للإجابة على هذا التساؤل نقول بأن هاتين المحكمتين كانتا من قبيل إخضاع الدول المنهزمة في الحرب لإرادة الدول المنتصرة، فهي من باب الثأر ادخل بها في باب المحاكمات القانونية العادلة. فعلى الرغم من الجرائم التي تمَّ ارتكابها من قبل القوات الألمانية واليابانية، إلا انه في نفس الوقت يمكن القول بأن اليابان قد أصابها ضرر بالغ لم يلحق بدولة أخرى، فقد هاجمتها الولايات المتحدة الأمريكية بقنبلة ذرية على مدينة هيروشيما في 6/8/1945، حيث قضت على (180) ألف نسمة من مجموع (340) ألف نسمة ( أي أكثر من نصف سكان المدينة)، وكذلك شنَّ الإتحاد السوفيتي (سابقا) حربا على اليابان ودخلت القوات السوفيتية منشوريا وكوريا، وفي 9/8/1945 أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلة ذرية ثانية على مدينة ناغازاكي حيث أودت بحياة (8)آلاف ياباني.
وعلى الرغم من فداحة الجرائم التي ارتكبتها الجيوش والقادة لدول الحلفاء، إلا انه لم تشكل أية محكمة لمحاكمة مجرمي الحرب الأمريكيين آو البريطانيين أو الفرنسيين عن الجرائم التي ارتكبوها سواء في ألمانيا أم في اليابان.
ولذلك وُجِّهت إلى هاتين المحكمتين العديد من الانتقادات، وكان من أبرزها هو مخالفتيهما لمبدأ احترام قانونية الجرائم والعقوبات.
إذ أن نظام هاتين المحكمتين قد جاء بقواعد قانونية لم تكن موجودة أو مقننة وقت ارتكاب الجرائم. وما يؤخذ عليهما أيضا هو مخالفتهما لمبدأ عدم رجعية القوانين الجنائية مما يعد خرقا واضحا لقواعد القانون الدولي الجنائي المتعارف عليها.
لذلك نلاحظ بان هذه المحاكم قد جاءت بالشكل المرغوب به والمطلوب من الدول المنتصرة ضد الدول المنهزمة، فهي أرادت تحقيق رغبات الدول المنتصرة أولا، ثم بعد ذلك ينظر إلى الناحية الإنسانية والقانونية والدولية.
وهنا يلاحظ بان هاتين المحكمتين " قد ظلتا مطبوعتين بطابع مصدرهما ويغلب عليهما الطابع السياسي وعدم الحياد، وشكلتا بالأحرى تطبيقا لقانون المنتصر وعدالته أكثر منه تطبيقا لقانون مجتمع الأمم العالمي".
ولكن يلاحظ على الرغم من الانتقادات الموجهة لمحكمتي نورمبرغ وطوكيو . إلا إنهما اتخذتا أساسا لإنشاء قضاء جنائي دولي، إذ لا بد من الاعتراف لهذه المحاكمات إرساؤها مبدأ مسؤولية الأفراد الجنائية في القانون الدولي، بالإضافة إلى إلغائها مبدأ واجب الطاعة لأوامر الرؤساء عندما تكون هذه الأخيرة مخالفة لقواعد القانون الدولي.
وعلى اثر ذلك دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة القانون الدولي. إلى إعداد مشروع يحدد الأعمال التي تعد في نظر فقه القانون جرائم مخلة بسلم الإنسانية وأمنها، فقد كلفت الجمعية العامة بقرارها رقم 177 بتاريخ 21/11/1947 لجنة القانون الدولي بصياغة مبادئ القانون الدولي المعترف بها في النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ وفي الحكم الصادر عن هذه المحكمة.

ب : المحاكم الجنائية الدولية المشكلة من قبل مجلس الأمن Ad Hoc

" اعتقد الكثيرون من دون شك إن الفظائع التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية – المخيمات الوحشية، الإبادة، والمحارق – لا يعقل أن تحصل مجددا، لكنها، رغم ذلك حصلت في كمبوديا وفي البوسنة والهرسك وفي رواندا، لقد اظهر لنا هذا الزمان، بل هذا العقد إن قدرة الإنسان على فعل الشر لا حدود لها" هذا ما ذكره الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في كلمته عند إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية .
فما حصل من مآسي ومجازر بعد تفكك يوغسلافيا في البوسنة والهرسك والمجازر التي شهدتها رواندا في أفريقيا اثر خلاف عرقي، كل ذلك أشعل الفتيل من جديد محركاً الدعوات إلى ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب، وانتهى الأمر إلى إنشاء محاكم جنائية دولية مؤقتة استنادا إلى قرارات مجلس الأمن الدولي لعام 1993/1994، خصصت لمحاكمة مجرمي الحرب في تلك الدول.
1 - المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة
كان للأحداث الدولية الدامية التي حدثت بعد انهيار جمهورية يوغسلافيا السابقة وما جرى فيها من أحداث وفظائع يندى لها جبين الإنسانية، وما ارتكبت من جرائم التطهير العرقي، والتي كانت هدف الحرب وليس نتيجتها غير المقصودة، بالإضافة إلى أعمال العنف التي اتخذت عدة أشكال منها الإبادة الجماعية والاغتصاب المنظم والمجازر والتعذيب وإبعاد المدنيين الجماعي.

أدى كل ذلك إلى أن ينهض مجلس الأمن بمسؤوليته باعتباره حارسا على امن الإنسانية وسلمها كرد فعل للانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان التي ارتكبت في أراضي يوغسلافيا السابقة، وتمثل دوره من خلال إصدار العديد من القرارات التي تتعلق بالحالة في يوغسلافيا السابقة باعتبارها تمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين.
واستنادا إلى التقارير المرفوعة إلى مجلس الأمن والتي تقرر وجود ممارسات بشعة وانتهاكات للقانون الدولي الإنساني. فإن مجلس الأمن اخذ ذلك بنظر الاعتبار واصدر قراره المرقم 808 في 22/2 /1993 القاضي بإحداث محكمة جنائية دولية لمحاكمة المتهمين المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني المرتكبة في أراضي يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991.
وبموجب هذا القرار فقد تمَّ تكليف الأمين العام للأمم المتحدة بإعداد مشروع النظام الأساسي للمحكمة حيث اعتمده المجلس بقراره الرقم 827 في 25/5/1993، وقد أجريت العديد من التعديلات على النظام الأساسي لهذه المحكمة.
ففي تشرين الثاني/ نوفمبر2000 عدَّل مجلس الأمن النظام الأساسي للمحكمة لتوفير مجموعة مؤلفة من (27) قاضيا يمكن لهم أن يساعدوا القضاة الدائمين والبالغ عددهم (16) قاضيا. وفي إطار هذه المحكمة المؤقتة، يُثار التساؤل التالي:ما هو الواقع الفعلي لوجود المحكمة ؟ للإجابة على هذا السؤال نقول إنه على الرغم من أن النصوص الشكلية للمحكمة الدولية كانت أكثر تطورا في مثل هذه الحالات، فقد فرضت الظروف السياسية أن تخصص المحكمة فقط ليوغسلافيا السابقة، فهي محكمة مؤقتة ويعود السبب في ذلك التخصص من خوف الدول وبالذات المسيطرة على مجلس الأمن من أن يكون وجود المحكمة مبررا لتقديم قضايا تمس دولاً غير مرغوب في إدانتها.
فالمحكمة الدولية كانت ذات طابع سياسي، وسبب ذلك يعود إلى إن إنشاءها تم من قبل هيئة سياسية وهو مجلس الأمن، والذي يعتمد في قراراته على تقديرات سياسية محكومة بمصالح الدول المؤثرة فيه.
فبعد أن شنَّت قوات الناتو الحرب بقيادة الولايات المتحدة على يوغسلافيا، فإن المحكمة الدولية كثّفت نشاطها بشكل متصاعد، وتحوّلت المحكمة إلى تابع لحلف الأطلسي لتنفيذ ما يخطط لها، واتضح ذلك بشكل خاص بعد أن تمَّ توقيع اتفاقية التعاون بين الناتو والمحكمة في عام 1996، وأصبحت المحكمة بالنسبة إلى الناتو سلاحاً للتدخل في الشؤون الداخلية لدول البلقان. ويلاحظ على هذه المحكمة بأن الأحكام التي صدرت على بعض المتهمين أمامها، كانت العقوبات فيها لا تتناسب مع ما جاءت لتعاقب علية من جرائم.
ومن ناحية أخرى فإنه على الرغم من الانتهاكات التي ارتكبت من قبل حلف الناتو أثناء الحملة الجوية على يوغسلافيا عام 1998، إلا أن المحكمة الدولية لم تلفت النظر لمثل هذه الانتهاكات، والكوارث (حيث اخذ المدعي العام للمحكمة بتوصية غير ملزمة أصلا للجنة التحقيق التي كان قد شكلها في 14/5/1999 بعدم تحريك دعوى بسبب – عدم الوضوح في القانون – رغم وقوع العديد من الانتهاكات لقواعد القانون الدولي الإنساني وقواعد قانون النزاعات المسلحة، والتي جاءت هذه المحكمة لملاحقة مرتكبيها في هذه المنطقة من العالم).
2- المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا
كان للمجازر التي شهدتها رواندا في أفريقيا اثر خلاف عرقي وما جرى فيها من العديد من جرائم القتل والتنكيل الجماعي التي ارتكبت من قبل (الهوتو) عام 1994، والتي حصدت أرواح أكثر من مليون ونصف المليون شخص من قبائل (التوتسي والهوتو).

دفع كل ذلك حكومة رواندا أن تلجا إلى مجلس الأمن الذي كان قد شكل لجنة من الخبراء للتحقيق في الجرائم المرتكبة في رواندا عام 1994 بموجب قراره المرقم (935) عام 1994. واستنادا لما تقدم فان مجلس الأمن اصدر قراره المرقم (955) في 18/11/1994 مستندا في ذلك بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم ألمتحدة باعتبار إن الحالة في رواندا تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين.
ويقضي القرار بإنشاء محكمة جنائية دولية خاصة، للنظر في جرائم ضد الإنسانية، وجريمة إبادة الجنس البشري، وكذلك خرق المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع والمتعلقة بتامين المعاملة الإنسانية لغير المقاتلين النظاميين، إضافة إلى أحكام البروتوكول الثاني الخاص بالنزاعات المسلحة غير الدولية لعام 1977.
وضمن إطار هذه المحكمة يلاحظ بأنه على الرغم من الميزانية الكبيرة المخصصة لهذه المحكمة التي تضم (16) قاضيا و(800) من العاملين، إلا أنها – أي المحكمة – لم تحاكم إلا مجموعة قليلة من المتهمين، فحتى نهاية آذار عام 2003 أصدرت هذه المحكمة (10)أحكام تتراوح بين السجن مدى الحياة وبين البراءة.
كما يلاحظ بأن النظام الأساسي الخاص لهذه المحكمة قد استند على الأسس نفسها التي استند عليها النظام الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة من حيث اعتماد نظامها على ميثاق محكمة نورمبرغ وكذلك المشروع الذي اعتمدته لجنة القانون الدولي حول الجرائم الماسة بأمن الإنسانية والتي من أهم أحكامها المسؤولية الفردية الجنائية، وعدم حصانه رؤساء الدول من المسؤولية وعدم جواز الدفع بصدور أوامر من الرؤساء لارتكابه جريمة، وعدم الحكم بعقوبة الإعدام على المتهمين الذين تثبت مسؤوليتهم.
3 - المحاكم المختلطة
ثمة عدة سوابق في هذا المجال،كان أخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة إلى الخمير الحمر إبان الحرب الأهلية الكمبودية بين الأعوام 1975و1979،وقد صدر قرار عن الأمم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكمومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من إجراءات ونصَّ الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي ومن قاضيين دوليين،وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبر غرفة من غرف محكمة التمييّز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر محاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية.كما أن تعيين القضاة الأجانب يتمّ من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الأمين العام للأمم المتحدة،واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالإجماع في المستويين وإذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية.إضافة إلى أن الإجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع إجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.
والسابقة الأخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الأمن 1315 تاريخ 14/7/2000 ،وقد أنشأت في العام 2002 مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للنظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996،مع ملاحظة بعض التعديلات أيضا على القوانين الوطنية بما تتوافق والمعايير الدولية لإجراءات المحاكمة والأحكام.
أما السابقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/ 1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة،بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة منذ العام 1975 ،وعمدت الأمم المتحدة على إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .

خامسا: المحكمة الجنائية الدولية الدائمة
على الرغم من إنشاء عدد من المحاكم الجنائية الدولية خلال فتره ما بعد الحرب العالمية الثانية ، إلا أن هذه المحاكم التي بلغ عددها خمسة محاكم دولية، كانت جميعها مؤقتة، وهو ما يعكس الوضع الدولي الذي لا يزال يشكو نقصاً فادحاً في العدالة والنزاهة، وهذا ما جعل مشروع المحكمة الجنائية الدولية يتعثر في كل مرة يحاول فيها القيام، وسنلاحظ بأن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت تؤجل في كل مرة البتَّ في مشروع المحكمة الجنائية الدولية الدائمة متذرعة بعدم تعريف (العدوان). ولكن يلاحظ بأنه على الرغم من إن الجمعية العامة أصدرت قرارا رقم 3314 في14/12/1974 والذي يقضي بتعريف (العدوان) إلا انه يلاحظ بأن مشروع المحكمة الجنائية الدولية لم يرَّ النور إلا في 17تموز/يوليو 1998 ذلك على اثر انتهاء المؤتمر الدبلوماسي الدولي للمفوضين في مقر منظمة الأمم ألمتحدة للأغذية والزراعة في روما المنعقد في الفترة من 15حزيران / يونيو 1998حتى 17 تموز / يوليو 1998. ليعلن بذلك عن ولادة ما يسمى بـ (نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية(ROME STATUTE OF INTERNATIONAL CRIMINAL COURT ) في 17/7/1998.
وفي إطار هذا الموضوع يُثار التساؤل حول كيفية وصول المجتمع الدولي إلى إقرار اتفاقية روما بشأن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ؟للإجابة على هذا السؤال، فان ذلك يستلزم الوقوف على بدايات طرح مشروع إنشاء المحكمة باعتبار أن هذا المشروع قد تم تناوله ضمن إطار جديد وهو إطار الأمم ألمتحدة، وهو ما سيتم تناوله في الأتي:
1 - بداية المشروع
بعد أن تم تأسيس هيئة الأمم ألمتحدة عام 1945، حاز موضوع إنشاء محكمة جنائية دولية على اهتمام الكثير من المهتمين والمعنيين بالشؤون الدولية، وضمن هذا الإطار قدَّم الوفد الفرنسي إلى اللجنة المتخصصة في تطوير القانون الدولي وتقنينه التابعة للجمعية العامة مشروعاً يتضمّن ضرورة إعطاء محكمة العدل الدولية صلاحية النظر في الجرائم التي يرتكبها رؤساء الدول ومجرمو الحرب، وكذلك تضمّن المشروع دعوة لتأسيس محكمة جنائية دولية خاصة تمنح صلاحية النظر في الجرائم ذات الصفة الدولية.

وعلى اثر ذلك أوصت اللجنة السادسة التابعة للجمعية العامة بإحالة الموضوع إلى لجنة القانون الدولي للوقوف على إمكانية إنشاء محكمة جنائية دولية متخصصة بالنظر في جرائم الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم دولية.
وبناءً على ما تقدم أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثالثة القرار رقم 260 في 9/ كانون الأول / يناير 1948 وبموجبه طلبت الجمعية العامة من لجنة القانون الدولي التابعة لها دراسة إمكانية إنشاء جهاز قضائي دولي لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة، وبنفس الوقت طلبت الجمعية العامة من اللجنة دراسة إمكانية تأسيس محكمة جنائية دولية ضمن إطار محكمة العدل الدولية.
وقد تضمن قرار الجمعية العامة السابق ذكره نص لاتفاقية (منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها))والتي نصت في مادتها الأولى على ما يلي ( يحاكم الأشخاص المتهمون بارتكاب الإبادة الجماعية آو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على أراضيها، أو أمام محكمة جنائية دولية تكون ذات اختصاص إزاء من يكون من الأطراف المتعاقدة قد اعترفت بولايتها).
ب ً: تطورات إنشاء المحكمة الجنائية الدولية حتى انعقاد مؤتمر المفوضين في روما
كما أسلفنا أصدرت الجمعية العامة قرارها رقم 260 في 9/12/1948 لتكلف بموجبه لجنة القانون الدولي دراسة مدى إمكانية إنشاء محكمة جنائية دولية، وبناء على هذا التكليف بدأت اللجنة دراستها واجتماعاتها لدراسة هذا الموضوع منذ عام1950.
وقد توجت دراساتها بتقديم تقرير إلى الجمعية العامة أكدت فيه بان تأسيس محكمة جنائية دولية لغرض محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية أو الجرائم الدولية الأخرى هو أمر مرغوب فيه ويمكن تنفيذه، أما فيما يتعلق بالاقتراح الثاني – إمكانية تأسيس محكمة جنائية دولية ضمن إطار محكمة العدل الدولية ممكن، ولكن بعد تعديل النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، إلا أن اللجنة لا تحبذ هذا المشروع.
وبناءً على ما جاء في تقرير لجنة القانون الدولي بان إنشاء محكمة جنائية دولية أمر ممكن ومرغوب فيه، شكلت الجمعية العامة بموجب قرارها في 12/12/1950 لجنة خاصة تتكون من (17)دوله مهمتها وضع مشروع النظام الأساسي للمحكمة المقترحة.وتجتمع هذه اللجنة في جنيف ابتداءً من 1/8/1951.
وبعد التقارير المقدمة إلى هذه اللجنة. فإنها قد انتهت من وضع مشروع النظام الأساسي للمحكمة المقترحة وقدمته إلى الجمعية العامة لغرض المناقشة أو تقديم الاقتراحات حول هذا الموضوع.
2- الخلافات حول موضوع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية
بعد أن تقدمت اللجنة الخاصة بمشروعها إلى الجمعية العامة، تمت مناقشة المشروع في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السابعة عام 1952، وقد قدمت الدول الأعضاء اقتراحاتها وملاحظاتها حول هذا المشروع، وقد انقسمت الآراء حول فكرة إنشاء المحكمة إلى اتجاهين.
الاتجاه الأول، عارض إنشاء محكمة جنائية دولية مستندا على حجج منها:
- إن القضاء الجنائي الوطني يعد أهم معالم السيادة في الدولة، وان إنشاء قضاء جنائي دولي معناه انتهاك للسيادة الوطنية للدول.
- إن إنشاء محكمة في ظل هذه الظروف غير مجد ولا يعود بالنفع في الظرف الدولي الراهن.
- إن وجود هذه المحكمة متعلق بنشوب الحروب، وان استمرارها لا مبرر له، وان المحاكم التي تنشا بسبب ظروف معينه ولهدف محدد تكون عادة أكثر حسماً في الأمور وأكثر هيبة.
أما الاتجاه الثاني، فقد أيد مشروع إنشاء محكمة جنائية دولية مستندا أيضا على الحجج التالية.
- إن مفهوم السيادة بالمعنى التقليدي لا معنى لـه في ظل شبكه العلاقات الدولية، فالعلاقات الدولية أفرزت ظهور تكتلات إقليمية لها تأثيرها على مفهوم السيادة مثل الجماعة الأوربية، وجامعة الدول العربية، وكذلك إن الانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة يعني في حد ذاته تنازلا عن فكرة السيادة المطلقة للدولة، بحيث أن عناصر السيادة تقلصت.
- إن محاكمة مجرم أمام محكمة سابقة الوجود على وجود الجريمة أكثر عدلا وأفضل من محاكمة أمام محكمة نشأت بسبب الجريمة، لان قيام المحكمة المسبق ابعد عن عقلية الثار والانتقام، كما كان في محكمتي نورمبرغ وطوكيو، ومن ناحية أخرى إن وجود المحكمة المسبق يعتبر عامل ردع للحؤول دون قيام جرائم أو التفكير في ارتكابها.
ونتيجة لتعارض الآراء حول مشروع المحكمة الجنائية الدولية، تبنت الجمعية العامة قرارها المرقم 687 في 5/12/1952 والذي بموجبة انشات لجنة جديدة عام 1953 تتكون من ممثلي (17)دولة، (2) وحددت مهمة اللجنة في ما يلي :
- دراسة النتائج المترتبة على تأسيس محكمة جنائية دولية والبحث عن الطرق التي يمكن بموجبها تأسيس مثل هذه المحكمة.
- دراسة العلاقة بين هيئة الأمم ألمتحدة والمحكمة المقترح إنشائها.
- إعادة النظر في مشروع النظام الأساسي للمحكمة المقترحة.
وبناءً على المهمات الملقاة على عاتق اللجنة، فإنها قد بدأت بمباشره أعمالها في الفترة من 27 تموز/يوليو إلى 20 آب/ أغسطس 1953 ووضعت نظاما أساسيا جديدا للمحكمة، واقترحت عدة طرق لإنشاء محكمة جنائية دولية. وقدمت اللجنة مشروعها إلى الجمعية العامة للمناقشة، ولكن يلاحظ بأنه على الرغم من التجاوب الملموس لدى الكثير من الدول الأعضاء لإنشاء محكمة جنائية دولية، الأ انه كان هنالك من يشكك من الدول في جدوى قيام مثل هذه المحكمة ما لم يسبق ذلك اتفاق الدول على تعريف كلمة (العدوان).
وعلى هذا الأساس أصدرت الجمعية العامة قرارها رقم 989 في 14/12/1954 والذي بيَّنت فيه بان موضوع تأسيس محكمة جنائية دولية متعلق ومرتبط بمشكلة تعريف العدوان من ناحية، وبمشكلة الاتفاق على مشروع قانون الجرائم ضد السلام والأمن في العالم من الناحية الأخرى، وعليه، اقترحت الجمعية العامة تأجيل البتّ في موضوع تأسيس محكمة جنائية دولية إلى أن يتم الاتفاق على تعريف العدوان ومشروع قانون الجرائم ضد السلام والأمن في العالم.
وعلى الرغم من أنَ تعريف العدوان قد تمَّ إنجازه أمام الجمعية العامة من خلال قرارها رقم 3314 في 14/12/1974 إلا أن موضوع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية قد بقى معلقا ولم يتم النظر فيه.
في حين يلاحظ بأن مشروع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية قد أثير من جديد وذلك عندما ناقشت لجنة القانون الدولي مشروع قانون الجرائم المخلة بسلم الإنسانية منذ أعوام 1986-1989.
ولكن يلاحظ بأن مشروع إنشاء محكمة جنائية دولية قد أثير بشكل أعمق عندما اقترح وفد دولة ترينداد وتوباغو في عام 1989 على الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء محكمة جنائية دولية بهدف مكافحة ما اعتبره الوفد إحدى الجرائم الدولية المقررة حديثا وهي تجارة المخدرات ويعد هذا الاقتراح الذي لم يكن جديدا بالنسبة للأمم المتحدة بمثابة استجابة لأعمال اللجنتين الخاصتين اللتين انشاتهما الجمعية العامة لوضع مشروع نظام أساسي لمحاكم جنائية دولية في عامي 1953و 1951.
واستجابة لهذا الاقتراح وجهت الجمعية العامة في قرارها عام 1989 طلبا إلى لجنة القانون الدولي لدراسة موضوع أنشاء محكمة جنائية دولية للنظر في جرائم الاتجار غير المشروع بالمخدرات عبر الدول وفي الجرائم الدولية الأخرى التي تتقرر مستقبلا في قانون الجرائم الدولية .
وبناءا على ذلك واستجابة لقرار الجمعية العامة استغلت لجنة القانون الدولي تفويض الجمعية العامة لها في موضوع إنشاء محكمة جنائية دولية ابتداءً من دورتها الثانية والأربعين عام 1990 وحتى دورتها السادسة والأربعين عام 1994، وتوصلت اللجنة إلى مشروع النظام الأساسي للمحكمة وقدمته إلى الجمعية العامة.
وبعد انتهاء هذه اللجنة المتخصصة من أعمالها وعقب عرض تقرير هذه اللجنة عن أعمالها على الجمعية العامة، أصدرت الأخيرة قرارها رقم 50/46 بتاريخ 11/12/1995 الذي يقضي بتشكيل لجنة تحضيرية لإنشاء محكمة جنائية دولية تكون مفتوحة العضوية أمام جميع الدول الأعضاء في الأمم ألمتحدة، ومهمتها إعداد مشروع نص يستحوذ على أوسع إجماع ممكن من اجل عرضه على المؤتمر الدبلوماسي للأمم المتحدة، وقد نص القرار على أن تجتمع اللجنة التحضيرية في فترتين من 25 آذار إلى 12/نيسان /1996 والثانية من12-30 /1996 لإعداد النص الموحد.
ثم أصدرت الجمعية العامة بتاريخ 17/12/1996 قرارا نصت فيه على أن تجتمع اللجنة التحضيرية في عامي 1997/1998، وبموجب هذا القرار اجتمعت اللجنة التحضيرية للفترة من 11-21/شباط/1997 وكذلك للفترة من 4-15/أب/1997 وأيضا في الفترة من 1-12/كانون الأول /1997 وذلك كله من اجل إتمام صياغة نص موحد ومقبول على نطاق واسع للاتفاقية لتقديمه إلى مؤتمر دبلوماسي للمفوضين.
وخلال هذه الفترة أصدرت الجمعية العامة بتاريخ 15/كانون الأول /يناير 1997 قرارا تحت عنوان (إنشاء محكمة جنائية دولية ) لتقرر فيه قبولها بالعرض الذي تقدمت به حكومة ايطاليا من اجل استضافة مؤتمر الأمم ألمتحدة الدبلوماسي المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية والذي تقرر عقده للفترة من 15/حزيران إلى 17/تموز /يوليو 1998، وطلبت - أي الجمعية العامة – أيضا في هذا القرار من اللجنة التحضيرية المعنية بإنشاء محكمة جنائية دولية مواصلة إعمالها استنادا إلى قرار الجمعية العامة رقم 51/207 عام 1996 وان تحيل إلى المؤتمر نص مشروع اتفاقية بشان إنشاء محكمة جنائية دولية. ثم اجتمعت اللجنة التحضيرية في الفترة من 16/آذار إلى 3/نيسان / ابريل 1998 لتنهي بذلك مشروع الاتفاقية.
3 - مؤتمر الأمم ألمتحدة الدبلوماسي للمفوضين في روما
عقد مؤتمر الأمم ألمتحدة الدبلوماسي للمفوضين المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية في روما (ايطاليا ) في الفترة الواقعة من 15/حزيران/يونيو إلى 17/تموز/يوليو 1998 في مقر منظمة الأغذية والزراعة الدولية، وبموجب الوثيقة الختامية للمؤتمر فقد شاركت فيه (160) دوله، وحضر المؤتمر(16) من المنظمات والكيانات الدولية التي مثلت في المؤتمر بصفه مراقبين من بينها (الإتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر وجامعة الدول العربية )، وكذلك (5) وكالات متخصصة بالإضافة إلى هيئات وبرامج تابعة للأمم المتحدة عددها (9)هيئات من بينها المفوضية السامية لحقوق الإنسان والمحكمتان الدوليتان ليوغسلافيا السابقة ورواندا، وكذلك حضر المؤتمر (122) منظمة غير حكومية مثلت بصفة مراقبين.
وبموجب النظام الداخلي للمؤتمر فقد تمَّ تشكيل عده لجان ومن هذه اللجان هي اللجنة الجامعة والتي تتكون من رئيس وثلاثة نواب للرئيس ومقرر، وقد تولى رئاستها (فيليب كيرش) من كندا، وقد عهد المؤتمر لهذه اللجنة النظر في مشروع الاتفاقية المتعلقة بإنشاء محكمة جنائية دولية، ومن اللجان أيضاً هي لجنة الصياغة والتي تتكون من (21)عضوا ورئيس وهو السيد (محمود شريف بسيوني)من مصر، وقد أوكل إليها تنسيق ومراجعة وصياغة جميع النصوص المحالة إليها من دون تغيير مضمونها وإعداد المشاريع وتقديم المشورة بشان الصياغة إذا طلب إليها المؤتمر أو اللجنة الجامعة ذلك، وذلك كله من دون أن تعيد فتح باب المناقشة الموضوعية بشان أي مسالة.
وبعد مفاوضات عسيرة شهدها مؤتمر الأمم ألمتحدة وما جرت فيه من نقاشات حامية وظهور الكثير من التباين في الآراء والمواقف خصوصا فيما يتعلق باستقلالية عمل المحكمة ودور مجلس الأمن في إحالة القضايا إلى المحكمة بحيث كادت أن تؤدي هذه النقاشات إلى تهديد المؤتمر بالفشل، ولكن اعتماد صيغة الصفقة الواحدة (أي إما بقبول النظام الأساسي للمحكمة مع التعديلات التي اتفق عليها أو رفضه كليا )، فكان من نتيجة ذلك أن تم التصويت على النظام الأساسي الذي اعتمد بموافقة (120) دولة صوتت لصالحه، وامتنعت عن التصويت عليه (21) دولة.
واعترضت على النظام الأساسي (7) دول وهي (الولايات المتحدة، إسرائيل، الصين، الهند، العراق، ليبيا، قطر ).
وهكذا في 17/تموز/ يوليو 1998 وبعد اكثر من خمسين عاما اختلط فيها الأمل بالقنوط، وبعد خمسة أسابيع من المداولات بين الممثلين اعتمد مؤتمر الأمم ألمتحدة المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية النظام الأساسي للمحكمة في روما.
رابعا : المحكمة الجنائية الدولية
يشكل الأول من حزيران/يونيو من العام 2002 نقطة تحوّل في تاريخ الإنسانية، كونه بمثابة انتصار لإرادة المجتمع الدولي، ففي ذلك اليوم، دخل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حيّز التنفيذ بعد أن أصبح العدد الضروري من الدول المصادقة عليه متوافراً، تطبيقاً لنفس المادة (126) من النظام الأساسي، الذي يشترط وجوب مصادقة ستين دولة.والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هو خلاصة لجهد تاريخي.
وقبل التطرق لهذه المحكمة وعلاقتها بالأنظمة القضائية الوطنية من المفيد بحث العلاقة بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية من جهة والمبادئ والمفاهيم المقررة بموجب أحكام القانون الدولي الإنساني من جهة أخرى والتي تظهر العديد من الأطر أهمها :
- إن الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وخصوصاً جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية، هي نفس الجرائم التي تحرمها اتفاقيات جنيف الأربعة.
- إن المصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تفترض بأن تقوم الدول التي صادقت عليه بمراجعة تشريعاتها وقوانينها الوطنية لكي تتلاءم وتتواءم مع النظام الأساسي لهذه المحكمة وحيث إن المحكمة الجنائية الدولية أصبحت مؤسسة دولية دائمة. كونها أنشئت بموجب معاهدة لغرض التحقيق ومحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون أشد الجرائم خطورة، وهي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، الأمر الذي يقتضي البحث في إشكالية العلاقة ما بين نظام هذه المحكمة والأنظمة القضائية الوطنية. مع التنويه بأن العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والأنظمة القضائية الدولية، تعرضت لتداعيات وإشكاليات عديدة خصوصاً في الفترة الأخيرة ومن أهمها: أحداث أيلول/سبتمبر 2001، احتلال العراق، السيادة الوطنية لكل دولة على حدة، تقديم الأشخاص للمحكمة الجنائية الدولية ومبدأ خطر تسليم المواطنين، سلطات المدعي العام فيما يتعلق بإجراء التحقيقات في إقليم الدولة الطرف، عدم سقوط الجرائم بالتقادم، عدم جواز المحاكمة عن الجريمة ذاتها مرتين، حق العفو، والعقوبات. وفي هذا الإطار هناك ثمة إشكاليات تستحق التوقف منها:
1- هل يشكل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مساساً بالسيادة الوطنية ؟
أثار البعض بأن المادة (4) من النظام الأساسي الخاصة بممارسة المحكمة الجنائية الدولية لوظائفها وسلطاتها يمثل انتهاكاً للسيادة الوطنية للدولة بالسماح لجهة أجنبية بممارسة اختصاص أصيل مرهون بسلطاتها القضائية. وبهذا الخصوص نشير بداية لما ورد في الفقرة العاشرة من ديباجة النظام الأساسي والتي تؤكد على أن المحكمة الجنائية الدولية ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية وهي ذات العبارة التي تورد صراحة في المادة الأولى من هذا النظام.
كما نصت المادة (17) من النظام الأساسي على أن المحكمة الجنائية الدولية لا تحل محل الاختصاصات القضائية الوطنية، وإنما تتدخل حصراً حينما لا تتوافر لدى الدول الرغبة في الاضطلاع بالتحقيق وبالمقاضاة أو القدرة على ذلك.
وعليه فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يشجع الدول على ممارسة سلطاتها القضائية على الجرائم الداخلة ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، ولا يجوز للمحكمة ممارسة سلطاتها القضائية إلا إعمالاً للأحكام الواردة في المادة (17.(
وفي الواقع إن الاتفاقية المنشأة بمعاهدة دولية يتجدد فيها المبدأ الأساسي في قانون المعاهدات "مبدأ الرضى" فالدول في هذه الحالة لا تتعامل مع محكمة أجنبية أو ولاية قضاء أجنبي، وإنما تتعامل مع جهاز قضائي دولي شاركت في إنشائه كدولة طرف وتساهم في الإجراءات الخاصة بتسييره باعتباره أحد أعضاء جمعية الدول الأطراف كتعيين القضاة مثلاً. ومن هنا فلا يمكن القول أن الدولة تتنازل عن الاختصاص لولاية قضاء أجنبي، وإنما تعتبر المحكمة الجنائية الدولية امتداداً لولاية القضاء الوطني إذ أن الأصل أن كل دولة ملزمة بمحاكمة مرتكبي الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام ومن ثم لا ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية إذا قامت الدولة بواجبها في الاضطلاع أو المحاكمة، أما إذا لم ترغب الدولة أو كانت غير قادرة على الاضطلاع بواجبها فإنها تحيل بذلك اختصاصها إلى المحكمة الجنائية الدولية. ونخلص من ذلك إلى أن المحكمة الجنائية الدولية لا تشمل سيادة أجنبية مستقلة عن إرادة الدول بل إن لدول الأطراف ذاتها هي التي أنشأت تلك المحكمة بإرادتها بموجب اتفاقية دولية ورد النص فيها صراحة على أن المحكمة الجنائية الدولية "... ذات اختصاص تكميلي وليس سيادة على القضاء الوطني"
2 - في إطار العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والأنظمة القضائية الوطنية تثار إشكالية خطر تسليم رعايا الدولة إلى قضاء أجنبي وهو المبدأ الوارد في دساتير العديد من دول العالم، ومدى تعارض هذا المبدأ مع الالتزام بتقديم رعايا لدولة إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا انعقد لها الاختصاص في إجراء المحاكمة.
وهنا ينبغي أن نمِّيز ما بين ".. الإحالة إلى المحكمة.." والذي هو تقديم الدولة لشخص ما إلى المحكمة و".. التسليم.." الذي هو تسليم الدولة لشخص ما إلى دولة أخرى، هذه التفرقة الواردة صراحة في نص المادة (102) من النظام الأساسي يدفعنا إلى القول بأن التسليم إلى دولة أخرى ذات سيادة يختلف تماماً عن الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية كهيئة دولية أنشئت بموجب القانون الدولي وبمشاركة الدول المعنية وموافقتها.
وهذه التفرقة تطرح تساؤلاً آخر مفاده هل المحكمة الجنائية الدولية تعد محكمة أجنبية؟ وبهذا الصدد نقول إنها ليست محكمة أجنبية إنما هي امتداد لولاية القضاء الوطني.
3 - سلطات المدعي العام فيما يتعلق بإجراء التحقيقات في إقليم دولة طرف
لما كانت الفقرة الرابعة من المادة (99) من النظام الأساسي تجيز للمدعي العام أن يباشر بعض أعمال التحقيق دون حضور سلطات الدولة الموجه إليها الطلب وداخل إقليم هذه الدولة، وأن بوسعه على وجه الخصوص جمع إفادات الشهود وإجراء المعاينة. فواقعا إن قيام المدعي العام بمثل هذه الصلاحيات لا يشكل مساساً بالسيادة الوطنية للدول، وسندنا في ذلك نص المادتين 54، 57/3 وأحكام الباب التاسع من النظام الأساسي المتعلق بالتعاون الدولي والمساعدة القضائية التي نصت على بعض الأحكام الإجرائية التي تكفل احترام السيادة الوطنية عند ممارسة المدعي العام لاختصاصاته، وما حكم الفقرة الرابعة من المادة (99) إلا استثناء من هذه القاعدة، والمشروط أولاً بأن تكون الدولة الطرف الموجه إليها الطلب هي دولة ادعت ارتكاب جريمة في إقليمها، وكان هناك قرار بشأن القبول بموجب المادة (18) أو المادة (19) وثانياً، فإن المدعي العام ملزم بإجراء كافة المشاورات الممكنة مع الدولة الطرف الموجه إليها الطلب قبل مباشرة إجراءاته.
4 - عدم سقوط الجرائم بالتقادم
لما كانت المادة (29) تقضي بعدم سقوط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم في حين تعالج الأنظمة القضائية الوطنية مسألة التقادم.وللرد على ذلك نقول إن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب بمقتضى العرف الدولي لا تسقط بمقتضى المدة فضلاً عن أن اتفاقية 1968 صاغت هذه القاعدة العرفية في اتفاقية دولية تحظر انطباق التقادم على مثل هذه الجرائم، ومن ثم فإن الدول بالتصديق على نظام روما الأساسي تقبل بحكم هذه المادة التي تقرر حكماً خاصاً لنوع معين من الجرائم هي الجرائم الأشد خطورة على الصعيد الدولي، ومن ثم فإنه ليس هناك ثمة تعارض بين السيادة الوطنية وعدم سقوط الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالتقادم.
5 - عدم جواز المحاكمة عن الجريمة مرتين
أثيرت إشكالية خاصة بالمادة (20) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مع القواعد الواردة في الأنظمة القضائية الوطنية التي تنص على عدم جواز محاكمة الشخص عن الجرم مرتين.
نجد أن الفقرة الثالثة من المادة (20) أجابت عن ذلك بأن حدوث الحالات التي يجوز فيها محاكمة الشخص الذي سبق له أن حوكم أمام القضاء الوطني في الحالات التالية:
ـ إذا كانت الإجراءات في المحكمة الأخرى قد اتخذت لغرض حماية الشخص المعني من المسئولية الجنائية من جرائم تدخل في اختصاص المحكمة.
ـ إذا لم تجر الإجراءات بصورة تتسم بالاستقلال أو للنزاهة وفقاً لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون الدولي، أو جرت في هذه الظروف على نحو لا يتفق مع النية لتقديم الشخص المعني للعدالة.
6 - حق العفو
نشير في هذا المجال إلى أن حق العفو المعقود في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والواردة في المادة (110) هو العفو عن العقوبة وليس العفو الشامل عن الجريمة الذي لا يتقرر في معظم الدول إلا بالقانون.وهو حق إقليمي للدولة ولا يتعارض ذلك مع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بشرط ألا يكون الهدف من إصدار دولة ما لقوانين العفو، مساعدة بعض مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من الإفلات من العقوبات.
7 - العقوبات
حيث أن النظام الأساسي لا ينص على عقوبة الإعدام بل المؤبد، فقد حسمت هذه الإشكالية في ضوء المادة (80) من النظام الأساسي التي تمنح الدول حق توقيع العقوبات المنصوص عليها في قوانينها الوطنية إذا ما تمت محاكمة الشخص أمام المحاكم الوطنية، وبالتالي فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لا يحول دون تطبيق أحكام الإعدام على الجرائم الداخلة في اختصاصه ما دامت الدولة الطرف هي التي تضطلع بالمحاكمة على الصعيد الوطني.
وبعد أن استعرضتا الإشكاليات التي تفرضها العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والأنظمة القضائية الوطنية نخلص كما يلي:
ـ المحكمة الجنائية الدولية هي امتداد للاختصاص الجنائي الوطني وعند التصديق على النظام الأساسي من قبل السلطة البرلمانية الوطنية تصبح جزءاً من القانون الوطني.
ـ المحكمة الجنائية الدولية لا تتعدى على السيادة الوطنية أو تتخطى نظم القضاء الوطني طالما كان الأخير قادراً وراغباً في مباشرة التزاماته القانونية الدولية.
ـ يمتد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل الدول الأعضاء ويتم ممارسة اختصاص المحكمة بالتكامل مع اختصاص نظم القضاء الوطني للدول الأعضاء.
ـ الاختصاص الجنائي الوطني دائماً تكون له الأولوية على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لكنها تستطيع (المحكمة) ممارسة اختصاصها في حالتين هما:الأولى عند انهيار النظام القضائي الوطني. والثانية عند رفض أو فشل النظام القضائي الوطني في القيام بالتزاماته القانونية بالتحقيق ومحاكمة الأشخاص المشتبه بارتكابهم الجرائم الثلاث الموجودة حالياً في اختصاص المحكمة الجنائية.
ـ كما تظهر قواعد أسبقية نظم القضاء الوطني على التكامل الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، من حيث قيام النظم القضائية الوطنية بمباشرة طلبات التعاون المشتملة على القبض وتسليم المشتبه بهم.
ـ من حيث القانون الواجب التطبيق يجوز للمحكمة بالإضافة للمصادر القانونية الأخرى أن تطبق قواعد القانون العامة المستمدة من القوانين الوطنية للأنظمة القانونية بشرط عدم تعارضها مع قانون المحكمة الجنائية الدولية وهذا يعزز مبدأ التكامل.
ـ وحيث أن المحكمة الجنائية الدولية كمحكمة مكملة للاختصاص الجنائي الوطني، فإن تسليم الدول الأطراف شخصياً إلى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية إنقاذا للمعاهدة:
أـ لا يقلل من سيادتها الوطنية.
ب ـ لا ينتهك السيادة الوطنية لدولة أخرى مثل دولة جنسية الجاني أو المجني عليه.
ج ـ لا ينتهك حقوق الشخص الذي تنقل محاكمته الى الاختصاص الجنائي المختص.
واستنادا إلى ما سبق نجد أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وفي إطار علاقته بالأنظمة القضائية الوطنية يحكمه مبدأ التكاملية والتعاون ولا يترتب عليه المسّ بالسيادة الوطنية للدول الأطراف، إلا أن كل ذلك لا ينفي بأن هناك محاولات التفاف على هذه المحكمة وخصوصاً بعد أحداث 11 ايلول التي تركت آثارها على العديد من القضايا الخاصة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وكذلك مبادئ القانون الدولي الإنساني والقضاء الجنائي الدولي الذي تمثل في هذه المحكمة عنوانه في هذه المرحلة من حياة البشرية، ومن ضمن تلك المحاولات قيام الولايات المتحدة بإبرام عدد من الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأطراف بهدف إفراغ المعاهدة من مضمونها، واحتجاج الدول الكبرى باتفاقيات جنيف واللجوء إلى القضاء الجنائي الدولي مع أن بعضها هي التي تنتهك تلك الاتفاقيات ولعل ما جرى في العراق وفلسطين خير دليل على ذلك.
خامسا :ملاحظات على نظام المحكمة المختلطة الخاصة بلبنان
نتيجة للدروس التي تمَّ استخلاصها من تجربة المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا الايجابية منها والسلبية، برز إلى الوجود نموذج جديد للعدالة الدولية: المحاكم المختلطة والتي تعمل تحت إشراف مشترك من الأمم المتحدة والدول المعنية. وتشكل هذه الطريقة محاولة للمزج بين فوائد المتابعات الوطنية مثل القرب الجغرافي والنفسي إلى الضحايا، والأثر الايجابي على مؤسسات الدولة المحلية مع فوائد المشاركة الدولية كالموارد والموظفين والأمن. وقد أقيمت المحاكم المختلطة في سيراليون المحكمة الخاصة، المقامة بالبلد والتي شرعت مؤخراً في أعمالها، وتتكون من قضاة محليين وقضاة دوليين يطبقون كلاً من القانون الوطني والقانون الدولي. وهناك نوع آخر من النموذج المختلط في تيمور الشرقية. كما أن إمكانية إقامة المحاكم المختلطة أكبر من المحاكم الدولية الصرف، فعلى سبيل المثال تبلغ تكلفة ميزانية المحكمة الخاصة لسيراليون تقريبا خُمس الميزانية السنوية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا. وتمتاز كذلك المحاكم المختلطة بكونها تقام على أراضي الدولة المعنية إن لم يكن هناك سبب يمنع ذلك، كما أن موظفيها ينتمون بشكل عام إلى الدولة عينها وتجد مساندة مباشرة من لدن الأنظمة القانونية الوطنية. ومن المحتمل أن يصبح النموذج المختلط أكثر انتشارا خلال السنوات القليلة المقبلة، باعتبارها توفر حلا للأنظمة الوطنية الواسعة الامتداد والقليلة التجهيزات.
وفي الوقت نفسه، قد تواجه هذه المحاكم المختلطة انعدام التعاون من طرف الدولة التي تقام عليها أو من طرف دول أخرى، إلا أن العلاقة مع مجلس الأمن وسلطات "الباب السابع" من ميثاق الأمم المتحدة يمكن أن تسدَّ بعض الثغرات. كما أن الرغبة في اكتساب الاستقلال المحلي إلى أقصى حد أدّى إلى نتائج عكسية لصعوبة العثور في بلد عدالته مشكوك فيها على موظفين ذوي خبرة ومدربين بشكل مناسب. وأخيرا، وكما هو الشأن بالنسبة إلى المحاكم الدولية، قد تثير المحاكم المختلطة آمالا وطنية تتجاوز ما هو ممكن عمليا بالنظر إلى الموارد المحدودة والقيود الداخلية التي ترجع إلى عملية العدالة القضائية.
فالمحاكم المختلطة هي بطبيعتها مواءمة القوانين الدولية والوطنية بهدف الوصول إلى الحقيقة والعدالة في أمر ما، وهي تنشأ باتفاقات خاصة بين الدولة المعنية والأمم المتحدة، تحدد فيها كل الأمور المتعلقة بالمحكمة لجهة التشكيل والقوانين التي تلجأ إليها إضافة إلى قواعد الأجراء والتنفيذ.
أما لجهة السوابق فثمة العديد منها، كان آخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة إلى الخمير الحمر إبان الحرب الأهلية الكمبودية بين الأعوام 1975 و1979، وقد صدر قرار عن الأمم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من إجراءات، ونص الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من قاضيين دوليين، وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبر غرفة من غرف محكمة التمييز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر المحاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية. كما آن تعيين القضاة الأجانب يتم من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الأمين العام للأمم المتحدة، واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالإجماع في المستويين، وإذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية. إضافة إلى أن الإجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع إجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.

والسابقة الأخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الأمن 1315 تاريخ 14/7/2000، وقد أنشئت في العام 2002 وهي مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للنظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996، مع ملاحظة بعض التعديلات أيضا على القوانين الوطنية بما يتوافق والمعايير الدولية لإجراءات المحاكمة والأحكام.

أما السابقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة، بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة منذ العام 1975، وعمدت الأمم المتحدة إلى إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

وإذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في الحالة اللبنانية كمحكمة مختلطة تنعقد على الأراضي اللبنانية، فتستلزم العديد من الإجراءات، أولها إبرام اتفاق بهذا الشأن بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة والذي لا يصبح نافذا إلا بإبرام مجلس النواب له وفقا لنص المادة 52 من الدستور اللبناني . كما يتوجب على المجلس النيابي إصدار قانون خاص مراعاة للمادة 20 من الدستور التي تنص على "السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة". وكذلك منع قوانين العفو ووقف العمل بالحصانات القضائية، وكذلك تحديد مدة التوقيف الاحتياطي في جرائم القتل والجرائم ضد أمن الدولة والجرائم المسماة خطرة. كما تتطلب مثل هذه المحاكم تعديلات لبعض القوانين لتتلاءم مع المعايير الدولية كإلغاء عقوبة الإعدام.

وإذا كان هناك من سبب يمكن أن تواجه انعقاد المحكمة المختلطة على الأراضي اللبنانية لدواع مختلفة كما هو مشار في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن، فمن الممكن انعقادها خارج لبنان وهو أمر بدوره يستلزم بعض الإجراءات، منها وجوب توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة توضع بموجبه أصول المحاكمة وقواعدها وتحدد فيه صلاحية المحكمة المادية والشخصية والزمنية . على أن ينص الاتفاق على تطبيق الأصول والإجراءات الجزائية اللبنانية مع بعض التعديلات التي تقتضيها المحاكمات المتوافقة مع المعايير الدولية والتي تتطلبها المحاكمة العادلة، والمراجعة أمام هيئة قضائية عليا. وكذلك توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة على أن تمنح المحكمة المختلطة حق إلقاء القبض على الأشخاص المتهمين مهما كانت جنسياتهم وعلى أن تتولى الأمم المتحدة مهمة التفاوض مع الدول التي يتبين أن أحد رعاياها ضالع في عملية الاغتيال أو التفجيرات وذلك بهدف تسليمه إلى المحكمة المذكورة. إضافة إلى قضايا التعويضات الناجمة عن الأذى الذي لحق بالمتضررين من جريمة الاغتيال.

إن المحكمة اللبنانية الدولية ستكون موضع متابعة ومراقبة شديدتين نظرا للقضية التي تنظر فيها وما لها من ارتدادات داخلية وخارجية، كما تعتبر تحدّيا كبيرا للكثير من المواقع الدولية التي تدخلت بهذه القضية بشكل أو بآخر تحت ذرائع ومبررات متنوعة ومتعددة، ولذلك فسوف تأخذ قسطا كبيرا من المتابعات بهدف الوصول إلى مبتغاها، إضافة إلى أن القرار المتخذ بشأنها واضح لجهة دعم القضاء اللبناني لجهة النقلة النوعية التي ستساعده في أخذ موقعه المفترض في هذه القضية وغيرها.
إن التدخلات السياسية في مثل تلك المحاكم تعتبر من الأمور المعتادة، فمجلس الأمن مثلا كان أجاز لنفسه حق التدخل في المحكمة الجزائية الدولية من خلال الطلب إلى القضاة بتعليق ملاحقة الشخص المتهم لمدة عامين.
وإذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في تقييم ما ورد في النظام الأساسي للمحكمة المقترحة،فما هي المقاربات والملاحظات التي يمكن استخلاصها في سياق التعليق على نصوصها.
- في التسمية تمّ اللجوء إلى تغيير اسم المحكمة من المختلطة إلى المحكمة الخاصة بلبنان،ما يوحي وكأن لبنان بأكمله بيئة مناسبة لإقتراف الجرائم الإرهابية،ونزع صفة الخصوصية عن المحكمة المختلطة التي هدفت إلى محاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري.
- لجهة الاحتذاء بالسوابق فثمة اتجاه للأخذ بما توصلت إليه الأمم المتحدة من إنشاء محكمة مختلطة لتيمور الشرقية التي غلب عليها الطابع الدولي أكثر من المختلط،بمعنى أن نظام المحكمة لتيمور أسس بيئة مناسبة لتغيير وتعديل القوانين المحلية بما يتناسب مع ظروف التدخل الدولي آنذاك لإنشاء نظم قانونية جديدة.واخطر ما في ذلك من إمكانية تطبيق هذا الخيار على الواقع اللبناني بما يحمله من إمكانية تعديل الكثير من القوانين اللبنانية وهذا ما أتى في بعض المواد التي سنشير إليها لاحقا.
- لم يؤخذ بالنموذج الكمبودي على سبيل المثال،ففي تلك المحكمة يلاحظ الغلبة للبيئة القانونية المحلية حيث عدد القضاة في كلا الدرجتين هم أكثر من القضاة الدوليين،وكذلك تعيين القضاة الدوليين يتم من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة وكذلك تعيين المدعي العام الرديف،بينما في نظام المحكمة الخاصة في لبنان فالأمر معكوس تماما.
- ليس ثمة أية سابقة أن أنشأت محكمة خاصة دولية أو ذات طابع دولي بهدف محاكمة مرتكبي جريمة سياسية ويبدو من توصيف الجريمة في الأساس على أنها عمل إرهابي هدفه إتاحة الفرصة لمجلس الأمن التدخل لأهداف سياسية متعلقة ببعض دول المنطقة.
- وخلافا لمحاكم أخرى لن تنظر المحكمة في جرائم تعتبر عادة جرائم ضد القانون الدولي كجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. وفي ما يتعلّق بجريمة الإرهاب التي تتكرر بشكل واضح في قرارات مجلس الأمن فليس هناك تعريف متفق عليه في القانون الدولي لهذه الجريمة أو عقاب معيّن لها. وليس هناك سابقة لمحكمة دولية أن نظرت في جريمة وصفت بأنها عمل إرهابي. لذلك لا مناص من تطبيق القانون اللبناني على جريمة هي في الأساس من اختصاص القضاء اللبناني. وهذا ما نصّت عليه المادة الثانية من مسودة النظام الأساسي للمحكمة المقترح.
- لقد تمَّ التنازل عن كل ما حفظه مجلس الأمن في قراره الرقم 1595، الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية، للسلطات اللبنانية من سيادة بالنسبة إلى إدارة التحقيق وتطبيق القانون في شأن الأعمال الجرمية التي رافقت اغتيال الرئيس الحريري وآخرين، إذ نصَّت المادة (4) من مسودة النظام الأساسي للمحكمة «عند تعيين المدعي العام وفي فترة لا تتعدّى الشهرين، ستطلب المحكمة الخاصة من السلطات القضائية الوطنية المسؤولة عن قضية الهجوم الإرهابي على رئيس الوزراء رفيق الحريري وآخرين، الخضوع لاختصاصها»، وكذلك سوف تحيل السلطات اللبنانية بناء على طلب المحكمة الخاصة الموقوفين ونتائج كل التحقيقات ونسخ عن سجل المحكمة. وبناء على طلب المحكمة أيضاً، «ستخضع السلطة الوطنية المعنية لاختصاص المحكمة».
- إن كفّ يد القضاء اللبناني بصورة فورية وقبل انتهاء التحقيق يعتبر مخالفاً لقرار مجلس الأمن الرقم 1644 الذي أقرّ في البند (6) منه طلب الحكومة اللبنانية بأن «يحاكم من توجّه لهم في آخر المطاف تهمة الضلوع في هذا العمل الإرهابي أمام محكمة ذات طابع دولي....»، فهل بلغ التحقيق آخر المطاف؟ وهل يجوز اختصار التحقيق أو النيل من وحدته من طريق إحالته على مدّعي عام المحكمة الخاصة قبل تمامه؟.
- ثمة ثغرات كبيرة لجهة القانون الواجب التطبيق من الناحية الإجرائية والتي تثير الشبهة وعلامات الاستفهام. فبالنسبة إلى إجراءات المحاكمة وقواعد الإثبات إذ أن نظام المحكمة لم تلحظ قواعد معينة لأصول المحاكمات وقبول الأدلة. إذ ترك لقضاة المحكمة الخاصة وفقا للمادة (28) وضع نظام إجراءات بعد تأليفها وهو أمر يمثّل سابقة خطيرة في القضاء الجزائي.
- في المادتين (13) و(16) منه، أخذ مشروع النظام بصورة عامة المعايير الدولية للمحاكمات الجنائية الدولية وبخاصة لجهة حقوق المشتبه فيهم والمتهمين، بيد انه اغفل الإشارة إلى حق الموقوف في طلب تخلية سبيله من المدعي العام لدى المحكمة الخاصة ضمن مهلة زمنية معقولة إذا لم تتوافر لدى المدعي العام أدلّة في حقه تجيز استمرار التوقيف. وهذه فجوة مهمة جدّاً بالنسبة إلى مصير الضباط الموقوفين.
- إن أخطر ما في نظام المحكمة الخاصة توسيع صلاحيات المحكمة بحيث تمتد، بالإضافة إلى جريمة اغتيال الرئيس الحريري، إلى أعمال أخرى مماثلة في طبيعتها وخطورتها «حصلت في لبنان بين الأول من تشرين الأول 2004 و31 كانون الأول 2005 أو أي تاريخ لاحق يقرر باتفاق الأطراف المعنية وموافقة مجلس الأمن». إن توسيع صلاحية المحكمة هذا، بالإضافة إلى أنه يتعدّى منطوق قرار مجلس الأمن الرقم 1664 الذي هو المستند الأساسي في إنشاء المحكمة الدولية، والذي يحصر ولاية المحكمة «بالتفجير الإرهابي الذي أدّى إلى مقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري وآخرين» على أن تُنشأ «محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة جميع من تثبت مسؤوليتهم عن هذه الجريمة الإرهابية».
- إن توسيع صلاحية المحكمة في الزمان وبالنسبة إلى أفعال جرمية يترك لاستنساب المحكمة تبنّي معايير التشابه في الطبيعة والخطورة مع الأعمال الجرمية التي أودت بحياة الرئيس الحريري، يخالف مبادئ أساسية في القانون الجزائي وخاصة أن قرار مجلس الأمن الرقم 1664 اعتمد كون المحكمة ذات الطابع الدولي يجب أن تستند إلى «أعلى المعايير الدولية في القضاء الجنائي». إن قرار توسيع اختصاص المحكمة إلى أعمال جرمية قد ترتكب مستقبلاً ويترك للمحكمة القرار في شأن اختصاصها للنظر فيها يصعب تجريده من أهداف سياسية.
- ليس ثمة أية هيئة قضائية أو إدارية يمكن مراجعتها في حال مخاصمة أحد القضاة أو موظفي المحكمة لأسباب إدارية أو مالية.
- لم تحدد المادة (5) من مشروع الاتفاق، كيفية تمويل المحكمة.لكن تم سد هذه الثغرة فيما بعد عبر التمويل من الهبات وجزء آخر تقدمه الدولة اللبنانية وهو49% من التكاليف.
ثمة الكثير من النصوص الغامضة والملتبسة القابلة للتأويل وبالتالي إمكانية استثمارها السياسي باتجاهات تحرف عمل المحكمة عن الوصول إلى الحقيقة.وبخاصة التوسع في إمكانية شمل الجرائم وما يمكن ربطها بها.فماذا على سبيل المثال لو توصلت المحكمة إلى استنتاج مفاده أن أي عملية نفذت ضد إسرائيل هي عملا إرهابيا وبالتالي سيكون الموضوع من صلاحيتها للنظر به.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها ومن الصعب الإجابة عليها من دون النظر إلى الخلفيات السياسية التي تستهدفها القوى الدولية من إنشاء مثل هذه المحاكم.ثمة جرائم كثيرة وكبيرة افتعلت ونفذت عبر التاريخ لتمرير أشياء أخرى ليس لها علاقة بالمحاكمات التي جرت لها لاحقا،والثابت في التاريخ أن كل الجرائم الكبيرة التي تنفذ ليس لكشفها لاحقا بقدر ما تكون تغطية لتمرير مؤامرات بحجم الجريمة المرتكبة!.

سادسا: ملاحظات على انتقائية الشرعية الدولية
بصرف النظر عن الصورة الوردية التي تظهرها بعض السلوكيات الدولية المتعلقة بمحاولة ايجاد بيئة قانونية للعدالة الدولية، ثمة واقع مغاير ومخالف لما هو سائد منطلقه ازدواجية التعامل الدولي وانتقائيته،ما يرسم صورة قاتمة لمستقبل ومصير العدالة الدولية،وفي هذا المجال يمكن رصد العديد من الملاحظات أبرزها:
- لقد صورت المحاولات الدولية لإيجاد البيئة القانونية لتنفيذ العدالة الدولية على أنها جادة ومقبولة من أطراف المجتمع الدولي،الا ان الامر يبدو مجافيا للواقع،فثمة أسئلة كثيرة تثار في هذا المحال ومنها هل ان من مصلحة الدول الكبرى المتنفذة على الصعيد الدولي إنشاء آليات قانونية للمحاسبة في الوقت التي هي نفسها ترتكب الجرائم والمحرمات؟وهل يمكن الجمع بين وظيفة القاضي والجلاد في آن معا؟وفي نهاية الأمر ومهما كانت خلفية البيئة القانونية للعدالة الدولية هل يمكن فصلها عمليا عن التوازنات الدولية ومصالح الفاعلين فيها؟.
- لم يكن هناك تعاطيا جديا مع انشاء المحكمة الجنائية الدولية وبخاصة من الولايات المتحدة،إذ سرعان ما تراجعت عن التوقيع خوفا من محاكمة جنودها ومسؤوليها أمام هذه المحكمة كما فعلت إسرائيل الأمر عينه وللأسباب ذاتها.
- ورغم أهمية الفكرة ووجوب التسريع في إنجازها فقد تأخرت خطوات التنفيذ طويلا ولا يزال هناك مزيدا من الوقت لكي تأخذ المحكمة موقعها القانوني المفترض،وان تكون ملجأ قانونيا نهائيا لجرائم الحرب وغيرها.

حقوق الإنسان في القوانين والشرائع الدولية والوطنية

حقوق الإنسان في القوانين والشرائع الدولية والوطنية
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية

نشرت في مجلة الحياة النيابية اللبنانية كانون الاول 2001


ثمة صعوبات كثيرة تعترض أي بحث عن تعريف جامع مانع لحقوق الإنسان، إذ أن مجمل المحاولات الجادة التي بذلت لهذا الغرض لم تتمكن سوى الاقتراب من العناصر الأساسية لمفهوم حقوق الإنسان.فعلى سبيل المثال يعرِّف رينيه كاسان ، هذه الحقوق بأنها "فرع خاص من فروع العلوم الاجتماعية يختص بدراسة العلاقات بين الناس، استنادا إلى كرامة الإنسان، وبتحديد الحقوق والرخص الضرورية لازدهار شخصية كل كائن إنساني". وبذلك فإن كاسان يضع عدة عناصر أساسية لمفهوم حقوق الإنسان هي:
- اعتبارحقوق الإنسان علم خاص قائم بذاته.
- أساس هذا العلم كرامة الإنسانية.
- موضوع هذا العلم هو الحقوق التي تحقق هذه الكرامة.
وإذا كانت ثمة صعوبة في تعريف مفهوم حقوق الإنسان، فثمة صعوبة أخرى في تصنيف هذه الحقوق نفسها ،إذ أن كثيرين يخلطون بين مفهوم حقوق الإنسان، ومفهوم الحريات العامة. ولذلك، فإن تصنيف حقوق الإنسان يُعد مسألة تقديرية وتستند إلى معطيات وأسباب متنوعة، ويختلف باختلاف العناصر التي يتم على أساسها هذا التصنيف، لكن هناك معيارين أكثر شيوعا لهذا التصنيف وهما:
1- معيار التطور التاريخي: ويعتمد هذا التصنيف لحقوق الإنسان على ظهورها التاريخي أو تطور مفهوم حقوق الإنسان نفسه، وتصنف حقوق الإنسان وفقا لهذا المعيار إلى ثلاث فئات:
- الحقوق المدنية والسياسية، وتحتوي هذه الفئة غلى الحق في الحياة والحرية واحترام الحياة الخاصة وحرية التعبير ... إلخ، وهذه الفئة من الحقوق تتطلب لاحترامها امتناعا من جانب الدولة،أي يحظر تدخل الدولة في دوائر معينة لحريات الفرد، إذا كان هذا التدخل يقلص مساحة هذه الدوائر.
- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية: وتشمل هذه الفئة من الحقوق: الحق في العمل والتعليم والصحة والتأمين الاجتماعي. وهذه الحقوق تتطلب تدخل الدولة لتوفيرها، وذلك على عكس الحقوق المدنية والسياسية.
- الحقوق الحديثة: وهي فئة الحقوق التي اقتضتها ضرورات وتطور الحياة المعاصرة ومشكلاتها المتنوعة نتيجة للتقدم العلمي في مختلف المجالات، مثل الحق في بيئة نظيفة، والحق في السلام.
2 المعيار النظري: ووفقا لهذا المعيار يتم التمييز بين فئتين لحقوق الإنسان هما: الحقوق الفردية، والحقوق الجماعية. الاولى تتجه إلى الفرد كوحدة قانونية متميزة بصرف النظر عن إنتمائه لجماعة معينة، والثانية يفترض لممارستها مجموعة من الأشخاص، كحرية الاجتماع وما يتعلق بها وحرية الصحافة وما يتفرع عنها. وتوجه إلى هذا المعيار عدة انتقادات منها، أن ثمة جانبا من الحقوق الفردية لا يمكن ممارستها بشكل فردي باعتبار تتطلب مساندة مجموعة من الأفراد الآخرين إضافة إلى أن ممارسة هذه الحقوق في مجتمع ما لا تعني بالضرورة حرمان الشخص من فرديته، إذ يبقى الحق فرديا، فالحق في تكوين جمعيات على سبيل المثال، من الحقوق الفردية رغم أن الجمعية لا يمكن أن تؤسس بواسطة شخص واحد وإنما تتطلب عدة أفراد.
أولا - في أبعاد حقوق الإنسان
تعتبر مفاهيم حقوق الإنسان من الأمور الملتبسة فهي غامضة وواضحة في آن معا، فهو واضح إذا اعتبرنا أن كل ما يمسُّ حقوقه يعتبر ضاراً به،ورغم هذا التبسيط المفرط إلا أن هناك العديد من الأسباب والاعتبارات التي تجعل الأمر معقدا وملتبسا ومنها:
- يعتبر الإنسان كائن معقد التركيب ومنطق التفكير، والتعقيد هو عكس التبسيط، إذ أن الإنسان يتمتع بعدة عناصر متواصلة في علاقاتها ومتشابكة. ما ينعكس بدوره على مفهوم حقوق الإنسان.
- ثمة تصور عام لمفهوم حقوق الإنسان الذي يحصرها في حق الانتخاب وحق التعبير عن الرأي وغيرها من المظاهر، أي في البعد السياسي الفردي لحقوق الإنسان، وهذا ليس كافيا إذ أنه مفهوم جزئي ولا يشمل كافة المظاهر.
- إن ما يمسُّ أنسانا ما، أو يُعد ضاراً به قد يُعد ذا فائدة لآخرين. فالاستعمار غلى سبيل المثال أفاد الدول الأوروبية وأضر بالشعوب في آسيا وأفريقيا. والمجازر العرقية التي ارتكبت في البوسنة كانت موضع ترحيب الصرب والكروات ولكنها إبادة للمسلمين ،وعمليات الاغتيال والابادة التي نقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين هي موضع دعم من قبل الأحزاب الإسرائيلية وموضع تغاضٍ من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لكنها في نفس الوقت تشكل مسّا في الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في النضال لمقاومة الاحتلال.
واستنادا إلى ما سبق ينبغي النظر إلى مفهوم حقوق الإنسان نظرة كلية شمولية عبر ثلاثة أبعاد رئيسة:
1 – البعد الجماعي لحقوق الإنسان:
يُعتبر أهم الأبعاد الثلاثة باعتباره نقطة الارتكاز والانطلاق،فالإنسان كائن اجتماعي في الأساس يعيش في مجتمع ويستمد منه الاعتراف بحقوقه ويستند له في حماية هذه الحقوق. وقد أوضحت المادة (29) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هذا المعنى بنصها على أن لكل فرد واجبات إزاء الجماعة، التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته النمو الحر الكامل. كما يبرز البعد الجماعي لحقوق الإنسان في ثلاثة مظاهر رئيسة هي:
أ - حق تقرير المصير: أوضحت الفقرة الثانية من المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة أن من مقاصد الهيئة إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها. إلا أن الميثاق لم يطور مفهوم تقرير المصير ولم يجعله حقا إلا في العام 1960، عندما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بقرارها رقم 1541 الصادر في 14/12/1960، إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة. إذ نصت الفقرة الثانية من القرار على أن لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وتلي ذلك مزيد من التأكيد على حق تقرير المصير في العهدين الدوليين لحقوق الإنسان.كما ويرتبط بحق تقرير المصير حق الدولة في السيادة الدائمة على مواردها الطبيعية، وهو ما أكده قرار الجمعية العامة رقم 1803 بتاريخ 14/12/1962 وجعل السيادة الدائمة على الثروات والموارد الطبيعية ركنا أساسيا من أركان حق تقرير المصير.
ب- حق الشعب في اختيار نظامه السياسي والاقتصادي: كما ربط ميثاق الأمم المتحدة في المادة (55) بين التعاون الاقتصادي وحق تقرير المصير وبين السلام والأمن الدوليين. وهذا الربط يعني حق كل الشعوب في اختيار انظامتها السياسية والاقتصادية باعتبار أن المساواة بين الشعوب لا تجعل لشعب ما سلطة فرض نظامه على الآخر، إذ أن ذلك لن يؤدي إلى علاقات سلمية وودية بين الأمم والشعوب.
ج- القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري:كما أكد ميثاق الأمم المتحدة على المساواة وعدم التفرقة بسبب الجنس أو اللغة أو الدين. كما وضعت هذه المبادئ العامة في إطار أكثر تفصيلا. فصدر إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري واعتمدته الجمعية العامة بقرارها 1904 في 20/11/1963، ثم اعتمدت الجمعية العامة في 21/12/1965 بقرارها رقم 2106 الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري التي دخلت حيز التنفيذ في 4 /1/1969. كما سبق ذلك عدة اتفاقيات قطاعية مثل اتفاقية منع التمييز في مجال الاستخدام والمهنة والتي أصدرتها منظمة العمل الدولية والتي اعتمدت في عام 1958 ودخلت حيز التنفيذ في 15/6/1960، واتفاقية مكافحة التمييز في مجال التعليم والتي اعتمدتها اليونسكو في 14 /12/1960 ودخلت حيز التنفيذ في أيار 1962.
2- البعد الاجتماعي والاقتصادي: لقد تمت معالجة هذا البعد في عدة مواثيق من بينها:
أ- العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي وضع العديد من المبادئ ونص على مختلف الحقوق والحريات في هذا المجال، وأهم ما فيه انه أنشأ لجنة متابعة للتأكد من مدى التزام الدول الأطراف بنصوصه.
ب- إعلانات واتفاقيات دولية تفصيلية مثل إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي، والإعلانات والاتفاقيات الخاصة بالطفل والزواج والأسرة والنساء والشباب، وإعلان الحق في التنمية.
ج- الاتفاقيات الخاصة بالعمل والحقوق النقابية مثل اتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم النقابي، واتفاقية حق التنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية، والاتفاقية الخاصة بممثلي العمال، واتفاقية علاقات العمل.
3- البعد السياسي والمدني : وقد تمّ تناولها في عدة مواثيق دولية من ثلاث زوايا:
أ - تفصيل مختلف الحقوق في الإطار العام للإنسان ، كما في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والبروتوكولات الاختيارية الملحقة به،وغيرها من المواثيق ذات الصبغة العامة.
ب - تفصيل الحقوق الخاصة بقطاعات معينة من المجتمع اعتبرت قطاعات معرضة أو ضعيفة كاتفاقية منع التمييز ضد المرأة، والاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة، والمعاهدة الخاصة بالسكان الأصليين، والإعلان الخاص بالمعوقين، والإعلان الخاص بحقوق المتخلفين عقليا، والبروتوكول الخاص باللاجئين. والاتفاقية الخاصة بوضع الأشخاص عديمي الجنسية.
ج - توضيح حقوق المجتمعات والشعوب في الظروف الاستثنائية مثل اتفاقية جنيف الرابعة بوضع المدنيين في حالة الحرب وغيرها من الاتفاقيات.
ثانيا - في تصنيف حقوق الإنسان:
ثمة عدة معايير لتصنيف هذه الحقوق. فهناك كما أسلفنا المعيار النظري الذي يقسم تلك الحقوق إلى حقوق فردية وحقوق جماعية، وهناك معيار التطور التاريخي الذي يصنفها إلى حقوق سياسية ومدنية وحقوق اقتصادية وحقوق جماعية. أي أن هناك تنوعا واضحا في عملية التصنيف يتضمن تمييزا بين حقوق مدنية وسياسية، وأخرى اقتصادية واجتماعية، ذلك بحسب درجة الإلزام والالتزام، إذ يرى البعض أن الأولى ملزمة ولا يجوز التصرف فيها، أما الثانية فهي ترتبط بالإمكانيات والقدرات والموارد المتاحة لأمة من الأمم وللمجتمع الدولي بشكل عام. وهناك أيضا التمييز بين حقوق أصيلة وعامة، وأخرى هي تطبيق لها في مجالات متعددة أو بالنسبة لقطاعات معينة من الناس بهدف إبعاد ظلم تاريخي لَحِقَ بها، أو بسبب ما تتعرض له حقوقها من انتهاكات واضطهاد.والحقوق الأصيلة والعامة يمكن اشتقاقها من الركائز العامة للحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، وتندرج في ثلاث فئات:الأولى وهي حقوق مقررة للشخص الطبيعي حتى لو كانت ترجمتها العملية تحتم المشاركة في تطبيقها والوفاء بها بين جماعات الناس.
والثانية هي في الأصل حقوق مقررة للشخص الطبيعي، وتعد تطبيقا للفئة الأولى بالنسبة لجماعات معينة من الناس.أما الثالثة فهي بطبيعتها حقوق جماعية تزاولها جماعات الناس باعتبارها كذلك حتى لو احتاجت إلى تدابير تنفيذية تصل إلى مستوى الفرد أو الشخص الطبيعي.
1 - الحقوق الشخصية: وتشتمل على عشرة حقوق متنوعة مدنية وسياسية واجتماعية واقتصادية وهي:
أ- الحق في الحياة: ويعد من أهم الحقوق المقررة للإنسان وأشدها تعبيرا عن مبدأ الحق.ويمكن أن نميز بين المعنى الضيق الشائع، والمعنى الواسع له. والمعنى الضيق للحق في الحياة هو عدم جواز حرمان إنسان من حياته تعسفا أي بتدخل قصدي من جانب قوة قائمة أو سلطة عامة.ويرتبط هذا المعنى بتطبيقات معينة، وأهم هذه التطبيقات هي ما يتعلق بالحظر التام للإعدام بدون محاكمة عادلة أو خارج القانون.أما المعنى الواسع لحق الحياة فيقصد به مسؤولية الدولة والمجتمع الوطني والنظام العالمي ككل عن إيجاد ودعم البيئة الضرورية والملائمة لإمكانية إنقاذ حياة أشخاص أو جماعات تتعرض لإزهاق الروح.
ب- الحق في الحرية: تعتبرالحرية أصل عام وشامل لكل الحقوق الأساسية. والنص عليها يستهدف الإشارة إلى فئة معينة من الأوضاع والتطبيقات.
فالحق في الحرية هو المصدر المباشر لحقوق أخرى أقرت بصورة مستقلة في الشرائع الدولية لحقوق الإنسان وغيرها من الإعلانات ومدونات السلوك.
والحق في الحرية يمثل أحد الأصول المهمة للقاعدة القانونية التي تنص على أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته على سبيل المثال. والحق في الحرية هو أيضا الأصل في عدم جواز الاعتقال أو الحبس التعسفي دون مسوغ، أو تهمة ثابتة. ويمثل الاعتقال التعسفي وهي الظاهرة الشائعة في العديد من النظم السياسية، أبرز وجوه انتهاك الحق في الحرية.وتعد حرية التنقل والهجرة واللجوء تعبيرا مباشرا عن الأصل العام للحرية، برغم كونها حقوقا مستقلة.
ج- الحق في الكرامة :إضافة إلى أن الكرامة وحرمة الجسد والعقل الإنساني هي أحد الأصول الكبرى لمنظومة حقوق الإنسان، فتعتبر أيضا مصدرا مباشرا لحقوق أخرى أقرت بصورة مستقلة في هذه المنظومة. إذ ينبثق من هذا الحق مباشرة حق كل شخص في أن يتم الاعتراف به كشخص أمام القانون بصورة مستقلة عن غيره، أي بمعنى أن يتمتع بمركز قانوني ثابت وغير متعلق بغيره.ويتعلق الحق في الكرامة ببعض الشروط الاقتصادية والاجتماعية، كحق الضمان الاجتماعي والتأمينات وقد نصت المادة (22) من الإعلان العالمي صراحة على الصلة بين الكرامة وهذا الحق.
د- حرية الرأي والتعبير: يعد هذا الحق من أهم ما يتميز به الإنسان باعتباره إنسانا. وقد نص الإعلان العالمي على حرية الرأي والتعبير في المادة (19). أما المادة (18) من الإعلان العالمي، فتؤكد على حق الفكر والضمير والدين. وقد احتوى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادتين (18) و(19) على تأكيد وتكريس هذه الحقوق الأصلية منها والفرعية.كما يتضمن حق التعبير وفقا لنصوص الشرعة الدولية على الحق في تلقي وإرسال المعلومات من خلال وسائل الإعلام المختلفة، بحرية.وترتبط حرية الرأي ارتباطا وثيقا للغاية بالممارسات الحاكمة لوسائل الإعلام كافة، ومنها بالطبع ضمانات حرية الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية.
هـ - الحق في التجمع السلمي:نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق التجمع السلمي وحق إنشاء الروابط والجمعيات في المادة(2). ونص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على حق التجمع السلمي في المادة (21) وعلى حق تكوين الجمعيات في المادة (22).
و- الحق في التقاضي : يكاد يكون هذا الحق الوحيد الذي استأثر بمادتين من المواد المتضمنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إذ نصت المادة (10) على حق كل شخص في أن تنظر في قضيته محكمة عادلة ونزيهة ومستقلة بهدف للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة موجهة إليه. وأكدت المادة (11) كذلك على الضمانات الضرورية لتمكين أي شخص من تلقي محاكمة عادلة ونزيهة تنطلق من افتراض البراءة وعلنية الإجراءات وضمانات الدفاع وفقا لقانون يحدد بالضبط ما يشكل جريمة جماعية وعقوبتها المتناسبة مع شدتها.كما تناول العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بالتفصيل هذا الحق،وبخاصة في المادتين (14) و (15).
ز- الحق في المساواة : تعتبرالمساواة الركن الثاني بعد الحرية والكرامة.
والمقصود بالمساواة في سياق حقوق الإنسان التكافؤ في المراكز القانونية بين كل الأشخاص وانعدام القيمة القانونية لأي صورة من صور التمييز بين البشر. وقد اهتم الإعلان العالمي بالنص صراحة على حق المساواة في إقامة العدل، ووفقا للمادة (7) من الإعلان فإن الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دون تمييز، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز كما أكدت المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية هذا المعنى نفسه بالنص على أن الناس جميعا سواء أمام القضاء.وقد صدرت الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21/12/1965. وتنص المادة (5) من هذه الاتفاقية على أن ".. تتعهد الدول الأطراف بحظر التمييز العنصري والقضاء عليه بكافة أشكاله، وبضمان حق كل إنسان، دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الأصل القومي، في المساواة أمام القانون.." وكذلك اعتبرت الاتفاقية في الفقرة (أ) من المادة (4) أن كل نشر للأفكار القائمة على التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية، وكل تحريض على التمييز العنصري جريمة يعاقب عليها القانون.ومن التطبيقات المهمة أيضا لمبدأ المساواة الاهتمام بتصفية كل صور التمييز القائم على أساس الدين والمعتقد، وحظر كل صور عدم المساواة التي تعاني منها أقليات دينية أو عرقية.وإضافة لنص ميثاق الأمم المتحدة في ديباجته على حق المساواة بين الرجل والمرآة، فقد تضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هذا الحق بتأكيده في الفقرة (أ) من المادة (16) على أن الرجل والمرآة، متى أدركا سن البلوغ،هما يتساويان في الحقوق لدى التزاوج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله.وأشار العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية إلى واجب والتزام الدول الأعضاء بذلك في العهدين الدوليين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وللحقوق المدنية والسياسية، وذلك في المادة (3) من كل منهما،إذ تتعهد الدول الأطراف بضمان مساواة الذكور والإناث في حق التمتع بجميع الحقوق المنصوص عليها في هذا العهد.
ح- الحق في العمل والملكية :أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن لكل شخص الحق في التملك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره وأنه لا يجوز تجريد أحد من ملكيته تعسفا المادة (17).ثم جاء العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بنصوص أقوى وأكثر تفصيلا في مادتين هما المادة (6) والمادة (7)، إضافة إلى تضمينه في بنود أخرى من هذا العهد وغيره من الوثائق الدولية التي تشرع لحقوق الإنسان، ووفقا لهذه النصوص فإن الدول الأطراف تعترف بالحق في العمل الذي يشمل ما لكل شخص من حق في أن تتاح له إمكانية كسب رزقه بعمل يختاره أو يقبله بحرية.. وتأمين هذا الحق من خلال برامج توجيه وتدريب فني ومهني.. والحق في التمتع بشروط عادلة ومرضية، بما في ذلك أجر منصف يكفل عيشا كريما .. وظروف عمل تكفل السلامة والصحة، وتساوي بين الجميع في فرص الترقية وفى الاستراحة وأوقات الفراغ.
ط- الحق في التعليم والثقافة: ويعد هذا الحق آلية جوهرية للتوصل إلى المثل الأعلى للإنسان الحر. ولذلك شددت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان على حق الإنسان- كل إنسان بدون تمييز- في التعليم، وفى التمتع بأوجه معينة من الثقافة.فنصت المادة (26) من الإعلان العالمي على أن لكل شخص الحق في التعليم..وبتوفيره مجانا في مرحلتيه الابتدائية والأساسية.. ويجب أن يستهدف التعليم التنمية الكاملة لشخصية الإنسان وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.. والتسامح والصداقة بين جميع الأمم وجميع الفئات العنصرية أو الدينية وتناول العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هذا الحق في المادتين (13) و(14).ويمتد التشريع الدولي لحقوق الإنسان إلى ضمان الحق في التمتع بأوجه معينة من الثقافة. فوفقا للإعلان العالمي فإن لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية وفى الاستمتاع بالفنون والإسهام في التقدم العلمي وفى الفوائد التي تنتج عنه الفقرة الاولى من المادة (27) وتضيف المادة (15) من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مزيدا من التفاصيل لهذا الحق.
ي- الحق في المشاركة السياسية :جاء نص المادة (12) من الإعلان العالمي واضحا في النص على حق المشاركة، وتضمنت المادة ثلاثة أوجه جوهرية للمشاركة السياسية وهي: حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة مباشرة، أو بواسطة ممثلين يختارون بحرية.وحق تقلد الوظائف العامة بالمشاركة مع الآخرين.وإرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، وتتجلى هذه الإرادة في انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام، المادة (21) وكررت المادة (25) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية هذه المعاني وأكدت عليها.
2- الحقوق الجماعية:
إذا كانت جميع حقوق الإنسان هي في نهاية المطاف حقوق فردية فإن هناك حقوقا لابد أن تمارس في الإطار الجماعي، وأبرز هذه الحقوق حق تقرير المصير، وحق التنمية والسلام.
أ- حق تقرير المصير: يعالج القانون الدولي الإنساني هذا الحق باعتباره حقا أساسيا للإنسان. وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن ثمة علاقة وثيقة بين حق الأمم والشعوب في تقرير مصيرها وبين منظومة حقوق الإنسان. فأصرت في شباط 1952 بأن يتضمن العهد أو العهود الدولية لحقوق الإنسان مادة عن حق جميع الشعوب والأمم في تقرير مصيرها بنفسها، وأكدت أيضا على أن حق الشعوب والأمم في تقرير مصيرها شرط أساسي للتمتع الكامل بجميع حقوق الإنسان الأساسية. وجاء في إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة الصادر عن الجمعية العامة في كانون الأول 1960 أن إخضاع الشعوب للاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله يشكل تنكراا لحقوق الإنسان الأساسية!.وقد نصت المادة الأولى في كل من العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية، وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أن:لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها.ولجميع الشعوب .. التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية.وأضاف إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول، والصادر عن الجمعية العامة في 24 /19/1970 بُعدا جديدا لحق تقرير المصير، وهو مبدأ تساوي الشعوب في الحقوق، وبناء على ذلك نالت 88 دولة استقلالها وحقها في تقرير المصير فيما بين نشأة الأمم المتحدة عام 1945 وعام 1990. وتابعت الأمم المتحدة قضايا الشعوب التي لم تنل استقلالها من الاستعمار الأجنبي.
ب- الحق في التنمية والسلام: ثمة علاقة وثيقة بين التنمية والسلام وحقوق الإنسان إلى الحد الذي يجعلها علاقة عضوية.فالسلام يشكل شرطا للوفاء بحقوق الإنسان الفردية والجماعية. فمثلا يستحيل تصور الوفاء بحق الحياة مع اشتعال الحروب. فالحرب والأزمات والصراعات المسلحة هي أسوأ انتهاك لحق الإنسان في الحياة وهي تشكل وسيطا أو بيئة تنتعش فيها كل الانتهاكات الأخرى لحقوق الإنسان الأساسية، ولذلك تلازم معنى السلام وحقوق الإنسان في صياغة أهداف الأمم المتحدة كما جاء في المادة الأولى من ميثاقها. كما جرت الجمعية العامة على إصدار قرارات تربط بقوة بين السلم والوفاء بحقوق الإنسان، وبأن السلم والأمن الدوليين عنصران أساسيان للإعمال التام لحقوق الإنسان بما في ذلك حقه في التنمية، وأن السلام شرط للتقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وللتنمية بشكل عام.ويشمل الحق في التنمية ثلاث قضايا هي: القضاء على الجوع والفقر والعدالة في توزيع الدخول، والوفاء بمتطلبات الخدمة الصحية، والقضاء على الأمية.
ج- الحق في بيئة نظيفة:تصاعد الاهتمام بهذا الحق بعد تصاعد الثورة التكنولوجية، وما نجم عنها من إضرار كبيرة لحقت بالبيئة. وتنشط جماعات وأحزاب الخضر في أوربا للدفاع عن هذا الحق باعتباره حقا حديثاً.
3- حقوق الفئات الخاصة:
تنطبق حقوق الإنسان المنصوص عليها في الوثائق الدولية على جميع الأشخاص بغض النظر عن أعمارهم وجنسهم وأعراقهم وانتمائهم الفكري واللغوي والثقافي، وغير ذلك من الاعتبارات. ورغم ذلك فاالتشريع الدولي لحقوق الإنسان قد نص على حقوق معينة في إعلانات ومواثيق خاصة ترعى فئات معينة ومن هذه الفئات: حقوق المرأة، والأطفال والمسنين، والمعوقين.
أ- حقوق الطفل:وفقا لإعلان حقوق الطفل الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 20 /11/ 1959 ثمة مبادئ تهدف إلى تمكين الأطفال من نيل حقوقهم. ومنها حاجة الطفل للتمتع بحماية خاصة باتخاذ كل التدابير التشريعية وغير التشريعية لإتاحة نموه العقلي والجسدي والخلقي والروحي والاجتماعي نموا طبيعيا سليما في جو من الحرية والكرامة، وأن يكون للطفل منذ مولده اسم وجنسية، وأن يتمتع بفوائد الضمان الاجتماعي وحقه في الحصول على قدر كاف من الغذاء والمأوي واللهو والخدمات الطبية، والحق في تلافى صور الإهمال والقسوة والاستغلال بحمله على العمل أو تركه يعمل في أية مهنة لا تؤذي صحته أو تعليمه أو تعرقل نموه الجسمي أو العقلي أو الخلقي أو الاتجار به بأية صورة، وأن يحاط بحماية خاصة من كل الممارسات التي تدفع إلى التمييز العنصري أو الديني، وأن يحاط الطفل المعوق جسمياً أو عقلياً أو اجتماعياً بالعناية الخاصة والتربية والعلاج الملائم لحالته.وقد اعتمدت الجمعية العامة في 3/12/1981 إعلانا يتعلق بالمبادئ القانونية والاجتماعية المتصلة بحماية الأطفال ورعايتهم.
ب- حقوق المسنين :وقد اهتم المشرع الدولي بتأكيد حقوق معينة للمسنين، وأولها تمكين كبار السن من التمتع ضمن أسرهم ومجتمعاتهم بحياة من الصحة والأمن، وأن يجدوا التقدير الكافي بوصفهم جزءا لا يتجزأ من المجتمع، ذلك كما جاء بخطة فيينا بشأن الشيخوخة، والتي اعتمدتها الجمعية العامة في 13 /12/ 1982.
ج- حقوق المعوقين:وردت حقوق هذه الفئة الخاصة في الإعلان الخاص بحقوق المعوقين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 /12/1975.
ويدعو الإعلان إلي ضرورة الوقاية من التعويق الجسدي والعقلي وضرورة مساعدة المعوقين على إنماء قدراتهم في أكبر عدد ممكن من ميادين النشاط المتنوعة، وضرورة العمل قدر المستطاع على إدماجهم في الحياة العادية.
ويقر الإعلان بأن من حق المعوق أن تحترم كرامته الإنسانية وأن له نفس الحقوق الأساسية التي تكون لمواطنيه الذين هم في سنه وله الحق في اتخاذ تدابير تستهدف تمكينه من بلوغ أقصى قدر ممكن من الاستقلال الذاتي.
د- حقوق اللاجئين وعديمي الجنسية والسكان الأصليين:استهدف المشرع الدولي لحقوق الإنسان تمكين هذه الفئات من الحصول على حماية خاصة بسبب تعرضها لظلم تاريخي نجم عن احتلال أراضيها أو أقامتهم في دول ترفض الاعتراف بحقوقهم ومنحهم الجنسية.
القسم الثاني
التنظيم الدولي لحــقــوق الإنســـان
تطور التنظيم الدولي لحقوق الإنسان بشكل أساسي بعد نشأة منظمة الأمم المتحدة عام 1945، حيث تمّت صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وصدوره في عام 1948، الذي يعد الوثيقة الدولية الرئيسة لحقوق الإنسان. وانطلاقا من هذا الإعلان وفي ظله تم التوصل إلى اتفاقيات عديدة لجوانب معينة من هذه الحقوق .وذلك لا يعنى أنه لم يكن ثمة وثائق أو أفكار دولية لحقوق الإنسان قبل ذلك التاريخ. فعصبة الأمم أولت حقوق الإنسان أهمية فائقة ، إذ كان الهدف الرئيس لتأسيس العصبة منع اندلاع حروب أخرى بعد الحرب العالمية الأولى ، وما انطوت عليه أو تسببت فيه من إزهاق أرواح ملايين البشر وتشريدهم .والواقع أنه قبل أن يدخل العالم طور الحداثة، عرف وثائق دولية تنص على حماية حقوق الإنسان في التفاعلات الدولية المختلفة، خاصة في زمن الحرب. ففكرة حقوق الإنسان فكرة قديمة منذ بدء ظهور الخليقة، لكون هذه الحقوق لصيقة أصلا بالإنسان وجودا وعدما .لكن المؤكد أن الطفرة الهائلة التي شهدها مفهوم حقوق الإنسان قد تحققت منذ منتصف القرن الماضي وعقب صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ثم تطور هذا المفهوم عبر سلسلة من الاتفاقات الدولية التي تدعمه. وتأكدت هذه الحقوق في أعقاب تنامي فكرة التدخل الدولي لحماية حقوق الإنسان، والتي تمثل إحدى القضايا الأساسية للنظام العالمي الجديد الذي نشأ عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وانهيار الكتلة الاشتراكية.
أولا : تطور حقوق الإنسان على الصعيد الدولي :
أياً كان الاختلاف والتنوع في النظر إلى مفهوم حقوق الإنسان،فالثابت أن القيم التي يتضمنها هذا المفهوم تجد أصولها في كافة المذاهب السياسية والاجتماعية والدينية، ذلك على النحو الذي يحملنا علي التسليم بأن حقوق الإنسان في صورتها الحالية ليست سوى نتاجا لمساهمات كافة الديانات والثقافات والحضارات.
وإذا كانت حقوق الإنسان جزءاً لا يتجزأ من النظام الداخلي للدول ، فإن تطور الحياة الإنسانية وتعرض الإنسان في العديد من الدول لانتهاك حقوقه قد حول مشكلة حماية هذه الحقوق من مشكلة داخلية محضة إلى مشكلة دولية، وذلك بعد أن ثبت للضمير العالمي عجز النظم الداخلية في كثير من الأحيان عن حماية الحد الأدنى من هذه الحقوق، ومن هنا نشأت فكرة التدخل الدولي لحماية حقوق الإنسان مع تسليمنا كذلك بأن كثيرا من حالات التدخل الدولي وقفت وراءها مبررات لا علاقة لها بحقوق الإنسان كنماذج الصومال والسودان والعراق وأفغانستان.
ومع أن الاهتمام الدولي بحقوق الإنسان يتخذ في كثير من الأحيان الطابع السياسي ، إلا أن ما نشهده اليوم من وثائق دولية متنوعة تتعلق بهذه الحقوق يؤكد على وجود قانون دولي حقيقي لحقوق الإنسان يسعى عن طريق التعاون والتنسيق عبر الدول من خلال المنظمات الدولية بصفة خاصة ، إلى ضمان احترام المجتمع الدولي لعدد من القيم .
وهكذا ، فإن القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي يعبر عن مصلحة إنسانية عامة ومشتركة ، يتسم بالتطور المستمر بهدف تلبية تطور مفهوم حقوق الإنسان ، وهو قبل ذلك يعتبر اشتقاقا من القانون الداخلي للدول.وبمنطق التسلسل التاريخي ، يمكن القول أن حقوق الإنسان منذ القدم وحتى الآن قد شهدت ثلاث مراحل للتطور هي : مرحلة العصور القديمة ومرحلة العصور الوسطى ثم العصر الحديث.
ففي مرحلة العصور القديمة، كان المجتمع يقوم على مبدأ الحق للقوة. فالقوي يتمتع بجميع الحقوق، والضعيف حقوقه مستباحة، بل ومفقودة في غالب الأحيان، فلم تكن الحرية الشخصية ولا غيرها من الحريات معروفة ولا ثابتة، بل كان نظام الرق معروفا كشيء مألوف وحرية العمل مقيدة والنظام الطبقي هو الأساس لبناء المجتمع.
وبعد أن تقدمت الحضارة، ظهرت مرحلة جديدة، أخذت على عاتقها تدوين بعض القوانين المكتوبة وهي عبارة عن أعراف سادت في تلك الحقبة من الزمن .ففي بابل ، في القرن العشرين قبل الميلاد ، ظهر قانون حمورابى والذي يعتبر أقدم شريعة مدونة ومعروفة. وهو عبارة عن تدوين للعادات الشائعة في آنذاك، ويتطرق إلى مسائل العقوبات. أما في اليونان فكانت تشريعات صولون الاغريقى (600 – 560ق.م) وقد انتخبه أهالي أثينا حاكما فقام بإصلاحات تشريعية وإدارية عديدة منها الإفراج عن المسجونين بسبب الدين . ثم منع استرقاق المديونين وتحرير الاراضي والفلاحين.وفى روما صدر قانون الألواح الاثنى عشر في أوائل عصر الجمهورية على إثر ثورة عامة الشعب على طبقة الأعيان في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد ، حيث جمعت العادات الرومانية السائدة في ذلك الوقت ، ثم نقشت على اثنى عشر لوحا نحاسيا وتعتبر هذه الألواح نواة لكل تشريع روماني لاحق، حيث ألغيت الفوارق بين الشعب الروماني ووضعت أصول المحاكمات والعقوبات التي امتازت بالقسوة.
لقد تميزت العصور الوسطى في أوروبا بقيام نظام الإقطاع ، الذي قام علي خاصتين أساسيتين ، الإقطاعية العقارية ، والتبعية الشخصية ة .فالأرض كانت متصلة بالشخص اتصالا وثيقا ، وبالتالي تحديد حقوقه وواجباته، إلا في وضعيته الإقطاعية الناتجة عن الأرض التي خُلق عليها. وهكذا كان التسلسل مزدوجا بين الأرض من ناحية، وبين الأشخاص من الناحية الأخرى، كما كان تسلسلاً عموديا، يبدأ بعبيد الأرض فيمر بالنبلاء أصحاب الدرجات المتفاوتة، لينتهي في أعلى قمته برباط الولاء للملك، الذي كان يمثل المرتبة العليا ليس لأنه ملك ورئيس دولة ، وإنما بوصفه السيد الإقطاعي الأسمى للهيكل الهرمي الذي يتألف منه النظام.وفى مثل هذا النظام لم يكن للأفراد حقوق أو حريات يعترف بها، حيث تندمج السلطة في شخص سيد الإقطاع . لذا من الصعب القول إن ثمة حقوق وحريات للإنسان في ظل نظام الإقطاع الذي ساد أوروبا في العصور الوسطى .
ومع انتهاء العصور الوسطى بدأ التطور التاريخي لحقوق الإنسان في أوروبا يتخذ مرحلة جديدة، حيث بدأت حقوق الإنسان تأخذ طريقها إلى دساتير الدول الغربية تحت تأثير النهضة الفكرية وبضغط بعض الثورات المشهورة التي قامت في سبيل حقوق الشعوب وتحريرها من طغيان الدولة .ففي بريطانيا صدرت الوثيقة الكبرى الماغنا كارتا على إثر ثورة الشعب والاكليروس على طغيان الملك عام 1215، وقد الحق بهذه الوثيقة وثائق أخرى أهمها عريضة الحق لسنة 1628 وإعلان الحقوق لسنة 1689 وقانون التسوية لسنة 1701.وبناء على هذه الوثائق وما تبعها من قوانين خاصة وسوابق قضائية، تمَّ اعتراف الملك بحقوق عامة الشعب، وتثبيت نظام الديموقراطية البرلمانية، ومبدأ الشرعية أو سيادة القانون وما يترتب على ذلك من مساواة وحريات وضمانات عملية .
وفى الولايات المتحدة الأمريكية، صدر إعلان الاستقلال سنة 1776 ويعتبر من أهم بيانات حقوق الإنسان في الغرب إذ تضمن المساواة بين الناس، وتمتعهم بحقي الحياة والحرية وطلب السعادة. كما تضمن اعتبار صلاحية الدولة لإقرار هذه الحقوق مستمدة من الشعب، وأجاز حق الشعب، في التمرد على انحراف الدولة عن هذا الهدف . وبعد ذلك صدر الدستور الأمريكي في عام 1787 ثم تعدل مرارا وأطلقت على التعديلات العشرة الأولى اسم إعلان الحقوق، والتي صدرت بين سنة 1789 وسنة 1791 لتنص على حرية العقيدة، والنفس والمال والمنزل، وضمانات حرية التقاضي وعدم التجريم بدون محاكمة عادلة، وضبط القوى المسلحة وشروط حمل السلاح. ونصت تعديلات لاحقة على تحريم الرق وتحرير الأرقاء، وعلى المساواة فى حق الانتخاب من دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس.
وفى فرنسا وعلى إثر الثورة الفرنسية ، صدر في عام 1789 إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وألحق بدستور سنة 1791 الذي نص على أن الناس خلقوا ويظلون أحرارا ومتساوين في الحقوق وأن هدف كل دولة هو المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية، التي لا تقبل السقوط وهى الحرية والملكية والأمن ومقاومة الاضطهاد، وأن الشعب هو مصدر السلطات. كما نص الإعلان كذلك على تأكيد حرية الفكر والرأي وعلى عدم جواز نزع الملكية إلا للضرورة العامة ومقابل تعويض عادل مسبق.
أما الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 فقد ميزت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على سائر الحقوق.
أما في الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر وعلى اثر النهضات الفكرية والقومية والاجتماعية في الغرب ، وتحت ضغط المطالبات الشعبية أقرت الدولة العثمانية ما سُمي بعهد الإصلاح والتنظيمات ، فأصدرت الوثيقة الدستورية الاولى في عام 1839 بإسم خط كونحانه الشريف ثم تلتها الوثيقة الثانية في عام 1856 بإسم الخط الهمايونى، وقد تضمنت الوثيقتان إعلان بعض حقوق الإنسان وأهمها الحرية الشخصية وحرية الملكية الفردية، وحرية العقيدة مع تثبيت الامتيازات الملية الممنوحة منذ الفتح العثماني للمواطنين غير المسلمين ، والمساواة بين جميع العثمانيين أمام القانون مع حق تولى المناصب من دون تفضيل لملة أو لعنصر.
وهكذا، فإن العصور الوسطى التي بدأت بداية مظلمة لحقوق الإنسان، قد انتهت نهاية مبشرة لتدعيم هذه الحقوق في المستقبل مع ظهور العديد من الوثائق الدولية التي حملت هذا المعنى.والواقع إن النهاية اللافتة للعصور الوسطى كانت الأساس الذي انطلقت منه عملية تأكيد حقوق الإنسان خلال القرنين اللاحقين إلى أن وصل العالم إلى منتصف القرن الماضي ، حيث كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها، وبدأ العالم يفكر في تأسيس منظمة دولية بديلة لعصبة الأمم ، فكانت نشأة منظمة الأمم المتحدة عام 1945 التي حملت معها ثورة لافتة في مفاهيم حقوق الإنسان.
ثانيا: الأمم المتحدة وحقوق الإنسان :
شرَّعت الأمم المتحدة نظاما دوليا متكاملا لحقوق الإنسان، وثمة عدة أطر يجرى فيها تناول قضايا حقوق الإنسان ولكل منها طبيعتها الخاصة، ويختلف أسلوب التعامل باختلاف النظرة لحقوق الإنسان في كل دولة ، أو إزاء كل قضية . وأهم هذه الأطر:
- الإطار العام وهو إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تبحث اللجنة الاجتماعية والإنسانية والثقافية التابعة للجمعية والمعروفة بإسم اللجنة الثالثة في اجتماعاتها السنوية شتى الموضوعات الخاصة بحقوق الإنسان، وتعتبر المرآة التي تعكس فيها الدول توجهاتها المستقبلية بالنسبة لقضايا حقوق الإنسان بهدف تهيئة الرأي العام لتناول قضية ما من قضايا حقوق الإنسان، سواء كانت هذه القضية ذات طابع عام مثل مناهضة التعذيب، أو كانت ذات طابع محدد تختص بحالة دولة. كما تبحث الجمعية العامة تقارير كافة الأجهزة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة والتي تعالج قضايا حقوق الإنسان .
- الإطار المتخصص ويتمثل في اجتماعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي وما يتفرع عنه من لجان متخصصة مثل لجنة حقوق الإنسان التي تعقد اجتماعاتها سنويا في مقر الأمم المتحدة في جنيف، وتعد أكثر الأجهزة تركيزا في مداولاتها لقضايا حقوق الإنسان.
- الإطار الفني وهو إطار لجان الخبراء حيث تُتابع موقف كل دولة إزاء اتفاقيات حقوق الإنسان التي تدخل طرفا فيها وتُدرس التقارير التي تقدمها وتناقش مدى الوفاء، أو عدم الوفاء بالالتزامات المترتبة على عضوية الدولة في تلك الاتفاقيات والمواثيق الدولية.
- الإطار الدولي العام ، ويتمثل في المؤتمرات الدولية التي تعقد من حين لآخر وتبحث بعض قضايا حقوق الإنسان مثل المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي سبق وانعقد في طهران عام 1968 ، والمؤتمر الذي عقد في فيينا في حزيران 1993 .
كذلك هناك اطر غير حكومية وتتمثل في نشاط منظمة العفو الدولية وتقاريرها الخاصة بحقوق الإنسان في مختلف دول العالم، وكذلك الإطار الإقليمي ويتمثل في نوعين من المنظمات ذات الطابع الإقليمي وهى منظمات إقليمية ذات طابع حكومي مثل اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان التي تعمل في إطار جامعة الدول العربية، ومنظمات إقليمية للخبراء مثل اللجنة الأفريقية المعنية بحقوق الإنسان والشعوب ، ومنظمات إقليمية غير حكومية مثل المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
وبالتركيز على دور الأمم المتحدة تحديدا في إطار النظام الدولي لحقوق الإنسان، فإن هناك عدة مستويات لاهتمام الأمم المتحدة بهذه الحقوق.المستوى الأولى : ويشمل الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي .والمستوى الثاني : ويضم أجهزة أخرى تتعلق بعض نشاطاتها بحقوق الإنسان .والمستوى الثالث ويشمل الوكالات المتخصصة .
1 – الجمعية العامة :
تنص المادة (13) من الميثاق على أن من بين الأعمال التى تقوم بها الأمم المتحدة بدء الدراسات ووضع التوصيات بقصد توطيد التعاون الدولى فى الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية والاعانة على تحقيق حقوق الإنسان، والحريات الأساسية للناس عامة بدون تمييز بينهم بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أوالديانة .وتحال معظم البنود المتعلقة بحقوق الإنسان إلى اللجنة الثالثة التابعة للجمعية العامة اللجنة الاجتماعية والإنسانية والثقافية. كما سبقت الإشارة إلى أن بعض هذه البنود تحال الى اللجان الرئيسية الأخرى التابعة للجمعية. فالبنود التى تتسم بصفة أساسية بالطابع السياسى ، تحال الى اللجنة الاولى أو إلى اللجنة السياسية الخاصة، بينما تحال البنود التى تتسم بصفة أساسية بالطابع الإقتصادى الى اللجنة الثانية.كما اسست الجمعية العامة أجهزة فرعية، ذات طابع مؤقت أو خاص ، وكذلك لجان خاصة من أجل مساعدتها فى تأدية المهام الملقاة على عاتقها فيما يتعلق بحقوق الإنسان مثل اللجنة الخاصة بسياسة التفرقة العنصرية فى جنوب أفريقيا سابقا.
2 - المجلس الاقتصادى والاجتماعى :
طبقا للمادة (62) من الميثاق يجوز للمجلس الاقتصادى والاجتماعى أن يضع التوصيات الخاصة بتوطيد احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع ومراعاة التقيد بها كما يجوز له إعداد مشاريع اتفاقيات لعرضها على الجمعية العامة والدعوة الى مؤتمرات دولية وتشكيل اللجان من أجل توطيد حقوق الإنسان. ومن اللجان التى شكلها المجلس الاقتصادى والاجتماعى فى عام 1946 لجنة حقوق الإنسان التى تقوم بوضع الدراسات والتوصيات والتزويد بالمعلومات وغير ذلك من الخدمات التى يتطلبها المجلس الاقتصادى والاجتماعى، ولها أن تقدم للمجلس توصيات خاصة بشأن اية لجنة فرعية ترى ضرورة إنشائها. وقد أنشأت لجنة حقوق الإنسان، اللجنة الفرعية الخاصة بمعالجة منع التمييز وحماية الأقليات. وتقوم هذه اللجنة بوضع الدراسات الخاصة فى ضوء الإعلان العالمى لحقوق الإنسان حول منع التمييز من أى نوع.اما اللجنة الثانية التى أسسها المجلس الاقتصادى والاجتماعى فى عام 1946 فهى اللجنة الخاصة بمركز المرأة وتقوم بإعداد التوصيات والتقارير للمجلس الاقتصادى والاجتماعى حول توطيد حقوق المرأة فى المجالات السياسية والاقتصادية والمدنية والاجتماعية والثقافية ووضع التوصيات للمجلس حول المشاكل العامة العاجلة التى تتطلب عناية فى مجال حقوق المرأة بهدف تطبيق مبدأ المساواة فى الحقوق بين الرجال والنساء.
3 - أجهزة الأمم المتحدة الأخرى :
هناك ثلاثة أجهزة رئيسية أخرى من أجهزة الأمم المتحدة يمكن أن تكون مهتمة، من وقت لآخر وبدرجات متفاوتة، بأمور تتصل بحماية حقوق الإنسان وهى:
أ - مجلس الأمن :مجلس الأمن، بحكم الميثاق، هو الجهاز الذى يتحمل المسئولية الأساسية فى صيانة السلام والأمن الدوليين واتخاذ الإجراءات المناسبة لهذا الغرض، بما فى ذلك العمل الذى يستهدف تسوية المنازعات بالطرق السلمية وكذلك العمل الوقائى والتنفيذى. وقد أدت انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الأساسية أو انكارها الى قيام أوضاع شغلت مجلس الأمن ، ومنها على وجه الخصوص سياسات التفرقة العنصرية لحكومة جنوب افريقيا فى الماضى.
ب - مجلس الوصاية :أنشئ مجلس الوصاية لمساعدة الجمعية العامة ، والتى يعمل تحت سلطتها فى تنفيذ مهامها المتعلقة بنظام الوصاية الدولية المنصوص عليها فى الفصل الثانى عشر من ميثاق الأمم المتحدة. إن أحد الأهداف الرئيسة لنظام الوصاية ، طبقا للمادة (76) من الميثاق، هو التشجيع على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بدون تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الديانة.
ج- محكمة العدل الدولية :جميع أعضاء الأمم المتحدة يعتبرون، بموجب المادة (93) من الميثاق، أطرافا فى النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية ، ويحق لكل دولة من الدول الأطراف فى هذا النظام اللجوء للمحكمة بالنظر فى جميع المنازعات القانونية التى تنشأ بينها وبين دولة أخرى فى المنازعات الخاصة بالمعاهدات والاتفاقات الدولية ومنها بالطبع تلك الخاصة بحقوق الإنسان. ومن هذه الاتفاقيات نذكر على سبيل المثال تلك الخاصة بمنع جريمة ابادة الجنس البشرى، وإزالة كافة أشكال التمييز العنصرى .
4 - الوكالات المتخصصة :تعنى اربع من الوكالات المتخصصة والتى يضمها نظام المنظمات فى الأمم المتحدة عناية خاصة بشؤون حماية حقوق محددة. وهذه الوكالات هى: منظمة العمل الدولية، ومنظمة الأمم المتحدة التعليمية والعلمية والثقافية، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة.
فمنظمة العمل الدولية يقر دستورها أن العمل ليس سلعة وأن لكافة الكائنات البشرية الحق فى السعى من أجل رخائهم المادى فى ظل الحرية والكرامة وتساوى الفرص. وقد قام مؤتمر العمل الدولى ، الذى ينعقد كل سنة، تدريجيا بوضع 128 اتفاقية عمل دولية و 131 توصية أغلبها يعالج حماية حقوق وحريات إنسانية أساسية كتحريم العمل بالإكراه وحماية حرية المشاركة ومنع التمييز فى الاستخدام والمهنة.أما منظمة الأمم المتحدة للتعليم والعلوم والثقافة فمن أهدافها الرئيسة المساهمة فى السلام والأمن عن طريق تدعيم الترابط الحضارى بين الأمم من خلال التعليم والعلوم والثقافة سعيا إلى تنمية الاحترام العالمى للعدالة وحقوق الإنسان والحريات الأساسية.اما نظام منظمة الصحة العالمية فقد أكد فى مقدمته على أن التمتع بأعلى مستوى صحى يمكن الحصول عليه هو أحد الحقوق الرئيسية لكل أنسان وأن الحكومات تتحمل مسؤولية صحة شعوبها. وتعالج المشروعات الصحية التى تدعمها المنظمة مشاكل متعددة كالاشراف على الامراض المعدية والتأهيل الغذائى والامراض المزمنة والمنهكة وتطوير الخدمات الصحية العامة .أما منظمة الأمم المتحدة للاغذية والزراعة فإن مهمتها الأساسية كما تضمنتها مقدمة نظامها هى المساهمة من اجل اقتصاد عالمى متسع وتأمين الحرية الإنسانية من الجوع وتهتم المنظمة بصفة رئيسية بزيادة كمية الغذاء المتوافر فى العالم أجمع وتحسين نوعيته.
ثالثا : الإعلان العالمي لحقوق الإنسان :
يعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في كانون الأول 1948 ، بالإضافة إلى العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والثقافية اللذين صدرا في 1966، أساس الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. وإذا أضفنا إلى هذه الوثائق الدولية الثلاث جملة الاتفاقات والمعاهدات الخاصة بحقوق الإنسان أو بجوانب محددة من هذه الحقوق يكون لدينا النظام القانوني الدولي لحماية حقوق الإنسان، والذي ينبثق منه ما بات يعرف بالقانون الدولي الإنساني الذي تنامي في ظله فكرة التدخل الدولي لحماية حقوق الإنسان.وقد صدر الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ويتألف من الديباجة وثلاثين مادة تحدد الحقوق والحريات الأساسية . وتتناول هذه المواد الحقوق المدنية والسياسية المواد (3-21). وأحكاما ختامية عامة (3 - 28).
وتحتوى المادة الأولى من الإعلان على المبدأ الفلسفي الشامل للحقوق والركيزة الأساسية لها ،إذ تنص على أن : يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بروح الإخاء.
وتنص المادة (2) على المبدأ الأساسي الذي يمنع منعا باتا كل صور التمييز في التمتع بالحقوق الأساسية بحيث تقر هذه الحقوق للجميع بلا تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين وكذلك تتمتع بها جميع البلدان والأقاليم بغض النظر عن مركزها القانوني.وترسي المادة (3) ثلاثة حقوق أساسية ومتكاملة تنبع مباشرة من الإقرار بالحرية، والمساواة وهي الحق في الحياة، وفي الحرية، وفي أمان الفرد على شخصه .وتفصل المواد (4 – 21) الحقوق المدنية والسياسية . فتحرم العبودية والرق وتجارة العبيد، وممارسة التعذيب أو المعاملة غير الإنسانية والعقوبات القاسية والمحطة بالكرامة، وحق كل إنسان في الاعتراف القانوني به ، والحق في الحماية المتساوية له من جانب القانون.وتؤكد المادة (22) على المبدأ العام الناظم للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وقيود الوفاء بهذه الحقوق . فهي تعلن أن كل شخص - بصفته عضوا في المجتمع - هو أهل لحقوق معينة تعتبر لا غنى عنها لكرامته وتنامي شخصيته في حرية . وعلى رأس هذه الحقوق الضمان الاجتماعي .وتعترف المواد (23 – 27) لكل إنسان بالحق في العمل وفى الراحة وأوقات الفراغ وفى مستوى معيشة يكفى لضمان الصحة والرفاهية والحق في التعليم.
وتعتبر المواد الختامية الركائز الأساسية للوفاء بالحقوق . ومن بينها حق كل شخص في نظام اجتماعي ودولي يطبق كافة الحقوق بكل أمانة، وأن الأصل في الحقوق هو الإباحة ، والتقييد يجب أن يكون بواسطة قانون وعلى نحو حصري وضيق . ومن هذه القيود ألا تشكل ممارسة الحقوق من جانب أي شخص مسَّا لحقوق وحريات الآخرين . وهو ما يشكل مضمون فكرة النظام العام الواجب الاحترام.
وقد صدر العهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية ، وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16/12/ 1996، وهما يكونان، إضافة إلى الإعلان العالمي ، الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.وفي الواقع، يعتبر صدور هذين العهدين في وقت واحد يعكس إدراك المجتمع الدولي لوحدة ما يطلق عليه منظومة حقوق الإنسان.
وتتفق المادة الأولى في كل من العهدين على النص الواضح على مبدأ حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، بما في ذلك التصرف الحر في ثرواتها الطبيعية .وتلزم المادة الثانية كل الأعضاء بإيجاد وسيلة فعالة للتظلم من انتهاك الحقوق .وتؤكد المادة الثالثة قي كلا العهدين على ضمان حق مساواة الإناث والذكور في التمتع بجميع الحقوق المنصوص عليها .وأما المادة الرابعة فتتعلق بجواز تقييد التمتع بالحقوق وذلك فقط في ظروف استثنائية وطارئة وفى أضيق الحدود .
ويؤكد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على حماية الحق في الحياة، وعدم جواز إخضاع أحد للتعذيب، وعدم جواز الرق والحظر التام للاتجار بالرقيق ، وعدم جواز الاعتقال التعسفي.ويفصل هذا العهد في ضروب الحماية القانونية للإنسان وحقه في التقاضي ، فيؤكد أن الناس جميعا سواسية أمام القضاء. ويدعو لحماية الحق فى حرية الفكر والوجدان والدين والتعبير.وينص على حماية حقوق الأشخاص المنتسبين لأقليات عرقية أو دينية أو لغوية في أقاليم الدول الأطراف في العهد ، وحق التنقل واختيار مكان الإقامة واللجوء لدول أخرى غير دولة الإقامة والجنسية .
أما العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فينص على الحق في العمل، ويكفل حق كل شخص في تكوين النقابات بالاشتراك مع آخرين، ويقر بحق كل شخص في الحصول على ضمان اجتماعي، ويؤكد حق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، وكذلك حق كل شخص في التعليم والتربية، مع التركيز على إلزامية ومجانية التعليم الأَولى.
رابعا : القانون الدولي الإنساني :
يعتبرالقانون الدولي الإنساني مجموعة من القواعد التي تهدف إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة لدوافع إنسانية. ويضمن هذا القانون الحماية للذين لا يشاركون في القتال أو الذين توقفوا عن المشاركة فيه ، كما أنه يقيد حق اختيار الوسائل والأساليب المستعملة في الحرب. والقانون الدولي الإنساني يسمى أيضا قانون الحريات أو قانون النزاعات المسلحة .كما يصنف كجزء من القانون الدولي الذي ينظم العلاقات فيما بين الدول من خلال اتفاقات أبرمتها هذه الدول، وهو نابع من مبادئ وممارسات عامة تقبلها الدول كالتزامات قانونية.أما أصل القانون الدولي الإنساني فيعود إلى قوانين وقواعد تستمد جذورها من ديانات وثقافات العالم بأسره . ولم يبدأ تطوره المعاصر سوى في الستينات من القرن التاسع عشر. ومع اتساع رقعة المجتمع الدولي زاد عدد دول العالم التي ساهمت في تطويره إلى حد توصيفه بأنه نظام عالمي.
وقد ورد جزء كبير من القانون الدولي الإنساني في اتفاقيات جنيف الأربع المبرمة عام 1949، والتي وافقت جميع دول العالم تقريبا على الالتزام بها . ولتطوير هذه الاتفاقيات وتكميلها وقع اتفاقان آخران في 1977 هما البروتوكولان الإضافيان إليها .وهناك اتفاقات عديدة تحظر استخدام أسلحة تقليدية وخططا عسكرية معينة، مثل اتفاقيات لاهاى لعام 1907 واتفاقية عام 1972 بشأن الأسلحة البكتريولوجية واتفاقية عام 1980 الخاصة بالأسلحة التقليدية واتفاقية 1993 المتعلقة بالأسلحة الكيمياوية. وهناك أيضا اتفاقية لاهاى لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات.وقد أصبح كثير من قواعد القانون الدولي الإنساني مقبولا اليوم كقانون عرفي ، أي كقواعد عامة تسري على كافة الدول .ويشمل القانون الدولي الإنساني نطاقين:أولهما: الحماية لمن لا يشارك في القتال أو لمن توقف عن المشاركة فيه.ثانيهما: تقييد اختيار وسائل القتال وخاصة منها الأسلحة وأساليب القتال كالخطط العسكرية . والقانون الدولي الإنساني يحمي أولئك الذين لا يشاركون في القتال كالمدنيين وأفراد الخدمات الطبية والدينية. كذلك يحمى الأشخاص الذين كفوا عن القتال كالجرحى أو المنكوبين في البحار أو المرضى أو الأسرى .وينبغي عدم مهاجمة الأشخاص المحميين، كما يجب عدم الاعتداء عليهم جسديا أو معاملتهم معاملة مهينة. أما الجرحى والمرضى فيجب تجميعهم والعناية بهم. وتنطبق قواعد مفصلة على الأسرى والمحتجزين، تشمل توفير الغذاء والملجأ الملائمين لهم، علاوة على الضمانات القانونية.
كذلك هناك بعض الأماكن المحمية التي لا يجوز مهاجمتها ، ومنها المستشفيات وسيارات الإسعاف . ويعدد القانون الدولي الإنساني مجموعة من الشارات التي يمكن التعرف عليها بوضوح وإشارات تستخدم لتحديد هوية الأشخاص المحميين والأماكن المحمية .وتشمل هذه الشارات شارتي الصليب الأحمر والهلال الأحمر.ويحظر القانون الدولي الإنساني جميع وسائل وأساليب الحرب التي لا تميز بين الأشخاص الذين يشاركون في القتال والذين لا يشاركون فيه ، كالمدنيين مثلا .وقد حرم القانون الدولي الإنساني استخدام العديد من الأسلحة منها الرصاص المتمدد في الجسم والأسلحة الكيميائية والبيولوجية وأسلحة الليزر المسببة للعمى.ويطبق القانون الدولي الإنساني فقط على النزاعات المسلحة ولا يشمل الاضطرابات الداخلية كأعمال العنف المنفردة، كما أنه لا ينظم حق أي دولة في استخدام أو عدم استخدام القوة فعلا. واستخدام القوة ينظمه جزء من القانون الدولي، ورد في ميثاق الأمم المتحدة . والقانون الدولي الإنساني لا يطبق سوى عند نشوب نزاع ويسري على جميع الأطراف بصرف النظر عمن بدأ القتال .
ومن المهم التمييز بين القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان. وعلى الرغم من أوجه التشابه بين بعض قواعد هذين القانونين إلا أنهما تطورا منفصلين عن بعضهما البعض ووردا في معاهدات مختلفة. فقانون حقوق الإنسان بالخصوص، يطبق، خلافا للقانون الدولي الإنساني، في وقت السلم ولكن العديد من أحكامه يمكن تعليقها أثناء نزاع مسلح.
ولكن هل للقانون الدولي الإنساني أثر فعلا ؟ المشكلة هي أن هناك حالات كثيرة لانتهاك القانون الدولي الإنساني أثناء النزاعات التي تدور في أرجاء العالم. وضحايا الحرب هم من المدنيين بشكل مطرد. ولما كان هذا القانون يطبق في أوقات الصدامات الكبرى فإن تطبيقه سيواجه دائما صعوبات جمة . ويبقى تطبيقه الفعال أمرا ملحا أكثر من أي وقت مضى.وقد اتخذت تدابير عديدة لتشجيع احترام القانون الدولي الإنساني ، فالدول مضطرة إلى تعريف قواتها المسلحة والجمهور العام بقواعد القانون الدولي الإنساني. وعليها أن تمنع وقوع انتهاكات القانون وأن تعاقب مرتكبيها عند الضرورة.ومن واجبها على الأخص وضع قوانين لمعاقبة الانتهاكات الجسيمة التي تنال من اتفاقيات جنيف والبرتوكولين المكملين لها والتي تعد جرائم حرب.
ويثير الحديث عن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بشكل عام والقانون الدولي الإنساني بشكل خاص قضية التدخل الدولي لحماية حقوق الإنسان، وهى القضية التي أخذت قدرا كبيرا من الاهتمام في ظل النظام العالمي الجديد. ورغم أن التحليلات السياسية قد درجت على النظر إلى الاهتمام الواسع بمبدأ التدخل الإنساني لحماية حقوق الإنسان باعتباره تطورا جديدا على الساحة الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة، إلا أن جذور هذا المبدأ في الحقيقة تعود إلى أواخر الأربعينيات ، حيث دخل مفهوم الجرائم ضد الإنسانية إلى القانون الدولي العام عقب محاكمات نورمبرغ ، التي حاكمت قادة النازية في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية. وبموجب هذا المفهوم ، أصبحت مسألة التدخل لحماية حقوق الإنسان والأقليات جزءا من القانون الدولي، وتم إدراجها فعليا من خلال ميثاق مناهضة جرائم الإبادة الجماعية لعام 1948 ، وميثاق جنيف الخاص بقوانين الحرب لعام 1949، لكن المتغيرات الدولية في فترة الحرب الباردة حالت دون تطبيق هذه المبادئ والقواعد القانونية.
ولكن مع انتهاء الحرب الباردة، أصبحت الساحة الدولية مهيأة لنشوء توافق سيأسى عام بين القوى الدولية الكبرى حيال مبدأ التدخل الإنساني، بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما أتاح للولايات المتحدة السيطرة على مجلس الأمن لاستصدار قرارات تجاه القضايا والصراعات الدولية. وحتى فى الحالات التي تعذر فيها استصدار قرارات من مجلس الأمن، مثل حالة كوسوفو، فإن الولايات المتحدة وحلف الناتو بادرا بالتدخل عسكريا ، من دون غطاء قانوني دولي . ومن ناحية أخرى ، أكدت تطورات ما بعد الحرب الباردة على أهمية مبدأ التدخل الإنساني، حيث تواصلت انتهاكات حقوق الإنسان في أنحاء متفرقة من العالم ، وكانت بعض النظم الحاكمة أقسى على شعوبها من أي احتلال أجنبي، كما أن بعض الصراعات تفاقمت إلى مستويات بالغة، وهو ما استغله البعض لتبرير التدخل الخارجي لوقف القمع أو الصراعات الداخلية .
إن تطور منظومة العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة انطوى على توسيع نطاق التدخل، بحيث باتت هناك عدة أشكال لهذا التدخل هي :
- التدخل العسكري لمساعدة دولة حليفة أو صديقة بموجب معاهدة أو اتفاقية دفاعية مشتركة .
- التدخل لتلبية دعوة من طرف شرعي وطني في الدولة .
- التدخل لحماية أرواح وممتلكات دولة معينة إذا ما تعرضت للتهديد في دولة أخرى .
- التدخل لاعتبارات إنسانية لحماية مواطني دولة أو أقلية معينة تتعرض لانتهاكات حقوق الإنسان .
ولكن التطبيق العملي لهذا المبدأ شابته العديد من الاختلالات ، أبرزها استمرار غياب التوصيف الموضوعي الدقيق للمعايير التي يمكن وفقا لها اعتبار تطور ما جريمة ضد الإنسانية أو انتهاك لحقوق الإنسان والأقليات ، بالإضافة إلى الانتقائية الشديدة في تنفيذ مبدأ التدخل الإنساني ، بحيث كان هذا التدخل في جميع الحالات الماضية مرتبطا - ولو بمقادير متفاوتة - بالمصالح المباشرة للقوى الدولية المعنية . كما أن نطاق هذا التدخل لم يكن واضحا، بحيث تحولت قوات التدخل الدولية في بعض الحالات إلى طرف في الصراع ما أدى إلى تحويل هذا المبدأ إلى حجة للتدخل في الشئون الداخلية للدول التي تشهد صراعا داخليا أو تمردا من جانب أقليات معينة.
كما تجاهلت القوى الدولية حالات أخرى شهدت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والأقليات والشعوب، وكان التجاهل الدولي عائدا إما إلى وجود مصالح قوية بين حكومات الدول التي تشهد انتهاكا لحقوق الإنسان والأقليات وبين حكومات الدول الكبرى، وبالذات الولايات المتحدة، أو إلى خشية الولايات المتحدة بالذات من استثارة غضب الحكومات المتورطة في الصراع. وقد برز هذا التناقض واضحا في أن الولايات المتحدة تجاهلت الأمم المتحدة في الكثير من الحالات، وبالذات في حالة التدخل الأطلسي في كوسوفو، وهو ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلى التشديد على ضرورة وضع ضوابط متفق عليها سلفا لمعالجة الحالات التي تستدعى تدخلا إنسانيا دوليا، بما في ذلك ضرورة التعامل بسرعة مع تطورات الصراع في بعض المناطق ، التي تشهد تدهورا سريعا لأوضاع حقوق الإنسان، ما يتطلب تسريع آلية اتخاذ القرارات داخل الأمم المتحدة وفق ضوابط محددة ومتفق عليها .
وفى ظل هذه التعقيدات، نشب جدل دولي بشأن مبدأ التدخل الإنساني ، وتبلورت في إطار هذا الجدل ثلاثة تيارات رئيسة، على الشكل التالي :
- التيار الداعي إلى توظيف مبدأ التدخل بوصفه أداة لخدمة مصالح القوى الكبرى، وبالذات الولايات المتحدة وبريطانيا، ويكون الاهتمام بالتدخل هنا مدفوعا في الأساس بمصالح الدول الكبرى وقائمة الأوليات الخاصة بها .
- التيار الداعي إلى الحفاظ على سيادة الدول المستقلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أيا كانت الحجج الكامنة وراء هذا التدخل . وهو موقف العديد من دول العالم الثالث، بحجة أن سيادة الدولة تعتبر أهم مبدأ في التنظيم الدولي والعلاقات الدولية المعاصرة.
- التيار الداعي إلى ترشيد مبدأ التدخل الإنساني، بحيث يتم الاعتراف به وقبوله، ولكن مع وضع ضوابط وتدابير كفيلة بضمان موضوعية تطبيقه.
كما إن قضية التدخل الإنساني تظل واحدة من القضايا الأكثر تعقيدا في العلاقات الدولية المعاصرة، ومن الصعب الوصول إلى إجابات محددة بشأنها، وهو ما دعا العديد من دول العالم الثالث، إلى المطالبة بإجراء حوار دولي موسع يتسم بالصراحة والوضوح حول قضايا السيادة والتدخل الإنساني.
خامسا : منظمة المؤتمر الإسلامي وحقوق الإنسان :
اكتفى ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي التي تأسست عام 1969 بالإشارة في ديباجته إلى مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والتسامح وعدم التمييز. كما تؤكد الديباجة إيمان الدول الإسلامية بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان الأساسية. وقد ورد النص في المادة الثانية من الميثاق الخاصة بأهداف المنظمة على هدف العمل على القضاء على التمييز العنصري والاستعمار بجميع صورهما. كما أن من بين هذه الأهداف اتخاذ الخطوات اللازمة لتعزيز السلم والأمن الدوليين على أساس من العدل وتعزيز نضال الشعوب الإسلامية للحفاظ على كرامتها واستقلالها وحقوقها الوطنية (الفقرة السادسة) . وتعهد المادة الرابعة من الميثاق إلى مؤتمر ملوك ورؤساء الدول والحكومات مهمة فحص المسائل ذات الأهمية القصوى للعالم الإسلامي التي يمكن أن ندرج من ضمنها مسائل حقوق الإنسان.
ومن الواضح أن ميثاق المنظمة لا يقدم أية إيضاحات حول طبيعة حقوق الإنسان أو مضمون هذه الحقوق . ولم تنشئ المنظمة هيئة تعنى بهذا الموضوع على غرار المنظمات الإقليمية الأخرى.ولكن المنظمة أعدت مشروع إعلان لحقوق الإنسان في الإسلام وأدرجته في جدول أعمال مؤتمر ملوك ورؤساء الدول الإسلامية المنعقد في مكة المكرمة في أواخر كانون الثاني 1981، الذي أصدر قرارا بإحالة الأمر على مؤتمر لوزراء الخارجية. وبعد مداولات ، صدر إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام في 8/8/ 1990 . ويقع الإعلان في ديباجة وخمس وعشرين مادة.
وتؤكد مقدمة الإعلان على الدور الحضاري والتاريخي للأمة الإسلامية وحاجة البشرية إلى سند إيماني لحضارتها ، والإيمان بأن الحقوق الأساسية والحريات العامة في الإسلام جزء من دين المسلمين . أما الحقوق التي أوردها الإعلان فهي على التوالي الحق في المساواة وعدم التمييز (المادة الاولى والحق في الحياة المادة الثانية، وحرمة الإنسان والحفاظ على سمعته في حياته وبعد موته ، والحق في الزواج بصرف النظر عن أية قيود يكون منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية المادة الخامسة، والمساواة بين المرأة والرجل المادة السادسة وحقوق الطفل المادة السابعة ، والحق في التمتع بالأهلية الشرعية والحق في التعليم المادة التاسعة ، وحرية الديانة المادة العاشرة ، وتحريم العبودية إلا لله سبحانه المادة الحادية عشرة وحرية التنقل واختيار محل الإقامة في إطار الشريعة وحق اللجوء المادية الثانية عشرة ، والحق في العمل المادة (13) والحق في الكسب المشروع المادة(14) والحق في التملك بالطرق الشرعية المادة (15) ، والحق في الانتفاع بثمرات الإنتاج العلمي أو الأدبي أو الفني المادة(16) ، والحق في العيش في بيئة نظيفة من المفاسد والأوبئة الأخلاقية وحق الرعاية الصحية والحق في العيش الكريم المادة (17)، والحق في الأمان وفى الحياة الخاصة المادة(18) ، والمساواة أمام الشرع يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم ، وحق اللجوء إلى القضاء، ومبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بموجب أحكام شرعية المادة (19) ، والحق في الحرية وعدم جواز النفي أو العقاب بغير موجب شرعي، وحق الإنسان في عدم الخضوع للتعذيب وحقه في عدم الخضوع للتجارب الطبية أو العلمية بدون رضاه المادة (20) وتحريم أخذ الإنسان رهينة المادة(21) ، والحق في التعبير بحرية عن الرأي بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية، والحق في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وفقا لضوابط الشريعة الإسلامية، وعدم جواز إثارة الكراهية القومية والمذهبية المادة(22).
وفيما يتعلق بالحقوق السياسية فقد اكتفى الإعلان في المادة الثالثة والعشرين بالقول :
- الولاية أمانة يحرم الاستبداد فيها وسوء استغلالها تحريما مؤكدا ضمانا للحقوق الأساسية للإنسان .
- لكل إنسان حق الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما أن له الحق في تقلد الوظائف العامة وفقا لأحكام الشريعة .
ويلاحظ أن كافة الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية المادة(24) . كما أن الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أية مادة من مواد هذه الوثيقةالمادة(25).
ويختلف إعلان القاهرة عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وفى مقدمتها العهدين الدوليين لحقوق الإنسان من حيث اعتماد أحكامه على الشريعة الإسلامية. ومن جهة أخرى يتطرق الإعلان لبعض الحقوق التي لا توليها إعلانات واتفاقيات حقوق الإنسان أي عناية وتجد مكانها بين الاتفاقيات التي يتكون منها القانون الدولي الإنساني، والإعلان هو مجرد توصية تفتقر إلى القوة الإلزامية في الدول الإسلامية. ولهذا السبب فقد جاء خلوا من النص على إنشاء أي هيئة خاصة بالإشراف على تنفيذ أحكامه.
الفصل الثالث
حــقــوق الإنسان في الــعــالــم العربي
يرتبط مدى احترام حقوق الإنسان في دولة معينة بمدى ديمقراطية هذه الدولة، فالدول الديمقراطية هي التي تحترم حقوق الإنسان حيث أن لكل تيار سياسي الحق في تشكيل الحزب السياسي الخاص به، وإعلام يتمتع بالحرية الكاملة، وهناك أيضا تقاليد رصينة لإعمال مبدأ سيادة القانون بحيث يصبح هو الأمر الناهي الذي لا تعرقل تطبيقه أي عراقيل أخرى، وهو الأمر الذي يرسي مبدأ المساواة التامة بين جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم.أما فى الدول التي يطلق عليها العالم الثالث فهناك الكثير من الممارسات القانونية والعملية التي تنتهك حقوق الإنسان، بغض النظر عن نص الدستور الصريح على حماية هذه الحقوق.وينطبق الأمرعلى العالم العربي، لكن الواقع يؤكد أن ثمة اتجاها واضحا فى الدول العربية لتدعيم توجهاتها الديمقراطية. وبدأت الصحافة العربية تعرف طريقها إلى الحرية، وأصدرت جميع الدول العربية تقريبا دساتير دائمة. وباختصار يبدو العالم العربي الآن أفضل من السابق فى مجال حقوق الإنسان.
أولا : الدساتير العربية وحقوق الإنسان :
يمثل الدستور في أي دولة من الدول القانون الأساسي، فهو الوثيقة القانونية الأساسية للدولة،وهو الذي يحدد الحقوق والحريات العامة للمواطنين، ومن ثم فإن تناول نصوص الدستور المتعلقة بهذه الحريات يعد نقطة البداية لفهم الأساس القانوني لحقوق الإنسان.لكن ما ينبغي التأكيد عليه أن ما ينص عليه الدستور قد لا ينفذ حرفيا في الواقع، أو قد لا ينفذ مطلقا.
وتنص سائر الدساتير العربية على مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. فنجد على سبيل المثال أن دستور قطر الصادر في عام 1972 ينص على أن المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات العامة، وذلك دون التمييز بسبب العنصر أو الجنس أو الدين. كما ينص دستور السودان لعام 1971 على أن المواطنين في جمهورية السودان الديمقراطية متساوون أمام القضاء، والسودانيون متساوون في الحقوق والواجبات ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو العنصر أو الموطن المحلي أو اللغة أو الدين. وينص الدستور المصري لعام 1971 على نفس المبدأ بقوله: المواطنون لدى القانون سواء هم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو اللغة أو الدين أو العقيدة.وكذلك الدستور اللبناني الصادر في العام 1926.كما نص الدستور اللبناني في الفصل الثاني منه على العديد من الحقوق التي يتمتع فيها اللبنانيون،منها كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم المادة(7).والحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون ولا يمكن أن يقبض على أحد أو يحبس أو يوقف إلا وفاقاً لأحكام القانون ولا يمكن تحديد جرم أو تعيين عقوبة إلا بمقتضى القانون المادة(8). وحرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون المادة(13).
لكن الممارسة تكشف أحياناً عن فجوة بينها وبين النصوص القانونية من خلال احتكار أقليات سياسية أو حزبية للسلطة وممارسة التمييز ضد بعض الفئات الاجتماعية والأقليات. كما يحدث في أحيان كثيرة أن تأتي القوانين مقيدة لما أباحه الدستور. وعادة ما تميز الدساتير العربية بين الحريات العامة مثل حرية الاعتقاد والعمل والتنقل والملكية التي تبدي تلك الدساتير إزاءها درجات مختلفة من التسامح والمرونة، والحريات ذات الطابع السياسي مثل حرية التنظيم والإضراب والرأي والتعبير التي غالبا ما تحاط بالقيود.كما يلاحظ على تنظيم الدساتير العربية للحقوق والحريات السياسية أنه يتم أحيانا بطريقة تعسفية .
ثانيا : الجامعة العربية وحقوق الإنسان :
آتى ميثاق الجامعة العربية خاليا من أي ذكر لحقوق الإنسان وحرياته.وفى إطار الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة لوضع قضايا حقوق الإنسان في دائرة اهتمام الحكومات والتجمعات الإقليمية المختلفة، وجعلها عام 1968 عاما دوليا لحقوق الإنسان، قرر مجلس الجامعة الإعداد لعقد أول مؤتمر عربي إقليمي لحقوق الإنسان في بيروت في كانون الأول من العام نفسه، لكن المؤتمر قصَّر اهتمامه بالدرجة الأولى على فضح الانتهاكات التي تمارسها إسرائيل داخل الأراضي المحتلة.وقد سبق هذا المؤتمر بثلاثة أشهر صدور قرار من مجلس الجامعة يقضي بتشكيل لجنة إقليمية دائمة لحقوق الإنسان، وذلك استجابة لمذكرة بعثت بها الأمانة العامة للأمم المتحدة 1967 تتضمن اقتراحا بذلك. وقد نص القرار على أن تنشأ اللجنة في نطاق اللجان الدائمة المنصوص عليها في المادة الرابعة من ميثاق الجامعة. ومن ثم فإن دورها اقتصر على إصدار توصيات تعرض على مجلس الجامعة. وقد بدا واضحا أن دور هذه اللجنة السياسي والإعلامي لا يتعدى فضح الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، بينما ينحصر دورها الثقافي في دراسة أوضاع حقوق الإنسان العربي وإيجاد حلول لها. وعلى الرغم من أن مهام اللجنة تتضمن تلقي تقارير من الدول العربية حول حقوق الإنسان فيها، إلا أن استعراض جوانب عملها لا يظهر أن اللجنة قد قامت بهذه المهمة حتى في حدودها الدنيا.
وإذا كان بدء اهتمام الجامعة العربية بحقوق الإنسان قد جاء بمبادرة من خارجها -الأمم المتحدة- فإن جهودها في صياغة مشروع ميثاق إقليمي لحقوق الإنسان جاءت بدورها بمبادرات من خارجها أيضا.
وقد جاءت المبادرة الأولى من جمعية حقوق الإنسان بالعراق التي تقدمت باقتراح إلى اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان في عام 1970 بالعمل على إصدار إعلان عربي لحقوق الإنسان تمهيدا لإقرار اتفاقية عربية في هذا الشأن وتشكيل محكمة عدل عربية. وقد استجابت اللجنة لهذا الاقتراح وشكلت فريقا من الخبراء لإعداده وصدر في العام التالي بإسم إعلان حقوق المواطن في البلاد العربية ولكن مواده لم ترتب أية التزامات على الدول العربية التي توافق عليه. وكما أن المادة الأخيرة منه تقوض كل ما يتضمنه الإعلان من حقوق بما تجيزه للحكومات من حق في التنصل من هذه الحقوق دون استثناء - بما في ذلك الحق في الحياة - في حالات الطوارئ العامة. ولم يلق هذا الإعلان اهتماما يذكر من أكثر من نصف الحكومات العربية، في حين أبدت تسع دول فقط اهتماما بإبداء رأيها في المشروع والذي تراوح ما بين التأييد دون تحفظ، والمطالبة بإدخال التعديلات عليه، والرفض الكامل شكلا وموضوعا، وانتهى المشروع إلى الحفظ بأرشيف الجامعة.
أما المبادرة الثانية فقد جاءت من اتحاد الحقوقيين العرب الذي عقد ندوة في بغداد عام 1979 حول حقوق الإنسان في الوطن العربي تمخضت عن إصدار مشروع اتفاقية عربية لحقوق الإنسان وعدد من القرارات التي دعت الجامعة العربية إلى تنشيط دور لجنتها الدائمة لحقوق الإنسان. وقد دفع ذلك الأمانة العامة للجامعة إلى تكليف بعض الخبراء العرب بوضع ميثاق عربي لحقوق الإنسان أعلن في آذار1983 وأحيل إلى الحكومات العربية لإبداء الرأي فيه، وظل محلا للتعديل وتأجيل الإقرار حتى اعتمد في أيلول 1994 من مجلس الجامعة العربية.
ثالثا : الميثاق العربي لحقوق الإنسان :
يعتبر الميثاق العربي لحقوق الإنسان جزءاً لا يتجزأ من إنجازات الجامعة العربية، حيث تم إعداده وإقراره من جانب الجامعة، وهو يعد الوثيقة الأكثر أهمية لحقوق الإنسان في العالم العربي.وقد اعتمد هذا الميثاق من قبل مجلس الجامعة العربية في أيلول 1994،بعد مرور أكثر من 23 عاما على أول مشروع للميثاق في تموز1971.
يقع الميثاق في ديباجة وأربعة أقسام، وتتوزع أحكامه على (43) مادة. وتؤسس الديباجة منطلقات الميثاق ومرجعيته. فتؤكد انطلاقه من إيمان الأمة العربية بكرامة الإنسان منذ أن أعزها الله بأن جعل الوطن العربي مهداً للديانات وموطناً للحضارات التي أكدت حقه في حياة كريمة على أسس من الحرية والعدل والسلام ونوهت بمبادئ الشريعة الإسلامية والديانات السماوية الأخرى في الأخوة والمساواة بين البشر، كما نوَّهت بالوحدة والحرية وحق الأمم في تقرير مصيرها والحفاظ على ثرواتها والإيمان بسيادة القانون والتمتع بالحرية والعدالة وتكافؤ الفرص كمعايير للأصالة في أي مجتمع. وأعربت عن رفض العنصرية والصهيونية اللتين تشكلان انتهاكا لحقوق الإنسان وتهديدا للسلام العالمي، وأكدت على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأحكام العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام.
ويتضمن القسم الأول مادة واحدة تؤكد على حق كافة الشعوب في تقرير مصيرها والسيطرة على ثرواتها ومواردها الطبيعية، وأن تختار بحرية نمط كيانها السياسي وتنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما يؤكد - مرة أخرى - دور العنصرية والصهيونية والاحتلال كتحد للكرامة الإنسانية، وكعائق أساسي يحول دون إعمال الحقوق الأساسية للشعوب ووجوب إدانة جميع ممارساتها والعمل على إزالتها.
أما القسم الثاني، فيضم (38) مادة تتضمن مجموعة الحقوق والحريات الأساسية. وتشمل الحقوق الأساسية المواد (2،3،4) حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في الميثاق دون تمييز بسبب العنصر أو اللون .. الخ ودون تفرقة بين الرجال والنساء، وعدم جواز تقييد أي من الحقوق الأساسية المقررة أو القائمة في أية دولة طرف في الميثاق استنادا إلى عدم إقرار الميثاق لهذه الحقوق، أو إقرارها بدرجة أقل، وعدم جواز فرض قيود على الحقوق والحريات المكفولة بموجب الميثاق سوى ما ينص عليه القانون ويعتبر ضروريا لحماية الأمن والاقتصاد الوطنيين أو النظام العام أو الصحة العامة، أو الأخلاق، أو حقوق وحريات الآخرين.
وبينما أجاز الميثاق للدول الأطراف في أوقات الطوارئ التي تهدد حياة الأمة أن تتخذ من الإجراءات ما يحلها من التزاماتها طبقا لهذا الميثاق إلى المدى الضروري الذي تقتضيه بدقة متطلبات الوضع، فقد استثنى حصرا خمس مجالات لا يجوز فيها التحلل من أحكام الميثاق وهي التعذيب والإهانة، والعودة إلى الوطن، واللجوء السياسي، والمحاكمة وعدم جواز تكرارها عن ذات الفعل، وشرعية الجرائم والعقوبات.
كما يشمل القسم الثاني كذلك إقرار الحق في الحياة، وتأكيد مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته، والحق في الحرية والسلامة الشخصية، وتساوي الناس أمام القضاء، وكفالة حق التقاضي، وعدم فرض عقوبة الإعدام إلا في الجنايات البالغة الخطورة، وعدم جواز الحكم بعقوبة الإعدام في جريمة سياسية، وحماية الدولة لكل إنسان مقيم على أرضها من التعذيب ألبدني والنفسي واعتبار هذه التصرفات أو الإسهام فيها جريمة يعاقب عليها، ووجوب معاملة المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية معاملة إنسانية، وتجريم المساس بحرمة الحياة الخاصة بما في ذلك خصوصيات الأسرة والمسكن وسرية المراسلات وغيرها، واعتبار الشخصية القانونية صفة ملازمة لكل إنسان، والحق في حرية التنقل، وعدم جواز نفى اللاجئين السياسيين، وعدم جواز إسقاط الجنسية بشكل تعسفي، وكفالة حق الملكية الخاصة، وحظر تجريد المواطن من أمواله بصورة تعسفية. ويتضمن القسم الثاني كذلك مجموعة الحريات الأساسية، فأقر حرية العقيدة واعتبر حرية الفكر والرأي مكفولة لكل فرد، وكفل للأفراد من كل دين حق ممارسة شعائرهم الدينية والتعبير عن أفكارهم والرأي إلا بما نص عليه القانون، وأقر بحرية الاجتماع والتجمع السلمي وألا يفرض من القيود على ممارستها إلا ما تستوجبه دواعي الأمن القومي أو السلامة العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم، كذلك كفل الميثاق الحق في تشكيل النقابات والحق في الإضراب في الحدود التي ينظمها القانون، وأكد كفالة الدولة للحق في العمل لكل مواطن، وتكافؤ الفرص في العمل والحق في شغل الوظائف العامة. كما اعتبر محو الأمية التزاما واجبا والتعليم الابتدائي إلزاميا كحد أدنى وبالمجان، وكفل للمواطنين الحق في الحياة في مناخ فكري وثقافي يعتز بالقومية العربية ويقدس حقوق الإنسان وحق المشاركة في الحياة الثقافية. كما أكد على عدم جواز حرمان الأقليات من التمتع بثقافتها أو إتباع تعاليم دياناتها ورعاية الدولة للأسرة والأمومة والطفولة والشيخوخة رعاية متميزة وكفالة حماية خاصة لها.
أما القسم الثالث فيضم مادتين اثنتين (40) و (41) تتعلقان بتشكيل لجنة خبراء من سبعة أعضاء ينتخبون من بين مرشحين ترشحهم الدول الأعضاء أطراف الميثاق من ذوي الخبرة والكفاءة العالية فى مجال عمل اللجنة، ويعملون بصفتهم الشخصية، وتقوم الدول الأطراف بتقديم تقارير دورية كل ثلاث سنوات إلى اللجنة وأخرى تتضمن استفسارات من اللجنة، وتدرس اللجنة هذه التقارير، وترفع تقريرا بآراء الدول وملاحظاتها إلى اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان في الجامعة العربية.
أما القسم الرابع والأخير، فيتضمن مادتين إجرائيتين تتعلقان بأن يعرض الأمين العام للجامعة العربية الميثاق على الدول الأطراف للتوقيع والتصديق أو الانضمام، وسريان الاتفاق بعد شهرين من تاريخ إيداع وثيقة التصديق أو الانضمام السابعة لدى الأمانة العامة للجامعة العربية.
وبالرغم من أهمية ما تضمنه هذا الميثاق إلا أنه لا يرقى إلى المعايير الدولية، المتضمنة في العهدين الدوليين، ويتجاهل الحق في التنظيم السياسي وحق المشاركة في إدارة الشئون العامة. كما افتقد الميثاق آليات تكفل تنفيذ أحكامه، وخاصة أن لجنة خبراء حقوق الإنسان التي يقضي بتشكيلها بدت معدومة الاختصاصات. كما أن التقارير المفترض تقديمها من الحكومات - وفق هذا الميثاق - افتقرت إلى التحديد.
ولا يرقى هذا الميثاق أيضا إلى مشروع حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي الذي جرى إعداده عام 1986 بمبادرة من المعهد الدولي للعلوم الجنائية بإيطاليا الذي وجه الدعوة لعدد من رجال الفكر والقانون في تسع دول عربية لمؤتمر خاص عقد بمدينة سيراكوزا متسقا مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وأنطلق من موقف ديمقراطي عميق انعكس في النص على حق تكوين الأحزاب والنقابات وحق الإضراب ولم يكتف بحظر التعذيب، بل اعتبره جريمة لا تسقط بالتقادم، كما فرض قيودا على لجوء الحكومات لحالة الطوارىء وتبنى موقفا اجتماعيا متقدما ينص على حق الإنسان في بيئة خالية من التلوث جنبا إلى جنب مع الحق في الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية والضمان الاجتماعي والغذاء والكساء والمسكن والتعليم المجاني. كما حدد إجراءات وآليات واضحة لضمان حماية حقوق الإنسان ترتكز على إنشاء لجنة عربية لحقوق الإنسان ومحكمة عربية لحقوق الإنسان.
رابعا : الحركة العربية لحقوق الإنسان :
يقصد بالحركة العربية لحقوق الإنسان الهيئات والمنظمات العربية التي تهتم بقضية حقوق الإنسان.وقد اقترنت نشأة هذه الحركة ببدء الاهتمام بقضية حقوق الإنسان سواء على مستوى الحكومات العربية وجامعة الدول العربية أو على المستوى الشعبي في عقد السبعينات.وربما يجد ذلك تفسيره فى عدد من الاعتبارات :
- أن الأمم المتحدة كانت قد بدأت في تكثيف جهودها من أجل حث الحكومات على الانضمام إلى العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللذين اعتمدا من قبل الأمم المتحدة وطرحا للتصديق من قبل الحكومات عام 1996. ومن ثم فقد عرفت هذه الفترة جهودا دولية استهدفت وضع قضايا حقوق الإنسان فى دائرة اهتمام الحكومات والتجمعات الإقليمية المختلفة ومن بينها جامعة الدول العربية.
- انه بدخول العهدين الدوليين حيز النفاذ عام 1976، تحولت قضية حقوق الإنسان لتصبح شأنا عالميا اكتسبت في إطاره القواعد الأساسية لحقوق الإنسان مرتبة أسمى وأعلى من الدساتير والتشريعات الوطنية. وأخذت دعاوى الحكومات بأن حقوق الإنسان من صميم سيادتها الداخلية في التراجع، حيث باتت هذه السيادة مقيدة باحترام أحكام المواثيق الدولية.
- أن فترة السبعينات شهدت بداية إدراك داخل المجتمعات العربية لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد هزيمة 1967.
وقد وجد تداخل هذه الاعتبارات تعبيره في بدء التحرك داخل الجامعة العربية نحو صياغة مشروع ميثاق عربي لحقوق الإنسان. وانعكس الاهتمام الحكومي على المستوى العربي، في بدء الموافقة على العهدين الدوليين عام 1969 من قبل تونس وسوريا، ثم ليبيا عام 1970 والعراق عام 1971، ثم توالى تصديق عديد من الدول على العهدين.وفى هذا السياق أخذت الحركة العربية لحقوق الإنسان في التنامي على المستويين الحكومي والأهلي، وذلك على النحو التالي :
1 - على المستوى الحكومي اتجهت بعض الحكومات العربية في نهاية الثمانينات وأوائل التسعينات إلى استحداث أطر حكومية معنية بحقوق الإنسان فى مواجهة نمو الحركة المستقلة لحقوق الإنسان داخل بلدانها من جانب، وتفادى الانتقادات التي يتعرض لها سجلها في حقوق الإنسان على المستوى الدولي من جانب آخر.وكان العراق صاحب المبادرة الأولى في هذا المجال حيث تم إنشاء جمعية لحقوق الإنسان عام 1970.وفى تونس، ومع تأزم العلاقة بين السلطات في نهاية عهد الرئيس السابق بورقيبه والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان عمدت السلطات إلى تشجيع إنشاء منظمة أخرى في أيار 1987 عرفت بإسم الجمعية التونسية لحقوق الإنسان والحريات العامة.وفى الجماهيرية الليبية سمحت السلطات بإنشاء ما يسمى باللجنة الليبية لحقوق الإنسان يقتصر دورها على الرد على ما تثيره المعارضة الليبية في الخارج من انتقادات إزاء انتهاكات حقوق الإنسان.وفى السودان قامت السلطات بحل الرابطة السودانية لحقوق الإنسان في إطار الحظر الذي فرضته حكومة الإنقاذ الوطني منذ توليها السلطة عام 1989 على كافة الأحزاب والجمعيات عدا الدينية منها. وقد استبدلت بالرابطة منظمة أخرى تابعة للحكومة وحملت نفس اسمها.
وفضلا عن هذه المنظمات الحكومية وشبه الحكومية، فقد اتجهت بعض الحكومات العربية إلى إنشاء إدارات خاصة بحقوق الإنسان في بعض وزاراتها واستحداث منصب وزير خاص بحقوق الإنسان، كما اتجه بعضها وخاصة في بلدان المغرب إلى تشكيل هيئات ومجالس حكومية مختصة بشؤون حقوق الإنسان.وقد تمثلت مظاهر هذا الاتجاه في المغرب بصدور مرسوم ملكي بإنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في نيسان 1990، وتعيين وزير مكلف بحقوق الإنسان. وفى تونس استحدثت السلطات في كانون الثاني1991 لجنة استشارية لدى رئيس الجمهورية في المسائل المتصلة بحقوق الإنسان عرفت باسم الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الإسلامية، كما عين رئيس الجمهورية مستشارا أول لديه مكلفا بحقوق الإنسان، وعهد إليه مهمة متابعة سياسة الدولة في مجال حماية حقوق الإنسان. وفى الجزائر أنشأت السلطات مكتبا خاصاً لحقوق الإنسان بالإدارة المركزية لوزارة العدل، كما استحدثت منصب وزير لحقوق الإنسان في حزيران 1991 لكنه ألغيَّ في تموز 1992 بعد إنشاء هيئة حكومية مختصة بحقوق الإنسان عرفت باسم المرصد الوطني لحقوق الإنسان.
2 - على المستوى الأهلي :ويأتي في هذا الإطار العديد من المؤسسات ذات الطابع الوطني أو الإقليمي.
أ - إتحاد المحامين العرب: بحكم طبيعة هذه المهنة يعد من أنشط الاتحادات المهنية الإقليمية العربية العاملة في مجال حقوق الإنسان.
ب - إتحاد الحقوقيين العرب الذي تأسس كمنظمة غير حكومية عام 1976 واتخد من بغداد مقرا له. وهو معنى بحكم نشاطه المهني بقضايا حقوق الإنسان ذات الصلة الوثيقة برسالته العامة فى تدعيم سيادة القانون.
ج - الاتحاد العام للصحفيين العرب الذي تأسس عام 1964 وينص نظامه الأساسي على دور الصحفيين العرب في الدفاع عن حرية الصحافة والصحفيين والتضامن ضد كل اضطهاد لهذه الحرية.
د - الهيئات ذات الاهتمام المتخصص بنوعية معينة من قضايا حقوق الإنسان حيث توجد هيئات مختصة بالدفاع عن قضايا المرأة من بينها مؤتمر تضامن المرأة العربية، وأخرى برعاية الطفولة ومن بينها مجلس الطفولة العربي.
هـ - المنظمات والروابط المهنية المعنية بالقانون وحريات التعبير وفى مقدمتها نقابات المحامين والصحفيين وروابط وهيئات الكتاب.
على أنه يمكن القول أن الساحة العربية لم تعرف ولادة منظمات غير حكومية للدفاع عن حقوق الإنسان، وتعمل بصورة مستقلة عن الحكومة وتضع بصورة أو بأخرى مبادىء حقوق الإنسان المستقر عليها كإطار مرجعي في عملها إلا في بداية السبعينات.
ويمكن القول أن بلدان المغرب العربي كانت صاحبة السبق في هذا المجال بحكم ارتباط هذه الدول بالثقافة البحر متوسطية، حيث تشكلت العصبة المغربية لحقوق الإنسان بالمملكة المغربية عام 1972، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان عام 1977. كما تأسست بالمغرب أيضا عام 1979 الجمعية المغربية لحقوق الإنسان لكنها لم تحظ بالاعتراف إلا بعد نحو تسع سنوات من تأسيسها.وقد جاءت الثمانينات لتشهد انطلاقة أكبر نسبيا لحركة حقوق الإنسان العربية بميلاد المنظمة العربية لحقوق الإنسان، واتجاه بعض الحكومات العربية إلى إعادة صياغة نظامها السياسي بصورة أكثر انفتاحا. وتعود فكرة إنشاء المنظمة العربية لحقوق الإنسان إلى عام 1971 عندما تبنت جمعية حقوق الإنسان بالعراق الدعوة لإنشاء اتحاد عربي للجمعيات القطرية لحقوق الإنسان. وقام اتحاد المحامين العرب بتطوير الاقتراح عام 1973 في اتجاه إنشاء منظمة عربية لحقوق الإنسان تنشىء فروعا لها داخل الدول العربية. وتشكلت لجنة تحضيرية لهذا الغرض قامت بإعداد النظام الأساسي والداخلي للمنظمة المقترحة ودعت إلى عقد الاجتماع التأسيسي للمنظمة في بيروت في شباط 1974. لكن المشروع تجمَّد عند هذه الحدود، حيث أفضت الخلافات حول الشكل المقترح للمنظمة وأساليب عملها إلى عدم عقد الاجتماع.
وقد أعيد طرح المشروع مرة أخرى من خلال نخبة من المثقفين العرب الذين اجتمعوا في تونس في أبريل 1983 لبحث أزمة الديمقراطية في الوطن العربي وخلصوا إلى أن الخروج من الأزمة لن يتأتى إلا بتأكيد احترام حقوق الإنسان العربي ووجهوا الدعوة لعقد مؤتمر تأسيسي لإنشاء المنظمة. وقد عقد المؤتمر في كانون الأول 1983 في قبرص بعد تعذر أقامته بأية دولة عربية.
وقد كان إنشاء المنظمة العربية لحقوق الإنسان حافزا على إنشاء منظمات أو روابط أو مجموعات قطرية كفروع لها. فأصبح للمنظمة فروع خارجية تنشط في أوساط العرب المقيمين في فرنسا وبريطانيا والنمسا وألمانيا وكندا وتضم فروعها أو روابطها المؤسسية في الداخل مثل المنظمة المصرية لحقوق الإنسان التي تأسست في بدايتها كفرع للمنظمة العربية عام 1985، والمنظمة السودانية لحقوق الإنسان التي تأسست عام 1985 وحظر نشاطها عام 1989 واضطرت للعمل من الخارج حيث بات مقرها الرئيسي في العاصمة البريطانية واتخذت من القاهرة مكتبا فرعيا لها، والجمعية اللبنانية لحقوق الإنسان التي تأسست كفرع للمنظمة العربية عام 1985 وحظيت بالصفة القانونية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان التي تأسست في نيسان 1987، والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان التي تأسست في كانون الأول 1988، والمنظمة العربية لحقوق الإنسان/ فرع الأردن التي تأسست في آذار 1990، والمنظمة اليمنية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية التى تأسست عام 1992. ووفقا للنظام الأساسي للمنظمة العربية فإنها تسترشد في عملها بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وتدافع عن كافة الأفراد الذين تنتهك حقوقهم وتعمل على تعميق وعى المواطن العربي بحقوقه المشروعة وتوثيق روابط التعاون والتنسيق مع المنظمات والهيئات العاملة في نفس المجال.
وتصدر المنظمة تقريرا سنويا يحظى باهتمام الأوساط المعنية بحقوق الإنسان باعتباره يشكل مرجعا أساسيا إن لم يكن وحيدا للمهتمين بدراسة أوضاع حقوق الإنسان في كافة البلدان العربية.وقد عملت المنظمة العربية لحقوق الإنسان، بالتعاون مع اتحاد المحامين العرب والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، على تكوين المعهد العربي لحقوق الإنسان الذي تأسس عام 1989 واتخذ من العاصمة التونسية مقرا له.إضافة إلى ذلك، فإن مؤسسات حركة حقوق الإنسان العربية تضم عددا من المجموعات العربية التى تمكنت من تأسيس فروع لمنظمة العفو الدولية داخل بلدانها.
كما اتجهت البرلمانات في بعض البلدان العربية إلى تشكيل لجان مختصة بحقوق الإنسان وقد وجد ذلك تعبيره في كل من لبنان والكويت واليمن.
وقد بدأت المنظمات العربية لحقوق الإنسان تلعب دوراً متزايداً فى احاطة الرأى العام العربى والدولى بوضعية حقوق الإنسان داخل البلدان العربية، واستطاعت أن تكتسب احترام الحركة العالمية لحقوق الإنسان من خلال تطوير أدائها المهنى والالتزام. كما تمكن بعضها من اكتساب خبرات وآليات العمل المتعارف عليها لدى الحركة العالمية لحقوق الإنسان، وشق بعض هذه المنظمات طريقه نحو الاستفادة من الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان وذلك من خلال المشاركة فى أعمال اللجان المختصة بحقوق الإنسان داخل الأمم المتحدة، أو مخاطبة المقررين الخاصين وفرق العمل المعنية بأقسام خاصة من انتهاكات حقوق الإنسان داخل الأمم المتحدة.
ورغم أهمية ما تحقق في ظل العديد من الاعتبارات والعوامل السياسية والاجتماعية والثقافية التي أحاطت بمرحلة ميلاد الحركة العربية لحقوق الإنسان الا أن هناك العديد من التحديات وهى :
أ- التحديات القانونية :أفضت القيود القانونية التي تحفل بها التشريعات العربية إلى حجب المشروعية عن عديد من منظمات حقوق الإنسان.
ب- ضعف ثقافة حقوق الإنسان :هناك ضعف واضح وفى أحيان كثيرة غياب للوعي العربي على المستوى الشعبي والرسمي بثقافة حقوق الإنسان، وهو ما يقف حائلا دون تطوير أداء الحركة العربية لحقوق الإنسان، ويرجع ذلك إلى الحداثة النسبية في نشأة منظمات حقوق الإنسان العربية والقيود القانونية التي تحصر مجال نشاطاتها.
ج- الطابع النخبوي للحركة :ومعنى هذا الطابع أن الحركة تقتصر على صفوة من المثقفين، وبالتالي فهي منفصلة عن القواعد الشعبية الحقيقية للمجتمع، وهو أمر اقتضته نشأة هذه المنظمات على أيدي عناصر سياسية في بيئة تفتقر إلى ثقافة حقوق الإنسان وتعانى من هشاشة العمل الأهلي المستقل والضعف العام لمؤسسات المجتمع المدني، وتدنى قيمة الديمقراطية في الثقافة السياسية السائدة لصالح قيم التحرر الوطني والعدل الاجتماعي.
القسم الرابع
الانقلاب على حقوق الإنسان
اولا:حقوق الأنسان بعد 11 أيلول
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي شهدت الكتلة الاشتراكية وبعض الدول اللاتينية والشرق أوسطية حراكا لافتا على المستوى الإجرائي، وشرعت في إجراء إصلاحات سياسية تواءمت مع بنية الفكرة الديمقراطية وتزامن ذلك مع اتخاذ قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان مركز الصدارة في سجلات النخب الثقافية والسياسية.وفي موازاة ذلك كانت الولايات المتحدة الأمريكية تبسط سطوتها على النظام العالمي وتنصب نفسها داعيًا لنشر فلسفة النموذج الديمقراطي وحارسا له، متقاطعة مع أطروحة "فوكوياما" حول نهاية التاريخ.. معتبرًا أن البشرية أصبحت مرهونة بهيمنة النموذج الليبرالي الغربي الذي أغلق سقف التطور التاريخي لصالحه.وفي نفس السياق استغلت موقعها وقدرتها في النظام الاقتصادي الدولي لتمارس أقصى الضغوط عبر المؤسسات المالية الدولية ضد الدول التي تغرد خارج سرب الديموقراطية وفقا للمقاييس الغربية.و ظلت لافتات: الحريات، حقوق الإنسان، الرفاهية، تطرح كمحفزات تستخدمها الوسائل الثقافية والإعلامية الغربية وأنصارها في بقاع كثيرة من العالم؛ لإغراء الآخرين بإسراع الخطى نحو قطار الديمقراطية.
واللافت في الأمر انه لم يكن بوسع أحد قبل أحداث 11 أيلول 2001 أن يجنح به الخيال لتصور تحول الأمور بهذه السرعة. فمسحة التفاؤل وأحاديث الديمقراطية وتحولاتها، وقضايا حقوق الإنسان تحولت إلى هواجس ومخاوف من الدخول في نفق مظلم على المستويين العالمي والداخل الأمريكي نتيجة القوانين التي سُنَّت والتدابير التي اتُّخذت في أعقاب أحداث 11 أيلول في دفع البعض إلى تبنِّي مقولة: إن المجتمع الأمريكي بهذه الحالة بات أسفل سلم الحريات، وإن دولة القانون باتت على مقربة من دول العالم الثالث التي طالما لاحقتها الهيئات الأمريكية بتقاريرها حول أدائها السيئ في هذه الميادين.
فقد ركَّزت الإدارة الأمريكية على البُعْد الأمني، ورفضت إجراء أي محاولات تقويمية لتفهم الظروف والأسباب الموضوعية. وبدلاً من أن تشرع الإدارة الأمريكية في إعادة النظر في الملفات التي جلبت السخط على الإدارات الأمريكية المتعاقبة، اعتبر الرئيس جورج بوش أن سبب هجوم الإرهابيين على أمريكا يكمن في حقدهم على الديمقراطية والحريات التي يتمتع بها المجتمع الأمريكي، متجاهلا العديد من القضايا كالصرع العربي – الإسرائيلي، والتدخل في بعض القضايا الدولية بشكل غير عادل، والبيئة، والعولمة.. وكأن هذه الملفات لم تخلق مشاعر عدائئية.
ورغم أن ديمقراطية العلاقات الدولية تعاني منذ زمن بعيد، فإن ما جرى في أعقاب 11 أيلول ذهب بهذه المعاناة أشواطًا بعيدة. وقد فشلت كل الجهود في إقناع الإدارة الأمريكية على التقيَّد بمظلة الشرعية الدولية، والتشاور مع نظرائها في الأسرة الدولية للتداول حول خطر الإرهاب. وكرَّّست الإدارة الأمريكية بمساعيها سياسة الانفراد، ودأبت على توجيه أوامر خالية من معاني الدبلوماسية إلى أعضاء الأسرة الدولية. وطلبت وانشطن انصياع الجميع لإرادتها والاصطفاف خلفها. وقد حاول البعض تلمس تبريرات لهذه المواقف في بداية ألازمة، باعتبار أن الحدث كان فوق الاحتمال، إلا أن توالي الأيام لم يغيِّر الإدارة الأمريكية عن لهجتها. ولعل أخطر ما تمخضت عنه تداعيات 11 أيلول في هذا المجال، القانون الذي صدر في 5 تشرين الثاني 2001 وأقرته وزارة الخارجية الأمريكية، والذي يسمح للولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية لإطلاق سراح أي مواطن أمريكي أو مواطن من الدول الحليفة لأمريكا يكون قد تم القبض عليه في دول أخرى. وهكذا تصبح الصورة أكثر سوادا، ويصبح التساؤل مشروعًا: هل ثمة ديمقراطية في مجال العلاقات الدولية؟.
وقد اعتبرت الإدارة الأمريكية أن فضاء الحريات في المجتمع الأمريكي شكل مساحات مناسبة لتمدد الأنشطة الإرهابية. وحاولت الإدارة الأمريكية إفهام الشعب الأمريكي بأن الأمن ينبغي أن يكون الشاغل الأكبر في مرحلة استثنائية في حياة المجتمع الأمريكي. وقد وفرت أجواء الرعب التي خلفتها أحداث 11 أيلول وما تبعها من كابوس الجمرة الخبيثة أجواء مواتية مكنت الإدارة الأمريكية من تمرير قوانين واتخاذ تدابير غير مسبوقة في الخبرة الأمريكية. فقد استهل الرئيس الأمريكي إجراءاته في تعزيز الأمن الداخلي بإضافة حقبة وزارية جديدة تسمى وزارة الأمن الداخلي، التي ظلت مثارًا للسخرية باعتبارها علامة على النظم الشمولية. وقد كان التطور الأبرز في مجال تقليص الحريات القانون الذي وافق عليه الكونجرس لمكافحة الإرهاب،الذي حصل على أغلبية 9 أصوات من أعضاء الكونجرس في حين عارضه عضو واحد. والذي يمثل لحظة فارقة في تاريخ حقوق الإنسان والحريات في المجتمع الأمريكي؛ وقد أعطت مواد القانون صلاحيات هائلة لوكالة الاستخبارات الأمريكية بحيث أصبح مخولاً لها: توقيف الأجانب واعتقالهم دون تهمة، والتنصت على المكالمات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني، وتفتيش المنازل سرًّا والإطلاع على سجلات الشركات.
ثمَّة اعتقاد أن تلك القوانين وهذه التدابير لم تحرك ثائرة المجتمع الأمريكي؛ باعتبار أن الأمريكيين قد ذهلوا بما حدث في 11 أيلول وما تبعها، ولأن هذه القوانين وتلك التدابير ستتوجه إلى الأجانب وذوي الأصول غير الغربية. غير أن استمرار مفاعيل هذه القوانين وتلك التدابير ربما يطال المجتمع الأمريكي، الأمر الذي يفتح الآفاق على توقع حدوث تصادم بين عقلية الإدارة السياسية البراغماتية وآمال وطموحات الشعب الأمريكي. فالأول سيُلِحّ على الأمن، والثاني سيبحث عن استعادة الحقوق والحريات التي سلبتها منه قوانين وتدابير مكافحة الإرهاب؛ وربما دفع هذا إلى حدوث توترات وصراعات غير مسبوقة في النسيج الأمريكي تضع أمريكا على مشارف مرحلة جديدة.
ثانيا : مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان هزيمة سياسية لأميركا
منذ الإعلان عن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 15 /3/2006 بإنشاء المجلس الدولي لحقوق الإنسان، ليكون بديلا من اللجنة الدولية لحقوق الإنسان، سادت حالة من الارتياح داخل المنظمات الدولية والأهلية المعنية بحقوق الإنسان• كما عبّرت دول كثيرة مهتمّة بالإصلاح وتعزيز مسيرة الحقوق والحريات عن الرضى لعدم تشكيل مجلس محدود من الدول الكبرى، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، الهدف منه رسم سياسات وأدوارا للمجلس الجديد، لإلزام الدول الأخرى به وجعله محكمة عليا لحقوق الإنسان تفرض قراراتها على بقية الدول •
وسيتولى المجلس الجديد إستعراض تقارير الدول والمنظمات غير الحكومية وتقارير المنظمات الخاصة بحقوق الإنسان التي رُحِلّتْ إليه، بعد أن ينتهي دور اللجنة في 9/5/2006 عقب تصويت الجمعية العامة على اختيار أعضاء المجلس الجديد من الدول المرشحة• على ان يباشر المجلس انعقاد جلساته في 19/6/2006• ولقد أدى تشكيل المجلس الجديد لحقوق الإنسان بالصيغة التي أقرتها الجمعية العامة، إلى منح أفريقيا 13 مقعدا و آسيا 13 مقعدا و6 لأوروبا الشرقية و7 لأوروبا الغربية و8 لأميركا اللاتينية، بحيث يتكون المجلس من 47 دولة أعضاء في الأمم المتحدة، ما يوفر حدا" ملائما لتمثيل كل منطقة جغرافية، شريطة حصول الدولة الفائزة بالعضوية على الأغلبية المطلقة أثناء التصويت على 96 صوتا" عن طريق الاقتراع السري ، ما يجعل المجلس الجديد أكثر ديمقراطية وقبولا في تشكيله من جانب دول العالم الثالث•
ووضع المجلس الجديد قاعدة مهمة هي عدم جواز إعادة إنتخاب الدول، لمرة ثالثة مباشرة، بعد شغلها ولايتين متتاليتين بالانتخاب• وحدّد المجلس مدة العضوية في كل فترة بثلاث سنوات• وهو ما يتطلب ضرورة تنسيق الدول العربية المسبق لأدوارها، مّما يعتبر كسبا" وفرصة لها لكي تكون فاعلة، وتسعى للحصول على جانب من المقاعد من المخصصة لدول أفريقيا أو آسيا، وعدم الربط في عضوية المجلس الجديد، بين وجود مجالس أو لجان وطنية بها لحقوق الإنسان، في التقدم لعضوية المجلس الجديد• ذلك أن الابتعاد عنه سيؤدي إلى فرض سياسات مؤثرة في المستقبل على الدول الغائبة عنه• المجلس الجديد خطط له بحيث يكون عمله تشاوريا حقيقيا بين الدول في مجال حقوق الإنسان، مع الالتزام بالتعامل مع جميع الدول بمستوى واحد، دون تمييز بغضّ النظر عن هويّة الدولة وعن نظامها، إذا خالفت قوانين ومبادئ حقوق الإنسان• وبالتالي فالرؤية العامة لدور المجلس هي ألا يقتصر على الدول المتقدمة في مجال حقوق الإنسان• لذا لن يكون في ذلك ظلم للدول التي ما زالت في بداية الطريق، وغير عادل في توصياته أو إدانته لها• وأتى توزيع تمثيل المناطق الجغرافية ليعبر عن الواقع الدولي بأهمية وجود تنوع حتى يتمكن من تأدية دور أكبر على الساحة الدولية• وساهمت الجهود التي شهدتها عدة عواصم أوروبية وتبِنّى الاتحاد الأوروبي لمشروع إيان إلياسون رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، لإنشاء المجلس الدولي الجديد ودعوة منظمة العفو الدولية للدول الأعضاء للموافقة عليه، دون إبطاء، في إقناع الدول التي ليست لديها مجالس وطنية أو لجان استشارية لحقوق الإنسان بالتصويت لصالحه•
إن المجلس الجديد سوف يتعامل مع جميع الدول دون أفضلية أو تسييس، كما يقول بيان للأمم المتحدة • على أن يعمد المجلس إلى آلية جديدة مختلفة في نشاطه تحد من الممارسات السيئة القديمة للجنة الدولية• وسوف يقوم برفع قراراته للجمعية العامة وليس للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، وستضبط المعايير الجديدة لتعليق عضوية الدول بالمجلس الجديد في حالة ثبوت ارتكابها لانتهاكات لحقوق الإنسان، بشكل منظم ومتعمّد، للقضاء على سياسة ازدواج المعايير والمواقف المتخاذلة للجنة الدولية السابقة• وقد لعبت الجهود الأوروبية في كسب تأييد عدد كبير من الدول الأعضاء بعدم طرح سجلات الدول في مجال انتهاك أو احترام حقوق الإنسان، والالتزام بمعيار آخر لعضوية المجلس هو مدى التزام الدولة بتنفيذ ملاحظات اللجان التعاقدية وغير التعاقدية لحقوق الإنسان، في نشاطاتها في هذا المجال واهتمامها بتطبيق الاتفاقيات الدولية ومعايير الأمم المتحدة والانضمام إليها• ولم تخف عواصم عربية وشرق أوسطية ترحيبها بهذه الخطوة واعتبرتها بداية للديمقراطية الدولية داخل الأمم المتحدة ودعوتها للمجلس الجديد، بدعم وترسيخ حقوق الإنسان والدفاع عنها على المستوى الدولي وعدم حصرها في منطقة محددة•
وحددت الرؤية الجديدة لعمل المفوضية السامية لحقوق الإنسان بجنيف التي تعد جهازا منفصلا إداريا عن المجلس الجديد ضمن الأمم المتحدة، حيث سيكون المجلس تابعا للامين العام للأمم المتحدة مباشرة• إذ ستسعىالمفوضية إلى تطوير وسائل حماية حقوق الإنسان على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، لأن الهدف سد النقص الناتج عن غياب تطبيق حقوق الإنسان من الناحية العملية، والتأكد من أن الحقوق قد أصبحت واقعا فعليا، وأن التعاون والتفاعل مع المنطقة العربية يشكل جزءا أصيلا من خطة الأمم المتحدة في هذا الشأن• وأشارت تعليقات المراقبين إلى أن المجلس الجديد سيكون ملتزما"من خلال مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالعمل مع الحكومات والمؤسسات الوطنية والمجتمع المدني لتطوير طرق فاعلة لتعزيز الحوار والتفاهم بين الثقافات والحضارات والديانات، مبنية على أساس احترام عالمية حقوق الإنسان، لأن تعزيز هذه الحقوق سيساهم في تحقيق التنمية والأمن للوصول إلى عالم أكثر سلما ورفاهية• من اللافت في الموقف الأميركي اعتراضه على طريقة تكوين المجلس التي تمنع تسييس الموضوع وكانت أميركا هي التي صوتت وحيدة ضده وقال مندوبها إننا سنراقب عمل المجلس الجديد لمدة عام لمعرفة النتائج التي ستتمخض عن نشاطه• وبهذا الموقف يخشى أن لا تحظى أميركا بعضوية المجلس بعد عام نظرا لانتهاكات حقوق الإنسان لدى الإدارة الأميركية في الممارسات والتشريعات التي استحدثت بعد أحداث 11 أيلول 2001•
ثالثاا: ملاحظات حول حقوق الإنسان في ظل النظام الدولي ألآحادي
ثمة العديد من الملاحظات التي يمكنان تساق في مجال تطبيق حقوق الإنسان في الدول المتقدمة والنامية لا سيما في ظل النظام الدولي القائم وأبرزها:
- إن ما يميز حالة ووضع حقوق الإنسان في السنوات الأخيرة هو التدهور والانحطاط والمعاناة الكبيرة من اختراقها والتعدي عليها ليس كما تعودنا على ذلك في المجتمعات الدكتاتورية والتسلطية والاستبدادية فحسب وإنما أصبح الأمر يتعلق بالدول التي تتغنى بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وما إلى ذلك من شعارات ومصطلحات.فالقابعون في غوانتنامو وأبو غريب وفي غيرها من السجون والزنزانات عبر العالم بدون مساءلة ولا محاكمة ولا حتى الحق في الإدلاء بكلمة أو رأي أو الاستعانة بمحام، يتساءلون عن مصيرهم وعن حقوقهم كبشر في الكلام والتعبير والدفاع عن أنفسهم.
- لقد أدت الحرب على الإرهاب إلى انهيار الشرعية الدولية وأصبح العالم يشاهد على الهواء الاعتداءات على حقوق الإنسان في فلسطين بداعي محاربة الإرهاب و في العراق بداعي التحرير وإعادة البناء وفي المدن الأميرية والأوروبية ومختلف بقاع العالم بداعي احتواء القاعدة والقبض على إتباعها. والتطورات بعد 11 أيلول 2001 شكلت منعطفا خطيرا واثر سلبا على حقوق الإنسان في العالم وحتى تلك الدول القليلة التي كان ينعم الفرد فيها بهامش كبير من حرية الفكر والرأي والتعبير والصحافة وما إلى ذلك وضربت هذه القيم والمبادئ باسم الحرب على الإرهاب وراحت تتجسس حتى على المكالمات الهاتفية والبريد الالكتروني وغير ذلك من خصوصيات البشر. فأميركا حطمت كل ما بنته خلال القرون الثلاثة الماضية في شهور معدودة بعد أحداث 11 أيلول فتدخلت في شؤون المؤسسات الإعلامية وتدخلت في خصوصية الأفراد ليس فقط داخل حدودها وإنما في سائر دول العالم وكما يحلو لها.
- منذ البداية الأولى كانت الانطلاقة خاطئة إذ كانت هناك ازدواجية في المقاييس والمعايير حيث انه في العام 1948 تاريخ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كانت دول وأمم وشعوب ترزح تحت نير الاستعمار ولم يتطرق لها الميثاق لا من قريب ولا من بعيد ولم يولها أي اعتبار. فما هو الوضع في أيامنا هذه أيام الهيمنة الأميركية والحرب على الإرهاب؟. وما هو الوضع ونحن في نظام القطبية الأحادية وهل تمَّت عولمة ميثاق حقوق الإنسان؟ أم أن هناك فاعلون في النظام الدولي يستعملون المصطلح والمفهوم وفق معطياتهم ومصالحهم وهل بامكاننا الكلام عن عالمية حقوق الإنسان أم عولمة حقوق الإنسان؟.
- ما يمكن قوله أن حقوق الإنسان أصبحت أداة ضغط في يد القوى لفرض برامجه على الضعفاء،وأصبحت سلطة تمارس وتوظف في لغة السياسة والدبلوماسية وأصبحت تستعمل كوسيلة ضغط على عدد كبير من الدول التي تخرج عن سيطرة صانعي قرارات النظام الدولي. ففي الحوار بين الشمال والجنوب أو في العلاقات الثنائية أو حتى متعددة الأطراف تثار قضية حقوق الإنسان كما يحلو للطرف الأقوى.
- إن إشكالية حقوق الإنسان معقدة وأصبحت في عصر العولمة والحرب على الإرهاب وسيلة ضغط في يد الدول القوية ومبررا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول وللتحكم في مسار العلاقات الدولية وفق مصالحها وأهدافها، ومن أهم المتناقضات التي يعيشها العالم بشأن حقوق الإنسان إن دولة مثل الولايات المتحدة الأميرية المدافع الأول عن حقوق الإنسان لا تعير اهتماما لهذا المبدأ في داخلها إذا تعلق الأمر بالأقليات مثل السود والهنود والأقليات الأخرى ومنهم العرب ونلاحظ كم من مواطن عربي اتهم وسجن وطرد من أميركا بدون محاكمة وبدون أدلة قاطعة وبدون سند شرعي. وما ينسحب على أميركا ينسحب على معظم الدول الأوروبية والدول المتقدمة. فرنسا مثلا في تعاملها مع المسلمين ومع مواطني شمال أفريقيا تبتعد كليا عن حقوق الإنسان وقصة الحجاب الإسلامي تبقى وصمة عار على دولة تدعي في شعاراتها «الحرية ـ الأخوة ـ المساواة».
- ويلاحظ كذلك أن الدول الفاعلة في النظام العالمي تساند وتدعم أنظمة مستبدة دكتاتورية في العالم الثالث وهذا يتناقض جذريا مع مبدأ حقوق الإنسان باعتبار أن هذه الدول وبحكم نظامها السياسي السلطوي لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تحترم حقوق الإنسان إذا غابت الحريات الفردية وحرية الفكر والرأي والتعبير والفصل بين السلطات، والغريب في الأمر أن الدول الغربية تساند هذه الدول النامية لفترة زمنية معينة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية والاقتصادية وبعد فترة معينة تنقلب عليها.
- يلاحظ أن الولايات المتحدة التي نصَّبت نفسها رقيبا على حقوق الإنسان في العالم تكيل بمكيالين إذا تعلق الأمر بإسرائيل وبأطفال فلسطين وبالغارات على جنوب لبنان واحتلال الجولان، أما بالنسبة لإسرائيل فتوصف بالدولة الديمقراطية المتمتعة بحقوق الإنسان وبالحريات المختلفة وتستفيد سنويا من 12 مليار دولار ومن الأسلحة الاميركية المتطورة لقتل الأبرياء وتحطيم البنية التحتية لفلسطين. والحرب على أفغانستان والعراق حيث أصبحت قناة سي.أن.أن هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة في العالم المسموح لها بتزويد البشرية جمعاء بما تراه خبرا أم لا؟ وفي مقابل ذلك تمنع العديد من المحطات من البث كالمنار وكذلك الكشف عن تهديد كان أصدره الرئيس الأمريكي جورج بوش بقصف قناة الجزيرة إبان غزو العراق، أين هو حق الاتصال وحق المعرفة وحق الإعلام؟.
- إن بعض المنظمات غير الحكومية التي تعنى بشؤون حقوق الإنسان قد تم اختراقها واستغلالها واستعمالها وانحازت لدول ولمصالح ولإيديولوجيات معينة على حساب خدمة مبدأ إنساني عالمي لا يعرف في الأساس لا بالحدود ولا بالجنسيات ولا بالديانات ولا بالأعراق وإنما يعترف بالمباديء العليا للإنسانية وللبشرية.
- هل البشرية بحاجة إلى عولمة حقوق الإنسان أم إنها بحاجة إلى عالمية حقوق الإنسان؟ وإذا تكلمنا عن العالمية فهذا يعني احترام خصوصية الشعوب والأمم والحضارات. وكيف يكون مستقبل حقوق الإنسان في ظل العولمة، عولمة لا تؤمن بخصوصية الشعوب ولا بالشعوب الضعيفة والمغلوب على أمرها، عولمة تقوم على سلطة المال وسلطة السياسة ونفوذ القوة فالشركات المتعددة الجنسيات تسيطر على المال والأعمال والصناعات بما فيها صناعة الأفكار والقيم والرأي عبر الصناعات الثقافية المختلفة.ثمة أسئلة تطول بطول لوائح الانتهاكات التي ترتكب بحق الشعوب والأمم والتي تحتاج إلى إجابات محددة لكي تفضح المبررات التي وقفت وراء العديد من الحروب في هذا القرن تحت ستار حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب وغيرها!.