22‏/05‏/2014

جغرافيا سياسية جديدة في اوراسيا

جغرافيا سياسية جديدة في اوراسيا
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 20/5/2014 

      ريما قدر منطقة البلقان ان تبقى ساحة صراع ومدخلا لحروب اقليمية سرعان ما توسّعت في الماضي لتصبح عالمية. واليوم ما يجري في اوكرانيا وبخاصة جنوبها الشرقي بعد القرم وانضمامها إلى روسيا ، هو دليل واضح على عودة البلقان إلى ما اعتادت عليه في سياق الصراعات الاقليمية والدولية ، ولو من ابواب جديدة قديمة ، تتعلق بالجغرفيا السياسية لمنطقة اوراسيا بالكامل ولتشمل مجالات حيوية ذات صلة بها ، ممتدة إلى مناطق شاسعة من دول آسيا الوسطى.
       وإذا كان النزاع الحالي يتموضع في صور وأنماط قانونية متصلة بالأعراق والاتنيات وخياراتها بالانفصال عن جهة والانضمام إلى جهة اخرى ، فان الخلفية الحقيقة لهذا النزاع – الصراع يخفي تحديات كبيرة لروسيا في مواجهة الغرب عموما والولايات المتحدة الامريكية خصوصا ،على قاعدة محاولة تحجيم موقع ودور روسيا في غير منطقة مشتعلة في العالم.
       ان احياء الدور الروسي بعد سنوات من الانكفاء على الساحة الدولية ابان عهد بورس يلتسين، ساعد واشنطن وعبر سياسة الاحتواء من اتباع وسائل بديلة عبر استغلال التوترات على امتداد منطقة القوقاز من أوكرانيا وجورجيا مروراً بأرمينيا واذربيجان وصولاً إلى قرغيزستان لمواجهة موسكو، لكن الغلبة كانت للأخيرة التي تمكنت من فرض استقلال ذاتي لجمهوريتي ابخازيا وأوسيتيا الشمالية عن جورجيا، كما الحال مع شبه جزيرة القرم التي انضمت اليها. مؤخرا.
       ان الإشكالية الرئيسة التي تطرحها الازمة الاوكرانية حاليا، مفادها أن الغرب، بعدما حقق نصراً موصوفا على روسيا في البلقان عبر يوغوسلافيا ابان عهد الرئيس بوريس يلتسين ، ومن ثم انفصال كوسوفو عن صربيا في عهد الرئيس ديميتري ميدفيديف، قابله انتصار روسي في الشيشان، وإلحاق هزيمة واضحة بالنظام الجورجي الموالي لواشنطن في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، والذي سبقه انهيار الثورة البرتقالية في أوكرانيا والثورة الوردية في قرغيزستان ، وإخفاق واشنطن في حربها في افغانستان والعراق.
      ما يجري اليوم في شرق اوكرانيا ، يبدو انه ذات صلة بسياق جديد لاستنساخ التجربة اليوغسلافية والتشيكوسلوفاكية للتجزئة والتقسيم ، ذلك على قواعد عرقية واتنية واقلوية. وهذا ما يعيد بناء تركيبة جديدة في البلقان تعيد الى الاذهان مآسي وويلات حروب سابقة سببتها قضايا البلقان ان كان في الحرب العالمية الاولى او الثانية.
     لكن السؤال الذي يثار هو كلفة المسألة وتعقيداتها وتداعياتها المستقبلية في اطار التنافس الروسي الاميركي الشديد في منطقة يعتبرها كل طرف منطقة حيوية غير قابلة للتفاوض بوسائل تقليدية، وهذا ما يظهر في السلوك السياسي والعسكري والأمني الذي ترجمته موسكو في معالجة قضية شبه جزيرة القرم وما يقابله الآن من سلوك في شرق اوكرانيا الذي يعزز من فرضية انتشار الفوضى وصولا الى حروب اهلية واسعة النطاق ربما تمتد لتطال مناطق حيوية اخرى.
      والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه ايضا ، اذا كانت النية اعادة استنساخ التجربة اليوغسلافية قائمة، فهل الظروف هي نفسها في الحالتين قائمة لتؤدي الى نفس النتيجة ؟ في الواقع ان ظروف المسألتين هي مختلفة تماما،  فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين عاد الى الكرملين عبر برنامج يعتبره تحديا سياسيا له، هو عودة اوراسيا الى الحضن الروسي ، بمعنى آخر ، اعادة فك وتركيب كل المناطق التي تعتبرها موسكو حيوية لها، باعتباره مدخلا ضروريا ولازما لعودتها القوية على الساحة الدولية ، الامر الذي تواجهه واشنطن بأدوات ووسائل تقليدية ومعقدة في آن معا، ما يعني ان حسابات الطرفين ستذهب الى النهاية لجهة الآمال والنتائج والتحديات. وهي مكلفة بطبيعة الأمر قبل كل شيء لشعوب ودول المنطقة التي يجرى التنافس والشد والجذب عليها.
      وإذا كانت المسألتين اليوغسلافية والتشيكوسلوفاكية كلفت الكثير اوروبيا ، فان القضية الاوكرانية هي بدورها ستدفع لاعبين كثر للتدخل فيها ، بصرف النظر عن حسابات الربح والخسارة على المدى القصير والطويل، باعتبار ان أزمات البلقان ووقائعها في التاريخ والجغرافيا لم تكن يوما بعابرة، بل مهدت في الكثير من مظاهرها سابقا وربما لاحقا ، لوقائع لها علاقة بالجغرفيا السياسية لمنطقة هي اشد حساسية في العالم. وهذا ما يبدو واضحا حتى الآن في اسلوب وطريقة الأزنة التي تدار فيها روسياً وأمريكياً.

 

16‏/05‏/2014

رئاسيات العرب وانتخاباتهم

رئاسيات العرب وانتخاباتهم
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 10/5/2014
      في المبدأ تبقى الانتخابات برلمانية كانت ام رئاسية مظهرا من مظاهر تداول السلطة في الانظمة السياسية على الصعيد النظري. لكن اي انتخابات في مطلق نظام سياسي تتطلب الكثير من المعطيات والوسائل والآليات لتصل إلى غاياتها المرجوة، فماذا يجري في دولنا العربية ؟ وهل هي وسيلة للخروج من مأزق الديموقراطية التي وقعنا فيه ، وهل تعبر عن حالة التحوّل التي تجتاح مجتمعاتنا وأنظمتنا منذ سنوات؟
       ولكي نكون منصفين ومتصالحين مع انفسنا ، ربما تبدو المقاربة صحيحة من زاوية اجراء الانتخابات بصرف النظر عن وقائعها ونتائجها التي تبدو للكثيرين ملتبسة ، وربما لا تعبر عن تطلعات شرائح اجتماعية وسياسية واسعة في مجتمعاتنا العربية. وهذه حال معظم حالات الانتخاب التي جرت مؤخرا في بعض البلدان العربية ، وربما سينطبق الأمر عينه على واقع الانتخابات المقبلة في بعضها الآخر.
      ففي اصل المشكلة تبدو إلى حد كبير مرتبطة بشكل أو بآخر في فهمنا للتغيير والوسائل والآليات التي نتبعها لذلك، ثمة اجماع على ضرورات التغيير ،لكن هل وضعنا تصورا ولو مبدئيا لذلك عبر احزابنا وهيئات مجتمعاتنا المدنية ؟ وهل ما قمنا به من حراك ادى إلى تغيير مماثل لحجم التقديمات التي دفعت؟ وهل بتنا اليوم في واقع افضل مما كنا فيه تمثيلا وانتخابا ومشاركة وتداولا للسلطة ؟ تبدو الاجابة سلبية في اغلب الصور النمطية التي رأيناها في اي بلد عربي. وهي مأساة كبيرة بحجم الآمال الكبيرة التي علقت عليها ، كما بحجم الأثمان التي استنزفتنا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا دون فائدة تذكر.
       انتخابات تمثيلية افضت إلى وصول حكومات سرعان ما انهارت  امام تحديات ضخمة واجهتها، كالنموذج التونسي والليبي مثلا. انتخابات نيابية اجلت في بعضها الآخر ، نتيجة ظروف خاصة مثل لبنان، وبعضها الآخر اجري على عجل كالعراق ومصر وسوريا وغيرها. والمشترك بينها جميعا الحاجة الاجتماعية والسياسية للتغيير ، لكن جميعها أيضا كانت شكلا من اشكال كبح جماح المطالبة بالتغيير وتداول السلطة ، رغم انها لم تبدّل في صورة المشهد السياسي العام في مجتمعاتها ودولها. وظلت كغيرها من الصور النرجسية التي اعتادت مجتمعاتنا العربية على بلعها وهضمها ولو عنوة.
        وفي موازاة ذلك، اجريت انتخابات رئاسية اسقط بعضها نتيجة تسلق بعض جماعاتها السياسية السلطة على اكتاف اصحاب المصلحة الحقيقة في التغيير ، كما حدث في مصر بعد عزل الرئيس حسني مبارك، فمارس الاخوان سياساتهم الخاصة في مفاصل الدولة الرئاسية وغيرها كمثل من سبقوهم وربما افظع، فهل ستبدّل الانتخابات الرئاسية القادمة هذه الصورة؟ انتخابات رئاسية اخرى كرّست شعار الجمهوريات الملكية كمثال الجزائر والولاية الرابعة لرئيسها. والأمر ربما سيتكرر في نفس الآليات والوقائع والنتائج في الحالة السورية ، فيما العراق الذي ينتظر ائتلافا حكوميا لن تكون رئاستها بمعزل عن التحديات التي واجهتها سابقا وهي بطبيعة الامر من العيار الثقيل.
      وفي لبنان الامر يبدو اكثر تعقيدا ، في ظل دخوله اجواء ازمة فراغ قاتلة للسلطة ومفاصلها. اذ من الواضح ان لا انتخابات رئاسية ضمن المهلة الدستورية ، وبالتالي يبدو ان الأمر مؤجلا إلى حين ايجاد تسويات اقليمية واضحة تتضمن سلة ملفات من بينها لبنان وسوريا والعراق ربطا بتبريد الاجواء السياسية بين دول الاقليم الفاعلة.
       فالشهر الحالي واللاحق سيكونان اختبارا مفصليا لاتفاق الاطار الايراني مع الدول الست بخصوص البرنامج النووي، وهو بطبيعة الأمر سيكون مفتاحا لإعادة تبريد الاجواء أو تسخينها في المنطقة بحسب نتائجه ، وبالتالي ان اغلب المعطيات والمؤشرات تشير إلى ان ثمة ربطا مباشرا في هذا الاستحقاق الاقليمي ومجموعات الاستحقاقات الرئاسية في المنطقة. فهل ستكون عمليات الانتخابات الرئاسة في بلد عربي ما ، مرتبط إلى حد كبير بدور وموقع النظام في سلة التفاهمات المقترحة في المنطقة ؟ يبدو ان هذه الفرضية إلى الأقرب احتمالية وصوابية .

روسيا بين العقوبات والعقبات

روسيا بين العقوبات والعقبات
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 28/4/2014
     بات السلوك الروسي في اوكرانيا مركز جذب وشد في الاوساط السياسية والاقتصادية الدولية ، وعزّز من هذه التحولات ضمور مشاكل المجال السياسي الاوراسي على الساحة الدولية وازدياد ضموره بسبب الاوضاع السائدة في القرم حاليا. ويلاحظ ان موسكو دخلت بمواجهة واضحة المعالم مع الغرب ضمن منطق خاص بها، ترجمته في العام 2008 في الحرب مع جورجيا التي اعقبها اعلان استقلال جنوب أوسيتيا وأبخازيا وكذلك الحال بما يتعلق بالصراع الدائر في غير مكان من العالم ومن بينها اوكرانيا وسوريا.
       ولمزيد من الضغوط على موسكو، صعّد الغرب من مستوى العقوبات الاقتصادية عليها الى الدرجة الثاني، فما هي آثارها؟ وما هي بدائل روسيا الممكنة ؟ ومدى فاعيلة الاجراءات المتبادلة في تلك الظروف؟
     في لغة الارقام ثمة مروحة تجارية واسعة جدا بين روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ، وهو اعتماد تجاري متبادل من الصعب تجاهل آثاره المتبادلة على الطرفين الغربي والروسي. ويؤكد مكتب الإحصاء التابع للاتحاد الأوروبي ، أن روسيا مسؤولة عن 7% من إجمالي واردات الدول الـ 28 الأعضاء في الاتحاد الاوروبي و12% من صادراتها، ما يجعل هذه الدول مجتمعة الشريك التجاري الأول لروسيا بعد الولايات المتحدة والصين.
       وقد بلغ حجم التجارة البينية الروسية الامريكية العام 2013 الأربعين مليار دولار، وفق غرفة التجارة الأميركية، إذ صدرت واشنطن إلى روسيا بقيمة 11.26 مليار دولار واستوردت منها بقيمة 26.96 مليار. في المقابل صدرت موسكو ما قيمته حوالى 19 مليار دولار من النفط ومشتقاته إلى واشنطن، اضافة الى أسمدة بقيمة مليار دولار، وهي مواد من الصعب ايجاد بدائل منها عن السوق الروسية.
       كما تعتبر روسيا أكثر اعتماداً على التجارة مع الاتحاد الأوروبي، فدول الاتحاد تصدر نصف واردات روسيا وتستورد نصف صادراتها. وسجلت التجارة الروسية - الأوروبية في العام  2012 حوالى 123 مليار دولار. اذ كانت أبرز صادراتها إلى أوروبا الغاز الطبيعي الذي يعتمد عليه في المنازل والمصانع. كما ان ربع الحاجة الأوروبية من الغاز تلبيه موسكو، ويشار الى ان ألمانيا تعتبر من أكبر مستوردي الغاز الروسي في أوروبا في مقابل 30 بليون يورو سنوياً. وهنا أيضاً تبدو الخيارات الأوروبية ضيقة في حال قرَّر الاتحاد الأوروبي المضي في عزل موسكو تجارياً وسياسيا.
       وفي حال تمكنت العقوبات من ان تفعل فعلها، فيبدو ان خيارات موسكو ستتجه شرقا ، وبالتحديد استثمار منظمة شنغهاي باعتبارها بديلا معقولا . فمنظمة شنغهاي للتعاون هي محفل قاري جمع تشكيلات واسعة من الدول السريعة الصعود. وبما أن المنظمة تعتبر اختراع روسي - صيني، فإنها تضم عددًا من دول آسيا الوسطى كأعضاء دائمين، بينما ظلت إيران وأفغانستان وباكستان دولاً مراقبة. وتعد  إيران وروسيا مجتمعتين أكبر منتج للطاقة في العالم. كما تضم المنظمة أكثر الدول استهلاكًا لموارد الطاقة، وهي الصين والهند. ولدى معظم تلك الدول ما ينافسون الغرب من أجله، علاوة على الطموحات السياسية والعسكرية. كما ان هذه الدول هي الأكبر في أوراسيا ومن أهم الدول تأثيرًا في الشؤون الدولية.كم ان الامر لن ينحصر عند هذا الحد ومن الممكن ايضا التركيز على تجمع دول البريكس الذي سيعطي موسكو مزيدا من عوامل الصمود ولو لوقت ليس بالضرورة طويلا.
       وعلى الرغم من البدائل الروسية المريحة نسبيا في المدى المنظور، إلا انها تعاني من حزمة من المشاكل والمصاعب الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، كإهمال رأس المال الإنساني ، ونمو النزعة القومية ، وانعدام النمو الاقتصادي ، واعتماد الاقتصاد بصورة أساسية على تصدير الهيدروكربونات.
       اليوم يتواجه الطرفان الروسي والغربي في اشد المناطق حساسية بالنسبة لروسيا او بالتحديد بالنسبة لفلاديمير بوتين، وهي المنطقة الاوراسية التي تعتبر عصب البرنامج السياسي الذي صعد اليه بوتين الى الكرلمن، ولهذا فان العقوبات الغربية ، ربما تفعل فعلها في روسيا على المستوى المتوسط والطويل،لكنها دونها عقبات كثيرة ، وهي قابلة للمواجهة بوسائل القوة الناعمة التي اجادتها وتجيدها الولايات المتحدة في سياق التعامل مع الازمات الدولية الكبيرة، ومنها الحالية مع روسيا.