27‏/03‏/2011

القرار 1973 واستنساخ التجربة العراقية

القرار 1973 واستنساخ التجربة العراقية د.خليل حسين أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية بين القرار 1970 و1973 المزيد من المجازر ارتكبت في ليبيا،ولم يكن ثمة تحرك دولي واضح لوقفها.ما يعني ان ثمَّة اتجاه واضح مشت فيه القوى المسيطرة في مجلس الأمن لإدارة الأزمة بدل الولوج في سياق حل ما؛ما يعني ان لا حل قريب لمجمل الواقع الليبي القائم،بانتظار ظهور مزيد من التداعيات التي يمكن استثمارها داخليا وخارجيا ربطا بالحراك الشعبي العربي القائم في المنطقة. وربطا بالتجارب السابقة التي لجأ فيها مجلس الأمن لمثل هذه الوسائل، يمكن ملاحظة التشابه ان لم يكن التطابق في السلوك تجاه القضايا المتشابهة.فعلى سبيل الماثل لا الحصر، سجَّل مجلس الأمن تحركا فيه الكثير من الريبة في سياق معالجة المسألة العراقية قبل عشرين سنة، عندما أنشأ منطقتين آمنتين في العراق بذريعة حماية الأكراد شمالا،والشيعة جنوبا،وتواصل الحظر الجوي مع سياسات النفط مقابل الغذاء.في كلا الحالتين،لم يتمكن مجلس الأمن من حماية لا الأكراد ولا الشيعة،كما لم يطعم الشعب العراقي من خيرات نفطه،بل أدى السلوك المعتمد إلى تكوين البيئة المناسبة لغزوه واحتلاله بصرف النظر عن الشرعية والمبررات التي أدّت إلى الاحتلال والتداعيات الناجمة عنه. ما يجري اليوم في ليبيا مشابه إلى حد كبير بما جرى في العراق سابقا،ويبدو ان الذرائع والمبررات وحتى أدوات الحذر الغربي في التعاطي مع المسألة العراقية هي متطابقة مع الظروف الليبية،ما يعني ان مزيدا من الوقت سوف تأكله إدارة الأزمة في ليبيا،وهذا ما ظهر تحديدا في بعض التصريحات حول آليات تطبيق القرار 1973،بحيث ان تنفيذ القرار مرهون بتصرف النظام الليبي،ما يعني ان تحرك مجلس الأمن سيكون في موقع رد الفعل لا الفعل،وكأن ما جرى حتى الآن لا يستحق المبادرة والمبادأة في التحرك والتصرّف؛ما يثير جملة من الأسئلة المتعلقة بخلفية التدخل الدولي وما سيؤول إليه من نتائج وتداعيات لاحقة. في المبدأ،وفي سياق التحليل والتدقيق في الوقائع الميدانية الليبية،تشير الأمور ان همَّ النظام منذ بداية الحراك الشعبي، محاولة تأمين ربط نزاع طويل الأمد مع الثوار ان لم يتمكن من إخماد التحرّك في بداياته وهذا ما حصل. ما يعني ان القرار 1973 أتى ليكرس الأمر الواقع الموجود ميدانيا. منطقة شرقية تحت سيطرة النظام إلى حد بعيد،تقابلها منطقة غربية لا زال الثوار في معرض الكفاح لإبقاء سيطرتهم عليها.وبين عمليات الهجوم والصّد ظهر القراران 1970 و1973 ليرسمان حدود اللعبة في المدى المنظور في الواقع الليبي. ان ذلك الوضع لا يعني بالضرورة، انه لن تكون هناك ضربات جوية أو بالأحرى استعمال القوة غير الناعمة ضد النظام مستقبلا، بل بالتأكيد سيكون هذا الخيار قائما فقط للترتيب الدائم لميزان القوى الداخلي في ليبيا، ريثما تنضج ظروف التفاوض داخليا حول مستقبل الاستفادات الغربية من المزايا الليبية النفطية وغيرها، كما تأثيرات التدخل الدولي في ليبيا على النظام الإقليمي العربي وبخاصة في الجانب الإفريقي منه خارجيا. طبعا ان الظروف الديموغرافية والطبوغرافية للواقع الليبي يجعلان التدخل الخارجي أمرا محتما لإيجاد موازين قوى داخلية متقاربة، ان كان الحسم خيارا بعيدا أو متعذرا بحكم الحسابات الدولية البرغماتية. لكن الخوف كل الخوف ان يكون هذا التدخل هو بداية لتواجد قوات دولية بصرف النظر ان كانت تحت سلطة القبعات الزرق التابعة للأمم المتحدة، أم قوات متعددة الجنسيات اذا تعذر تشكيلها بفعل الحذر الروسي والصيني حتى الآن. ما يشكّل سابقة أخرى في تعاطي المجتمع الدولي مع القضايا العربية وهذه المرّة في الجانب الإفريقي للنظام الإقليمي العربي وما يشكّل هذا الواقع من حساسية عالية في ظروف الثورة المصرية الواعدة أو على الأقل المخيفة لإسرائيل خاصة والغرب عامة،وفي ظل انفصال جنوب السودان،والمترافق مع الجمر الراكد تحت رماد المغرب العربي بكل أزماته وتفاصيل قضاياه المملة تقسيما وانفصالا،حيث تختلط المطالب السياسية بالعرقية والقومية وبشتى صنوف المطالب القابلة للاستثمار والتحريك بشتى الاتجاهات والأهداف والغايات. ان فداحة ما يجري في ليبيا يتطلب تدخلا من نوع آخر،قوامه حراك على ركيزة عربية لدعم الثوار في سبيل تحقيق التغيير السريع،وليس بالضرورة التدخل العسكري ان كان عربيا أو غربيا ،باعتباره سيخلق حساسية ومشكلة أخرى مستقبلا وبخاصة في سياق التجارب الجارية حاليا كنموذج درع الجزيرة في البحرين. وبمعنى آخر، إن جسامة الواقع الليبي وأثره المباشر في داخله وخارجه يحتِّمان التصرّف بعناية كبيرة،باعتبار ان أي تدخل عسكري في ليبيا سيكون له تداعيات مستقبلية على مجمل النظام الإقليمي العربي في إفريقيا،والذي سيكون مرتكزا ومنطلقا شرقا وغربا باتجاه جميع الدول العربية المستلقية على صفيح ساخن حيث تتقلب ثورات الجماهير ربما بعفوية كاملة،لكن إداراتها وطرق استثماراتها ليست كذلك. بالأمس كان العراق والصومال،وقبله لبنان، واليوم ليبيا ولا نعرف من سينضم إلى لائحة التدخلات الخارجية في المستقبل القريب، لكننا يمكن ان نعرف مدى جسامة وخطورة واقعنا العربي الذي بات مشرّعا على الخارج دون حسيب أو رقيب أو دون وازع أو رادع ممن يرسم سياساتنا ويجثم على صدورنا. لقد أوصلتنا السلطات التي عشنا في كنفها إلى حالة من الخنوع واليأس وحتى الاكتئاب السياسي، الذي بات فيه المواطن العربي ومجتمعاته يتعلقان بأوهام الحلول الدولية وترياقها عبر التدخلات العسكرية وهي تعلم علم اليقين ان هذه التدخلات لن تكون سوى مرحلة في سياق إعادة إنتاج السلطات والأنظمة غير المختلفة عن التي سبقتها سوى بالوجوه. خوفنا اليوم ان تتكرّر تجربة العراق مع مجلس الأمن في ليبيا، واستنساخ القرار 1973 ظروفا ليبية هي أشبه ما تكون إلى حالة من الفوضى التي تريدها الولايات المتحدة "خلاقة" عبر الحراك الشعبي بعدما فشلت في فرضها بوسائل مختلفة سابقا ومنها العسكري!.

25‏/03‏/2011

التنظيم الدبلوماسي

اسم المؤَلف: التنظيم الدبلوماسي
المؤلف: البروفسور خليل حسين
الناشر: منشورات الحلبي الحقوقية / २०११
الدبلوماسية في معناها العام مجموعة المفاهيم والقواعد و الإجراءات والمراسم والمؤسسات والأعراف الدولية التي تنظم العلاقات بين الدول والمنظمات الدولية والممثلين الدبلوماسيين ، بهدف خدمة المصالح العليا(الأمنية والاقتصادية) والسياسات العامة وللتوفيق بين مصالح الدول بواسطة الاتصال والتبادل وإجراء المفاوضات السياسية وعقد الاتفاقات والمعاهدات الدولية و تعتبر الدبلوماسية أداة رئيسة من أدوات تحقيق أهداف السياسة الخارجية والتأثير في الدول والجماعات الخارجية بهدف استمالتها وكسب تأييدها بوسائل شتى، منها ما هو إقناعي وأخلاقي ومنها ما هو ترهيبي وغير أخلاقي ।إضافة إلى توصيل المعلومات للحكومات والتفاوض معها।كما تعنى الدبلوماسية بتعزيز العلاقات بين الدول وتطويرها في المجالات المختلفة بالدفاع عن مصالح وأشخاص رعاياها في الخارج وتمثيل الحكومات في المناسبات والأحداث علاوة على جمع المعلومات عن أحوال الدول والجماعات الخارجية وتقييم مواقف الحكومات والجماعات إزاء قضايا راهنة أو ردّات فعل محتملة إزاء سياسات أو مواقف معينة ।
تعود جذور الدبلوماسية إلى التاريخ البشري القديم حين نشأت استجابة لضرورة تنظيم العلاقات بين القبائل والشعوب كالمصريين والبابليين والآشوريين، حيث مارس المبعوث دوراً سياسياً يعتبر في طليعة الأدوار السياسية الواضحة في المجتمعات الإنسانية. أما مهمة المبعوث فكانت إقامة التفاهم حول قضايا مختلف عليها، كتقسيم المياه أو تحديد مناطق الصيد لكل من الأطراف أو إقامة التحالف ضد أطراف ثالثة أو إعلان الحرب أو إبرام الصلح، وتبادل الأسرى أو الوصول إلى الاتفاقيات التجارية. وقد حاول اليونان والرومان تنظيم هذه المهام عبر مبعوثين كانوا يسموّن egatis ثم سارت الكنيسة المسيحية على نفس المنوال عندما اتخذت مبعوثين مقيمين .
أما بالنسبة للعرب أيام الجاهلية، فكانت القبائل ترسل الوفود للتهاني والتعازي والتشاور والتفاوض والتحالف ، وقد عرفوا وظيفة "سفارة" وعرف عن بني عُدي ، من بطون قريش ، توليهم السفارة قبل الإسلام وفي فجر الإسلام قام الرسل بمهام تبليغ الإنذار قبل البدء في القتال وتسوية المسائل المتعلقة بالهدنة والصلح و تبادل الأسرى وتحريرهم بعد انتهاء الحرب.
وقد قام النبي العربي (ص) بإيفاد عدد من الرسل إلى كثير من رؤساء القبائل العربية التي قبل معظمهم الدعوة إلى اعتناق الإسلام . كما أوفد النبي الرسل إلى النجاشي ملك الحبشة والمقوقس ملك مصر وهرقل إمبراطور الروم وكسرى ملك فارس، وكانوا يحملون معهم كتباً متوّجة بعبارة :"سلام على من اتبع الهدى"يدعوهم فيها النبي إلى اعتناق الإسلام .
وقد استقبل الرسل من قبل الملوك والأباطرة بالتكريم عدا كسرى الفرس، الذي مزّق الكتاب المرسل معلناً بذلك الحرب على المسلمين . وقد حذا الخلفاء حذو الرسول (ص) في إيفاد الرسل والكتب والبعثات الدبلوماسية التي تنوَّعت أغراضها ، فعلاوة على تسوية الخلافات وعقد المعاهدات التجارية وتهنئة الحكام والملوك بتولي الحكم أو الزواج، فقد شملت هذه البعثات الأغراض العلمية والثقافية إلى جانب الرغبة في معرفة أحوال الدول الأخرى لأسباب نفسية واجتماعية واقتصادية وحربية .
كما توخّى العرب انتقاء الرسل وفق توافر مواصفات معينة فيهم، منها الجسامة والوسامة والثقافة والفصاحة والحصافة والعراقة والحلم . كما أن الدولة الإسلامية منحت الرسل الوافدين إليها الأمان والسلام طوال إقامتهم في ربوعها ، حتى عندما كان الإفرنج يلجأون إلى الغدر برسل العرب كما حصل في عهد صلاح الدين الأيوبي إبان الحروب الصليبية، ويعتبر مؤرخو الدبلوماسية أن المرحلة الثانية من مراحل الدبلوماسية نشأت مع إقدام جمهورية البندقية على إيفاد دبلوماسيين مقيمين ، ذلك إبان ازدهار تجارتها ونمو سلطانها البحري والحربي ، إلى القسطنطينية وروما ،مركز البابا الكاثوليكي، والدول الإيطالية الرئيسة ، حيث عمدت إل نشر الفتن وحبك المؤامرات والدسائس بواسطة مبعوثيها الدبلوماسيين . واستمر هذا المفهوم التآمري للدبلوماسية فترة من الزمن حتى أن بريطانيا حظرت على أعضاء البرلمان ( 1653) التحدث إلى أي دبلوماسي أجنبي .
وقد أرست معاهدة وستفاليا عام 1648 قواعد الدبلوماسية الدائمة والمقيمة - وإن لم تحسم بوضوح نهائي مسألة امتيازاتها وحصاناتها - عندما أنشأت مبدأ المساواة الحقوقية بين الدول ، وكان عددها آنذاك 12 ‏دولة أوروبية ، ورسخت فكرة التوازن الأوروبي كضرورة من ضرورات السلام والأمن في القارة الأوروبية . أما المرحلة الثالثة من تطور الدبلوماسية فتؤشر بانعقاد مؤتمر فيينا عام 1815- سقوط نابليون الأول - والتي امتدت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، وتميّزت بتأثرها بكتابات أساطين القانون الدولي ‏ أمثال غروشيوس وجنتليس ودي كاليير ، فاكتسبت العلاقات الدبلوماسية قواعد ثابتة وأسساً واضحة وترسّخت مع مرور الزمن من خلال احترامها والعمل بها .
وفي هذه المرحلة ترسّخ البروتوكول الدبلوماسي كوسيلة من وسائل تمكين الدبلوماسي من شرح موقف حكومته بتعابير دقيقة ومهذبة . كما أصبح السفراء ممثلين للدولة لا لشخص الملك بالذات ومنتظمين في إطار يتمتع بكيان خاص ، وتناقص دور السفراء في التجسس والتخريب وتركزت مهامهم في إطلاع دولتهم على جميع ما يجري في البلاد المعتمدين لديها والإسهام في إيجاد الحلول السلمية للمنازعات الدولية انطلاقاً من الحفاظ على موازين القوى .
أما العمل الدبلوماسي نفسه فاتسم بالسرية والكتمان وحصرت المعلومات الخاصة به بأشخاص قلائل وبالتالي تمتع السفراء بمرونة كبيرة وحرية في العمل وكانت تقاريرهم موضع ثقة واحترام من مسؤوليهم .وفي تلك الفترة تعزّزت فكرة الامتيازات والحصانات الدبلوماسية انطلاقاً من توفير الاطمئنان العام لتمكين الدبلوماسيين من القيام بمهامهم للتعبير عن الاحترام للدولة الأخرى والحرص على حسن العلاقات معها وبالتالي فإن الإساءة لمبعوثيها تعني الإساءة للدولة الأخرى والذي قد يؤدي ذلك إلى توتّر العلاقات لدرجة إعلان الحرب بين الدول .
تنطلق فكرة الحرمة الدبلوماسية من مبدأ لاتيني يقول :يجب ألا يتعرض السفير للضرب أو الإهانة ، وعلى هذا الأساس فإن الحصانة الدبلوماسية ترد إلى الأسس التالية :
أولاً : الصفة التمثيلية للممثل الدبلوماسي . اتخذت الدبلوماسية في البدء صفة علاقات شخصية بين الملوك والأمراء ، وبالتالي فإن الدبلوماسيين كانوا بمثابة ممثلين شخصيين لهؤلاء الحكام وكل اعتداء عليهم أو احتقار لهم إنما كان يعتبر موجهاً لمن يمثلون ،ولما كانت قوانين الملوك أو الأمراء لا تسري على غيرهم من الملوك والأمراء فإنها بالتالي لا تسري على ممثليهم .إلا أن هذه النظرية ضعفت مع مرور الزمن بعد الثورة الفرنسية نظراً لأن الدبلوماسيين باتوا يمثلون الدول لا الملوك والأمراء.
ثانياً : اعتبار مقر البعثة الدبلوماسية واقعاً في أراضي الدولة الموفدة، و بالتالي مستقلاً عن سيادة السلطة الإقليمية. و غير ملزم بالخضوع لقوانينها . بيد أن هذه النظرية لم تسلم من انتقادات بعض علماء القانون ولم يرد ذكرها في اتفاقية العلاقات الدبلوماسية فيينا 196.
‏ثالثا : مقتضيات العمل الدبلوماسي ، وهي نظرية تركز على ضرورة تمكين السفير من القيام بالمهام الملقاة على عاتقه بحرية و إخلاص و طمأنينة و بالتالي فإن الامتيازات والحصانات إنما تكون من مقتضيات ممارسة المهام الدبلوماسية .
رابعاً : مبدأ المعاملة بالمثل . و هو مبدأ قديم و بسيط و واضح ، يدفع الدول إلى مراعاة حسن المعاملة الدبلوماسيين المعتمدين لديها ومنحهم الامتيازات والحصانات الدبلوماسية لكي يحصل معتمدوها على معاملة مماثلة في الأقطار الأخرى، كما يشمل هذا المبدأ الرد على قيام الدول الأخرى بطرد الممثلين الدبلوماسيين بحجة القيام بأعمال مشبوهة، كالتجسس أو التخريب أو التدخل في الشؤون الداخلية، ذلك عن طريق اتخاذ إجراء مماثل بحق ممثل ذلك البلد المعتمدين لديها .
أما الحصانات والامتيازات الدبلوماسية نفسها فتشمل شخص الممثل الدبلوماسي فلا يخضع لأي شكل من أشكال التوقيف أو السجن و تصان حريته وكرامته من كل اعتداء أو امتهان ، و يتمتع السفير بلقب صاحب السعادة و يرفع علم بلاده على مقر البعثة الدبلوماسية وسكن رئيس البعثة وسيارته أثناء قيامه بالمهام الرسمية وتتمتع مراسلاته و أمواله بالحصانة الكاملة .
وكان إقدام الثورة البلشفية في روسيا على نشر الاتفاقات والمعاهدات السرية للحلفاء إبان الحرب العالمية الأولى، إيذاناً بأفول حقبة الدبلوماسية التقليدية ، حيث لعبت الدبلوماسية السرية دوراً مرموقاً في خدمة أهداف الدول الاستعمارية وفي سياساتها لاقتسام المغانم في المستعمرات .
تأثرت الدبلوماسية الجديدة بالتطورات السياسية و التكنولوجيا المعاصرة .فازدياد سرعة المواصلات الجوية والإلكترونية قرَّب المسافات وقوَّى درجة التداخل ، كما أن توسّع التجارة وازدياد التعامل الاقتصادي والثقافي والسياحي والعلمي جعل من الاعتماد المتبادل بين الشعوب والدول ظاهرة سياسة رئيسية . كما أن مجمل هذه التطورات سهلت على رؤساء الدول ووزراء الخارجية القيام بالمهام الدبلوماسية مباشرة عن طريق الاشتراك في المحادثات الدولية وحضور المؤتمرات السياسية والعودة إلى عواصمهم في غضون ساعات أو أيام قليلة فتوسعت دبلوماسية القمة بدرجة كبيرة .
كما أكثر الرؤساء من استخدام إيفاد الممثلين الشخصيين في مهمات دبلوماسية خاصة ولجأت الحكومات إلى استخدام أسلوب الحملات الدبلوماسية لشرح وجهات نظرها في موضوع هام وتحرص على شرحه على نطاق واسع . كما أن النمو الكبير في عدد الدول و زيادة الاعتماد فيما بينها أدى إلى نمو ظاهرة المنظمات الدولية ، السياسية وغير السياسية ، والقارية والإقليمية وظاهرة التكتلات الدولية الثابتة ، بحيث أصبحت هذه المنظمات الميدان الأول للدبلوماسية الدولية وعلى صعيد آخر، فإن دخول المجتمعات الإنسانية في القرن العشرين رفع من أهمية الدور الذي يلعبه الرأي العام في السياسة وفي مطالبة الهيئات التشريعية بتقديم المعلومات الصحيحة و لمسهبة حول المفاوضات والاتفاقات الدولية ،ما أدى إلى ضمور ، الدبلوماسية السرية وانبثاق الدبلوماسية المكشوفة..
ويبقى أن هدف الدبلوماسية الأعلى إنجاز المصالح في مجال العلاقات الخارجية من خلال التفاوض والتفاهم ، إلا أنها مع ذلك لا تكون بديلة عن حيازة أسباب القوة والمنعة الذاتية للدول . فالدبلوماسية والقوة يحتفظان بعلاقة متوازنة بحيث تدعم كل منها الأخرى.
لقد عالجنا مجمل هذه الموضوعات والقضايا في أحد عشر بابا، تناولنا فيها نشأة الدبلوماسية وتطورها في مختلف الحقبات التاريخية، قديما وحديثا،محاولين استكشاف معالم هذا العلم الذي أصبح من مكونات وأسس العلاقات الدولية في عصرنا الحاضر. كما بحثنا في مهام العمل الدبلوماسي ووسائل تحقيقه وأهدافه.علاوة على تناول دراسة الحصانات والامتيازات انطلاقة من خلفياتها وضروراتها لتمكين الممثل الدبلوماسي من القيام بالمهام الملقاة على عاتقه.كما تطرّقنا في عملنا هذا إلى دراسة القيود التي فرضت نفسها على العمل الدبلوماسي في الدول المضيفة لجهة حماية الأمن القومي للدول. إضافة إلى إلقاء الضوء على أهم مرتكزات العمل الدبلوماسي أي البروتوكول والاتكيت ،وانهينا عملنا هذا بدراسة الدبلوماسية الإسلامية،دراسة مقارنة مع القوانين الوضعية.
لقد أخذ هذا العمل الموسوعي الجهد الكبير لإخراجه بطريقة تراعي العمل الأكاديمي،دون ان يكون عصيا على المهتم أو غير المختص.أخيرا آمل من عملي هذا الذي يتسم بالطابع التوثيقي لمجمل الكتابات التي سبقتنا مع إضافات لما استجد من وقائع واتفاقيات،ان يكون قد أضاف لبنة أخرى لمكتباتنا العربية التي هي بأمس الحاجة إلى هذا العلم الذي يهدي وينير سبل علاقتنا العربية بغيرنا من الأمم والشعوب والدول.
أخيرا أقدم بالغ الشكر والامتنان إلى أستاذنا الكبير، الأستاذ الدكتور محمد المجذوب على رعايته العلمية لنا ، بتشريفنا تقديم هذا العمل.كما أقدم له جميل العرفان لتشجيعنا على انجاز هذا المؤلف ،وأقدر له عاليا توجيهاته ودعمه لنا في في مسيرتنا العلمية والأكاديمية.
كما أقدم شكري الخاص والامتنان الكبير، إلى سعادة عميدة كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة بيروت العربية،الأستاذة الدكتورة حفيظة الحداد، على ثقتها الغالية التي منحتني إياها ،عبر لفتتها الكريمة بتكليفي تدريس مادة الدبلوماسية في قسم الماجستير العلاقات الدولية والدبلوماسية،والذي كان لقرارها هذا الحافز القوي والمؤثر في تسريع انجاز هذا العمل.
خليل حسين
بيروت: 11/1/2011

13‏/03‏/2011

ثورات العرب الالكترونية وأحزابها

ثورات العرب الالكترونية وأحزابها د.خليل حسين أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 13-3-2011 في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كان المد القومي العربي في ذروته،فكانت الأحزاب القومية المطعّمة بالفكر الاشتراكي،إلى جانب العديد من التيارات الفكرية – الحزبية تلعب دورا رئيسا في تأطير الجماهير بهدف أخذها إلى مواقع داعمة لهذه الأفكار والشعارات والتحركات أو تلك،.وعلى الرغم من جاذبية الشعارات وتأثر الجماهير العربية بها آنذاك،عانت هذه الأحزاب والحركات من بعض المصاعب الجدية في قدرتها على جذب الجماهير إليها،فجنّدت أخصائيين في الدعاية والإعلام، علاوة على الكثير من الوسائل لترويج أفكارها ومعتقداتها ووسائل عملها؛ ورغم ذلك لم تكن فاعلة بالمستوى المطلوب رغم ضخامة الجهود ،وضخامة الأعداد التي استهدفت بالمقارنة مع ما تمَّ التوصل إليه من أهداف محدَّدة تخص شعاراتها وطرق عملها. اليوم وبعد سلسلة الانهيارات المدويّة للأحزاب العربية بشكل عام، ثمّة ظاهرة تستحق التوقّف عندها ،وهي نشوء تجمّعات وشرائح اجتماعية مختلفة، لها وسائلها الخاصة في الاتصال وحتى الإقناع حول شعارات متعددة، ربما الكثير منها محق ويستوجب المضي فيه للتحقيق. وجل هذه الحركات أينما وجدت في الساحات العربية استعملت المواقع الالكترونية الاجتماعية كوسيلة للتواصل ونقل الأفكار وصولا إلى أساليب التحرك وطرقه لإسماع الصوت،وصولا إلى التغيير الذي عجزت عنه أحزاب ضربت أرقاما قياسية في تواجدها في السلطة أو المعارضة، ولم تتمكن من تحقيق شيء يذكر لجماهيرها التي اعتقدت بها عفوا أو عنوة خلال تلك الفترات الغابرة من تاريخها غير المضيء. فما السر في ذلك؟ وأين تكمن المشكلة اذا كانت هذه الظاهرة مشكلة بحد ذاتها؟وهل من مستقبل لتلك الظاهرة في مسار التغيير؟ أم ان الواقع العربي بكل تفاصيله المملة يستلزم أطرا مستقبلية أخرى، للوصول إلى النتائج المبتغاة لهذا الحراك المحق؟. لا شك ان أزمة الحياة الحزبية العربية ان كانت حاكمة أو معارضة،هي أزمات من الصعب وصف الدواء لها للخروج منها،ذلك للعديد من الاعتبارات والأسباب، التي يأتي في طليعتها طريقة نظرة الإنسان العربي لهذه الأحزاب ووظيفتها أولا، وقدرته على التماهي معها بهدف تطويرها وتعديلها بما يتناسب مع متغيراته الكثيرة والمتسارعة.علاوة على الوقت الذي وصلت فيه هذه الأحزاب نفسها من فقدان الثقة بينها وبين ناسها،إذ أصبحت مجرد مطيّة لوصول النخب سياسية أو مالية أو اقتصادية أو... إلى السلطة وممارسة مجون التحكّم والحكم قي مجتمعاتها.إضافة إلى العورات التي لا تعد ولا تحصى في أساليب وطرق عملها المطلبية ان كانت في المعارضة،أو أساليب إدارتها للنظام ان كانت حاكمة. وفي كلتا الحالتين شكلت هذه الأحزاب مصدر خوف وقلق لمجتمعاتها بدل ان تكون مرتعا وملجأ لهم. ومن بين جملة من الأسباب الأخرى عدا الحزبية المتآكلة في مجتمعاتنا العربية، شكّلت الثورات التكنولوجية المتسارعة ومنها شبكات الاتصالات الدولية "الانترنت" وسيلة فعالة أولا للاتصال بين الناس أينما وجدت، علاوة على استعمالها كوسيلة للتعبير وإيصال الرأي الآخر إلى أكبر عدد ممكن ممن يهمه الأمر. وبذلك أصبحت دواءً للكرب والاكتئاب السياسي في طول مجتمعاتنا العربية وعرضها،نظرا للحرمان الذي خلقنا فيه وترعرعنا في ظله، ولا زلنا نعاني منه حتى في خلال ثوراتنا التي دفعتنا إليها التكنولوجيا لا أحزابنا التي علقنا عليها الآمال الكبار. طبعا الوسيلة تلك ليست عيبا ولا عارا علينا، وإنما ذلك على أحزابنا التي إدعت يوما قدرتها على التغيير بشعارات منمقة جذبت المثقفين قبل المساكين، فكانت النتيجة وبالا عليها وعلينا،حتى تمكّن الكثيرون من استحداث الطرق الناجعة للثورات والتغيير ؛فكانت صفحات "الفيس بوك" و"التويتر" وغيرها بمثابة الديموقراطية المركزية للأحزاب التي تدعي وصلا بالديموقراطية.كما كانت أقوى من جميع وسائل الإقناع والدعاية،حتى أن غوبلز لو تسنى له الإطلاع على هذه الوسيلة لرفع قبعته إعجابا وإيمانا بها. لكن الغرابة ليست هنا، الغرابة تكمن في نوعية الشعارات التي رُفعت، والتي أصبحت المُسيّر لملايين العرب في مشرقهم ومغربهم.فرغم أهمية الشعارات والمطالب المتصلة بالحقوق السياسية والاجتماعية المتعلقة بالديموقراطية وتداول السلطة وغيرها من الشعارات التي ينبغي ان تكون محققة في عالم القرن الواحد والعشرين. غابت عن الأجندات والشعارات قضايا ومسائل تتعلق بأساس وجودنا وكياننا وموقعنا بين الأمم والشعوب.ومن بينها الصراع العربي الإسرائيلي وملفاته مثلا. ربما ظروف الشباب العربي الذي كان حجر الرحى في الحراك العربي سببا لغياب تلك الشعارات والمطالب.فغالبيتهم العظمى طبعا ولدوا خارج عصر هذا الصراع وشعاراته المدوية، بل بعضهم ربما لا يعنيه هذا الأمر شيئا لعدم معرفته فيه أصلا. وهذا عيب آخر يُضاف إلى أحزابنا ومثقفينا. في أي حال، الحراك العربي انطلق ومن الصعب إيقافه من أي جهة كانت، لكن استمراريته الفعالة هي على المحك ،لجهة النتائج والأهداف،فهل ستتمكن الصفحات الاجتماعية على الانترنت مواصلة لعبها الدور المركزي في الحراك؟ وهل هي قادرة على توليف المواقف والشعارات وشحذ الهمم بدون برامج واضحة؟ انه أمر مشكوك به،فالأنظمة تعرف كيف تحتوي ثورات أبنائها، وتعرف كيف تحافظ على مصالحها عنوة أو سياسة ناعمة. بالأمس كان التغيير عبر الثورات ضربا من الخيال الشعبي والثوري، لكن اليوم ثمة وسائل متواضعة الكلفة فعلت فعلها في واقع كان بالأمس عصيّا على الإصلاح لا التغيير. فأين تنام أحزابنا وهل ستستيقظ من سباتها العميق؟ سؤال يصعب الإجابة عنه في ظل واقع حزبي عربي مهترئ غير قابل حتى لسماع الرأي الآخر،أو النقد الذاتي من ضمن صفوفه. ربما بات اليوم عصر المواقع الالكترونية، لا عصر الأحزاب التي أكلت نفسها وناسها معا.

08‏/03‏/2011

هل يمكن محاكمة الرئيس الليبي أمام المحكمة الجنائية الدولية؟

هل يمكن محاكمة الرئيس الليبي أمام المحكمة الجنائية الدولية؟ أ.د. خليل حسين أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية www.drkhalilhussein.blogspot.com في المبدأ يتعلق الأمر ،بالحصانات التي يمكن الدفع بها في حال مساءلة الرؤساء عن أفعالهم المباشرة أو غير المباشرة،فثمة لغط قانوني حول شمول هذه الحصانات ومداها فيما يختص ببعض الجرائم.فهل يمكن محاكمة الرئيس الليبي معمر القذافي،عن الأفعال الجارية في ليبيا؟ أمام المحكمة الجنائية الدولية؟وهل يمكن الاعتداد بالحصانة الرئاسية؟أو بعدم انضمام ليبيا لميثاق روما المؤسس للمحكمة؟ لا توجد اتفاقية دولية تنظم مسألة حصانة الرؤساء والحكام من المسؤولية، غير أن ثمّة عرفاً دولياً يمنح الرؤساء أثناء قيامهم بوظائفهم حصانة من المسؤولية وتوسّع الأمر ليشمل مسؤولين آخرين يمثلون الدولة التي يتبعونها احتراماً لسيادتها. وتطبيقاً لذلك رفضت محكمة العدل الدولية رفع الحصانة عن وزير الخارجية الكونغولي في قرارها في القضية المرفوعة من الكونغو ضد بلجيكا بتاريخ 14/2/2002. وكذلك رفضت فرنسا وبلجيكا الطلبات التي تقدّمت بها المنظمات الحقوقية عام 1998 لمحاكمة لوران كابلا رئيس جمهورية الكونغو الديموقراطية أثناء زيارته لتلك الدولتين. غير أن الدفع بالحصانة وان كان يمكن الاحتجاج به في نطاق القانون الجنائي الداخلي حتى الآن، فإن الوضع بدأ يختلف عندما يتعلق بجرائم دولية خاضعة لأحكام القانون الدولي الجنائي، فقد بات من المستقر انه لا يعتد بالحصانة ولا يمكن ان تكون وسيلة للإفلات من العقاب. وقد تمَّ التأكيد على مبدأ عدم الاعتداد بالحصانة كسبب للإفلات من المسائلة عن الجرائم الدولية في مختلف المواثيق الدولية. ولعلَّ المبادئ التي أسستها محكمة نورمبرغ كانت السباقة في هذا الصدد وتبعها سياقات أخرى كثيرة. أولا: مبدأ عدم الاعتداد بالحصانة نصّت المادة (7) من النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ «أن المركز الرسمي للمتهمين سواء بصفة رؤساء دول أم بصفة موظفين كبار لن يؤخذ بعين الاعتبار كعذر أو كسبب مخفف للعقوبة». إلا ان هذا الاتجاه لم يكن مجمعاً عليه لدى الفقهاء فقد ذهب بعض الكتاب إلى ضرورة عدم محاكمة رؤساء الدول بواسطة محكمة أجنبية، وإنما ينبغي ان يتقرر مصيرهم بمقتضى قرار ذي صفة سياسية يتخذ باتفاق الدول المنتصرة. إلا ان آخرين قد عارضوا هذا الاتجاه ومنهم البروفسور sh.Glueck الذي ذهب إلى أن هذا الرأي سيؤدي إلى نتائج وخيمة جداً، كما انه يتعارض مع روح الأمم المتحدة التي اعتبرت رؤساء دول المحور، خاضعين للاعتبارات نفسها التي يخضع لها رعاياهم السابقون أي لعدالة المحكمة الدولية. وفي ذلك صرح جاكسون المدعي العام الأميركي في المحكمة بأنه يجب ان يستخدم القانون ليس في معاقبة سلوك الناس البسطاء فقط وإنما سلوك الملوك أيضا. وقد تمَّ تأكيد هذا المبدأ في ميثاق المحكمة وكذلك في الأحكام الصادرة منها، والتي صاغتها فيما بعد لجنة القانون الدولي ضمن سبعة مبادئ وهي: 1. أي شخص يرتكب فعلاً يشكل جريمة وفقاً للقانون الدولي يكون مسؤولاً عنها ومعرّضاً للعقاب عليها. 2. لا يعفي عدم وجود عقوبة، في القانون الداخلي عن الفعل الذي يُعد جريمة وفقاً للقانون الدولي، الشخص الذي ارتكب الفعل من المسؤولية طبقا للقانون الدولي. 3. لا يعفى الشخص الذي ارتكب جريمة وفقا للقانون الدولي كونه قد تصرف بوصفه رئيساً للدولة أو مسؤولاً حكومياً، من المسؤولية بالتطبيق للقانون الدولي. 4. لا يعفى الشخص الذي ارتكب الفعل بناء على أمر من حكومته أو رئيسه الأعلى من المسؤولية وفقا للقانون الدولي، بشرط وجود خيار معنوي كان متاحاً له. 5. لكل شخص متهم بجريمة وفقاً للقانون الدولي الحق في محاكمة عادلة بخصوص الوقائع والقانون. 6. يعد من الجرائم المعاقب عليها الجرائم التالية: ‌أ. أ ـ الجرائم ضد السلام. ‌ب. جرائم الحرب. ‌ج. الجرائم ضد الإنسانية. 7. يعتبر جريمة وفقاً للقانون الدولي الاشتراك في ارتكاب جريمة ضد السلام أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية. ومن الملاحظ ان لجنة القانون الدولي عندما صاغت مبدأ عدم الاعتداء بالحصانة كسبب يمنع من المساءلة عن الجرائم الدولية ضمن مبادئ نورمبرغ على النحو السابق أثارت بعض الجدل، فإذا كان وصف رئيس الدولة واضح الدلالة، فإن مصطلح المسؤول الحكومي يثير التساؤل حول المقصود فيه، فهل المقصود به عضو الحكومة حصراً أم عضواً سابقاً في الحكومة، أم هو موظف من رتبة عالية جداً في إحدى السلطات التشريعية أو التنفيذية أو القضائية. وقد درجت المحاكم الجنائية الدولية في كل من يوغسلافيا وراوندا على تقرير هذا المبدأ في النظام الأساسي لكل منها، فقد ورد في المادة (28) من النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا عام 1993 على انه «لا يعفي المنصب الرسمي للمتهم سواءً أكان رئيس دولة أم حكومة أم مسؤولا حكوميا، هذا الشخص من المسؤولية الجنائية أو يخفف من العقوبة». وبالفعل تمّت مساءلة الرئيس اليوغسلافي السابق، سلوبودان ميلو سوفيتش والذي توفي لاحقاً في السجن، أمام هذه المحكمة. كما أكدت محكمة راوندا لعام 1994 المبدأ ذاته في المادة (27) من نظامها الأساسي. ان هاتين المحكمتين قد تضمنتا مفاهيم واضحة لمسؤولية القادة عن وحشية الجنود تحت إمرتهم، وقد ضربت محكمة يوغسلافيا الأمثلة للقضاء الوطني في كيفية التعامل مع المتهمين بارتكاب جرائم القتل الجماعي والتطهير العرقي، وعدم تركهم يظهرون بمظهر الأبطال القوميين. حتى بدأت المحاكم الصربية والكرواتية اعتباراً من عام 2005 بمحاكمة مواطنيها الضالعين في جرائم حرب. ثانياً: انتفاء الحصانة أمام المحكمة الجنائية الدولية بقيام المحكمة الجنائية الدائمة ترسّخ في القانون الدولي الجنائي مبدأ عدم الاعتداد بالحصانة في الجرائم الدولية. فقد نصّت المادة (27) من نظام روما الأساسي في شأن المحكمة الجنائية الدولية على انه: 1. يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء أكان رئيساً لدولة أم حكومة أم عضوا في حكومة أم برلمان أم ممثلا منتخبا أم موظفا حكوميا، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي. كما أنها لا تشكل في حد ذاتها سببا لتخفيف العقوبة. 2. لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء أكانت في إطار القوانين الوطنية أم الدولية دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص. يؤكد هذا النص مبدأين مهمين الأول هو مساواة الأشخاص أمام هذه المحكمة بصرف النظر عن الصفة التي يتمتع بها أي منهم، حتى ولو كانت هذه الصفة رسمية، بمعنى أن الصفة الرسمية ليست سبباً لتمييز من يتمتع بها عن الآخر الذي لا يحمل هذه الصفة، أما الثاني فيخلص إلى عدم الأخذ بالحصانات أو القواعد الإجرائية سواء نص عليها في القوانين الجنائية الوطنية أو الدولية. ويبدو أن المشرع الدولي حاول جاهداً في نص المادة (27) من نظام المحكمة إلى تلافي الدفع بعدم مسؤولية القادة أو الرؤساء أمام القضاء الدولي بعد أن أصبحت عائقاً في المحاكمة أمام القضاء الوطني ومن شأنه إفلات المسؤولين من العقاب. ومن ذلك ما حصل إثر الغارة الاميركية على ليبيا في 15 نيسان 1986، حيث أصيب أكثر من مئتي شخص من المدنيين، بين قتيل وجريح، وقد رفع ضحايا الغارة دعوى أمام المحاكم الأميركية ضد الرئيس الأميركي والعديد من المسؤولين المدنيين والعسكريين. إلا أن القضاء الأميركي رفض الدعوى استناداً إلى أن المدعى عليهم يتمتعون بالحصانة. 1. المحكمة الدولية الجنائية والحصانة ان مبدأ عدم الأخذ بالصفة الرسمية الواردة في المادة (27) من نظام المحكمة الجنائية الدولية، تواجهه عدة مشاكل يمكن إجمال بعضها بما يلي: أ‌. تسليم المتهم بارتكاب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية: 1) ورد في نص المادة (98) من النظام الأساسي للمحكمة: لا يجوز للمحكمة ان توجه طلب تقديم أو مساعدة يقتضي من الدولة الموجه إليها الطلب ان تتصرف على نحو يتنافى مع التزاماتها بموجب القانون الدولي، فيما يتعلق بحصانات الدولة أو الحصانة الدبلوماسية لشخص أو ممتلكات تابعة لدولة ثالثة، ما لم تستطع المحكمة ان تحصل أولا عن تعاون تلك الدولة الثالثة من اجل التنازل عن الحصانة. 2) لا يجوز للمحكمة ان تتوجه بالطلب من الدولة إليها أن تتصرف على نحو لا يتفق مع التزاماتها بموجب اتفاقيات دولية تقتضي موافقة الدولة المرسلة كشرط لتقديم شخص تابع لتلك الدولة المرسلة لإعطاء موافقتها على التقديم. ويبدو من هذا النص ان المحكمة لا تملك وسيلة مؤثرة أو ناجحة في إحضار المسؤولين عن الجرائم التي تدخل ضمن اختصاصها للمثول أمامها، فنص المادة أعلاه يفترض ان يتواجد المشمولون بالحصانة من رؤساء أو قادة عسكريين أو غيرهم على إقليم دولة غير دولتهم التي ينتمون إليها بجنسيتهم، وتطلب المحكمة من الدولة التي يتواجدون فيها تسليم هؤلاء إليها. وحسب نص المادة (98) يتوجب على المحكمة ان تطلب أيضاً من الدولة التي يحمل المتهم جنسيتها التنازل عن حصانة هؤلاء المتهمين المعترف لهم بها حسب تشريعاتها الوطنية ـ فإذا رفضت ذلك ـ لا تستطيع المحكمة ان تطلب من الدولة المتواجدين على إقليمها ان تتخلى عن التزاماتها بموجب الاتفاقيات الدولية المتضمنة احترام حصانة المتهمين الممنوحة لهم بمقتضى قوانين الدولة التي ينتمون إليها بجنسيتهم تفادياً لما قد يتسبب به تسليمهم دون موافقتها من توتر في العلاقات بين الدول. وعلى ذلك يقتضي مثول المتهمين بارتكاب جرائم دولية تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية تعاون الدولة التي يتواجد على إقليمها المتهم والدولة التي ينتمي إليها بجنسيته ما يصعب تحقيقه غالباً. وأمام هذه الصياغة لنص الفقرة الأولى من المادة (98) تصبح المحكمة الدولية الجنائية غير قادرة على مباشرة اختصاصها إلا بعد الحصول على موافقة الدولة المعنية أي الدولة الموجه إليها الطلب. وبذلك فإن هذا النص يثير تناقضاً وتعارضاً مع نص المادة (27)، ومن ثم فإن الحصانة لم تعد موجودة من الناحية الفعلية. وللتغلب على هذه المشكلة لا بد من اعتبار رفض الدولة غير المبرر تسليم الشخص المتواجد على إقليمها، والذي يتمتع بالحصانة، أو الدولة التي ينتمي إليها هذا الشخص بجنسيته متى كان هذا الرفض غير المبرر، بمثابة حالة من حالات عدم التعاون مع المحكمة الدولية الجنائية التي ينبغي أن يعرض أمرها على جمعية الدول الأطراف حصراً حتى لو كانت المسألة قد أحالها مجلس الأمن إلى المحكمة الدولية الجنائية. ومن ثم يمكن اتخاذ قرار بشأن هذه الدولة الرافضة على أنها لا ترغب في التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. وقد تتعقد المشكلة متى كان الشخص الذي يتمتع بالحصانة مزدوج الجنسية، أي يحمل جنسية دولة تمنحه حصانة معينة، ويتواجد على إقليم دولة أخرى يحمل جنسيتها من دون أن تمنحه أية حصانة. فهل يمكن للدولة التي يتواجد على إقليمها أن تتعاون مع المحكمة الدولية الجنائية مباشرة دون انتظار لحصول المحكمة على تعاون من جانب الدولة الأخرى التي يتمتع بجنسيتها الثانية وبما تمنحه له من حصانة؟ إن نص المادة (98) يقضي بجعل عبء الحصول على التعاون من الدولة التي تمنح الشخص هذه الحصانة وليس على الدولة الموجه إليها الطلب. ومن ثم فلن تتمكن الدولة التي يقيم الشخص المطلوب على إقليمها من تقديمه للمحكمة الدولية الجنائية قبل الحصول على التعاون المشار إليه. بل إنه بحسب الاستنتاج الظاهري للنص يمكن للمحكمة أن تلزم الدولة التي يقيم الشخص على إقليمها من ان تتعاون معها قبل ان تحصل على التعاون من الدولة المعنية. إلا ان الوقوف على حقيقة النص ومضمونه تؤكد عكس ذلك. وعلة ذلك ان صياغة المادة (98) عامة، لم تفرق بين حالة مزدوجي الجنسية وغيرهم إلا انه يلاحظ في الوقت ذاته ان هذه المشكلة لا يمكن أن تنشأ بالنسبة إلى حالة عديمي الجنسية والتي لم ترد بشأنها أيضاً أية إشارة ضمن نصوص النظام الأساسي. من جانب ثانٍ تبرز مشكلة أخرى لم تعالجها أحكام النظام الأساسي وهي مدى إمكانية تقديم اللاجئ إلى المحكمة الدولية الجنائية في ضوء الاعتراف بحق اللجوء باعتباره من الحقوق السيادية الخالصة التي تنفرد فيها كل دولة بتنظيم القواعد التي يتم بموجبها منح أو رفض إعطاء هذا الحق لمن يطلبه. وفي ذلك قررت اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951 في الفقرة الأولى من المادة (33) منها على أنه: تمتنع الدول المتعاقدة عن طرد اللاجئ الموجود بصورة شرعية إلا لأسباب تتعلق بالأمن الوطني أو النظام العام، وفي حالة اتخاذ قرار الطرد ينبغي أن تتخذ الأصول القانونية في إصداره. أما الفقرة الثانية من المادة ذاتها فقد حظرت على الدول المتعاقدة أيضاً طرد أو رد اللاجئ بأية صورة إلى الحدود والإقليم اذا كانت حياته وحريته مهددتين لأسباب تتعلق بالعرق أو الجنس أو الدين أو اللغة أو آرائه السياسية أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة. ويتبين من هذين النصين انه لا يجوز رد اللاجئ بأية صورة من الصور أو إعادته إلى دولة قد يلاقي فيها الاضطهاد. ويعد هذا الحكم من القواعد الأساسية الراسخة في نظام تسليم المجرمين، والتي تقضي بعدم جواز تسليم من حصل على حق اللجوء. إلا أنه ينبغي ملاحظة ان مبدأ عدم جواز تسليم اللاجئ ينطبق فقط على تلك الجرائم المحددة بموجب المعاهدات الدولية أو القوانين الوطنية، إذ يخرج عن هذه القواعد الجرائم الجسيمة التي تهدد المجتمع الدولي. وهذا المعنى أكدته المادة الأولى من اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين، إذ قضت بأنه: «لا تسري هذه الاتفاقية على أي شخص توجد بحقه أسباب جدية تدعو إلى اعتبار انه: اقترف جريمة بحق السلام، أو جريمة حرب، أو جريمة ضد الإنسانية، كما هو معروف عنها في الوثائق الدولية الموضوعية...». وتأسيسا على ذلك تزول أية حصانة أو امتياز يمكن أن يتمتع بهما اللاجئ، ذلك متى اقترف إحدى الجرائم الداخلة في نطاق اختصاص المحكمة الدولية الجنائية. ب‌. اتفاقيات الإفلات من العقاب لعل من أهم المشاكل الأخرى التي تجابه المحكمة في موضوع الحصانة هو اتفاقيات الإفلات من العقاب التي سعت الولايات المتحدة الأميركية إلى إبرامها مع حكومات العديد من الدول والتي تنص على ان الحكومة المعنية لن تسلم أو تنقل مواطني الولايات المتحدة المتهمين بارتكاب الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية، إذا طلبت منها المحكمة ذلك، ولا تقتضي الاتفاقيات من الولايات المتحدة الأميركية أو الدول الأخرى المعنية إجراء تحقيق وحتى إذا توافرت أدلة كافية، مقاضاة مثل هؤلاء الأشخاص. وفي 1 تموز/ يوليو 2003 أعلنت الولايات المتحدة عن سحب المعونات العسكرية التي تقدّمها إلى 35 دولة عضو في قانون روما الأساسي رفضت التوقيع على اتفاقية الحصانة من العقاب مع الولايات المتحدة وفي 8 كانون الثاني / ديسمبر 2004 أعلنت الولايات المتحدة سحبها المعونات الاقتصادية عن الدول التي أبقت على رفضها التوقيع على الاتفاقيات فعلاً. ج. اختصاص المحكمة المقيد في نظر الدعوى اختصاص المحكمة مقيّد موضوعياً وزمنياً لجهة طرق تحريك الدعوى. فمن جهة جاءت المادة (5) لتنصّ على الجرائم الخاضعة لاختصاص المحكمة وهي جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة العدوان. ووضع المشرع آلية معينة من الصعب تحقيقها لشمول الجريمة الأخيرة (جريمة العدوان) باختصاص المحكمة، حيث أشار النظام الأساسي للمحكمة إلى تلك الآلية في المادة (123) التي نصّت على: «بعد انقضاء سبع سنوات على بدء نفاذ هذا النظام يعقد الأمين العام مؤتمراً استعراضياً للدول الأطراف للنظر في أية تعديلات على محتويات هذا النظام، ويجوز أن يشمل الاستعراض من قائمة الجرائم المدرجة ضمن اختصاصات المحكمة». أما من حيث الاختصاص الزمني فقد نصّت المادة (11) من النظام الأساسي على أنه: 1) ليس للمحكمة اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد نفاذ النظام الأساسي. 2) إذا أصبحت دولة من الدول طرفاً في هذا النظام الأساسي بعد بدء النفاذ، لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبت بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة، ما لم تكن الدولة قد أصدرت إعلاناً بموجب الفقرة (3) من المادة (12). ما يعني أنه لا تجوز مساءلة أي شخص جنائياً بموجب النظام الأساسي عن أي سلوك سابق لبدء نفاذ هذا النظام. ويجوز استناداً إلى المادة (124) من النظام الأساسي لأي دولة عندما تصبح طرفاً في هذا النظام ان تطلب تأجيل اختصاص المحكمة، فيما يتعلّق بجرائم الحرب لمدة سبع سنوات من تاريخ بدء سريان النظام الأساسي عليها، وذلك متى حصل ادعاء بأن مواطنين من تلك الدولة قد ارتكبوا جريمة من هذه الجرائم أو أن الجريمة قد ارتكبت على إقليمها. أما بالنسبة للدول التي تنضم بعد دخول النظام الأساسي حيز النفاذ فإن التاريخ الفعلي لنفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة هو اليوم الأول من الشهر الذي يلي اليوم الستين من تاريخ وثائق الانضمام. ومن جانب آخر لا تختص المحكمة في نظر الجرائم بذاتها وإنما لا بد من إحالة هذه الجريمة إليها من قبل جهات حددها النظام الأساسي في المواد (12 و13 و14) وهي: 1. الدولة الطرف في النظام الأساسي: استناداً إلى المادة (14/1) من النظام الأساسي: «يجوز لدولة طرف أن تحيل إلى المدعي العام أية حالة (دعوى) يبدو فيها ان جريمة واحدة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت وان تطلب إلى المدعي العام بالتحقيق في هذه الحالة، بغرض البت فيما إذا كان يتعيّن توجيه الاتهام لشخص معين أو لأشخاص معينين بارتكاب تلك الجريمة. كما يحق لأي دولة غير طرف في النظام الأساسي ان تحيل أي (حالة) إلى المحكمة للتحقيق فيها متى ما أعلنت هذه الدولة بمقتضى إعلان خاص يودع لدى مسجل المحكمة تعلن فيها قبولها ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث». 2. مجلس الأمن: أجازت المادة (13/ب) من النظام الأساسي لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن يحيل إلى المدعي العام للمحكمة أي (حالة) يبدو فيها أنها جريمة واحدة أو أكثر من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة قد ارتكبت شريطة ان يكون مجلس الأمن متصرفاً في ذلك، وفقاً لأحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهذا يعني أنه يتوجب لكي ينعقد الاختصاص للمحكمة بالنسبة إلى الحالات التي يحيلها ان يتضمن قرار الإحالة ما يفيد ان كل (حالة) من هذه الحالات تنطوي على تهديد للأمن والسلم الدوليين. 3. المدعي العام: فضلاً عن الجهات السابقة أجاز النظام الأساسي للمدعي العام للمحكمة الحق في مباشرة التحقيق في ارتكاب الجرائم المنصوص عليها في المادة (5)، ولكن سلطة المدعي العام مقيّدة بأخذ موافقة الشعبة التمهيدية وعند إقرار هذه الشعبة بوجود أساس معقول للشروع في التحقيق تعطي موافقتها للمدعي العام بمباشرة التحقيق. ومن المهم الإشارة إلى أن المحكمة غير ملزمة بقبول أي دعوى أو (حالة) يحال إليها من جانب أي من الجهات الأربع المذكورة آنفاً، حيث يحق للمحكمة أن تعتبر هذه (الحالة) أو تلك الدعوى غير مقبولة إذا ما توفر سبب من الأسباب التالية: - إذا أثبت للمحكمة أن ثمة تحقيقاً أو محاكمة تباشره دولة مختصة قانوناً بهذه (الحالة/الدعوى) إلا إذا تبيّن للمحكمة أن مثل هذه الدولة غير راغبة أو غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها في التحقيق والمحاكمة وتكون الدولة غير راغبة في ثلاث حالات أوردها النظام الأساسي للمحكمة على سبيل المثال هي: - اتخاذ الدولة إجراءات معينة لا يقصد منها سوى حماية الشخص المتهم وتجنيبه اختصاص المحكمة الدولية الجنائية المادة (17/2/أ). - حدوث تأخير لا مبرر له في الإجراءات بما يكشف عن نيتها في عدم تقديم الشخص المعني للعدالة. - عدم مباشرة الدولة المذكورة إجراءات التحقيق والمحاكمة بموضوعية دونما تحيز المادة (17/2/ ب). وبالنظر إلى الوقائع الجارية حاليا في ليبيا يتبيّن: 1. ان ما يحدث حاليا من قيام السلطات القائمة في ليبيا ،وفي معرض محاولتها الاستمرار في اغتصاب السلطة التي قام الشعب الليبي ضدها. 2. وحيث ان التصريحات العلنية والواضحة وغير القابلة للتأويل ،تفيد بأن الرئيس الليبي معمر القذافي قد هدَّد باستعمال القوة ضد الشعب. 3. وحيث أثبتت الوقائع بالأدلة والبيّنات المنقولة على الفضائيات،استعمال القوة بشكل مفرط ،والقيام بأعمال تشكل عناصر واضحة للإبادة الجماعية إضافة إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. 4. وحيث ان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد وضع يده على القضية،وأصدر قراره تحت الرقم 1970،وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. 5. وحيث ان القرار قد أشار إلى ان الجرائم المرتكبة بحق الشعب الليبي "ترقى إلى الجرائم ضد الإنسانية". 6. وحيث ان تحرّك مجلس الأمن قد جرى وفقا للفقرة (ب) من المادة (15) للمحكمة الجنائية الدولية وطلب إحالة القضية إليها. 7. وحيث أن المدعي العام للمحكمة قد تحرّك هو بدوره وفقا للمادة (5) من نظام المحكمة. 8. وبالاستناد إلى ما ورد سابقا من وقائع مادية أثبتت قيام الرئيس الليبي ،بأوامر أدّت إلى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والتهديد بالمضي بتنفيذ جرائم إبادة جماعية عبر القصف بالطيران الحربي تجمعات المدنيين العزّل. 9. ونظرا لعدم قدرة أو نية السلطات الليبية القائمة حاليا بالسيطرة لمحاكمة من خطط وأمر ونفذ للقيام بمثل هذه الجرائم. 10. وحيث انه لم يعد بإمكان "الرئيس" الليبي التذرّع بحصانته الرئاسية،وبخاصة بعدما سُحبت منه بمجرد عرض القضية أمام مجلس الأمن واتخاذه القرار 1970، علاوة عل بدء العديد من دول العالم سحب هذه الحصانة،ومن بينها المملكة المتحدة. 11. وحيث انه لم يعد ممكنا "للرئيس" الليبي التذرّع أيضا بعدم انضمام ليبيا للمحكمة الجنائية الدولية بفعل تحرك المجتمع الدولي وفقا للفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة. وبصرف النظر عن موقفنا الخاص، تجاه المحاكم الجنائية الدولية إن كانت خاصة أم مختلطة أو دائمة،والحوّل السياسي الذي تمتاز بها هذه المحاكم في التعاطي مع القضايا المتشابهة،كجرائم إسرائيل ضد العرب مثلا؛ يمكن لهذه المحكمة النظر بما نُسب للرئيس الليبي معمر القذافي ومن حوله ،من اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

05‏/03‏/2011

مقابلة مجلة شؤون الأوسط

ندوة العدد 138 ربيع 2011 من شؤون الأوسط د.خليل حسين أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي في الجامعة اللبنانية س - ما هي العوامل المختلفة التي أدت برأيكم إلى انفجار الشارع العربي ضد أنظمته؟ ج - باعتقادي ثمة العديد من الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لعبت دورا بارزا في الحراك العربي القائم في العديد من البلدان العربية.ومن الصعب بمكان حصر هذه الأسباب بجانب معيّن.إذ أن الشعوب العربية عاشت حالات تهميش واسعة في ظل أنظمتها،ما جعل هذه الشعوب تفتقر إلى الحد الأدنى المطلوب،وبات جلهم يعيش تحت خط الفقر.ففي الجانب السياسي ثمَّة اضمحلال سياسي واضح في بنية الأنظمة السياسية الدستورية،حيث غياب تداول السلطة وانفراد الحكام بالإمساك بمقدرات الدول،وصلت زمانيا ليلامس النصف قرن، وتكديس الأموال والثروات عبر سرقة موارد الشعوب وتكديسها في بنوك خارجية،تصل قيم أصولها واستثماراتها إلى آلاف المليارات من الدولارات.علاوة على ذلك، غياب الحريات العامة وأدنى الحقوق الطبيعية التي ينبغي ممارستها الإنسان في القرن الواحد والعشرين.ففي أحسن الأحوال ثمّة أنظمة توارث حكامها السلطة منذ بدايات القرن الماضي، وتحديدا بعد الحرب العالمية الأولى ،وان حصل بعض المتغيرات فيها في النصف الثاني من القرن الماضي،كانت تغيّرات شكلية لم تقدم أو تؤخر في حياة شعوبها.بل ان بعضها حكم شعوبها بشعارات وقضايا استهلكت القضية نفسها،وباتت بمثابة عدة شغل سياسية لا أكثر ولا أقل هدفها،الاستحواذ على الشرعية ولو بالقوة . وفي الجانب الاقتصادي ثمّة كلام آخر،موارد طبيعية تكاد تنفرد المنطقة العربية بين مناطق العالم بضخامة ما فيها من ثروات يصعب إيجاد البديل عنها، وبالتالي تشكيلها مصدرا هاما للاستهلاك الغربي قبل غيره،في المقابل شعوب تعيش على فتات هذه الثروات إذا وصل إليها من فتات.استثمارات أجنبية هائلة وصلت إلى حد النهب المنظم بوسائط خارجية وداخلية مقننة بقوانين وتشريعات تحافظ على الامتيازات وتجعل منها بيئة للمقايضة بين النظام وإمكانية استمراره. وفي الشق الاجتماعي،الحديث يطول بطول عمر هذه الأمة وضخامة قضاياها. اكتئاب اجتماعي وسياسي واضح في شرائح مجتمعات كانت تمثل يوما قمة التقدم العلمي والحضاري،فجعلها حكامها أثر بعد عين في سلم التقدم الحضاري بين شعوب العالم.فدبَّ الفقر بها،وعتّم الجهل عليها. لا يكاد يصرف في موازناتها على البحث العلمي أقل من عُشر من واحد بالألف،فعلا انه رقم مخيف ومعبِّر في آن معا.بطالة حقيقة ومقنّعة.عشرات المظاهر الاجتماعية التي لا تفسير لها سوى شعوب حكمت بكبت واضح لا مفر منه سوى بالثورة على الواقع الذي حكمها وتحكّم بها. س - هل ترون إمكانية لتغيير جذري في الاتجاهات العامة الأساسية التي كانت سائدة حتى اليوم ولا سيما على صعيد بناء نظام ديموقراطي واحترام الحريات الحقوق الأساسية للإنسان في الدول العربية؟ عملية التغيير في الواقع العربي أمر أكثر من مطلوب بل ضروري في واقع مزري يعبّر عن حياة خارج الجغرافيا والتاريخ في آن معا.وإذا كان التغيير مطلبا جماهيريا واضحا ،إلا انه يستلزم عناصر إضافية كثيرة لكي يكون التغيّر حقيقيا وفعالا ويعبر عن طموحات وآمال من يبحث عنه. في المبدأ،ان الشرط الأول هو متوفّر وهو الإحساس بضرورة التغيّر والتغيير،أي الشعور بمأساة الواقع الذي تعيش فيه الشعوب العربية. وثانيا التصميم والإرادة للتغيير.وثالثا وجود البيئة أو الوسيلة للتغيير.الاحساس والعور موجود كما التصميم والإرادة،لكن المتممات الأخرى اعقد بأنها غير متوفرة. ثمّة من يقول، ان إرادة الشعوب لا تحتاج إلى وسائل للتعبير،فهذا صحيح نسبيا،لكن الواقع الموجود حاليا في البلدان العربية هو أمر مختلف،سلطات حاكمة ومتحكمة تعرف كيف تتملص من وعودها ولها أساليبها وطرقها للالتفاف واحتواء شعارات الثورات.من هنا يبدو ان الأمر يستلزم أطر تنظيمية لإعادة إطلاق الشعارات بشكلها القابل للحياة والبناء عليها للتغير.بمعنى آخر ان افتقار مجتمعاتنا العربية إلى أحزاب معارضة قادرة على استيعاب مطالب جماهيرها عامل معوّق للتغير، وهذا لا يعني بالضرورة ان هذا الحراك العربي لن يصل إلى نتيجة ،إلا ان الأمر يستلزم مزيدا من الوقت لتبلور اوضاع نسمى تغييرية. ففي تونس ومصر واليمن وليبيا والجزائر حتى الآن لم يتغير الأمر بشكل جذري، بل كل ما كان الأمر هو معالجات تسكينية تقدمها السلطات القابضة على الحكم بحكم خوفها وتخوفها من إعادة إشعال الأوضاع بشكل غير قابل لاحتوائه. ان نظرتنا التشاؤمية،لا تعني بالضرورة ،ان لا إمكانية للتغيير الجذري في مجتمعاتنا، بقدر ما هو كلام للتحذير من محاولات التحكم بقوى الحراك القائم،ومحاولة بلعها وهضمها دون تقديم المراد منها. س - أي دور لحركات الإسلام السياسي في الخريطة السياسية البديلة؟ هل نحن أمام حركات إسلامية ترفع شعار الإسلام هو الحل أم ان النموذج التركي قد يكون مثالا أمام هذه الحركات؟ ج - نتيجة للعديد من العوامل سجلت الأحزاب القومية العربية والاشتراكية والشيوعية تراجعا هائلا في امتداداتها الجماهيرية،بل اضمحل دورها وبدت في حكم المنهية سياسيا،ما مكّن الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية من أخذ مكانها المتقدم في قيادة الجماهير. لكن يبدو حنى الآم ان مجمل هذه الأحزاب كانت بداية في محل رد الفعل على الواقع الموجود، ولم تتمكن من صياغة برامج متكاملة لإمكانية استلام السلطة في أماكن تواجدها وعملها. علاوة على ذلك ان الدعاية المشوَّهة التي طال عملها من لصق الإرهاب فيها وبطريقة عملها،جعل منها خطا أحمر يرتاب من تتقدم بالخطاب إليهم،ما جعلها غير فاعلة إلى حد كبير،وموقعا سياسيا صعب الانخراط فيه والعمل من ضمنه.طبعا هذا الكلام لا يعني أيضا بالضرورة ان هذه الحركات لا تملك مقومات العمل القابل للاستثمار السياسي على المستوى الوطني،بقدر ما هو توصيف لواقع حزبي امتلك تجارب واسعة في بعض الدول لكنه لم يتمكن من احراز شيء يذكر على مستوى العمل الوطني العام.فعلى سبيل المثال الأخوان المسلمين في مصر لم يكن رياديا في الحراك الجماهيري المصري،بل ظل خلفها،وحتى الحزب نفسه لم يطرح نفسه كمرشح بديل للتركيبة السياسية المصرية القادمة. كل ذلك يطرح أسئلة حول دورها ومستقبلها السياسي في الوطن العربي،وبالتالي بطرح أسئلة من نوع آخر،في طليعتها إعادة النظر في تركيبتها وطبيعة ووسائل عملها،في ظل نموذج الأحزاب الإسلامية غير العربية التي تمكنت من الوصول للسلطة وقدرتها على الاستمرار وطرح العديد من البدائل التي لم تكن يوما متاحة إمامها.الأمر الذي يثير مقاربة أحزابنا الإسلامية وكيفية استفادتها من التجربة التركية على سبيل المثال لا الحصر،وهي بالفعل تجربة جديرة بالمتابعة والدراسة وإمكانية الاستفادة منها أمر معقول ومقبول. س - ما التأثير المحتمل للثورات الشعبية على مستقبل :أولا الصراع العربي الإسرائيلي وثانيا علاقة العرب بالغرب؟ ج - بداية من المثير للاستغراب فعلا ،ان الحراك القائم في الدول العربية كان بمجمله حراكا متصلا بالحريات العامة أو برغيف الخبز أو بغيره من القضايا الاجتماعية ذات الصلة دون تعديه إلى قضايا ومسائل تعتبر أهم كمن ذلك بكثير. فعلى الرغم من أهمية هذه المطالب ومركزيتها في السلوك السياسي والاجتماعي لكل فرد عربي أو غير عربي،إلا ان ثمة غياب ان لم نقل تغييب لقضايانا المركزية كالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي على سبيل المثال.فهل يعقل انه لم يتم إطلاق حجر على السفارة الإسرائيلية في مصر،ولم يوجه إي شعار ضمن فعاليات الثورة ضد إسرائيل،بل كان ثمة إشارات واضح بالتزام مصر بكافة معاهداتها الدولية والإقليمية وبالتحديد الإسرائيلية،الأمر الذي يعني ان ثمة ضمورا واضحا في الوعي الجماهيري العربي حول قضاياه المصيرية،وهذا أمر معيب في حياة الأمم والشعوب كشعبنا العربي. كن وبصرف النظر عن البدايات بدأنا نسمع بعض التحولات الخجولة في المطالب والشعارات المرفوعة التي تصيب هذه القضايا وهو أمر مشجع اذا ما تم البناء عليه والعمل في سبيل تحقيقه.وفي واقع الأمر ان تأثير هذا الحراك العربي على الصراع العربي الإسرائيلي سيكون مفيدا وكبيرا في المستقبل،إذ ان تغييب الجماهير العربية عن أدوارها المفترضة،قد شكَّل حالات من كبت الوعي تجاه القضايا القومية الأمر الذي اثر بشكل ايجابي لاحق عند يقظته وشعوره بالظلم الذي ألحق به وأستمر فيه وعليه لاحقا. وعليه ان التأثير المستقبلي سيكون ايجابيا بالتأكيد ولو كان خجولا في بداياته. كما ان الأمر نفسه سينسحب على مستوى علاقة العرب بالغرب،بخاصة بعض كشف المستور من علاقات هذه الأنظمة مع الغرب وتحالفهما ضد مصالح شعوبها. ثمة تغييرات دراماتيكية سريعة حصلت وستحصل،وبصرف النظر عن حجم ونوعية وكيفية هذا التغيير،ينبغي ان نعي أولا وأخيرا،ان التغير هو المطلوب أي بإرادة ذاتية ودون قوى تحفيز أو دفع من الخارج،وهو الأمر القادر على نقلنا من ضفة إلى أخرى في سياق تطورنا وارتقائنا بين الأمم والشعوب.

04‏/03‏/2011

احتلال ليبيا بالقرار 1970

احتلال ليبيا بالقرار 1970 د.خليل حسين أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية نشر في صحيفة الخليج الإماراتية في 4/3/2011 http://www.alkhaleej.ae/portal/9bb7b822-a17d-4817-a443-22b723c421f9.aspx www.drkhalilhussein.blogspot.com يبدو ان القرار 1970 الصادر عن مجلس الأمن وفقا للفصل السابع سيشكل منعطفا جديدا في السياسات الدولية نحو الشرق الأوسط، وليس لليبيا وحدها.فعلى الرغم من ظاهر النص وموضوعه المتعلق بالنظام السياسي في ليبيا ومن يديره،فإن المبطن فيه هو أخطر بكثير من المعلن . في أساس القرار وهو بطبيعته القانونية ملزم لكافة الدول تطبيقا وتنفيذا، بدءا من الحصار وصولا إلى استعمال القوة العسكرية.وبالتالي لا مفر ولا مناص من الولوج فيه بخاصة ان ثمّة إجماعا عليه،ويأتي في سياق الضغوط الإعلامية والشعبية العربية والغربية ضمن الحراك الحاصل في ليبيا. في موضوع النص،وهو ليس بسابقة لا بالنسبة لليبيا ولا لغيرها من الدول العربية.فالسودان سبقها إلى ذلك، كما ان ليبيا نفسها عانت سنوات طويلة من حصار اقتصادي كبير نتيجة قرارات دولية سابقة على قاعدة قضية طائرة لوكربي، إضافة إلى مسائل متعلقة بسلوكيات النظام السياسي تجاه العديد من القضايا الإقليمية والدولية،وفي مجمل الأمور كانت تداعيات الحصار ليس على النظام كما هدفت القرارات بل كانت معاناة الشعب هي الواضحة في كثير من الجوانب والمسائل. كما ان تجميد الأموال للعقيد القذافي وأسرته وأركان النظام ،ليس بموضوع جديد لا بالنسبة لليبيا ولا لغيرها من الدول،وفي مطلق الأحوال تمكّنت الدول التي تعرّضت لمثل تلك العقوبات من التفلت منها بطريقة أو بأخرى عبر شبكة علاقات تجارية دولية كنموذج العراق وسوريا سابقا وإيران والسودان حاليا. الجديد بالنسبة لليبيا تحرّك مجلس الأمن عبر قراره 1970 لإحالة من تسبَّب في مجازر جماعية وإبادات "ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية"،وبالتالي إحالة الموضوع إلى المحكمة الجنائية الدولية.والتي سيكون للمدعي العام دور أساسي في تركيب البيئة القانونية لإطلاق المحاكة،مع ما يعني هذا الاسم للعرب جميعا أنظمة وجماهير ربطا بقضية الرئيس السوداني حسن البشير وما جرى فيها من مساومات أدت اقلها إلى انفصال جنوب السودان وما سيتركه من تداعيات لاحقة، علاوة على المحكمة الخاصة بلبنان وما فعلت به،وان كانت من فئة المحاكم الدولية المختلطة. إضافة إلى ذلك ثمّة حصار اقتصادي وإمكانية إنشاء مناطق محظورة على غرار ما حصل في العراق قبل غزوه في العام 2003 بحجة حماية الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب، ومعنّوناً بشعار النفط مقابل الغذاء. في أوجه كثيرة يتشابه الوضع الليبي بالعراقي ،وثمّة من يحيك شِباكاً غير بريئة في المنطقة وبالتحديد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية،التي أعلنت وزيرة خارجيتها، هيلاري كيلنتون بأن بلادها تنسّق مع قوى المعارضة الليبية حاليا،وهو المدخل القابل للحياة لتأجيج الفوضى الخلاقة،"الإستراتيجية الأمريكية" التي لا زالت صالحة بالنسبة إليها،وبالتالي إعادة احتواء الثورات ومنها الليبية ، عبر تدخّل عسكري هدفه المعلن حماية الشعب الليبي من النظام ،وباطنه أهداف ذات إبعاد ليبية وعربية أخرى. فماذا في الأهداف الأخرى؟ انطلق الحراك العربي من تونس وقفز فوق ليبيا ليستقر في مصر. في وقت تشتعل ساحات عربية أخرى.استقالت حكومة الغنوشي التونسية تحت ضغط الحراك الشعبي، وحكومة شفيق المصرية تترنح بدورها، ثورتان أسستا لحراك عربي واعد،في ظل عدم قدرة واشنطن على الحد من اندفاعتهما وتأثيراتهما،وبالتالي عدم قدرتها حاليا على احتواء أي حراك عربي بما فيه التونسي والمصري. حجر الرحى الإقليمي في مصر وليس في أي مكان آخر، وان ما يخفيه القرار 1970 هو التدخّل الدولي في ليبيا مستقبلا، لا لحماية الشعب الليبي، بل ليكون التدخّل ملاصقا لمصر ، القوة التي تخيف الغرب و"إسرائيل" اذا ما اتجهت بغير الوجهة الحالية. ثمّة ثورة مصرية حقيقية تكاد تبلور مواقفها الداخلية ومواقعها الإقليمية، ما يستدعي لجمها واحتوائها وربما يكون القرار 1970 أحد وسائله الرئيسية مستقبلا عبر قوة دولية في خاصرتها الغربية الرخوة، إضافة إلى الخاصرة الجنوبية المجروحة بانفصال جنوب السودان وبقرار ومحكمة دوليتين. طبعا ثمة صور مخيفة يندى لها جبين الانساية في ليبيا، وتستحق أكثر من تدخل لإيقافها،لكن وبحسب السوابق الدولية ذات الصلة،هو من نوع الكلام الحق الذي يراد به باطل.فلا التدخل في العراق كان لحماية العراقيين بأكثر من الضغط على الدول المجاورة، ولا التدخل في السودان كان لحماية دارفور بل لهز العصا للبشير،ولم يكن التدخل في الصومال لنقله إلى مصاف الدول الراقية بل زاده التدخل تمزقا وحروبا وضياعا. في كل القضايا والمناطق وبخاصة العربية،استأسد مجلس الأمن في إصدار قرارات من فصيلة الفصل السابع، فيما أصيب بالحوّل السياسي في القضايا المتعلقة بمجازر "إسرائيل" ضد العرب عامة والفلسطينيين خاصة. كل يوم ثمة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إرهاب وجرائم عدوان، باختصار جميع العناوين التي يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التحرّك بموجبها متوفرة، فلا حياة لمن تنادي،فيما مجلس حقوق الإنسان التابع للجمعية العامة،لا يكاد يلفظ حكما إلا ليعود ليبلع قراره ولسانه معا. نعاني نحن العرب الكثير من الاكتئاب السياسي الذي يستلزم الكثير من القرارات الداخلية الوطنية،نحن بحاجة للتغيّر ،وليس للتغيير بتحفيز من الخارج ودفعه. لسنا بحاجة إلى قرارات دولية تفصّل على مقاسات مصالح السياسات الدولية التي لم تحسب حسابا لنا يوما. عيبنا نحن العرب أننا لم نتعلم لا من تجاربنا ولا من تجارب غيرنا، نظل نتوسّل التدخل لحسم مشاكلنا وقضايانا.وعيب من يحكمنا عدم الاتعاظ من تجارب كثيرة سبقت،تُقدم التنازلات متأخرة وهي حق للشعوب وليست مِنَّة من أحد.وسفك الدماء أهون من التخلي عن المناصب، متى نعرف نحن العرب ان مصيرنا ومسارنا بين الأمم والشعوب مرهون بالديموقراطية الحقّة التي لم نتذوقها يوما،رغم أننا دفعنا أثمانا غالية لها وعليها.