ماذا بعد تقرير فينو غراد؟
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
عندما تتألفّ لجنة تحقيق في إسرائيل، فهذا يعني أن ثمة أزمة كبرى في الكيان الصهيوني وتهدد مصيره. كانت لجنة "اغرانات" للتحقيق في أسباب الفشل في حرب تشرين 1973 وكانت لجنة "كاهان" للتحقيق في مجازر صبرا وشاتيلا. واليوم لجنة "فينوغراد" لفحص هزيمة اسرائيل في لبنان. وغريب المفارقات أن يكون ثمة تقاطع واضح في العديد من المجالات بين تقرير "اغرانات" وتقرير "فينوغراد"، خصوصاً لجهة التركيز على مسؤوليّة الجيش في مجالات عدة من بينها: الفشل على صعيد القيادتين السياسيّة كما العسكريّة. النقص في الاستعلام والاستخبارات. الانضباط ضمن صفوف الجيش والفشل في التعبئة.وفي مطلق الاحوال ثمة ملاحظات فارقة يمكن قراءتها في التقرير وهي بالتأكيد ستساهم في رسم الخريطة السياسية الداخلية في اسرائيل لمرحلة قادمة لن تكون قصيرة.
ففي الواقع لا يختلف اثنان في إسرائيل حول أن لجنة فينوغراد التي لم تصدر أي توصيات شخصية، كانت بالغة الشدة في توصياتها المنظوماتية. وأعلنت اللجنة، أن إسرائيل اخفقت في حربها على لبنان، معتبرة أن الإسرائيليين عموما مذنبون، برغم أن الذنب الأساس يقع على كاهل الجيش والمستوى السياسي.
ثمة اقرار واضح بالهمزيمة لكن على الطريقة الاسرائيلية التي سمتها اللجنة "خيبة كبيرة وخطيرة" التي وردت اكثر من مئة مرة، والتي "يتحمل مسؤوليتها أساسا الجيش، ولكن شارك فيها أيضا الضعف الذي أبداه المستوى السياسي". وأعاد التقرير التذكير بالأيام الصعبة لحرب لبنان، قائلا إن الجيش واجه "تنظيما شبه عسكري مكونا من بضعة آلاف من المقاتلين صمد في وجه الجيش الأقوى في الشرق الأوسط، والذي يحظى بتفوق جوي مطلق ومزايا في الحجم والتكنولوجيا"، ولكنه "لم يوفر ردا فعالا لإطلاق الصواريخ، الذي تواصل كل أيام الحرب، حين ترك الكثير من السكان بيوتهم أو أقاموا في الملاجئ. لقد خرجت إسرائيل إلى حرب طويلة بادرت هي إليها، وانتهت من دون أن تنتصر بها إسرائيل بشكل واضح من الناحية العسكرية". وبذلك أكد التقرير بوضوح أن إسرائيل هي التي قررت الحرب وبادرت إليها بعدما حددت أهدافها بشكل قاطع، وهي مواجهة المقاومة في جنوب لبنان، لذلك استعمل التقرير عبارات ملفقة للهدف الاستراتيجي الحقيقي، وبدلاً من أن يُظهر حقيقة هذا الهدف المتمثل بتفكيك المقاومة والتخلص من حزب الله، اكتفى بذكر منع إطلاق الصواريخ من لبنان، وانتهى إلى القول أن إسرائيل أخفقت في ذلك، برغم امتلاكها قدرات عسكرية جعلتها القوة الأكبر في الشرق الأوسط، ما يعني اعترافا مطلقا بالهزيمة لانطباق ذلك على معايير النصر والهزيمة في الأعراف والمبادئ العسكرية.
وبخلاف تقرير فينوغراد المرحلي، حاولت اللجنة في تقريرها النهائي أن تظهر نوعا من التوازن بين السلبيات والإيجابيات. وأشار التقرير إلى أنه "تحققت في هذه الحرب إنجازات فعلية أيضا"، غير أن إسرائيل "لم تحظ بالإنجاز السياسي على أرضية إنجاز عسكري. فقد استندت إلى تسوية سياسية، كانت فيه حقا مزايا إيجابية ـ إذ اتاحت تسوية وقف القتال برغم أنه لم يتم حسم المعركة". ولتأكيد ذلك تفادت اللجنة الاتهام الشخصي للمسؤولين وهربت إلى تعميم التقصير والإخفاق على السلطتين السياسية والعسكرية، من دون أن توصي بالاقالة او المحاسبة مثلا، لكنها التفّت على هذا الأمر بشكل لافت إذ أبرزت الواقع المتردي والسيء من الوجهة القيادية والاستراتيجية للقادة الإسرائيليين من المستويين السياسي والعسكري، ووضعت ذلك بتصرف الجمهور الإسرائيلي طالبة منه أن يقرر هو، ما يعني دعوة ضمنية لانتخابات مبكرة تأتي بقادة سياسيين أكفاء يستطيعون اختيار قادة عسكريين ملائمين للمرحلة القادمة.
ان تحدث التقرير عن الإنجاز السياسي حيث إن القرار 1701 حسَّن وضع إسرائيل إذ اعتبرت اللجنة أنه كان "لحرب لبنان الثانية إنجازات سياسية فعلية : قرار مجلس الأمن ,1701 الذي اتخذ بالإجماع، يشكل إنجازا لدولة إسرائيل"وهنا ينبغي التذكير ان ما حققته اسرائيل عمليا من القرار 1701 كان ثمرة ضغط امبركي اوروبي وعربي وحتى لبناني واضح،ومن الناحية العملية تمَّ هضم هذا القرار لبنانيا بعد اشهر من تنفيذه عمليا وبالتالي لم يغير من الواقع اللبناني بشيء لجهة الادارة اللوجستية للمقاومة.
طيعا ثمة الكثير ما يقال في التقرير واهدافه وخلفياته،الا ان اهم ما فيه هو تداعياته المحتملة اسرائيليا واقليميا. فالائتلاف الحكومي القائم حاليا لن يستمر طويلا بفعل الاتهامات المتبادلة والاستثمارات السياسية الواضحة في السلوك السياسي لرئيس الحكومة ايهود اولمرت في مواجهة غريمه ايهود باراك،وسيظل الوضع قائما حتى تحسم اي انتخابات قادمة وهي مرجحة الصيف القادم وضع اي ائتلاف جديد سيحكم اسرائيل مستقبلا،الا انه في مطلق الاحوال ان زلزالا سياسيا ضرب اسرائيل وستظل ارتداداته تتلاحق في المؤسسات السياسية الفاعالة في الكيان الاسرائيلي لفترات ليست قليلة.
اما لجهة المؤسسة العسكرية بكافة قطاعاتها فسوف تستوعب وتهضم الصدمة الاولية التي تلقتها في التقرير والتي تحملت وزر التآكل البنيوي في اجهزتها اذا جاز التعبير،ورغم ذلك لن يكون بمقدورها مسح العار الذي لطخت فيه في معركة غير متكافئة لا كميا ولا نوعيا،وبذلك ان هيبة المؤسسة العسكرية التي تحكم اسرائيل فعليا ستطل موضع شك وحتى استهزاء اسرائيليين كبيرين،سيما وانها لم تتمكن لا من ادارة المعركة التي افتعلتها ولا حتى إبعاد المعركة عن الداخل الاسرائيلي التي تميّزت القوة العسكرية الاسرائيلية من فعلها في كل الحروب العربية الاسرائيلية السابقة.
ان تداعيات التقرير على الداخل الاسرائيلي لا تخفي آثارا يمكن ان تهم بعض الدول كالاوروبيين والولايات المتحدة لجهة أثره على ما حاول ان يرسمه مؤتمر انابوليس كخارطة طريق للتفاوض مع الفلسطينيين.وفي هذا الاطار ان الدولة الموعودة من قبل واشطن للفلسطينيين لن تكون سوى سلفة غير قابلة للصرف السياسي،بل ان ازمة اسرائيل الداخلية ربما تدفع الحكومة الاسرائيلية الحالية الهروب الى الامام كالمعتاد وتنفيذ اعتداءات او حتى اعادة احتلال غزة مجددا.
عربيا وتحديدا لبنانيا ،لقد اسقط التقرير مقولة تحميل المقاومة مسؤولية الحرب عبر اختطاف الجنديين الاسرائيلليين صبيحة 12 تموز 2006 ،اذ اظهر التقرير ان ثمة حريا خططت لها الولايات المتحدة واسرائيل ولم تكن عملية الاختطاف سوى ذريعة اسرائيلية لشن حرب عالمية على المقاومة في لبنان.اضافة الى ذلك ان اخطر ما في التقرير ما تمَّ عدم نشره بحجة المصلحة العليا لاسرائيل وهو ما يتعلق ببعض الاتصالات من بعض الاطراف اللبنانية باسرائيل ابان العدوان وقبله لعدم ايقاف المعركة قبل القضاء على المقاومة.
في الحروب السابقة، انتصرت إسرائيل لكنها لم تفرض حلولها السياسيّة، أمّا في حرب تمّوز فكان الفشل المزدوج في الحرب والسياسة. وعندما حقّق العرب نصف انتصار في حرب تشرين، كانت الترجمة السياسيّة المصريّة لهذا النصر، توقيع معاهدة كامب ديفيد، التي كانت خسارة سياسيّة تاريخيّة للقضيّة العربيّة.وهذه المرة انتصرت المقاومة على اسرائيل فلم يدع العرب ولا بعض اللبنانيين المقاومة من استثمار انتصارها بعودة اسراها واسترجاع بعض ارضها المحتلة،بل يصوبون عليها ويجهدون لمحاولة تحويلها الى ميليشيا في زواريب السياسة اللبنانية. سُئل مرّة بن غوريون: "متى تنتهي أو تسقط إسرائيل؟" كان ردّه: "حين تخسر أوّل حرب"، من هنا فإنّ على اللبنانيين قبل العرب اخذ العبر،لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟.