قانون محاسبة سوريا : عقوبات ام عقبات؟
د.خليل حسين
استاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني
بصرف النظر عن الجانب القانوني للعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الامريكية على بعض دول العالم، تحت ذرائع ومبررات واهية لم تعد تنطلي على احد حتى في اوساط الرأي العام الغربي، باعتبارها لا تستند الى وقائع موضوعية ، ولا لإسس شرعية او قانونية اجازتها الشرائع الدولية.ولو سلمنا جدلا ان دولة ما ينطبق عليها ما تدعيه الولايات المتحدة فهل يجوز لهذه الأخيرة ان تفرض العقوبات وتنفذ منها ما تشاء؟ وأين دور الامم المتحدة في هذا المجال ولماذا أنشئت في الأساس ؟ ام ان الشرعية الدولية باتت يدا طيعة بتصرف الدولة العظمى التي تسيطر وتقود النظام العالمي وفقا لرغباتها ومشيئتها؟ واذا كان الامر كذلك فما هو موقع شريعة الغاب بين دول العالم بدل ان نقول الشرعية الدولية ومبادئها التي يجب ان تسود اذا ما اريد لهذا العالم ان ينعم بالامن والسلم الدوليين؟!
واذا نظرنا الى الامر من المقلب الآخر، اين ممارسات الولايات المتحدة على مر العصور والازمان ،من التدخلات في الشؤون الداخلية للدول وتنظيم ورعاية الانقلابات وتنصيب الرؤساء وعزلهم ؟ وأين التدخلات العسكرية والحروب التي خاضتها واشنطن والتي تعدّت المئة خلال القرن الماضي؟ وأين حملات الابادة الجماعية المنظمة ضد الهنود الحمر وغيرهم في فييتنام و....؟وحتى اين حقوق الانسان في اميركا نفسها قبل 11 ايلول وبعده؟ فهل يجوز لهذه الدولة ان تدعي بأن غيرها من الدول دول مارقة ترعى الارهاب وتهدد الامن والاستقرار؟ وبصرف النظر عن الجانبين القانوني والسياسي، فما هي خلفيات ودلالات هذه العقوبات؟ وما هي آثارها على سوريا وعلى غيرها وبخاصة الولايات المتحدة نفسها؟ ان التدقيق في بعض الوقائع يقودنا الى العديد من الخلفيات التي دعت واشطن الى تحريك قانون محاسبة سوريا وابرزها:
- من الوجهة الاقتصادية لا يعتبر هذا القانون من الوسائل الناجحة التي يمكن الاعتماد عليها، فهو اصلا موجود منذ فنرة ليست بقصيرة اولا، اضافة ان دمشق لا تعتبر من الدول الاكثر رعاية مع واشنطن فيما خص التبادل التجاري فهو في آخر القائمة التجارية بين الدولتين ثانيا، فضلا عن ان الموضوع ظاهره اقتصادي ومضمونه سياسي بامتياز.
- واذا كان الهدف من القانون محاسية سياسية لدمشق على مواقفها المبدئية للعديد من ملفات المنطقة، فان المقاصة السياسية بين واشنطن ودمشق لم تكن يوما على حساب المواقف – القرارات التي اتخذتها تجاه القضايا القومية المركزية.
- واذا كان ثمة تفكيرا لدى الادارة الامريكية ان العقوبات على الدول يُليّن مواقف المتشددين ويقوي مواقع المعتدلين بالنسبة لها، فأمر يستوجب اعادة النظر من جديد والتمعّن فيه لسوابق كثيرة عديدة ومتنوعة في تاريخ العقوبات الامريكية، فقانون داماتو فيما يخص بالحصار المفروض على ابران انتج العكس تماما ، فقد شدَّ من إزر المتشددين وأرخى عضّد المعتدلين، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في القياس بين الحالتين.
- اما اذا كان هناك رسائل ليتعلم البعض منها ، فبعض الدول ليست بحاجة لمن يعلمها سياسة التكيف ودفن الرؤوس في الرمال،فبعضها فهم الرسالة دون عناء واشنطن وإلتف على مبادئه لفك الحصار الموهوم عليه ، فما كانت النتيجة الا مزيدا من التنازلات من ألفها الى يائها.
- واذا كان قانون المحاسبة يهدف في الاساس الى تقويض امتدادات السياسة الخارجية لدمشق تجاه ملفات المنطقة، فجميع اصحاب هذه الملفات هي بحاجة لدمشق وليست هي بحاجة لأوراق اضافية تربكها وتتعبها.
واذا كانت هذه الخلفيات واضحة الى حد بعيد فالدلالات ايضا لم تعد خافية على احد، وهي تعني بشكل او بآخر، اندفاع الادارة الامريكية بلا أي حساب وراء مشاريع ارئيل شارون في المنطقة، بل باتت تنفذ سياسات الليكود بدقة متناهية دون تعديل او تبديل حتى في التفاصيل ، فهل من مصلحة اميركا هذا الاندفاع غير المحمود النتائج؟ ام ان واشنطن اعدت العدّة عن تل ابيب لتنفيذ ما حلم به شارون من عقود وهو اشعال المنطقة وقلب الطاولة على الجميع؟.
ان سياسة العقوبات التي لجأت اليها واشنطن هي بمعنى آخر العودة الى لعب سياسة حفة الهاوية التي لم تكن يوما وسيلة ناجحة لحل القضايا المعقدة ، بل ادت في معظم الاحيان ان لم نقل جميعها الى المزيد من التأزيم ووضع العقبات في طريق الحلول القابلة للحياة.
كما ان مراجعة تاريخ العلاقات الامريكية – السورية لا سيما في الثلث الأخير من القرن الماضي وحتى اليوم ، تظهر حكمة السياسة الخارجية السورية في االتعاطي مع الملفات المعقدة والمتشابكة الخيوط الاقليمية، وكانت دائما مرجعا وملجأ لحلها ، حتى من قبل الدول التي ساهمت في تعقيد هذه الملفات ومنها الولايات المتحدة الامريكية.
ومرة أخرى تظهر العقوبات الامريكية هي نفسها عقبات لسياسات واشنطن في المنطقة، وهي بالتالي لن توصل واشنطن الى ما تريد، الا في حال ان واشنطن اخذت قرارها نيابة ووكالة عن تل ابيب في خوض الجزء الثاني من معركة العراق في الشرق الاوسط، وعندها لن تكون أُم المعارك هي نفسها لا بوقائعها ولا نتائجها.
ان كل المؤشرات الموضوعية في المنطقة تتحضر لصيف دافىء جدا، انطلاقا من ايصال الادارة الامريكية الحالية كل الامور الى الحائط المسدود، بدءا من العراق في نهاية حزيران ، وصولا الى العقوبات ضد سوريا ، مرورا بإطلاق العنان لمخيلة ارئيل شارون في فلسطين، وانتهاء بالتهديدات الاسرائيلية الصريحة للبنان وسوريا.
ولتفادي هذا الجو الملبّد والمدروس ربما بدقة، فان الولايات المتحدة هي احوج ما تكون فيه اليوم الى سياسة ازالة العقبات امام مشاريعها في المنطقة بدل وضع العقوبات على دول المنطقة، فهل تتعظ واشنطن من عبر التاريخ القديم والحديث؟ ام ان في الادارة الامريكية بعضا من المتهورين يقودون المنطقة والعالم الى اوضاع لن يكون بمقدور احد توقّع نتائجها او تحمّل مسؤولياتها؟ّ.