خلفيات وأبعاد معركة النجف الاشرف
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
ربما يكون قدر الشيعة في العراق وحتى في غيرها من الدول،ميالون دائما الى رفع راية التحرر والتحرير ودفع الاثمان الغالية بفعل المعطيات التي تحيط بظروف هذه الجماعة التي اصبحت مع التاريخ عنوانا للحرمان والاضطهاد في غير مجال وموقع، حتى باتت الجغرافيا تضيق بطروحات مفكريها ورجالها الى درجة إلصاق تصدير الثورات والانتفاضات بها اينما وجدت واينما حلت.
ومرة اخرى يعيد التاريخ نفسه ربما بوجوه وظروف مختلفين، الا ان الهدف بالتأكيد واحد وهو ضرب تيار اخذ على عاتقه تحرير العراق واصبح مع الوقت حالة من الصعب تجاوزها نظرا لامتداداتها الواسعة قي صفوف العراقيين وبخاصة بين الفئات الشابة المحرومة من كل شيء والقادرة على تحريك الكثير من الملفات بفعل عدم امتلاكها لأي أمر تخسره.
فما هي ابعاد معركة النجف الاشرف؟ وما هي العوامل التي تتحكم بها والى اين ستؤول الامور بها؟ وما هي النتائج المحتملة لهذه المعركة غير المتكافئة اصلا من الناحية العسكرية؟ وما يمكن ان تؤدي من اسقاطات على الوضع العراقي والاقليمي في آن؟.
فعلى الرغم من وجود بعض الابعاد الاقليمية لهذه المعركة فان اسبابا داخلية وجيهة واساسية تقود الامور الى ما وصلت اليها من تأزيم سياسي وصولا الى مرحلة الخيار العسكري،وفي الواقع هناك العديد من الاسباب والخلفيات التي اوجبت هذا التصادم وابرزها:
- ان الخلفية الدينية والعقائدية التي يحملها تيار الصدر وقوته العسكرية"جيش المهدي" تتناقض تماما مع طروحات وغايات قوات الاحتلال في العراق ومن يمثلها في آليات الحكم القائمة حاليا، وبالتالي فان المشروع السياسي لكلا الطرفين وان كان ضبابيا في بعض التفاصيل فهما واصلين لنقطة التصادم ولو بعد حين.
- ان التهميش والتنكيل وصولا الى سياسة الابادات والمجازر التي ارتكبت بحق هذه الجماعة ان على الصعيد الشعبي او على صعيد القيادات والمرجعيات الدينية، جعلت منها حالة اتصفت بالتوجس والخوف من أي مشروع سياسي يحل في العراق ،وبالتالي باتت البؤرة المهيأة للتمرد والعصيان ومنبعا للانتفاضات والثورات.
- ان التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي لحق بهذه الجماعة وبغيرها في العراق جعل منها خزانا ضخما للشرائح الاجتماعية المهمشة دون فاعلية تذكر رغم طاقاتها وقدراتها اللافتة،الامر الذي جعل من تياراتها السياسية والفكرية ملجأ لكثير من المتضررين في الواقع العراقي القائم منذ عقود.
- ان المتنفس الاقليمي لهذه الجماعة قد ظهر منذ نجاح الثورة الاسلامية في ايران،في الوقت الذي ظهرت قواسم مشتركة بين مشروعيها ،وفي كثير من الحالات التطابق في المواقف والرؤى، الامر الذي جعل من هذه القوة المهمشة تتطلع الى تغيير الواقع المفروض عليها،لا سيما بعد سقوط نظام صدام حسين.
وفي مقابل ذلك، هناك قوات الاحتلال التي ألبّست بعض التيارات السياسية المتعاملة معها لبوس الشرعية عبر القرار الدولي 1546 ،الذي يفرض على هذه التيارات تنفيذ جميع ما ورد في نصه والتي ستؤول الى العديد من الامور ابرزها الحرب الاهلية والانفصالات وغيرها.لذا فان عتاصر التصادم مهيأة في الاساس ولم تنتظر الا التوقيت الامريكي المناسب لتفجير الاوضاع، فكانت معركة النجف التي ستكون بمثابة "ام المعارك" للحكومة المؤقتة.
لقد اتخذت الحكومة المؤقتة الضوء الاخضر الامريكي بتنفيذ الشق الداخلي من القرار الدولي 1546 ،القاضي ظاهريا ببسط سلطتها على الاراضي العراقية وضمنيا بتصفية كل التيارات المناوئة للاحتلال ،واختارت "او اجبرت على اختيار لا فرق" النجف الاشرف عنوانا جديدا لاثبات شرعيتها ووجودها بعد عنوان الفلوجة قبلا، ذلك بهدف تحقيق الكثير من الامور ابرزها:
- ان تصفية جيش المهدي ومن بعده التيار الصدري السياسي كما تحاول الحكومة العراقية تسميتهما،يعطيها دفعا باتجاه ابراز هيبتها الداخلية بعدما فشلت ما حاولت به في الفلوجة.
- محاولة شق المرجعبات الشيعية في العراق وفي الخارج اذا امكن وبخاصة حول وسائل مقاومة الاحتلال الامريكي الامر الي سيترك آثارا سلبية على مستقبل الجماعات المقاومة للاحتلال.
- محاولة اقحام الجمهورية الاسلامية في ايران في معركة النجف وفقا للتوقيت الامريكي وهذا ما ظهر علانية على لسان وزير الدفاع العراقي من خلال تصريحاته الصحفية الموجهة الى ايران مباشرة.
- تمرير اعمال ونتائج المؤتمر الوطني العراقي على وقع اصوات الطائرات والدبابات، بأقل ضجيج اعلامي لنتائجه التي ستكون صك براءة للحكومة من "دم الصديق"الذي يراق في النجف الاشرف.
لقد غاب عن بال الحكومة العراقية ومن يدعمها بأن ليس في التاريخ البعيد او القريب مقاومة قد هزمت بفعل ضغط الحكومات والانظمة ،كما تجاهلت عن قصد معايير الجغرافيا السياسية للدول والاثر الذي توقعه على الدول المحتلة،وبهذا قد وقعت في خطأين جسيمين داخلي بضرب مواطنيها وخارجيا بتأجيج الخلاف مع قوى اقليمية كلفت الملايين من البشر والمليارات من الاموال!
وكما ان لمعركة النجف الاشرف ظروفا داخلية فان للبعد الاقليمي والدولي اثر بها ،من خلال الرسائل الموجهة تحديدا الى الجمهورية الاسلامية في ايران ،بدءا من التدخل في الشأن العراقي،مرورا بدعم المقاومة في لبنان وفلسطين وانتهاءَ بالملف النووي ،وهي بجميعها ملفات واضحة التأثير على ملف معركة النجف والاسقاطات التي ستتبعها.فمن الممكن ان تتعاطى واشنطن تحديدا مع طهران في سياسة غض النظر عن بعض الطموحات المتعلقة بالسياسة الخارجية الاقليمية مقابل الملف النووي الذي يشغل بال كل من تل ابيب وواشنطن، الا ان هذه المقايضات الواردة هي من قبيل مقايضة الاستراتيجي بالتكتيكي وهذا امر مستبعد بالنسبة لايران ،الامر الذي سيبقي النجف الاشرف وتداعياته المستقبلية مفتوحا على كل الاحتمالات الاقليمية والداخلية العراقية.
ان سعي الحكومة العراقية ومن ورائها قوات الاحتلال هو تصفية القوى المقاومة في العراق ،بدليل السياق الذي تتعامل به مع جيش المهدي ،فهي لا تبحث عن الحل بقدر ما تبحث عن مكامن ومفاصل التأزيم،وصولا الى الخيار العسكري الذي ابتغته اساسا ،وهو بالتأكيد لن يوصلها الى نتيجة محددة سوى حشرها داخليا، فبعدما تمت الموافقة على حل الجيش وهواصلا ليس بقوة عسكرية منظمة قابلة للحل، وبعدما تمت الموافقة على اخلاء المدينة القديمة وهي اصلا سكان اهاليها الذين سيخلونها، وبعدما تمت الموافقة على الدخول في آلية سياسية ما وهي في الاساس غير مرفوضة تماما من تيار الصدر،طلبت الحكومة العراقية عبر أحد غلاتها بصك الاستسلام العلني من السيد مقتدى الصدر،وهو في الواقع صك استسلام ليس لمقتدى الصدر فحسب وانما يخفي في طياته صك استسلام لجميع المرجعيات الدينية في العراق وخارجه بمواجهة قوى الاحتلال في العراق وفي المنطقة.
ومن الواضح ان ميزان القوى العسكرية ليس له صلة بالتوازن، وهي معركة غير متكافئة بالمطلق، فعسكريا ان جيش المهدي غير قادر عن حماية العتبات المقدسة في النجف الاشرف،لكنه قادر على تأسيس حمايته في عقول وقلوب جميع مريديه في حال تعرض للابادة او المجازر، وسيكون ليس مجرد تيار صدري ولا حالة او تنظيم سياسي او عسكري ، بل سيصبح اضافة لتيار صدري ركنا عقليا وملجأ قلبي عاطفي لكل تيار مقاوم في العراق وغيره.
ان تداعيات معركة النجف الاشرف اذا ما سارت الامور على نفس المنوال ستكون وبالاَ على العراق ودفعا عن قصد نحو حرب اهلية ستقود اليه انفصال العديد من المجموعات القومية في العراق،الالمر الذي سيؤثر في مجمل الاوضاع الاقليمية .
وحتى لا تتكرر معركة الطف في التاريخ والجغرافيا نفسها،على دول الجوار العراقي البحث عن الحل الذي ينقذ العراق ومن حوله بالتاكيد،اذ ان الولايات المتحدة واسرائيل وفي ظل الظروف الداخلية التي يعيشانها حاليا فهما بأمس الحاجة الى نصر حتى وان كان وهميا ان كان في العراق او فلسطين اوغيرهما.