ماذا بعد مخيمي البارد والبداوي؟
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
من المسلمات في الحياة السياسية اللبنانية تداخل العناصر الخارجية في مسلسل ألازمات اللبنانية المتلاحقة منذ ما قبل الاستقلال،ومن الثابت أيضا تفاعل هذه العناصر مع القضايا الداخلية واستغلالها بشكل فاعل لتحقيق انتصارات وهمية،ومن تلك العناصر اللافتة الموضوع الفلسطيني وبخاصة المخيمات والسلاح خارجها.وما جرى مؤخرا في مخيم نهر البارد وما تلاه في البداوي يؤكد فرضيات كثيرة قابلة للاستثمار السياسي والأمني على حد سواء،فما هي خلفيات ما جرى في البداوي وما هي دلالاته وما هي تداعياته المستقبلية في الأزمة اللبنانية الحالية؟
في العام 1973 شكَّل الصِدام بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية في مخيم تل الزعتر الشعرة التي قسمت ظهر البعير في العلاقات اللبنانية الفلسطينية، فكانت باباً لإدخال العامل الفلسطيني في الحرب الأهلية اللبنانية من بوابتها العريضة،فانقسم الجيش بعدها بفترة وجيزة ودخل اللبنانيون كما الفلسطينيون في حرب استمرت سبعة عشرة سنة؛وعلى الرغم من عدم تطابق الظروف وتباينها في المرحلة الحالية عن تلك المرحلة إلا أن ثمة عوامل كثيرة يمكن أن تعيد رسم الصورة نفسها على قاعدة حاجة كل الأطراف التي تدير اللعبة السياسية الأمنية في لبنان إلى أدوات من النخب الرفيع لتمرير ما يمكن تمريره.
في الأمس القريب توحَّد اللبنانيون حول جيشهم في معاركه في مخيم نهر البارد على قاعدة معاقبة ما فعلته "فتح الإسلام" من مجزرة موصوفة بحق بعض عناصر الجيش اللبناني،أما اليوم فثمة ملامح افتراق سيتسع بالتأكيد لاحقا مفاده الاختلاف والتباين في الرؤية حول ما حدث من إطلاق نار على تظاهرة الفلسطينيين في مخيم البداوي المطالبين بالعودة إلى مخيم البارد؛فريق يعتبره من عدة الشغل السورية في لبنان فيما الفريق الآخر يعتبره بداية لزجِّ الجيش اللبناني بقرار سياسي في فتنة قتال الفلسطينيين ومحاولة مدِّها إلى المخيمات الأخرى محصلتها الأخيرة ستكون فتح ملف السلاح الفلسطيني في المخيمات كافة وخارجها،وهو ملف قديم جديد لم يتمكن أي طرف من حسمه في مختلف حقبات الأزمات اللبنانية،بل كان وقودا لملفات أخرى لا تقل حساسيتها عن ملفات أخرى.
لا شك إن ما حدث في مخيم نهر البارد كان مبررا لجهة حماية الجيش اللبناني سياسيا في خطواته العسكرية سيما وأنه نفَّذ قرارا سياسيا؛ وبصرف النظر أيضا عن تكييفه القانوني والأخلاقي لجهة ما دفعه المدنيون الفلسطينيون في المخيم من أثمان باهظة فإن ما جرى من إطلاق نار على المتظاهرين في البداوي يصعب هضمه وتبريره بخاصة بعدما بدأ يظهر من وقائع ومعطيات أن أطرافا ثالثة دخلت على خط الأزمة وهي من أطلقت النار،وبصرف النظر عن المسبب في الحادثة ثمة نقاط ينبغي إدراجها وأبرزها:
- إن ملفات الوضع الفلسطيني في لبنان هي قضية سياسية وبالتأكيد حلها ينبغي أن يكون سياسيا لا امنيا ولا عسكريا فالتجارب السابقة منذ العام 1969 تاريخ دخول العمل الفدائي إلى لبنان يؤكد ذلك،فاتفاق القاهرة على سبيل المثال لم يصمد ساعات وثمنه لا يوازي الحبر الذي كُتب فيه،فعلى الرغم من الجهد العربي الوازن آنذاك لم تتمكن الدول العربية ومنها مصر وسوريا من ضبط إيقاع السلاح الفلسطيني،وسببه أن البيئة التي صِيغَ فيها الاتفاق كانت بيئة أمنية لا سياسية وبالتالي لم تهضمه المقاومة الفلسطينية آنذاك وحتى قوى الحركة الوطنية اللبنانية لم تستسغه أيضا وظل لسنوات عدّة شغل ممتازة لأطراف لبنانية كثيرة فيما السلاح الفلسطيني ظل وازنا في الحياة السياسية اللبنانية.
- إن الطريقة التي يتمُّ بها التعامل مع مخيم نهر البارد تنمُّ عن تخبّط كبير وعدم قدرة على قراءة الملف الفلسطيني بوضوح،ففي الوقت الذي يُعلن فيه عن انتهاء العمليات العسكرية من القيادة السياسية للجيش اللبناني تعود الاشتباكات سريعا وبوتيرة أشد عنفا وقسوة،الأمر الذي يعني عدم القدرة على الحسم العسكري ولو كان التبرير تجنيب المدنيين الفلسطينيين في الوقت الذي يدفعون وحدهم الثمن الأكبر.
- إن البناء على التجارب السابقة يعطي صورة قاتمة لقراءة الملف الفلسطيني برمته في لبنان مستقبلا،فمن الصعب تصوّر حصر المعارك في مخيم نهر البارد،بل شرارة الانطلاق بدأت في البداوي وامتداداتها لن تطول إلى باقي المخيمات الأخرى.فمخيم عين الحلوة مثلا يغلي على فوهة بركان ومحاولة الحل السابقة كانت بمثابة تأجيل الانفجار ليس إلا، فيما القواعد الفلسطينية الأخرى في منطقتي الناعمة والبقاعين الغربي والشرقي يغطيهما نار تحت الرماد وهما بيت القصيد في كل تلك الحفلة العامرة.
- إن مجمل الوساطات المطروحة عربيا حتى الآن لحل الأزمة اللبنانية الحالية لم تلحظ عمليا العامل الفلسطيني المستجد فهو مغيب تماما ومتروك لقدره وكأنه أمر كان مقضيا،في الوقت الذي يعتبر العامل الفلسطيني حاليا حجر الرحى في إنجاح أي مشروع حل مقترح.
إن ما جرى تحديدا في مخيم البداوي يؤشر إلى جملة تداعيات خطيرة على الوضع اللبناني برمته،فتفاعل عملية إطلاق النار على المدنيين المتظاهرين سيرخي ظلالا كثيفة على الإجماع اللبناني الذي تكوّن في عمليات نهر البارد،وسيزيد الشرخ اتساعا بين اللبنانيين حول كيفية حل الأزمات المستجدة،أما الأمر الأخطر فمن الممكن أن يؤدي اتساع ونشر العمليات العسكرية في المخيمات الأخرى إلى انقسام الجيش اللبناني الأمر الذي يعني إنهاء ما تبقى من علامات الوحدة الوطنية اللبنانية التي كانت خلال سنوات السلم الأهلي الماضي يغطيها ويرعاها ويحميها الجيش اللبناني تحديدا.
غالبا ما مرَّ الصيف السياسي والعسكري في لبنان حارا وغاليا أيضا ما كان يولّد تداعيات كبيرة على الوضعين اللبناني والإقليمي،فهل ستكون حفلة المخيمات القادمة غطاءً موازيا لعمل المحكمة الخاصة بلبنان وكذلك لتمرير الاستحقاقات الدستورية في لبنان تحت وطأة الحديد والنار؟أم ستكون عاملا إضافيا لفتن مذهبية متعددة الأشكال والألوان،أم أنها ستكون أيضا قنابل دخانية لمفاوضات إقليمية شاقة تمتد ملفاتها من أفغانستان إلى إيران والعراق وفلسطين ولبنان،أم ستكون كلها ملفات موضوعة تحت رماد الدم الفلسطيني واللبناني معا؟ لقد علمتنا تجارب الدروس اللبنانية في هذه الملفات تحديدا ما يؤشر إلى ذلك،لكن المهم في الأمر أن أي حل لا يراعي البيئة السياسية سيكون غير قابل للحياة.
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
من المسلمات في الحياة السياسية اللبنانية تداخل العناصر الخارجية في مسلسل ألازمات اللبنانية المتلاحقة منذ ما قبل الاستقلال،ومن الثابت أيضا تفاعل هذه العناصر مع القضايا الداخلية واستغلالها بشكل فاعل لتحقيق انتصارات وهمية،ومن تلك العناصر اللافتة الموضوع الفلسطيني وبخاصة المخيمات والسلاح خارجها.وما جرى مؤخرا في مخيم نهر البارد وما تلاه في البداوي يؤكد فرضيات كثيرة قابلة للاستثمار السياسي والأمني على حد سواء،فما هي خلفيات ما جرى في البداوي وما هي دلالاته وما هي تداعياته المستقبلية في الأزمة اللبنانية الحالية؟
في العام 1973 شكَّل الصِدام بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية في مخيم تل الزعتر الشعرة التي قسمت ظهر البعير في العلاقات اللبنانية الفلسطينية، فكانت باباً لإدخال العامل الفلسطيني في الحرب الأهلية اللبنانية من بوابتها العريضة،فانقسم الجيش بعدها بفترة وجيزة ودخل اللبنانيون كما الفلسطينيون في حرب استمرت سبعة عشرة سنة؛وعلى الرغم من عدم تطابق الظروف وتباينها في المرحلة الحالية عن تلك المرحلة إلا أن ثمة عوامل كثيرة يمكن أن تعيد رسم الصورة نفسها على قاعدة حاجة كل الأطراف التي تدير اللعبة السياسية الأمنية في لبنان إلى أدوات من النخب الرفيع لتمرير ما يمكن تمريره.
في الأمس القريب توحَّد اللبنانيون حول جيشهم في معاركه في مخيم نهر البارد على قاعدة معاقبة ما فعلته "فتح الإسلام" من مجزرة موصوفة بحق بعض عناصر الجيش اللبناني،أما اليوم فثمة ملامح افتراق سيتسع بالتأكيد لاحقا مفاده الاختلاف والتباين في الرؤية حول ما حدث من إطلاق نار على تظاهرة الفلسطينيين في مخيم البداوي المطالبين بالعودة إلى مخيم البارد؛فريق يعتبره من عدة الشغل السورية في لبنان فيما الفريق الآخر يعتبره بداية لزجِّ الجيش اللبناني بقرار سياسي في فتنة قتال الفلسطينيين ومحاولة مدِّها إلى المخيمات الأخرى محصلتها الأخيرة ستكون فتح ملف السلاح الفلسطيني في المخيمات كافة وخارجها،وهو ملف قديم جديد لم يتمكن أي طرف من حسمه في مختلف حقبات الأزمات اللبنانية،بل كان وقودا لملفات أخرى لا تقل حساسيتها عن ملفات أخرى.
لا شك إن ما حدث في مخيم نهر البارد كان مبررا لجهة حماية الجيش اللبناني سياسيا في خطواته العسكرية سيما وأنه نفَّذ قرارا سياسيا؛ وبصرف النظر أيضا عن تكييفه القانوني والأخلاقي لجهة ما دفعه المدنيون الفلسطينيون في المخيم من أثمان باهظة فإن ما جرى من إطلاق نار على المتظاهرين في البداوي يصعب هضمه وتبريره بخاصة بعدما بدأ يظهر من وقائع ومعطيات أن أطرافا ثالثة دخلت على خط الأزمة وهي من أطلقت النار،وبصرف النظر عن المسبب في الحادثة ثمة نقاط ينبغي إدراجها وأبرزها:
- إن ملفات الوضع الفلسطيني في لبنان هي قضية سياسية وبالتأكيد حلها ينبغي أن يكون سياسيا لا امنيا ولا عسكريا فالتجارب السابقة منذ العام 1969 تاريخ دخول العمل الفدائي إلى لبنان يؤكد ذلك،فاتفاق القاهرة على سبيل المثال لم يصمد ساعات وثمنه لا يوازي الحبر الذي كُتب فيه،فعلى الرغم من الجهد العربي الوازن آنذاك لم تتمكن الدول العربية ومنها مصر وسوريا من ضبط إيقاع السلاح الفلسطيني،وسببه أن البيئة التي صِيغَ فيها الاتفاق كانت بيئة أمنية لا سياسية وبالتالي لم تهضمه المقاومة الفلسطينية آنذاك وحتى قوى الحركة الوطنية اللبنانية لم تستسغه أيضا وظل لسنوات عدّة شغل ممتازة لأطراف لبنانية كثيرة فيما السلاح الفلسطيني ظل وازنا في الحياة السياسية اللبنانية.
- إن الطريقة التي يتمُّ بها التعامل مع مخيم نهر البارد تنمُّ عن تخبّط كبير وعدم قدرة على قراءة الملف الفلسطيني بوضوح،ففي الوقت الذي يُعلن فيه عن انتهاء العمليات العسكرية من القيادة السياسية للجيش اللبناني تعود الاشتباكات سريعا وبوتيرة أشد عنفا وقسوة،الأمر الذي يعني عدم القدرة على الحسم العسكري ولو كان التبرير تجنيب المدنيين الفلسطينيين في الوقت الذي يدفعون وحدهم الثمن الأكبر.
- إن البناء على التجارب السابقة يعطي صورة قاتمة لقراءة الملف الفلسطيني برمته في لبنان مستقبلا،فمن الصعب تصوّر حصر المعارك في مخيم نهر البارد،بل شرارة الانطلاق بدأت في البداوي وامتداداتها لن تطول إلى باقي المخيمات الأخرى.فمخيم عين الحلوة مثلا يغلي على فوهة بركان ومحاولة الحل السابقة كانت بمثابة تأجيل الانفجار ليس إلا، فيما القواعد الفلسطينية الأخرى في منطقتي الناعمة والبقاعين الغربي والشرقي يغطيهما نار تحت الرماد وهما بيت القصيد في كل تلك الحفلة العامرة.
- إن مجمل الوساطات المطروحة عربيا حتى الآن لحل الأزمة اللبنانية الحالية لم تلحظ عمليا العامل الفلسطيني المستجد فهو مغيب تماما ومتروك لقدره وكأنه أمر كان مقضيا،في الوقت الذي يعتبر العامل الفلسطيني حاليا حجر الرحى في إنجاح أي مشروع حل مقترح.
إن ما جرى تحديدا في مخيم البداوي يؤشر إلى جملة تداعيات خطيرة على الوضع اللبناني برمته،فتفاعل عملية إطلاق النار على المدنيين المتظاهرين سيرخي ظلالا كثيفة على الإجماع اللبناني الذي تكوّن في عمليات نهر البارد،وسيزيد الشرخ اتساعا بين اللبنانيين حول كيفية حل الأزمات المستجدة،أما الأمر الأخطر فمن الممكن أن يؤدي اتساع ونشر العمليات العسكرية في المخيمات الأخرى إلى انقسام الجيش اللبناني الأمر الذي يعني إنهاء ما تبقى من علامات الوحدة الوطنية اللبنانية التي كانت خلال سنوات السلم الأهلي الماضي يغطيها ويرعاها ويحميها الجيش اللبناني تحديدا.
غالبا ما مرَّ الصيف السياسي والعسكري في لبنان حارا وغاليا أيضا ما كان يولّد تداعيات كبيرة على الوضعين اللبناني والإقليمي،فهل ستكون حفلة المخيمات القادمة غطاءً موازيا لعمل المحكمة الخاصة بلبنان وكذلك لتمرير الاستحقاقات الدستورية في لبنان تحت وطأة الحديد والنار؟أم ستكون عاملا إضافيا لفتن مذهبية متعددة الأشكال والألوان،أم أنها ستكون أيضا قنابل دخانية لمفاوضات إقليمية شاقة تمتد ملفاتها من أفغانستان إلى إيران والعراق وفلسطين ولبنان،أم ستكون كلها ملفات موضوعة تحت رماد الدم الفلسطيني واللبناني معا؟ لقد علمتنا تجارب الدروس اللبنانية في هذه الملفات تحديدا ما يؤشر إلى ذلك،لكن المهم في الأمر أن أي حل لا يراعي البيئة السياسية سيكون غير قابل للحياة.