21‏/07‏/2009

مستقبل تجمع البلدان الكبرى الأربعة "بريك"

مستقبل تجمع البلدان الكبرى الأربعة "بريك"
د.خليل حسين
أستاذ المنظمات الدولية في الجامعة اللبنانية
www.drkhalilhussein.blogspot.com
كرَّست القمة الأولى لمجموعة البلدان الصاعدة الأربعة، التي عُقدت في إيكاترنبورغ الروسية في 16 حزيران / يونيو 2009، بداية تشكّل قطب واعد على الساحة الدولية. غير أنَّ عثرات التجمع لا يمكن أن تخفف من كونه قوة ناهضة ستكون لها كلمتها في السياسة الدولية خلال العقود القادمة.وتُعرف المجموعة بالأحرف الأولى لأسماء البلدان الأربعة الأعضاء باللغة اللاتينية BRIC وتنتمي البلدان الأعضاء في هذه المجموعة الجديدة إلى ثلاث قارات هي أمريكا الجنوبية (البرازيل) وآسيا (الصين والهند) وأوروبا (روسيا).
تتميز البلدان الأربعة في أنها تملك ثروات بشرية وطبيعية هائلة لا تملك مثلها بلدان تنتمي لمجموعة الدول الثماني الأكثر تصنيعا مثل اليابان وكندا. وينسحب الحجم العملاق على عدد السكان ومساحة البلد والناتج القومي، ونسبة النمو السنوية التي تُعتبر من النسب الأرفع في العالم.وبالتالي تعتبر قوى عملاقة لا يمكن أن ترضى بالبقاء في موقع الأطراف على الخارطة الدولية، ولا أن تُسند لها أدوار هامشية بعيدة عن مركز القرار السياسي والاقتصادي الدولي.وهكذا دفعتها مصالحها إلى التجمّع بهدف إسماع صوتها ووضع السياسات الكفيلة بتعديل كفة الاختلال الحالي، الموروث من واقع سابق يعود إلى تداعيات الحرب العالمية الثانية، ووضع الخطط لتكريس واقع جديد تعتبره الدول الأربع أكثر عدلا.ويمكن تلخيص الأهداف التي حددتها البلدان الأربعة على الصعيد الاقتصادي في الغايات الثلاث الآتية:
- الحد من هيمنة الدولار على الأسواق العالمية وإنهاء اعتماده كعملة مرجعية وحيدة (مع الذهب) في المعاملات، إلى جانب إدماج العملتين الروسية والصينية الروبل واليوان في سلة العملات المرجعية لصندوق النقد الدولي.
- إيجاد عملة مرجعية بديلة من خارج العملات الوطنية، أي أنَّ البلدان الأربعة لا تقترح أن تحل عملة وطنية أخرى محل العملة الأمريكية وإنما تعتقد أن التنويع هو ضمان للتوازن وأداة للاستقرار.
- إدخال إصلاح على النظام النقدي العالمي يضع حدا لسيطرة مراكز القرار الحالية بما يمنح دورا متناميا للقوى الأربع الصاعدة وينقل مفتاح القرار الاقتصادي نحوها.
ولا يتضارب انتماء البلدان الأربعة الكبرى الصاعدة إلى تجمعات إقليمية سابقة مع عضويتها في التجمع الجديد، فالصين عضو في "مجموعة شانغهاي" و"مجموعة العشرين"، وكذلك روسيا التي هي عضو في مجموعة الدول الثماني الأكثر تصنيعا، والبرازيل التي هي عضو في منظمة الدول الأمريكية.ويبدو أنَّ تجمّع البلدان الأربعة الكبرى الصاعدة كما لو أنه بديل من مجموعة الدول الثماني الأكثر تصنيعا، إلا أنَّ العلاقات بين المجموعتين لا تقوم على التنافر، وإنما تتعامل مع مجموعة الثماني بوصفها أمرا واقعا، وإن كانت تشعر أنها أقرب إلى مجموعة العشرين وتراها إطارا أكثر ديمقراطية.
ويؤشر اتفاقها على تاريخ القمة الثانية، إلى أننا إزاء تجمع بدأ يهيكلة مؤسساته واتخاذ القرارات في اجتماعاته ،بهدف سحب أوراق كثيرة من أيدي الولايات المتحدة. إلا أنَّ هذا التجمع بقدر ما يملك من مقومات القوة والانتشار الاقتصادي في العالم، يُعاني كذلك من معوقات مختلفة من شانها الحد من نفوذه وتُعطل اكتمال تشكله بوصفه قوة بديلة تُهدد زعامة القطب الأمريكي في الأمد المنظور ومن ابرز المعوقات:
- لم تحدث هزة سياسية أو اقتصادية كونية ، مثل الحرب العالمية الثانية لتكريس ميزان قوى دولي تنبثق منه زعامة جديدة مُسلم بها أسوة بالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، وبالتالي فإنَّ تبلور التجمع سيتم بشكل بطيء وتدريجي لا انفصال فيه مع الماضي ولا صدام مع أصحاب النفوذ الحاليين.
- يشكل الصراع الأمريكي الصيني أهم فتيل التناقضات بين مجموعة "بريك" والولايات المتحدة، فالحرب الاقتصادية والاستخباراتية مفتوحة بين الجانبين في جميع القارات وبوتيرة متسارعة، ما يعني أنَّ الصينيين نقلوا نواة هذه "الحرب" إلى المجموعة الواعدة.
- وبقدر محاولة الصين، التخلص من سيطرة القطب الواحد الأمريكي على الساحة الدولية، تشعر بأنَّ شركاءها داخل مجموعة "بريك" هم منافسوها البارزون حيثما حاولت اقتحام أسواق جديدة. وهذا ما يُفسر استحالة اعتماد إستراتيجية اقتصادية موحّدة للمجموعة، عدا الاتفاق على ضرورة إزاحة الدولار واستبداله بحقوق السحب الخاصة مؤقتا، ريثما يتم الاتفاق على عملة احتياط بديلة.
- ارتفاع نسبة الفقر وحدة الاستقطاب الاجتماعي والصراعات العرقية والدينية في البلدان الأربعة (بدرجات متفاوتة)، ما يؤدي بشكل عام إلى هزِّ الاستقرار الاجتماعي كما حدث خلال اضطرابات عدة أبصرتها الصين والبرازيل والهند. فالبرازيل على سبيل المثال لا يمكن أن تنطلق انطلاقة قوية طالما تجر وراءها أعباء ستين مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر. ويحتاج امتصاص فقر بهذا الحجم إلى جيل كامل على الأقل، أي أنَّ البرازيل لن تتمكن التخلص من هذا العائق الهام إلا في غضون ربع قرن. وكذلك الأمر بالنسبة للهند التي لديها أولوية مماثلة، إذ أنَّ عليها في الأعوام المقبلة العمل على القضاء على الفقر، الذي يضرب 240 مليون مواطن من سكانها، على رغم القفزات التي حققتها في المجالات العلمية والصناعية. وتواجه روسيا والصين تحديات من نوع آخر بعدما قطعتا شوطا مهما في مكافحة الفقر.
- ضمنت الولايات المتحدة لنفسها سبقا يصعب مجاراتها فيه على صعيد الأبحاث الفضائية والصناعات العسكرية والتكنولوجيات المتقدمة وبخاصة تصنيع البرامج المعلوماتية وإنتاج المعرفة، ما يجعل البلدان الأربعة الصاعدة محتاجة لوقت أطول كي تسد الفجوة بينها وبين البلدان المتقدمة حاليا. وهذه الفسحة الزمنية المطلوبة تتفاوت من بلد إلى آخر وهو مجال يعتقد الخبراء أنَّ الزعامة الأمريكية فيه، ستستمر إلى ما يقل عن نصف قرن.
خلاصة القول، إننا إزاء بداية تشقق للمشهد التقليدي للنظام الدولي مع بروز لاعب جديد ، هو عبارة عن تجمّع اقتصادي رباعي بصدد التشكل، سينتهي إلى كسر الوحدانية القطبية وتفكيك احتكار الامتيازات التي لم تعد مقبولة على الصعيد الدولي، بوسائل غير عسكرية على الأرجح. وإذا حافظ على انسجامه سيكون القوة الاقتصادية الأولى، واستطرادا السياسية في العالم في غضون أربعة أو خمسة عقود.
وما يهمنا نحن العرب في هذا الموضوع ،هل سنلتقط ما يؤشر له هذا التجمّع الواعد والسير على خطاه، أم سنظل نرصد نشوء وانطلاق التجمعات الإقليمية والدولية بهدف الاستناد عليها لحلِّ قضايانا التي لا تعد ولا تحصى،أنها فعلا مشكلة أن يبرك العرب عقودا بل قرونا،ليستيقظوا على تجمع "بريك" الذي من الممكن أن يُربك العرب كعادتهم في التعامل مع المنظمات الإقليمية والدولية.