04‏/08‏/2009

تبدّل السياسات والخرائط والنتيجة واحدة في لبنان


تبدّل السياسات والخرائط والنتيجة واحدة في لبنان
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
www.drkhalilhussein.blogspot.com

بطبيعة الحال ليست سابقة في الحياة السياسية اللبنانية ،وبالتأكيد ليست مفاجئة انتقال الزعامات والأحزاب من موقع إلى آخر.فلبنان وشاغلي السياسية فيه يمتهنون حرفة قراءة المتغيرات وتحديد تداعياتها الخاصة والعامة،وبالتالي القدرة الفائقة على تبرير وتكييف المواقف وتجيير نتائجها المحتملة للمواقع التي يشغلونها.وفي واقع الأمر كذلك، لا يبذل المرء جهدا للاستنتاج أنَّ ثمَّة متغيرات كثيرة ستحصل بعد الانتخابات النيابية.فالمواقف والتصريحات وسير العملية الانتخابية ونتائجها كانت تؤكد ذلك.بصرف النظر عن الأحجام والأوزان النيابية في البرلمان.
وإذا كانت الانعطافة السياسية لرئيس التكتل الديموقراطي النائب وليد جنبلاط بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، شكَّلت آنذاك عنوانا لمرحلة استمرّت أربع سنوات،فإن انعطافته الأخيرة ستعيد إنتاج واقع جديد ليس بالضرورة أن يكون لمصلحة المعارضة أو ستكون خسارة للطرف الآخر،بقدر ما هي محاولة لتشكيل تيار سياسي يمكن أن يتلوّن ويتمايل بحسب الظروف في غير موقع من مواقع السلطة في لبنان.فما هي التداعيات والآثار والنتائج التي يمكن أن ترسي عليها الأمور؟.
بصرف النظر عن توصيف الموقع الوسطي الذي أعلن عنه رئيس التكتل الديموقراطي من أنه سيكون إلى جانب رئيس الجمهورية،فان خصوصية الواقع السياسي اللبناني وسرعة استجابة جنبلاط لها إذا جاز التعبير، ربما تجعل من هذه الوسطية غير قابلة للحياة طويلا ،وبالتالي من الصعب البناء عليها.فإلى جانب الوسطية المعلنة ثمَّة إشارة واضحة لمواقفه المستقبلية التي تضمَّنت إبراز خصوصيته في اللعبة السياسية والتقصّد في تمرير قوته التجيرية في مجلس النواب ومجلس الوزراء تصويتا. وبالتالي فقد احتفظ بهامش من الحركة يتيح له اتخاذ المواقف التي يراها مناسبة بصرف النظر عن التحالفات أو التشكيلات السياسية التي ستُكرّس في الحكومة لاحقا.ما يعني أنَّ التبدّل الحاصل حاليا لن يكون بالضرورة لا في جيب المعارضة ولا خصومها السياسيين ولا حتى في موقع الوسط.فالخصوصية التي يتمتع بها وليد جنبلاط لجهة التعاطي مع تفاصيل السياسة الداخلية اللبنانية تجعل السياسة نفسها عرضة للتغير والتبدّل المستمرين ،بحيث من الصعب رصد ثباتها والتحكّم بمؤثراتها.
إلا أنَّ هذا التوصيف للنتائج المبدئية للتحوّل،لا يعني أنَّ ليس ثمَّة مفاعيل أساسية،سيما وأنَّ شرائح سياسية أخرى وازنة يمكن أن تنضم لاحقا، إذ لم تكن إحداها مؤسسة له،ما يعني أنَّ خريطة سياسية جديدة ستظهر،لكن متقاطعة المواقف كالأحرف التي ينبغي ترتيبها بدقة لكي يأتي الموقف قابلا للصرف السياسي تشريعا وتنفيذا.
وإذا كانت هذه السمة المبدئية التي ستسبغ الحياة السياسية خلال المرحلة القادمة ،فمن أولى تداعياتها ستكون على التشكيلة الحكومية شكلا ومضمونا.فخروج التكتل الديموقراطي وإن يكن بعضه، من فريق الرابع عشر من آذار،سيؤثر بشكل فعلي على التكييف العددي للأغلبية النيابية،وبالتالي فإن غير طرف سيعيد حساباته لجهة القبول أو الرفض لصيغة ( 15-10-5) المتفق عليها مبدئيا وبالتالي المسّ بمعادلة الأغلبية البسيطة والثلث المعطل في مجلس الوزراء.ما يعني أنَّ جولة جديدة ربما ستطول قبل الوصول إلى اتفاق جديد،وهو بطبيعة الأمر مرهون برسو هذا التحوّل على قاعدة محدَّدة يمكن البناء عليها وإن تكن هلامية التكوين وغير واضحة المعالم.
إلا أنَّ الأمر الأكثر حساسية وأهمية للبنانيين، هو أنَّ هذه الحكومة وإن وُلِدت،ستبقى أسيرة التجاذبات الداخلية الحادة التي باتت من طبيعة السياسات اللبنانية،وبالتالي عدم قدرتها على حسم الكثير من المواقف والقضايا الملحة،ما يعني أن التأزم الداخلي سيظل مسيطرا على الحراك السياسي الداخلي القابل للاستغلال والاستثمار بغير اتجاه،ما يعني أنَّ أيَّ خطوة غير محسوبة النتائج من الممكن أن تفلت الأمور من عقالها.
إن إعادة إنتاج التكوين السياسي للسلطة عبر تحالفات وتحوّلات جديدة من الأمور المألوفة في مختلف الأنظمة السياسية للدول،إلا إنَّ الأمر غير المألوف، هو طبيعة التبدّل والتغيّر الدراماتيكي في المواقف الإستراتيجية وحتى العقائدية،وهو أمر مرهون بالذاكرة الجماعية وبالسلوك الاجتماعي – السياسي لمختلف مكوِّنات المجتمع الأهلي، وبالقياس على الواقع اللبناني بتفاصيله ومكوناته تظهر غرائب المفارقات وأبرزها، إعادة بناء الموقف السياسي على مبادئ وعقائد وحتى إيديولوجيات كانت لوقت قريب مدار تندّر للطرف السياسي نفسه،فكيف يمكن إقناع هذا الفريق أو ذلك بهذه التحوّلات؟ أم أنَّ الأمر متروك وكالعادة لحل الأمور على الطريقة اللبنانية بحسب الاجتهاد والتبرير،بخاصة أنَّ وسائل الإقناع هي كثيرة ومغرية،وكذلك وسائل الاقتناع وهي ليست بالقليلة أيضا.
ربما يبدو التبدّل والتغيّر من طبيعة الأمور وهي بالتأكيد مفيدة، في سياق الارتقاء نحو الأمثل،وبخاصة إذا كانت توجهاته ودلالاته قابلة للاستثمار الداخلي والخارجي وحاجاته الذاتية والموضوعية،والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا المجال ،ما هي أثر هذه التحوّلات على علاقة النائب وليد جنبلاط بسوريا ؟ إنَّ القراءة الموضوعية لواقع الجغرافيا السياسية والديموغرافية للبنان وعلاقته بسوريا تحديدا من بين كل الدول العربية،تثبت حاجة الطرفين لعلاقة هادفة،فهل ستكون مواقف جنبلاط بداية لإعادة ما انقطع في علاقته مع سوريا؟ بالتأكد يبدو أن نتائج زيارته المتوقعة قد بانت،ولم يبق من تظهير النتائج سوى ترجمة الزيارة فعليا بصرف النظر عن التوقيت أو مستوى اللقاءات أو الموضوعات.
وإذا كانت التداعيات الداخلية مربكة في بعض جوانبها،فان نتائجها الخارجية تبدو أكثر أهمية،بفعل قدرة أطرافها على الصرف السياسي لهذه التحوّلات، فدمشق تدرك تماما موقع النائب وليد جنبلاط والوزن السياسي الذي يتمتع به في التركيبة الداخلية،وبالتالي إن استعادة دوره في السياق الطبيعي من وجهة نظر سوريا، تمثل مكسبا مهما لدمشق وقدرة إضافية لمواجهة أي ضغوط دولية يمكن أن تتعرض لها.كما أنَّ حاجة المعارضة اللبنانية لرمزية جنبلاط بصرف النظر عن حجمها ونوعيتها،تجعل منه قيمة إضافية تريحها نسبيا في طرح موضوعاتها بصرف النظر عن نتائجها.
من المعروف عن جنبلاط تحوّله السريع في المواقف إلى درجة الوضوح، وإلى حد الإحراج والحرج، فلا حرج في إعادة النظر في الكلمات والخطابات والمواقف وإن اعتبرها البعض تناقضا، والبعض الآخر انسجاما مع دوره السياسي كزعيم لطائفة لم تتمكن من اخذ بعض حقوقها المشروعة قانونا ودستورا. في ثورة الأرز، أسقط جنبلاط أكثر المحرمات، وتجاوز خطوطا حمرا لم يسبقه أحد عليها، فتصدى لقيادة تيار كياني عَصبي إلى حدٍ بعيد، متجاوزًا كل النتائج التي جناها من تحالفاته القديمة في لحظة تغليب الأسئلة الصعبة التي تخص لبنان كيانا ودولة.

من المعروف،قدرة خصوم جنبلاط وحلفائه على اجتذابه إلى مصائدهم السياسية،والمعروف أيضا عنه قدرته الفائقة على الخروج منها سالما مضافا إليها قدرته على تفكيكها إذا أراد ذلك. في العام 1982 دخل الإسرائيليون دارته عنوة، لكنه ذهب إلى دمشق في لحظة ضعف عربي عام، وضعف سوري فلسطيني خاص، وقرر الاستقواء بدمشق وبأن يقويها، فحَسم أمره وتشبث بعروبة لبنان وكل مندرجاتها، مقتنعا بأن الخطر الإسرائيلي قد أصبح في صلب العملية السياسية اللبنانية اليومية، ولم يعد بالإمكان إتباع سبل المرونة مع إسرائيل.كما يعرف جنبلاط أن الولايات المتحدة إمبراطورية، وأنَّ أصدقائها مهما كانت أحجامهم، هم تفاصيل في مشروعها ومن الممكن أن تتخلى عنهم في لحظة ما.فهل أعاد جنبلاط نفس القراءة السابقة؟
وبصرف النظر عن حجم التداعيات التي ستحدثها مواقف جنبلاط ،تظل لمواقفه نكهة خاصة تضفي بعدا خاصا على الموالاة والمعارضة،تماما كما حدث من فقدان المعارضة والموالاة الكثير من خصوصياتها بعد رحيل والده كمال جنبلاط.
يبقى امرأ واحدا، بقاء اللبنانيين منتظرين لا حول لهم ولا قوة، ينتظرون بفارغ الصبر خلاصا لن يأتي ،مع خريطة سياسة متقاطعة المصالح متباينة التطلعات،وخارج يتربص لحل ألغاز الخرائط المتقاطعة لاقتناص كلمة سر الاستفادة منها، فعلا انه أمر عجيب غريب أن تتبدل وتتغير المواقف والسياسات ويبقى اللبنانيون متروكين لمصيرهم،أنها نتيجة واحدة لمتغيرات كثيرة أحاطت بلبنان وفيه منذ نشأته.