22‏/08‏/2011

قراءة قانونية لاتهامات سياسية

قراءة قانونية لاتهامات سياسية
خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
من الثوابت في إطار القانون الدولي الجنائي ،استناده إلى قواعد وإجراءات دقيقة ، بهدف تحقيق اكبر قدر ممكن من العدالة الدولية،وهو في ذلك ينبغي الاستناد إلى أدلة صلبة ينبغي ان ترقى إلى مستويات غير قابلة للدحض أو التأويل أو التخمين.علاوة على ذلك،ان مسارات التحقيق والتدقيق والتمحيص في أية قرائن ذات صلة بجريمة مصنفة دولية،ينبغي ان تراعي معايير وإجراءات لا لبس أو ازدواجية فيها،بهدف ان يكون أي قرار اتهامي صادر عن محكمة دولية ذات طابع حكمي،وذات منسوب عالٍ من الدقة والتأكيد على وقائع ليست عابرة،أو مرتبطة بغيرها من الوقائع غير الصلبة أو غير الثابتة، وإلا اعتبر مجمل القرار مبني على متغيرات يصعب الإتكاء عليه في عمليات المحاكمة.
طبعا،ان القرار الإتهامي الصادر عن المحكمة الخاصة بلبنان، ذات طبيعة خلافية في الأساس،للعديد من الأسباب،منها ما هو متعلق بطبيعة المحكمة ذاتها وطريقة إنشائها وأسلوب عملها سابقا،ومنها مرتبط بالظروف السياسية الإقليمية والدولية التي رافقت ظروف الاغتيال والتحقيق وصولا إلى القرار ألاتهامي.
وإذا كان ثمة إجماع بين اللبنانيين على وجوب الوصول إلى الحقيقة الكاملة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري،إلا ان ليس ثمة إجماعا على الوسيلة أو الطريقة التي تُدار فيها هذه القضية.وبصرف النظر عن المآلات التي وصلت إليها المحكمة والمواقف منها أو من القرار الإتهامي الأخير ،فإن جملة ملاحظات قانونية يمكن أن تطرح أو توجه لمن مع القرار أو ضده.
بداية، ثمة إجماع بين مختلف التيارات الفقهية والقانونية على وجوب سرية التحقيقات والقرارات الاتهامية التي ينبغي عدم تجاوزها،باعتبارها أحد القواعد الأساسية التي ينبغي على المحكمة السير بها، وفي مقاربة بسيطة لما جاء في القرار الإتهامي ،الذي سُميَّ رفع السرية عنه قانونا، يتبين من خلال القراءة القانونية الدقيقة لنص الاتهام،انه كان متطابقا إلى حد كبير مع ما هو معروف سابقا،والذي سُرِّب في الإعلام قبل شهر ونيف،وما نشر في صحف ألمانية وفرنسية وكندية،مثال لوفيغارو ودير شبيفل،ومحطة سي بي أس،ذلك في فترات سابقة تمتد إلى أكثر من سنتين،ما يعني ان القرار الإتهامي لم يكن سريا بل معروفا للعامة من الجمهور وليس المختصين فقط.وبالتالي هي عامل سلبي أول بمواجهة قواعد الإجراءات العائدة للمحكمة.
لقد ورد في سياق النص القانوني للقرار الإتهامي الذي من المفترض ان تكون اللغة المستعملة فيه، لغة قانونية صلبة،ولا يستند إلى مصطلحات وتعابير ذات معانٍ مبهمة أو قابلة للتأويل،أو في حدها الأدنى ينبغي ان لا تأخذ القارئ إلى أماكن غير قطعية.فعلى سبيل المثال لا الحصر،ورد تعبير،"من الممكن" اثنتي عشرة مرة"، و"من المعقول الاستنتاج" مرتين، و"يمكن الاستنتاج" ثلاث مرت، وهي مصطلحات استعملت في موضع استنتاج أدلة وقرائن،اعتمدها التقرير بشكل مباشر لإسناد الاتهام المباشر لأشخاص بعينم،وليس إلى مجموعات على سبيل المثال ومن بينها هؤلاء المتهمين،على الأقل مراعاة لأسلوب الاستنتاجات وهي بطبيعتها تخمينية،لا قاطعة.
وبعكس المرات السابقة،لقد تم توجيه الاتهام إلى الأشخاص الأربعة بصفتهم الحزبية،لا الشخصية،وصوّر الفئة السياسية التي ينتمي إليها منظمة إرهابية،الأمر الذي تم تجنبه في المرات السابقة. بناء على سوابق تعود لثلاثين عاما مضت من وجهة نظر سياسية معينة.
لقد استند القرار إلى أدلة ظرفية ،متصل بالمكان والزمان،الذي سبق عملية الاغتيال وبعدها،اعتمادا بشكل أساسي ورئيسي على شبكة الاتصالات الخلوية.وفي هذا الإطار يمكن تسجيل ملاحظات أخرى، من بينها،ان قواعد الإثبات والأدلة في القضايا الجنائية،ينبغي ان تكون دامغة بطبيعتها وغير مرتبطة بأي ظرف زماني أو مكاني متغير،في عنصريه أو في واحد منهما. علاوة على وجوب ان تكون هذه الأدلة قائمة بذاتها،بينما تم إبرازها عبر الاستنتاجات المرتبطة بعدد من الاتصالات الخلوية،على قاعدة تقاطع بعض الاتصالات لبعض المتهمين في وقت محدد، ويقال في مكان محدد. وهو أمر وان كان يمكن الاستناد عليه في إطار التحقيقات الأولية،إلا انه لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة اليقين للاستناد عليه لتوجيه اتهام لجريمة ذات توصيف دولي.
ان القضية المركزية في القرار الإتهامي،متصلة بالاستناد بشكل أساسي على شبكات الاتصالات الخلوية، وهو أمر مختلف عليه من الناحية العملية إضافة إلى السياسية والتقنية. فبصرف النظر عن التكييف القانوني لإمكانية الاستناد عليها من عدمها،فقد أثبتت الوقائع العملية المدعمة باعترافات موثقة،ان بعض المسؤولين في شبكتي الخلوي اللبنانية،عملوا لمصلحة "الموساد الإسرائيلي"،وسلموا مشغليهم ما يلزم للسيطرة على "داتا المعلومات"،كما ان ثمة تقارير علمية من أصحاب اختصاص، أفادت ان ثمة تلاعب قد حصل ،وان ثمة إمكانات كثيرة يمكن من خلالها التلاعب بهذه الداتا وتوليف الاتصالات التي تخدم توجه محدد في إطار التحقيقات. الأمر الذي يعتبره كثير من المختصين القانونيين والتقنيين ،ان ما ورد في القرار لا يشكل أدلة قاطعة مباشرة بعينها.
ان استبعاد أي إشارة من قريب أو بعيد إلى "إسرائيل" كطرف يمكن إدخالها في إطار التحقيقات، يضفي على التقرير الطابع السياسي أكثر منه الطابع القانوني القضائي،والذي يثير علامات استفهام كثيرة على نوايا التقرير وما يمكن ان يرمي إليه،من أهداف بنظر كثير من اللبنانيين. علاوة على جانب الاستبعاد، فالتقرير الذي أشار مثلا إلى تظهير شخصية المفجر الانتحاري،لم يشر أيضا إليه،اسما أو جهة أو جنسية.
كما ان عملية التظليل التي تمت في النص، بهدف إخفاء بعض المعلومات من نص التقرير،يثير أسئلة أخرى، فإذا كانت السرية قد رفعت عن التقرير ،فلماذا تم إخفاء بعضها، ولمصلحة من؟ هل ثمة دفعة جديدة من الاتهامات سوف تبث مستقبلا؟ وماذا عن التسريبات الصحفية الأسبوع الماضي عن تورط سوريين وإيرانيين في هذه القضية؟
ثمة كثير من السياسة وقليل من القانون والقضاء ، في تقرير اتهامي استغرق العمل فيه خمس سنوات ونيف، في وقت ان أغلب المعلومات الواردة فيه كانت متداولة منذ سنوات ومعروفة للعامة قبل الخاصة من أصحاب الشأن،فإلى متى ستظل هذه القضية عدة شغل سياسية بأيدي إقليمية ودولية؟ وهل يمكن الاسترسال في مثل هذه الوسائل لكشف حقيقة ربما لن تظهر إلا بالإفراج عن الأسرار الحقيقية المتعلقة بالاغتيال والموجودة لدى بعض الدول الكبرى.