25‏/09‏/2011

معوقات الزعامة التركية في المنطقة العربية

معوقات الزعامة التركية في المنطقة العربية
خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية


نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 27/9/ 2011


مفارقة السلوك السياسي العربي خلال العقدين الماضيين،كثرة التصفيق لفواعل إقليمية تبنّت قضايانا، لا حبا بنا ولا غاية في حلها، وجل ما في الأمر كانت وسائل وشعارات جذابة هدفها ركوب موجة الجماهير والأنظمة معا।والملفت مؤخرا التنافس الإيراني التركي على مواجهة إسرائيل كل على طريقته،في وقت نقف نحن العرب مشدوهين حائرين،مشغولين بالانتفاضات على أنظمتنا حتى وان كنا غير فاعلين فيها.
في عز العدوان الإسرائيلي على غزة العام 2008 ، رفعت تركيا صوتها عاليا في دافوس،وفي العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 أدارت مفاوضات سورية إسرائيلية غير مباشرة، فيما اليوم تطرد السفير الإسرائيلي من أنقرة وتخفض التمثيل الدبلوماسي.وفي نفس الوقت وافقت على وضع رادارات حلف الناتو على أرضها،مجموعة من المواقف والسلوكيات السياسية تعطي طابعا برغماتيا للسياسة التركية في منطقة شديدة التعقيد، تمتزج فيها المصالح بالمبادئ،كما القومي بالوطني إلى ما هنالك من تناقضات من الصعب جمعها إلا في ظروف استثنائية كما تمر بها منطقتنا العربية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه،هل ان تركيا قادرة على تحقيق طموحها بزعامة المنطقة؟ وهل ستُترك الساحة لها؟ .في الواقع وان كانت تركيا تتموضع في المرتبة الـ 16 عالميا لجهة القوة الاقتصادية،حيث نعمت باستقرار سياسي اجتماعي استثمر اقتصاديا ولو بجزئه الملفت سياحيا، أخذت في الآونة الأخيرة التحرك خارجيا عبر سياسة المساعدات الاقتصادية وهي ذراع من أذرع السياسات الخارجية لأي طموح إقليمي واعد،حيث تبلور باتجاه دول الجوار الجغرافي،وصولا إلى القرن الإفريقي عبر الصومال من بوابة المساعدات الإنسانية،وهي إشارات بالغة الدلالة وهي محاولات للانتقال إلى مراحل أكثر تقدما واتساعا ذات أبعاد قارية لا إقليمية فقط.
وإذا كانت هذه الفتوحات السياسية المغلفة بقفازات إنسانية قد ظهرت في غير مكان إقليمي، لها ما يبررها عمليا ومن بينها ضعف المواجهة العربية وغير العربية، تبقى لها دلالاتها الرمزية على الواقعين العربي والإقليمي وبخاصة الإسرائيلي والإيراني. فثمة تنافس قوي لا حدود له لتزعّم المنطقة من قبل ثالوث لكل منه خلفياته الإيديولوجية ومصالحه وحتى لطريقة تعامله مع كل مستجد تكتي أو استراتيجي.وفي مطلق الأحول نبقى نحن العرب حائرين تائهين لمن نصفق في معرض الدفاع عن قضايانا.
ثمة معوقات تركية من الصعب القفز فوقها لتحقيق قفزات نوعية في سياساتها الإقليمية والقارية، معوقات تبدو في غالبيتها بنيوية. فالجغرافية السياسية التركية تبدو أكثر ملائمة كموقع التصاقي،وهو خارج عن كونه احتضاني أو مركزي، ويتآلف مقصدا وتوجها مع الموقع السياحي لا السياسي.وصحيح ان العامل الديني وبالأخص المذهبي، يتآلف مع المحيط العربي،إلا انه يتباين لغويا،بمعنى ان العامل الديني والمذهبي لا يلعب دورا ثقافيا أو حضاريا متجانسا مع المحيط العربي،فضلا عن الخلفية التاريخية للدور العثماني في حكم المنطقة العربية ومحاولة تتريكها والقضاء على عوامل قوميتها العربية التي لم تظهر بقوة إلا بعد الثورة العربية الكبرى على الحكم العثماني في العام 1916. كما يرتبط بالعامل اللغوي عامل الهوية التي تعيشها تركيا بحيرة واضطراب، حيرة التوجه جنوبا وطموح التوجه شمالا، الحنين إلى جنوب حكمت فيه قرونا، وآمال الاندماج المستحيل شمالا؛ وصعوبة التوفيق بين حنين الدولة الإسلامية ورعاية مصالحها الاقتصادية أوروبيا،وبالتالي من الصعب على تركيا التضحية بمشاعر لا تصرف سياسيا ولا اقتصاديا.
ان عامل الكتلة البشرية يشكل تنافسا شديد التعقيد في منطقة مكتظة بالكتل السكانية ذات الألوان القومية غير المتآلفة تاريخيا.صحيح ان تركيا بتعدادها يشكل رقما لافتا ،إلا انه يواجه بكتل بشرية وازنة كمصر وإيران والسعودية والعراق،وبالتالي ثمة وزنا بشريا متصادم قوميا، العثماني والفارسي والعربي.
سياسيا،وان اتجهت تركيا جنوبا،فهي لم تقدِّم حتى الآن مشروعا سياسيا متكاملا ذات أبعاد إستراتيجية إقليمية، وغلب عليه التداخل والتفاعل مع أزمات محددة بعينها، ولم تتمكن من لعب ادوار رئيسة مستقلة فيها، ما يعزز الشكل الثانوي للتدخل في إدارة أزمات أكثر من كونه تدخلا فاعلا في سياق حل ما.كما طغى على هذا التدخل الطابع الاستثماري الاقتصادي غير المنتج سياسيا،في وقت تشهد المنطقة العربية تنافسا استثماريا شديدا، بدءا من الصين وانتهاء بكل القوى الاقتصادية الاستثمارية التقليدية في المنطقة.
إن التسلل السياسي التركي إلى المنطقة العربية من بوابة الشعارات الجذابة شعبيا،وبخاصة الجانب الإسرائيلي في المنطقة، يتناقض شكلا ومضمونا مع التركيبة السياسية التركية داخليا وخارجيا. فبداية لعبت دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل (2006) في مفاوضات ميتة سياسيا، ومن ثم دخلت هذا المضمار سِباحة ببعد إعلامي، عبر حادثة سفينة المعونة إلى غزة ،وصولا إلى التدخل في الحراك العربي بدءا من تونس مرورا بليبيا وسوريا وليس انتهاءً بمصر،وفي مجملها لم تجد مدخلا صحيحا لترتيب بيئة الزعامة القابلة للحياة. وفي المقلب الإقليمي الآخر، تدخلها في الملف النووي الإيراني مع الضلع البرازيلي الآخر، الذي توِّج أيضا بخيبة أمل غير قابلة للتخصيب السياسي.
لقد انطلقت بمعادلة "صفر خصومة" مع دول الجوار،تيمنا بالتجربة السويسرية، لكن سرعان ما اصطدمت بكم من الأسفار العدائية مع طهران وتل أبيب ودمشق،ناهيك عن التنافس الصامت مع الرياض،فهل تشكل السياسة التركية الحالية المدخل الملائم لطموحات الزعامة الإقليمية؟ في الواقع ثمة فراغ عربي مخيف يسمح للقريب والبعيد كما القوي والضعيف ان يتجاسر ويحلم بملء الفراغ السياسي والأمني والاقتصادي القائم في المنطقة العربية، لكن ثمة مؤشرات في المقابل،ان هذا الواقع من الممكن ان لا يستمر طويلا،في ظل إمكانية عودة مصر إلى موقعها الطبيعي للعب ادوار عربية وازنة ،بعد طول غياب، وهو أمر مطلوب ومرغوب به مصريا وعربيا وبخاصة شعبيا.فهل تفعلها مصر؟ لم يكن احد يتوقع ان يسمع من مركز القرار المصري،ان اتفاقية كامب ديفيد ليست مقدسة!.