20‏/06‏/2013

ماذا يحدث في تركيا؟


ماذا يحدث في تركيا؟
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 4/6/2013
       غريب المفارقات في الاعلام العربي سرعة الأحكام وإطلاق التوصيفات والمصطلحات على الظواهر الاجتماعية والسياسية في غير مكان. ومن بينها اطلاق الربيع التركي على ما يحصل من تظاهرات في غير مدينة تركية.صحيح ان ما جرى وسيجري لم يكن مفاجئا ،لكن توصيفاته ليست بالضرورة ان تقودنا إلى تصورات دراماتيكية سريعة يمكن ان تحصل في المجتمع التركي ومؤسساته.
       وبصرف النظر عن نهايات ما يحدث الآن، ثمة الكثير من الأسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الشخصية،التي تطبع صورة التظاهرات التركية وأبعادها المختلفة. فثمة اولا نوع من التخبط في الذاكرة الجماعية للمجتمع التركي بمختلف تلاوينه السياسية والمجتمعية على تحديد هويته منذ العام 1923 .فلا زالت تركيا حائرة حتى الآن بين ان تكون شرقية الهوى بخلفياتها العثمانية،وان تكون غربية الطموح بتطلعاتها.وهي حتى الآن لم تتمكن من تقديم نموذج مقنع لمجتمعها إلى اين تسير والى اين يمكن ان تصل.
       وان تمكنت تركيا ثانيا من بناء دولة علمانية بحماية عسكرية وبواجهة سياسية برلمانية، ظلت إلى عقد مضى في صراع سياسي مجتمعي لافت، إلى ان وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة،محاولا تقديم نموذج جديد لتركيا على الصعيدين الداخلي والخارجي،لكن تداعيات هذه السياسات وبنظر الكثيرين كانت سببا لتأجيج المعارضة وتقويتها، لكن في المقابل لا يعني ذلك ان تحرك المعارضة هو اعتراض على سياسات خارجية متبعة الآن بقدر ما هو تنازع على السلطة في اطار مصالح تبدأ بالاقتصاد ولا تنتهي بالسياسة أو حتى بالخلفيات الثقافية والحضارية التي لا زالت تبحث عنها وتحاول أخذ موقع فيها.
      وكما في السياسة كذلك في الاقتصاد، صحيح ان تركيا شهدت طفرة اقتصادية ومالية لافتة في العقود الماضية، إلا ان التدقيق في الارقام والإحصاءات الموثوقة الجانب تشير إلى ان هذه الطفرة لا تعدو كونها انتفاخا اقتصاديا وماليا على قواعد غير استثمارية ،وجله يعتبر اقتصادا ريعيا متأت عن قطاع ثالثي مجمله سياحي، ما يعني ان ثمة فوارق كبيرة بين المستفيدين من هذا الاقتصاد الذي لم يشمل بالضرورة فئات واسعة من الطبقات المتواضعة اجتماعيا.
       ورابعا ثمة خوف اجتماعي يصل إلى حد الذعر ،على خلفية التحولات التي يُجرُّ لها المجتمع التركي عبر سياسة التديين في اساليب العيش والحياة معا، أو بمعنى آخر انتزاع صبغة العلمنة التي تم الباسه اياها قبل تسعة عقود، ما ادى نزاع نفسي اجتماعي بين ما تم التعوّد عليه وما يعمل عليه لانتزاعه.
      وان كان العسكر قد اخرج من السلطة عمليا منذ عقد من الزمن،إلا ان ثمة صراع مجتمعي يطفو بين الحين والآخر على خلفية المقارنة والمقاربة بين ما عاشته تركيا قبل العام 2002 وبعده ، وبالتالي ثمة ما يدعو إلى العودة لماضٍ وان كان غير مستحب من بعض الشرائح الاجتماعية على قاعدة "الكحل افضل من العمى".
      اما الجانب الآخر من الأسباب وهو متعلق بالسلوك السياسي والقيادي لحزب العدالة والتنمية وفي مقدمتهم رجب طيب اردوغان، الذي بات بنظر الاتراك امبراطورا غير متوج يسعى إلى تقويض النظام البرلماني والانتقال به إلى نظام رئاسي ولو بعد حين،بعدما حاول مسح ظاهرة العسكرة من ذاكرة الاتراك.
       ثمة الكثير من الاسباب المباشرة وغير المباشرة لما يجري الآن،لكن المؤكد ان تركيا الآن لا زالت بعيدة عن التغيرات التي يتهيأ البعض انها قادمة عليه.صحيح ان ثمة اعتراضات كبيرة لما تحاول انقرة القيام به على انها دولة اقليمية عظمى تحاول فرضه عبر سياسات خارجية لم يتعود المجتمع التركي عليه وبخاصة خلال السنوات الثلاث الماضية، إلا ان الصحيح أيضا ان ما تشهده الساحة التركية يبدو اقرب إلى الاعتراض على السياسات الداخلية التي وسّعت الهوة لكنها لم تصل إلى حدود التغيير المفترض.
     صحيح ان حزب العدالة والتنمية انطلق من شعار "صفر مشاكل مع الدول المجاورة"،لكنه في المقابل مشى بعكس شعاره،فتحول مشاكل مئة في المئة في الخارج والداخل،لكن التركيبة الاجتماعية وبناها المتراكمة منذ العام 1923 لا زالت بعيدة عن امتلاك وسائل التغيير وأدواتها المفترضة. يبقى علينا نحن العرب ان لا نذهب كثيرا كالعادة في مخيلتنا وتصور ان حدثا ما قد انطلق ولن يتوقف، بل علينا التدقيق في الاحداث وتعلم العِبر منها.