06‏/02‏/2015

ماذا بعد يسار اليونان ؟

ماذا بعد يسار اليونان ؟ د.خليل حسين أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 5-2-2015 ثمة قلق وخوف شديدين في العقل الباطني لمنظري الليبرالية الجديدة الذين اخذوا مجدهم في إعادة إشاعة أفكارهم بعيد تهاوي الأنظمة الشيوعية بداية العقد الأخير من القرن الماضي، سيما وأن هؤلاء أنفسهم واجهوا أيضا موجات لا يستهان بها من المد القومي المتطرف في غير بلد أوروبي ،الذين عادوا أيضا وبقوة في الربيع الماضي بعد انتخابات تشريعية مشهودة في بعض دول الاتحاد الأوروبي.والسؤال المركزي الذي يطرح نفسه عن تداعيات وصول اليسار الراديكالي إلى السلطة في اليونان، فهل هو بقادر على تنفيذ برامجه ؟ وهل أن العدوى اليسارية ستنتقل إلى دول القارة العجوز؟ أم هي فلتة شوط ستزول بعد حين. في الواقع ثمة ظروف جيوبولتيكية دقيقة تحكم اليونان ، وهي مصدر توجس دائم للاعبين إقليميين ودوليين كثر ممن يتحينون الفرص للعب في بلدان البلقان عموما، سيما أن بلاد الإغريق كانت يوما من مؤسسي الفلسفات السياسية التي نشأت عنها معظم الإيديولوجيات المعاصرة، وبالتالي تختزن في الفكر الفلسفي كماً هائلا من الاهتمام المعرفي والتجريبي ، فكيف بوصول اليسار الراديكالي إلى السلطة والذي له سوابق مشهودة في الحياة السياسية اليونانية ، حيث اعدم النازيون العديد منهم، وحوربوا بأشكال قاسية وبخاصة فترة الحكم العسكري الذي حكم اليونان ما بين 1967 و1974. وأيا تكن الوقائع ذات الصلة بالحياة السياسية اليونانية وخصوصياتها، وصل اليسار بـ 149 عضوا إلى البرلمان، ولم يكن ينقصهم سوى عضوين للقبض على مفاصل السلطة ، ما اضطرهم للتحالف مع الحزب السيادي لليونانيين المستقلين، الفائز بـ13 مقعداً، ليتمكن من تشكيل الحكومة، قبل العمل على انتخاب رئيس جديد للبلاد، خلفاً لكارولوس بابولياس. لكن هذا الوصول المدوي إذا جاز التعبير ، هو نتاج سياسات لم يتمكن اليونانيين من بلعها وهضمها، وهي بأدوات ووسائل اقتصادية سياسية، كان أبرزها سياسات التقشف التي فرضتها الترويكا المالية – الاقتصادية (البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية) بعد الأزمة المالية التي ظهرت في العام 2010، والذي كان لها الوقع السيئ على سائر الشرائح الاجتماعية اليونانية، التي كان لها كلمة الفصل في الانتخابات الأخيرة. وعلاوة على ذلك ثمة 170 مليار دولار من الديون الخارجية وهو رقم مهول قياسا على الناتج المحلي، الذي يبلغ نسبة سداد فوائد الديون فيه أرقاما فضائية، وهو رقم يشكل انهيارا اقتصاديا بلغة المال والاقتصاد، إلى جانب البطالة التي بلغت أرقاما قياسية من الصعب استيعابها. هذا الواقع المأزوم يشكل عبئا كبيرا على أي حكومة ائتلافية ستتعاطى مع المشكلة الاقتصادية – الاجتماعية ، بخاصة وان حجم الديون هو أضخم وأكبر من الوعود التي قطعها تسيبراس، والذي يتجلّى في ضخّ مبلغ 13 مليار يورو في السوق اليونانية، على شكل أجور وامتيازات، وهو ما أثار الذعر في أوروبا، التي تخشى من إمكانية خروج اليونان من منطقة اليورو. فالمشكلة هنا مشكلة بنيوية في النظام السياسي - الاقتصادي الذي لا يسمح بإطلاق وعود وشعارات من المستحيل تحقيقها ، سيما وان اليونان هي أصلا غير قادرة على سداد فوائد الديون، ما يطرح أسئلة صعبة حول مستقبل هذه الديون وجدولتها، إن لم يكن التملص منها والامتناع عن الدفع كما حدث في حالات مماثلة سابقة. اذا، من الصعب تصور حلول وردية لهذا الواقع المأزوم، سيما وأن الكثير من آليات عمل اليسار قد فقدت وهجها خلال العقدين المنصرمين، ولو أن خصومهم من اليمين المعتدل أو المتطرف أو حتى منظري الليبرالية الجديدة ، لم يتمكنوا أيضا من استيعاب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والعمل الجدي على حلها.وبالتالي ثمة رأي شائع وسط هذه المعمعة اليونانية والأوروبية، أن شعارات اليسار لا تعدو كونها شعبوية سرعان ما ستتلاشى أمام وقائع تتطلب معالجات أخرى ، غير متوفرة في البنية السياسية - الاقتصادية التي تتولى زمام السيطرة حاليا. ثمة بعض الساحات الأوروبية مرشحة لما حصل قي اليونان، من بينها ايطاليا واسبانيا وحتى غيرهما، إلا أن ما ينطبق على اليونان ينطبق على معظم دول القارة العجوز، فالمسألة ليست ترفا فكريا أو إيديولوجيا ، بقدر ما هي سياسات تتطلب مالا واقتصادا وإنتاجا وتسويقا، في ظل ظروف اقتصادية دولية قاسية. ومن يتصور أن ظروف وصول الشيوعيون إلى السلطة في روسيا القيصرية في العام 1917، وكذلك وصول أدولف هتلر إلى السلطة العام 1932 بعد الأزمة الاقتصادية العالمية العام 1929، هي مماثلة لظروف اليوم، هي اعتقادات وتصورات خاطئة، وبالتالي إذا كان ثمة من حلول للمشاكل الاقتصادية - الاجتماعية في غير بلد أوروبي فحلها لا يكمن في الاستناد إلى نظريات وفلسفات وإيديولوجيات،إنما الحل يكمن في مكان آخر ، أقله فهم السياسات الخاطئة التي أرساها النظام الاقتصادي الدولي القائم على فلسفة الديون باعتبارها حلا وليست المشكلة، بل بنظره المشكلة تكمن في إيجاد الوسائل التي تتكيف مع الواقع الجديد لهذه الدول ومحاولة سدادها ولو بعد حين!