إعادة تكوين السلطة
في لبنان
د. خليل حسين
رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة
اللبنانية
بيروت: 17/2/2025
لطالما تعرض نظام الحكم في لبنان الى اهتزازات
قوية ادت في العديد من الحالات الى تفكك السلطة ونشوء حالات فراغ في المؤسسات الدستورية،
ولم يكن إعادة بناء السلطة امرا سهلا، او اقله متاح العمل فيه للتكوين من جديد،
وفي افضل الحالات استغرق الامر مزيدا من الوقت، وتخللتها حالات احتراب ونزاعات
ممتدة بأوجه طائفية ومذهبية، وانقسامات مجتمعية عامودية، أدت في بعضها الى صدامات
امنية وعسكرية، وفي جميع تلك الحالات سُجلت تدخلات خارجية كان لها اثرا واضحا،
تارة بمزيد من الانقسامات وطورا في اجبار اللبنانيين على الانصياع لمشاريع حلول
كانت تقدم من غير طرف خارجي.
انطلقت حاليا إعادة تكوين السلطة في النظام الدستوري بعد سلسلة فراغات في
غير موقع دستوري، ابرزه رئاسة الجمهورية، التي ظلت في فراغ استمر سنتين وثلاثة
اشهر، انتخب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيسا وسط تجاذب داخلي غير مسبوق الحدة،
ترافق مع اجماع دولي على ضرورة الانتخاب ودعم الرئيس عون، وبالتالي شكلت عملية
الانتخاف اللبنة الأولى نحو تركيب السلطة التي اتبعت بتكليف القاضي نواف سلام
تشكيل حكومة العهد الأولى وفقا لمعايير اعتبرت صارمة وغير مسبوقة في الحياة السياسية
والدستورية منذ الاستقلال، والتي كانت نتاج متغيرات إقليمية انعكست على الوضع
الداخلي اللبناني وموازين القوى الناشئة بعد الحرب.
وربما
المحطة الأكثر حساسية ودقة ستكون مع استحقاق الانتخابات التشريعية في أيار 2026 من
حيث المبدأ عند انتهاء ولاية المجلس التشريعي الحالي، وفي هذا الاطار ستشكل هذه
المحطة تجاذبا قويا كما هو متوقع حول قانون الانتخاب الذي على أساسه ستجرى العملية
الانتخابية، ويشار هنا ان القانون الحالي الذي ارتكز على قواعد جديدة في الحياة الانتخابية
اللبنانية، لجهة النظام النسبي على مستوى المحافظات إضافة الى نظام الأصوات
التفضيلية، والذي جاء بمجلس نيابي بموازين قوى متعددة، ما أدى الى تشتت القوى بين
اكثريات متعددة ، يصعب الجمع بينها حول أي قضية تتطلب حتى الأغلبية المطلقة، عدا
استحالة الوصول الى الثلثين وهي متطلبات القضايا الاستراتيجية التي وردت في نص
دستوري، ومنها قانون الانتخاب.
في
جانب آخر لا يقل أهمية وحساسية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ثمة فراغات
هائلة في الهيئة القضائية نتيجة التقاعد وعدم القدرة على التعيين، ناهيك عن اجهزة
الادارات والمؤسسات والمرافق العامة ، التي وصل الشغور في الفئة الأولى الى ثمانين
بالمئة من كوادرها الرئيسة ومثلها تقريبا في الفئة الثانية التي تعتبر عصب الأجهزة
الإدارية ونطاقها القيادي والتنفيذي، علاوة على الفئات الأخرى الثالثة والرابعة
والخامسة، باختصار ثمة معجزة في كيفية استمرار أجهزة الدولة ، فراغات قاتلة
وإمكانات متواضعة، وعوامل ضعف لا تعد ولا تحصى.
ان
أولى تحديات الحكومة الحالية هي إعادة تكوين المؤسسات والمرافق العامة عبر تعيينات
الفئات القيادية في الفئة الأولى والثانية، وهي عادة ما شكلت محور تجاذبات سياسية
حادة بين الزعامات السياسية ، والتي تشكل هذه المراكز عصب قوتها بين محازبيها
وبيئتها السياسية التي ترتكز عليها، اذ عادة ما كانت تتوقف مراسيم التعيينات في
الفئات القيادية ولا تمر عادة الا بعد جهد جهيد تتكلل نهاياتها بتوازنات مدروسة
بدقة متناهية، تراعي الكثير من مطالب زعامات الأحزاب والطوائف والمذاهب.
لقد
شكلت بداية تكوين السلطة سابقة في الحياة السياسية اللبنانية، فانتخابات الرئاسة
جرت بعد مخاض عسير وحسم الخيار والقرار خلال ساعتين بين الجلسة الأولى والجلسة
الثانية، إضافة الى عملية تكليف الرئيس نواف سلام لتشكيل الحكومة، التي جرت أيضا
بغير ما كان متوقعا او اقله كما اتفق بين الزعامات والأحزاب، وهي سابقة أيضا في
تاريخ تشكيل الحكومات في لبنان، حيث اعتمدت معايير صارمة تمسك بها رئيس الحكومة في
قبول تسمية وزراء الحكومة، حيث اصر على استبعاد أي اسم له خلفية حزبية وان كان غير
منتسب أيضا، كما تميزت الحكومة أيضا هذه المرة بعدم إمكانية تعطيل اعمالها على
قاعدة عدم امتلاك أي طرف فيها الثلث المعطل، بعكس ما كان سائدا في الحكومات التي
شكلت بعد اتفاق الدوحة في العام 2008، إضافة الى التمسك بمعايير ومبادى رئيسة
اطلقها رئيس الجمهورية في خطاب القسم بعد انتخابه، والذي كل بحد ذاته دفعة إضافية
مختلفة للعهد، تمثل مبدئيا بالاطر التي انطلقت فيها الحكومة.
ثمة
من يقارب ويشابه إعادة تشكيل السلطة
حاليا، بما جرى مع عهد الرئيس الراحل العماد فؤاد شهاب (1958- 1964) ، ورغم اختلاف
الظروف الداخلية والإقليمية والدولية لكلا العهدين، ثمة من يراهن على إعادة لبنان
الى موقعه العربي والدولي، وهو امر مرهون بما يمكن لحكومة العهد الأولى ان تنجزه
من ملفات كثيرة، منها إعادة الاعمار وإعادة تشكيل الوضعين الاقتصادي والمالي،
فلبنان يحتاج حاليا الى معجزات للوصول الى آمال كبيرة يعلقها اللبنانيون على
العهد، بعدما ذاقوا الامرين، من حروب خارجية وانقسامات داخلية وازمات راكمت الكثير
من عوامل الانكسار النفسي والمجتمعي، علّ إعادة تركيب السلطة حاليا تشكل انطلاقة
لسلم اهلي زاه ، لطالما حلم به اللبنانيون به وسعوا اليه.