16‏/03‏/2009

فرنسا وعودة الابن الضال الى الناتو

فرنسا وعودة الابن الضال الى الناتو
د.خليل حسين
استاذ العلاقات والقانون الدولي في الجامعة اللبنانية
السبت 14-3-2009

استقطب اعلان الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، عودة فرنسا الى القيادة العسكرية لحلف الناتو بعد غياب دام 42 عاما، اهتماماً دولياً باعتباره حدثا ينبغي التدقيق فيه نظراً لآثاره وتداعياته الدولية والاقليمية. فالخطوة تعتبر تجاوزا لتقليد قديم اتبعه الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، وتبعه في ذلك الرؤساء اللاحقون بصرف النظر عن مدى التطابق او التباين بين باريس وعواصم دول الحلف وفي مقدمهم واشنطن، إذ احتفظت فرنسا بعلاقات اكثر تمايزا مع الدول الباقية، كما ابقت على عضويتها في حلف شمال الاطلسي دون الدخول في القيادة العسكرية لهذا الحلف.
ان عودة الفرنسيين الى الحلف من بابه العسكري، يخضع المسؤولين فيه لاكثر من سؤال، فإذا كانت وجهة نظر ساركوزي، وجوب المشاركة في اتخاذ القرارات بدل تلقيها خارج القاعات، فالرأي العام الفرنسي، وعدد من الدول يطرحون اسئلة مشروعة لهذا التوجه. إذ ان الفرنسيين لا ينظرون بعين الرضا لقرار ساركوزي، باعتبارها مشكلة قد تستجد بين باريس وبعض الدول الاوروبية الأخرى وبخاصة الشرقية التي اعتبرت فرنسا رأس حربة في إنشاء بديل لحلف شمال الأطلسي في هيئة مشروع الدفاع الأوروبي،ويستند الفرنسيون الى دور بلدهم في القوقاز تحديداً، حيث لعبت دور الوسيط بين روسيا وجورجيا وتمكنت من انشاء بيئة ملائمة لاحتواء الأزمة وتداعياتها، فيما كانت النتيجة معاكسة لو كانت فرنسا جزءاً من القوة العسكرية للحلف التي اعتبرته روسيا في حينه ضالعاً في الحرب بشكل غير مباشر، وهددت بمواجهة معه.
كما ان الازمة الروسية الجورجية ليست الأزمة الوحيدة التي تهدد دور فرنسا في العالم، فهناك القضايا العربية التي يمكن لفرنسا ان تكون اكثر حرية في التعامل والتعاطي معها اذ لم تكن مشاركة في القوة العسكرية للحلف. كما يتخوف البعض من توريط فرنسا في عمليات عسكرية في دول الجنوب التي اعتادت أن ترى فرنسا دولة مستقلة عسكريا وسياسيا عن الولايات المتحدة.فماذا مثلا لو تطلب الوضع اللبناني وتحديدا جنوبه حيث المشاركة الفرنسية في اليونفيل لافتة،عملا ما للحلف ،وهو أمر كان مطروحا في السابق،ومن السهل العودة الى اثارته لاحقا.
ان الخلفية التي استند عليها الرئيس الفرنسي ساركوزي تنطلق من ان ما تقوم به فرنسا من الناحية العسكرية ضمن القوات الدولية، لا يختلف من حيث المبدأ عن الدور العسكري الذي يمكن ان تنفذه في حلف شمال الاطلسي.
ويمكن القول وفقا لرؤية ساركوزي، ان ما قد تخسره فرنسا من خلال قرارها هذا، قد تربحه في المقابل من ناحية اخرى؛ أذ ستكون اقرب الى واشنطن التي لعبت دورا اساسيا في اتجاه باريس لاتخاذ هذا القرار، باعتباره أمر سيريح الادارة الاميركية الجديدة في اي قرار قد تتخذه مستقبلا في ظل التحولات التي تجريها واشنطن بعد وصول الديموقراطيين الى البيت الابيض.
ان مقاربة دقيقة للعلاقات الفرنسية مع دول الاطلسي وبخاصة الولايات المتحدة في العقود الاربعة الماضية،تشير الى ثوابت عدة من بينها:
- بقاء الحلم الفرنسي يقظا باتجاه اقامة ولايات اوروبية متحدة ،فان قبلت بداية بالمظلة الامنية الاطلسية على مضض، ظلت في خانة المشاغبة السياسية بمواجهة واشنطن للتفلت من عقال السيطرة الناعمة التي مارستها مختلف الادارات الامريكية المتعاقبة مع حلفائها الاوروبيين المفترضين؛فباريس على سبيل المثال اتخذت مسارات موازية ومتباينة في احيان كثيرة عن واشنطن في العديد من القضايا الدولية وبخاصة المتعلقة بالشرق الاوسط ،كملف الصراع العربي الاسرائيلي،وبرنامج ايران النووي وغيرها.
- ثمة مقاربة فرنسية مختلفة للدور الاوروبي العالمي في النظام الدولي القائم بعد سقوط جدار برلين،اذاعتبرت نفسها المهيأة لملأ الفراغ المفترض في وسط اوروبا وشرقها،رغم بروز المارد الالماني بعد الوحدة.وحاولت بكل طاقتها احتواء الاحلام الالمانية مقابل التمايز والتباين مع بريطانيا،ورغم ذلك لم تفلح باريس في تحقيق ما تحلم به.ما دعاها وبشخص رئيسها ساركوزي ايضا العودة للتوجه نحو مشروع الاتحاد المتوسطي املا في تظهير الموقع الفرنسي ولو قاريا.
- واذا كان التوجه الاستراتيحي الفرنسي، يرتكز على وجوب اكتساب القوات الفرنسية مزيدا من القدرة على التكيّف مع الأبعاد الجديدة التي تشتمل عليها العمليات العسكرية في الخارج،فان ذلك لا يعني بالضرورة قدرتها على صرف هذه القوة في السياسة، فمثلا إن مشاركة فرنسا في العمليات التي قادها حلف الأطلسي كانت مرتفعة منذ حملة كوسوفو في عام 1999 ، وفي المتوسط كان ما يتراوح بين ألفين إلى ثلاثة آلاف جندي مشاركين ، الأمر الذي جعل فرنسا في الترتيب الثالث من حيث ضخامة المشاركة، فمن بين 12 ألف جندي فرنسي منتشرين في الخارج ثمةحواي 30% يخدمون ضمن حلف شمال الأطلسي، مقسمين إلى ألفي جندي في كوسوفو وأكثر من ثلاثة آلاف آخرين في أفغانستان وغيرها.ورغم ذلك لم تتمكن فرنسا من أن تحسم موقعها في الترتيب العالمي كدولة فاعلة بموازاة حجم مشاركاتها العسكرية.
ربما ظروف ابتعاد فرنسا عن عصب القرار العسكري لحلف شمالي الاطلسي، كان له اسبابه وظروفة وموجباته،ورغم المتغيرات الاقليمية الاوروبية والدولية،يبقى الموقف الفرنسي بحد ذاته يرسم تساؤلات عن مدى فاعلية تحقيق اهداف العودة.فربما تتمكن فرنسا من خلق بيئة مناسبة للانطلاق نحو احلام راودتها منذ زمن طويل،بيد ان حسابات السياسة ليست بالضرورة ان تنطبق على الحسابات العسكرية.فغالبا ما تكون الدول غير قادرة على ترجمة القوة العسكرية ،الى نتائج سياسية ،ذلك بفعل تداخل العديد من الاعتبارات التي لا تلعب القوة العسكرية دورا مؤثرا في نتائجها.
ومن هنا يحق التساؤل عن الفرق بين الرغبة والقدرة، فهل الرغبة الفرنسية هي في محلها ومتسقة مع قدراتها؟ واذا ما كانت واشنطن قد ضغطت باتجاه القرار الفرنسي هل ستسمح لها في الانطلاق بتحقيق الاهداف الفرنسية غير المعلنة ؟اسئلة تجيب عليها طبيعة العلاقات الفرنسية الامريكية التي لم تكن يوما كما تفترضها طبيعة الاحلاف وغاياتها.ومن هنا هل يصح القول ان عودة الابن الضال هي اعتراف بالفشل عن التغريد خارج السرب ؟ام هو اعتراف بالأمر الواقع الذي لا مفر منه؟