10‏/05‏/2009

التهام الجغرافيا وهضم الديموغرافيا في القدس

التهام الجغرافيا وهضم الديموغرافيا في القدس
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

تباشر "اسرائيل" منذ فترة سحب هوية المقدسيين بذريعة تصاعد عمليات المقاومة في القدس،ورغم أنها تمثل امتدادا لسياسة "إسرائيلية" درجت عليها منذ الاستيلاء على القدس الشرقية عام 1967،إلا إنها تأخذ أبعادا جديدة قوامها،محاولة هضم القدس ديموغرافيا بعد التهامها جغرافيا.والأخطر في هذه الفضية القانون الصادر عن الكنيست بتاريخ 4/6/2008 القاضي باعتبار القدس عاصمة لـ "الشعب اليهودي"، وليس فقط عاصمة "لإسرائيل"! ما يعني أن الربع مليون فلسطيني في القدس هم مقيمون وليسوا مواطنين، فالقاعدة بحسب القانون الجديد أنه: "لا حق لأحد من غير اليهود في القدس"، حتى ولو كان يحمل الهوية الزرقاء "الجنسية الإسرائيلية".علاوة على ذلك فالقانون يحاول تثبيت نظرية إن القدس عاصمة قومية لليهود ،بصرف النظر عما كانوا يعيشون قي "اسرائيل" آم لا.
وفي لغة الأرقام تشير الإحصائيات إلى أن الفلسطينيين في تزايد مستمر منذ العام 1967 نتيجة فرق معدلات النمو في المواليد بينهم وبين اليهود في القدس،وتتوقع بعض الدراسات إن يتزايد العدد ليصل إلى 40% في العام 2020 بعدما كان 26% في العام 1967.فيما تشير دراسات "إسرائيلية" أن حالة من التوازن بين اليهود والفلسطينيين ستحدث في العام 2030 إذ استمر تراجع الهجرة اليهودية إلى القدس والبالغ سنويا ستة آلاف منذ العام 1998 بحسب الدراسات "الإسرائيلية" نفسها. ويساهم في ازدياد عمليات الهجرة اليهودية عاملين أساسيين،الأول امني بدافع العمليات الفدائية،والثاني اقتصادي إذ تعتبر القدس من المدن الكبيرة الفقيرة،علاوة على اطراد نمو المتشددين بين اليهود فيها، ما يسهم في هجرة العلمانيون منهم.
إلا أن الذاكرة الجماعية لليهود بشقيه الديني والعلماني يعتبر القدس الحلم الصهيوني الواجب تحقيقه، أثر في السلوك "الإسرائيلي" باتجاه تسريع خطوات التهويد الديموغرافي،عبر رفض دعوات الانعزال عن الأحياء العربية،وتفضيلها توسيع النطاق الجغرافي للمدينة علاوة على سحب هويات المقدسيين الفلسطينيين والتضييق عليهم.
ففي الاتجاه الأول عمدت "اسرائيل" إلى إنشاء البنى التحتية في القسم الشرقي بهدف كسب ومصادرة أراض جديدة،عبر وسائل عدة من بينها، وصل المستوطنات الواقعة خارج نفوذ البلدية بالمدينة، وضم مساحات كبيرة من الأراضي خارج حدود نفوذ بلدية القدس مع أقل عدد من السكان، وإخراج ما يزيد عن 25 ألف فلسطيني بإقامة الجدار العازل، وعلى الرغم من أن هذه المناطق تقع ضمن حدود بلدية القدس التي تمَّ توسيعها بعد عام 1967.ما يعني أن اسرائيل صادرت 34% من الأراضي،وتركت 40% أراضي خضراء.و10% أراض مجمدة وغير مستعملة،بمعنى آخر وضعت اسرائيل تحت فبضتها الفعلية 90% من الأراضي المقدسية الشرقية.
وفي الاتجاه الثاني المتوازي عمدت اسرائيل إلى تكثيف سياسة الترانسفير للفلسطينيين المقدسيين تحت مسميات قانونية مختلفة من بينها، تجريد العائلات المقدسية من حق المواطنة، عبر إتباع وزارة الداخلية أسلوبا جديدا لتقليص عدد المقدسيين؛ ذلك بسحب بطاقة المواطنة من كل مقدسي لا يتمكن من إثبات مكان سكنه ماضيا وحاضرا في مدينة القدس، وإجباره على مغادرة المدينة نهائيا، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان حقوقه.إضافة إلى سحب الهويات من الفلسطينيين الذين انتقلوا إلى ضواحي القدس بذريعة تطبيق القانون 1974 الذي يجيز سحب الهوية وفقا لثلاث حالات،في حال الحصول على جنسية أخرى،أو الحصول على إقامة في دولة أخرى،أو تواجد الشخص خارج اسرائيل لأكثر من سبع سنوات.ما يعني أن حوالي الستين ألف فلسطيني مرشحون لسحب الهويات علاوة على المواليد الجدد الذين لا تسمح "اسرائيل" بتسجيلهم وهم في حدود العشرين ألفا.
وفي إطار عرقلة تزايد الفلسطينيين في القدس لجأت "اسرائيل" إلى عدة وسائل من بينها، الضغط الاقتصادي عن طريق فرض ضرائب باهظة، لاسيما على المشروعات والمحال التجارية العربية وسط إحصاءات تشير إلى أن أكثر من 60% من الفلسطينيين المقدسيين يعيشون تحت خط الفقر.إضافة إلى سياسة هدم المنازل وعدم إعطاء تراخيص جديدة،ما يفقد العديد من العائلات مكان سكنها وبالتالي دفعها لهجرة قسرية،وفي لغة الأرقام أيضا هدمت اسرائيل عشرين إلف منزلا منذ العام 1967،ما أدى إلى اكتظاظ سكاني ملفت في البيوت الفلسطينية المتبقية إذ يصل العدد إلى 8،4 في البيت الواحد فيما لا يصل في البيوت اليهودية إلى 3،6 فقط.إضافة إلى عدم الاعتراف "الإسرائيلي" سكان بعض القريات والمدن بأنهم مقدسيين.
ثمة معركة حقيقية تقودها "اسرائيل" في هذه الفترة ضد القدس بأراضيها وسكانها ومعالمها،وكأن إستراتيجية جديدة قد أطلقت في مرحلة رمادية من المفاوضات المتوقفة أصلا على معطيات وشروط "إسرائيلية" تعجيزية على الفلسطينيين،فهل نجحت "اسرائيل" في خطواتها الأخيرة نحو القدس؟وما هي خطواتها القادمة في ظل حكم اليمين المتطرف بقيادة نتنياهو وليبرمان وغيرهم؟ أسئلة تعج في القلب والعقل على معلم الأديان والحضارات والثقافات،وبالتأكيد الجواب لن يكون لدى من بيدهم القرار الآن من العرب وغيرهم.
الأكثر مأساوية وطرافة في الموضوع إصدار وزارة الداخلية "الإسرائيلية" لقرار يقضي بعدم السماح بدفن الموتى المقدسيين في مقبرة الرحمة التي تقع خارج أسوار البلدة القديمة،"فإسرائيل" تزاحم الأموات والإحياء على حد سواء، فهل انتقلت العقيدة اليهودية الصهيونية من مقولة اليهود شعب الله المختار، إلى نظرية الموتى اليهود موتى الله المختار،لا عجب في زمن تقاعس وتغاضى وحتى تآمر الكثيرين من المعنيين عن حقوق إخوتهم في القومية والدين،فأين العرب وأين المسلمين،وأين لجنة القدس في منظمة المؤتمر الإسلامي،إنهم غائبون حاضرون على ابتلاع الجغرافيا وهضم الديموغرافيا المقدسية.