29‏/05‏/2009

الإستراتيجية الأمريكية تجاه العراق وخلفيات الاتفاقية الأمنية



الإستراتيجية الأمريكية تجاه العراق وخلفيات الاتفاقية الأمنية

أ.د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية
في كليتي الحقوق بالجامعة اللبنانية والعربية


دراسة مقدمة إلى مركز باحث للدراسات
ولمؤتمر العراق والاتفاقية الأمنية الأمريكية – العراقية
المنعقد في بيروت 24 - 25 /5/2009

ستظل منطقة الخليج ولعقود قادمة مركز شدٍّ وجذبَّ دوليين للعديد من الاعتبارات والأسباب المتنوعة، منها الاقتصادي ومنها الجيو سياسي، ومنها الحضاري والثقافي.باختصار، شهد التاريخ السياسي لمنطقة الخليج الكثير من المتغيرات كانت نتيجة تداخل وتشابك المصالح الإقليمية والدولية في منطقة تعتبر من اشدِّ المناطق حساسية في العالم.
فمن الناحية الاقتصادية تختزن منطقة الخليج أكثر من نصف احتياط العالم من البترول والغاز،فيما تشكل صادراته من هاتين السلعتين الإستراتيجيتين حوالي ثلثي استهلاك العالم،الأمر الذي يُنظر إليه على انه حجر الأساس لمكونات الاقتصاد العالمي،إن لجهة التصدير أو استيراد المنتجات العالمية، بدءا من الغذاء وصولا إلى السلاح.ومن هذه الزاوية بالتحديد سعت معظم الدول الفاعلة على المستوى الدولي تركيز وتفعيل مكوناتها السياسية والاقتصادية باتجاه هذه المنطقة بالتحديد سعيا لتسويق ما تعتبره أساسا لحضورها الدولي واستمرار يته.
وإذا كان الاقتصاد يعتبر عصب السياسة الدولية،فإن العامل الجيو سياسي للمنطقة وبخاصة العراق، لا يقل أهمية عن أي عامل مؤثر في عمليات الجذب الدولي تجاهها. فالمنطقة وإن تقع في القارة الآسيوية إلا أنها تشغل حيزا هاما من المجال الحيوي لأهم التجمعات والمنظمات الإقليمية الواعدة في المنطقة؛ فهي على تخوم الولايات الأوروبية المتحدة، كما في جنوب روسيا والدول الإسلامية المستقلة عنها، وتأتي يسار دول إقليمية عظمى تتطلع إلى لعب ادوار فاعلة على المستويين الإقليمي والدولي كالصين واليابان والهند،وتقع في غرب القارة الأفريقية التي تعتبر مركز جذب قوي للدول الفاعلة باتجاه الخليج نفسه.وإذا كان الموقع الجغرافي يتخذ هذه الصفة من الأهمية؛ فإن تحكّم بعض دول المنطقة ببعض الممرات والمضائق البحرية تعطي منطقة الخليج صفة أكثر حساسية وموضعا للاهتمام المباشر في السياسات الدولية،ومثال ذلك مضيق هرمز ومضيق باب المندب اللذان يعتبران صمام الأمان لسياسات تدفق النفط إلى الغرب.إضافة إلى ذلك تعتبر منطقة الخليج نقطة الوسط والارتكاز نحو التوسّع لأي سياسات حالمة على المستوى الدولي،وهذا ما فعلته الإدارة الأمريكية من الناحية العملية عن تنفيذها لعملية احتلال العراق، إذ هدفت أن تكون هذه المنطقة بالتحديد المرتكز الرئيس لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يمتد من المغرب العربي إلى اليابان والفيليبين واندونيسيا، على أن يكون الخليج قلب وعصب هذا المشروع من خلال التحكّم بالرئة التي يتنفس منها العالم وهو النفط.
جانب آخر لا يقل أهمية عمَّا سبق في منطقة الخليج وهو البُعد الحضاري - الثقافي للمنطقة.ففيها مهبط الديانات السماوية،وفيها موئل وموقع حضارات سادت ثم بادت، وتركت أثرا بعد عين من الأفكار والمعتقدات عممتها في غير اتجاه من العالم وتركت بصمات لا تمحى من مآثر الإنسانية في الفلسفة والقوانين الوضعية وغيرها،وإذا كانت منطقة الخليج قد شكّلت قلب الاقتصاد العالمي فإنها أيضا بهذا الجانب قد شكّلت عقلا وفكرا لمخزونات ثقافية من الصعب تجاهلها.
ربما الحديث يطول عن منطقة الخليج بطول حضاراتها الضاربة في عمق التاريخ وجغرافيته، لكن ما يمكن اختصاره أن هذه المنطقة كانت وستظل لوقت ليس بقصير الوجهة التي تبحث عنها كل دولة طامحة، والموقع الذي تتمناه كل دولة طامعة.في كلا الحالتين أدركت الإدارة الأمريكية أن لا مفر ولا مناص من حكم العالم إلا عبر بوابة الخليج وهذا ما فعلته باحتلالها للعراق.
ولهذا أولت إدارة الرئيس الأمريكي السابق،جورج بوش ، اهتماما لافتا لملف القضية العراقية، وطرحت برنامج العقوبات الذكية بهدف تضييق الخناق عليه واستنزاف قدراته وإمكاناته الاقتصادية. ففي شباط / فبراير2001، وجِّهت ضربة جوية "أمريكية – بريطانية"، ضدَّّ عدد من الأهداف العسكرية العراقية، كأولى تداعيات هذا البرنامج[1].
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001، أعلنت الإدارة الأمريكية "الحرب ضد الإرهاب" وبدأت أولى خطواتها بالحرب على أفغانستان، وأغراها نجاحها الجزئي في هذه الحرب، واعتمادها لإستراتيجية "الضربات الوقائية" أو "الإستباقية" بدلاً من "إستراتيجية الردع"، أن تكون العراق هي أولى الدول التي تطبق عليها هذه النظرية.وبتحقيق الاستقرار النسبي في أفغانستان سابقا، بدأت الولايات المتحدة في تصعيد الأزمة العراقية على المستوى الدولي، واتجهت للأمم المتحدة لتوفير الشرعية الدولية بما يخدم مخططاتها ، كما أعادت الولايات المتحدة، صياغة إستراتيجيتها العسكرية فيما عُرف باسم "الهيمنة الأمريكية" والتي تتحدد في خلق مستوى عال من التوتر يصل إلى مستوى الأزمة، والتي تؤدِّي بدورها إلى الصراع العسكري إن لم يستجب الطرف الآخر لمطالبها ، فعملت على إصدار القرار الدولي (1441)، من مجلس الأمن في تشرين الثاني / نوفمبر 2002، كما قامت بالضغط على مفتشي الأمم المتحدة لإدانة العراق، والتحرّك داخل مجلس الأمن للتأكيد على أن العراق لم ينفِّذ القرار (1441).وعندما فشلت في إصدار قرار جديد يتيح لها ضرب العراق، تجاوزت الشرعية الدولية، وقامت بالتعاون مع بريطانيا – خارج الأمم المتحدة – بغزو العراق في مارس/ أبريل 2003 بهدف فرض هيمنتها على دول المنطقة والسيطرة على مصادر النفط[2].

أولا : إستراتيجية الولايات المتحدة
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية عنوة على النظام الدولي ،استرشدت الإدارة الأمريكية بأفكار المحافظين الجدد لتأكيد سطوتها على باقي الدول والشعوب،وان القراءة الدقيقة لوثيقتي إستراتيجية الأمن القومي الصادرتين في العامين 2002 و 2006 توضح العديد من الرؤى الإستراتيجية التي حاولت فرضها على العالم وأبرزها:
- اعتماد مبدأ "الحرب الوقائية"[3] في التعامل مع الأخطار، بدلا من سياسة الردع النووي، والدفاع الذاتي (العراق نموذجا).
- تدويل "الحرب على الإرهاب" وجعلها في صلب الدبلوماسية الأمريكية، حيث تتحكم بمستوى العلاقات مع الدول الأخرى والمساعدات ودرجة التعاون الاقتصادي، إلى جانب المزج بين الحرب الوقائية والإرهاب (أفغانستان نموذجا).
- فرض الهيمنة الاقتصادية من خلال التحكّم بمسار الطاقة والنفط على المستوى الدولي (محاولة الهيمنة على فنزويلا، السيطرة المطلقة على نفط الخليج، تطويق منابع النفط في بحر قزوين، احتلال العراق والسعي للإمساك بنفطه عبر الاتفاقية الأمنية)[4].
- إعادة النظر في تركيبة مجلس الأمن ونظام عمل الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الكبرى[5]، بما يؤدي إلى منح الولايات المتحدة سلطة "حق النقض" الخاصة بها، دون باقي الدول الأربع الكبرى التي تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن (يلاحظ خفايا الصراع بين واشنطن ومحور "باريس - برلين" في بعض الفترات).
- إعادة النظر في الخارطة الجيو - سياسية في الشرق الأوسط، بما يتيح تفكيك بعض الدول المركزية في الشرق الأوسط وتمكين دول الأطراف من لعب دور مركزي بحماية أمريكية في مواجهة الدول الرئيسة في النظام الإقليمي العربي، وتساهم تلك الصراعات التي تمَّ نقلها من مستوى منخفض إلى مستوى عالٍ في شلِّ عمل مؤسسات النظام الإقليمي العربي وبخاصة جامعة الدول العربية والمنظمات المتفرعة عنها لصالح البديل الأمريكي.
- الهيمنة على العراق وجعله نقطة الانطلاق المركزية في التحرك الإستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط[6]، في مقابل توقّع حالة من عدم الاستقرار في منطقة الخليج خلال عملية تفكيك بعض الدول وإعادة تركيب أنظمة حكم جديدة (كما يحدث في لبنان والعراق والسودان).
- تفكيك بعض مؤسسات المجتمع المدني في الدول العربية، التي تتعارض مع الأجندة الأمريكية لصالح دعم مؤسسات وهيئات تتوافق مع الرؤية الأمريكية تحت غطاء الليبرالية (نموذج ما يحصل في مصر والأردن ودول الخليج).
- إعادة النظر في تركيبة الحلف الأطلسي ومبدأ الشراكة مع أوروبا، بما يضمن للولايات المتحدة دورا مميزا في الحالة الأوروبية، ويتيح لها استخدام العامل الاقتصادي الأوروبي في تخفيف العبء الواقع عليها في المساعدات الخارجية، وبخاصة مناطق النزاع، ما جعل بعض الأوروبيين يعتبرون أنهم تحولوا من "حلفاء" إلى "أتباع"[7]، ومن "شركاء" في حصد المنافع، إلى "أُجراء" لا يتلقون من المنافع الكبرى سوى الفتات (يلاحظ أن أهم دولة حليفة لواشنطن في حربها على العراق بريطانيا لم تحصل إلا على عقود يسيرة لشركاتها).
أما لجهة أسباب الإخفاقات التي منيت بها الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الخارجي فتظهر بالنقاط التالية:
- اعتماد إدارة بوش إستراتيجية للتعامل مع الصراعات لا تحظى بالإجماع سواء داخل الولايات المتحدة، أو على صعيد الدول الغربية، التي تعتبر أن مبدأ "الحرب الوقائية"[8] لا يخدم في نهاية المطاف النظام الرأسمالي ومصالحه الحيوية في المنطقة العربية، وبدا واضحا أن عددا من الأصوات ارتفعت في الغرب لتحذر من أن الاندفاع الأمريكي غير الواعي ستكون له آثار بالغة على مستقبل العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب من ناحية إحياء عوامل التوتر بينهما، كما أن من شأن ذلك أن يقّوّض الدعم الذي حظيت به الحرب الأمريكية على "الإرهاب".
- تجاهل إدارة بوش لحلفاء الولايات المتحدة التقليديين في أوروبا، ما ساهم في نشوء محور "باريس - برلين - موسكو" الذي استطاع الحيلولة دون حصول واشنطن ولندن على تفويض من مجلس الأمن لشنّ حرب ضد العراق، وبدا أن تلك الحرب تمّت دون غطاء قانوني أو أممي. وأدى ذلك التجاهل في نهاية المطاف إلى إحداث شرخ في العلاقة بين ضفتي الأطلسي.
- اعتماد الإدارة الأمريكية على "التضليل" الإعلامي لتمرير خططها وبرامجها العسكرية والأمنية والتسلّحية، ورغم أن ذلك ساهم إلى حدّ ما في التأثير على حركة الرأي العام الأمريكي لبعض الوقت، غير أن الدلائل تشير إلى أن تأثير الدعاية التي حشدت لها إدارة بوش كل إمكاناتها،تراجع خاصة بعد الفشل في تقديم أدلّة حسيّة على الاتهامات التي تمَّ من خلالها تبرير الحرب على العراق، وتتعلق تحديدا بأسلحة الدمار الشامل، التي تبيّن أنها قامت على أسس ملفقة.
- إصرار المجموعة المهيمنة على القرار داخل الإدارة على خوض سلسلة من النزاعات في آن معا، وطرح مجموعة خطط تغييرية على المستوى الدولي من غير أن تتوفر لديها الكفاءة والقدرة على إدارة صراعات متعددة في وقت واحد، دون حلفاء أو شركاء فعليين. ومن ذلك تصعيد الأزمة مع العراق ثم احتلاله، وتصعيد الأزمة مع كوريا الشمالية وإيران وسوريا والفلسطينيين والعدوان على لبنان، إلى جانب استمرار المواجهات في أفغانستان، ثم السعي إلى تغيير نمط العلاقة مع الدول الأوربية، وتركيبة مجلس الأمن وأداء الأمم المتحدة، ومحاولة التأثير على المنظمات الدولية، ومن بينها محكمة جرائم الحرب في لاهاي.
- طرح الإدارة الأمريكية خططا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان[9]، تتناقض عموما مع تشهده الولايات المتحدة من إجراءات وتدابير بحق الأقليات وبخاصة المسلمين، الذين يتعرضون للاضطهاد بسبب انتمائهم الديني أو العرقي، إضافة إلى ما يحدث في معتقل غوانتانامو وأبو غريب وصولا إلى السجون الطائرة، ما نزع السند الأخلاقي، الذي ارتكزت عليه الإدارات الأمريكية عند تقييمها للأوضاع الداخلية في الدول الأخرى، وبخاصة ما يتصل منها بأوضاع حقوق الإنسان.
- الاستخدام المفرط للقوة في مواجهة قوى ضعيفة من الناحية العسكرية[10]، كما حدث في أفغانستان ومن ثمَّ في العراق، حيث لجأت الولايات المتحدة لاستخدام كميات هائلة من الأسلحة والصواريخ المدمرة، وكان غالبية ضحاياها من المدنيين، ما حدَّ من مستوى التأييد الذي يمكن أن تحظى به حملات عسكرية من هذا القبيل، وساهمت بعض وسائل الإعلام في كشف الآثار الإنسانية القاسية للاستخدام المبالغ فيه للقوة من جانب الأمريكيين، ما دفع واشنطن في بعض الأحيان لمحاولة إسكات وسائل الإعلام التي تتباين مع سياساتها.
- الربط بين الخطط العسكرية والمنافع الاقتصادية التي تعود في الغالب لصالح شركات لها صلة بكبار مسؤولي البيت الأبيض ووزارة الدفاع، ما راكم الإحساس لدى قطاع واسع من الرأي العام بأن الحروب التي تشنّها إدارة بوش وثيقة الصلة بأطماع بعض الشركات الكبرى لجني المال، ولا شك أن طريقة توزيع العقود في العراق تعزز تلك الشكوك.
ثانيا : وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2006[11]
صدرت وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي بطبعتها المزيدّة وغير المنقحة إذا جاز التعبير للعام 2006 ، وبدت كأنها قد مزجت أفكارها وطروحاتها بجنون العظمة والتفوق، فالإستراتيجية سعت وبكل توكيد وتأكيد على أن تجعل العالم بأسره عجوة طرية تلوكها قبضة القوة والقهر الأمريكيتين.
فقد مضت أربع سنوات من الممارسة التسلطية والقهرية في ظل الإعلان الإمبراطوري الأول عام 2002 ،وبات واضحا أن محفزات ودوافع المضي قدما على نفس المنوال أكبر بكثير من المثبطات ودوافع التباطوء، فبرز جنون العظمة واضحا في الإستراتيجية الجديدة؛ لذا قال الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج بوش، في خطاب إعلانه عن الوثيقة "إننا نسعى إلى تشكيل العالم، وليس مجرد أن يشكّلنا هو، وأن نؤثر في الأحداث من أجل الأفضل، بدلا من أن نكون تحت رحمتها".
الجديد في الإستراتيجية الثانية كماً ونوعاً متواضع إذا ما قورن بإستراتيجية العام 2002، ورغم ذلك لم تفتقد التميّز عن سابقتها ، ذلك بالتفصيل الذي ألمَّ بعناصرها وبنودها وأفكارها والإكثار من سرد الأمثلة، فيما يختص بأي منها، لذا جاءت ضعف الأولى حجما (54 صفحة)، إذ لم تترك إقليما أو دولة إلا واستعرضت أحوالها ورصدتها بدقة متناهية، ومن ثمَّ أخذت تُسدي النصح وفي نفس الوقت تنذر وتتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور.
وتزامن صدور الوثيقة مع تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية،كونداليسا رايس، واعترافها بآلاف الأخطاء في العراق ورغم ذلك أتت الوثيقة لتقارب وتؤكد مقولات الساسة الأمريكيين أجمعين بين الوقت المستقطع للوثيقتين،وكأن هضما للدروس غير المستفادة من ممارسات الفترة ذاتها قد أثّرت بمن صاغها، فتمَّ وصف الإستراتيجية الجديدة بأنها "مثالية فيما يتعلق بالأهداف وواقعية فيما يتعلق بالوسائل" وهي إشارة واضحة إلى الوضع الأمريكي في العراق تحديدا بعد حوالي ثلاث سنوات على احتلاله.
فكررت الإستراتيجية المبدأ المعروف أن "أمريكا في حالة حرب" وكأنها تكرر أيضا مقولة جورج بوش بالرسالة السماوية التي بُعث بها لدحر الإرهاب أفرادا ودولا وجماعات، وبالطبع "لنشر الديمقراطية ودعمها في كل ثقافة وأمة... ذلك للحفاظ على أمن الشعب الأمريكي" ، كيف لا وان الأمة الأمريكية تعرّضت لأسوأ صفعة في تاريخها وفي عقر دارها في 11 أيلول / سبتمبر 2001، الأمر الذي يتطلب حكما "البقاء في حالة هجوم، وهزيمة الإرهابيين خارج الأراضي الأمريكية حتى لا نضطر لمواجهتهم على أرضنا" إنه التوكيد مجددا ودون تبرير للحروب الإستباقية أينما كان وفي أي زمان،وهذا ما تمّ لاحقا في العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006 والعدوان على غزة 2008 كجزء مُكمل ومُضاف لتداعيات احتلال العراق.
لتلك الأهداف جعلت من الولايات المتحدة في حالة الجهوزية التامة لمن يصوِّب عليها، فبداية كانت حرب "طويلة كالتي خاضتها إبان الحرب الباردة، ومثلما تُوِّجت في النهاية بالانتصار على عقيدتي الشيوعية والفاشية"، فالايديولوجيا التي تهدد (أمريكا) هي أيديولوجيا لا تنطلق من فلسفة علمانية وإنما تأسَّست على إيديولوجيا شمولية ركيزتها تحريف ديانة (الإسلام) قد تختلف في المنطلق عن أيديولوجيا القرن الماضي ولكنها تتفق في المضمون "عدم التسامح، والقتل، والإرهاب، والاستعباد، والقمع".
إذن فنواة الإستراتيجية هي الحرب الإستباقية. وفي منتصف دائرة التصويب يقع الإسلام السياسي "فالصراع ضد الراديكالية الإسلامية المقاتلة هو الصراع الأيديولوجي الأكبر في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، ويأتي في وقت تصطف فيه القوى العظمى في جانب واحد في مقاومة الإرهاب".
وكما أسلفنا لم تأبه الإستراتيجية بكل الانتقادات التي وجهت للسياسة الأمريكية في الفترة الماضية، بل تجاهلت حتى انتقادات صانعي السياسات الأمريكية واعتبرت أن الإرهاب "ليس مرده القضية الفلسطينية – الإسرائيلية" ولا هو "ببساطة نتاج عداوات أثارتها سياسات أمريكا في العراق"، وكذلك"ليس ناتجا ثانويا عن الفقر"، وأيضا "ليس استجابة لجهود أمريكا لمنع الهجمات الإرهابية".
وتتابع الوثيقة لتنفي بشكل قاطع أن تكون الإدارة الأمريكية في حرب ضد المسلمين، وإنما تخوض معاركها في "الحرب على الإرهاب باعتبارها معركة أفكار وليست معركة ديانات"، حيث "يواجهنا الإرهابيون الدوليون باستغلال دين الإسلام العظيم لخدمة رؤيتهم السياسية العنيفة"وهي أيضا إشارة قوية وواضحة إلى حرف الانتباه عن حقيقة وطبيعة الصراع بين بعض القوى الإسلامية الممانعة والمقاومة للسياسات الأمريكية التي بدأتها باحتلال العراق وحاولت تعميمها لاحقا في لبنان وغزة.
عند تلك النقطة بالذات تتواضع الوثيقة لتسترشد بما سبق أن حذر منه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، طوني بلير، المارقين من المسلمين بالتزام "التيار العام للإسلام" أو Main stream Islam وهو الإسلام الذي يرضي الغرب ومن يخالفه فهو إرهابي، فتمنح الإستراتيجية نفسها الحق في وصف الدين الذي تحاربه "بالإسلام الراديكالي" الذي "يسوغ القتل، ويحرف ديانة الإسلام العظيمة وليَّها لخدمة الشر".وهنا للتذكير فقط بما ابتدعته مؤسسة راند بمقولة "الإسلام المعتدل" كمقاربة لما ينبغي أن يكون عليه الإسلام من وجهة النظر الأمريكية "السمحاء"ّ.
كما ذهبت الإستراتيجية إلى حد مد اليد على أحد أهم أركان مقولات الإسلام أي الجهاد ، "فالإرهابيون يشوهون فكرة الجهاد للدعوة لقتل كل ما يخالفهم من المرتدين والكفرة كالمسيحيين واليهود والهندوس وسائر الديانات الأخرى". ولذلك شرَّعت لنفسها أيضا فرض شجب المسؤولين المسلمين لـ "الأيديولوجية" التي تشوه وتستغل الإسلام بغية نهاية مدمرة"، ولكن بالطبع فإن من يقرر هذه الإستراتيجية يعرف ويدرك أن "الأكاذيب التي ترتكز عليها أيديولوجية الإرهابيين لاستغلال المؤمنين"، فلذلك لن يبخل الأمريكيين جهدا في "تمكين المسلمين المسالمين من ممارسة إيمانهم والتعبير عنه" وكان ينقص بعد تلك الفقرة التوضيح بأن هذا التمكين هو فقط سيؤمن للذين يأكلون ويشربون وينامون من دون أي إضافة أو تأويل لسلوك حياة ولو كان رتيبا.
ورغم تخلّي الإستراتيجية عن أسلوب التهويل، فقد استخدمت القوة الناعمة كاستعمال الإغراءات الاقتصادية والمداهنات الثقافية والدبلوماسية على وسائل أخرى بهدف نشر الديمقراطية والقضاء على الطغيان.ورغم ما سبق وأُعلن عن رغبة أمريكية في "استخدام مجال أوسع نطاقا من الوسائل" وصولا لأهداف الإستراتيجية، فقد أكدت الوثيقة على أهمية الدور الرئيس للقوة العسكرية الأمريكية حيث تقول الوثيقة: "بيد أننا عند الضرورة، ووفقا لمبادئ الدفاع عن الذات المعمول بها منذ وقت طويل، لا نستبعد استخدام القوة قبل أن تحدث الهجمات ضدنا، حتى في حالة عدم اليقين بشأن توقيت ومكان هجوم العدو" وهو تأكيد مرّة أخرى بأن الولايات المتحدة كانت وستبقى بحاجة إلى عدو وهمي لتثبت قوتها.
من ثمَّ تتوسع وثيقة 2006 بشكل واضح حول إطار الإستراتيجية الأصلي الذي تحوّلت بموجبه سياسة أمريكا من سياسة الردع والاحتواء التي تبنتها لعقود طويلة إلى سياسة أكثر عدوانية، تقوم على "مهاجمة الخصوم قبل أن يقوموا هم بمهاجمة الولايات المتحدة"، لذا لم يطرأ تغيير بالإستراتيجية المعدّلة إذ أكد بوش في خطاب إعلانها أنها "ستظل كما هي".
لقد سبق توقيت إعلان الإستراتيجية 2002 غزو العراق بستة أشهر تقريبا، والاتهامات الموجهة إلى إيران في وثيقة 2006 ، تتطابق والاتهامات التي وجهت لنظام الرئيس العراقي، صدام حسين، قبل غزو العراق ، فأمريكا بحسب الوثيقة لديها مخاوف أكبر من "النظام الإيراني يدعم الإرهاب ويهدد إسرائيل ويحاول نسف السلام في الشرق الأوسط وينكر على شعبه التطلع إلى الحرية". ولذلك وبكل بساطة تعتبر هذه الإستراتيجية رسالة قوية جدا لإيران مفادها أن واشنطن قد تستخدم القوة للقضاء على التهديد النووي الذي تشكله، إذ تشير بجلاء إلى إيران باعتبارها "أكبر خطر يمكن أن تشكله دولة بمفردها على الولايات المتحدة".
وثيقة الإستراتيجية الأولى تحدثت عن محور الشر "إيران والعراق وكوريا الشمالية"، أما الثانية فلم تركز على كوريا الشمالية واكتفت بأن عليها "تغيير سياساتها"، ثم بشيء من التوسّع وجَّهت أصابع الاتهام إلى خمسة "أنظمة دكتاتورية استبدادية" أخرى مثل سوريا وكوبا وروسيا البيضاء وبورما وزيمبابوي. كما تضمّنت الوثيقة صفحة كاملة خُصصت لتبرير الحرب على العراق، ويبدو أنه تحذير مباشر لإيران جاء فيه "ليس لدينا أدنى شك في أنَّ العالم سيكون أفضل حالا إذا أدرك الطغاة أنهم بامتلاك أسلحة دمار شامل سيتحملون عواقب ذلك".
لم توفر الوثيقة روسيا ولا الصين، فعلى الصين " أن تتصرف كدولة مسؤولة تفي بالتزاماتها وتضمن الحرية السياسية والحرية الاقتصادية"، وإستراتيجية أمريكا تسعى إلى "تشجيع الصين على اتخاذ الاختيارات الإستراتيجية الصحيحة لشعبها مع قيام الولايات المتحدة في نفس الوقت باحتياطاتها لكافة الاحتمالات الأخرى". كما نظرت الوثيقة إلى روسيا نظرة أكثر حذرا وشكا مقارنة بسابقتها 2002 عندما كان وهج التقارب بين بوش وبوتين لا يزال ساطعا. فقد ورد في الوثيقة عند الإشارة إلى روسيا: "إنَّ الاتجاهات الحديثة تؤشر للأسف إلى تقلص الالتزام الروسي بالحريات والمؤسسات الديمقراطية".
كما أوضحت الوثيقة أنَّ "أفريقيا تكتسب أهمية جغرافية – إستراتيجية متزايدة وتشكل أولوية في جدول أعمال الإدارة"، وتوجه تحذيرا إلى شعوب أمريكا اللاتينية "من الانسياق وراء الدعوات المضادة للسوق الحرة" في إشارة للرئيس الفنزويلي، هوغو شافيز.
غريب المفارقات أن الوثيقة التي التزمت في أول كلمة فيها بنشر الديمقراطية تعترف بأن "الانتخابات ليست كافية في حد ذاتها"، كما أنها تقود أحيانا إلى "نتائج غير مرغوبة"، تقول الوثيقة "فهذه المبادئ قد تعرضت للاختبار عندما فاز مرشحو حماس في الانتخابات التي عقدت في المناطق الفلسطينية".
أخيرا لولا فضول الباحث وحشريته العلمية لن يجد غضاضة في الهرب من قراءتها والتدقيق فيها، فهي نسخة ليست منقحة ولا مزيدة عن سابقتها بل صيغت بعبارات ومفردات حاول من أسس لها، إن يوحي جديدا،وإذ كنا منصفين في معرض الدرس والنقد فلا نجد حرجا في القول، أن الجديد فيها قول الولايات المتحدة من جديد، أن لا جديد لدينا سوى الحروب الاستباقية وصناعة الأعداء الوهميين كيف ونحن الذين نحتاج دائما للأعداء لإثبات قوتنا على من اضعف منا !.

ثالثا: من أفغانستان إلى العراق بذريعة الحرب ضد الإرهاب
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن تشكيل تحالف دولي لمكافحة الإرهاب، رافقه تأييد دولي لتشكيله ، وقد تجاوبت الدول العربية مع هذا التحالف بالرغم من حساسية العالم الإسلامي إزاء مهاجمة دولة إسلامية (أفغانستان)، كان الهدف من وراء ذلك هو أصابع الاتهام الأمريكي للعرب لاشتراك مواطنين من الدول العربية في أحداث 11 أيلول / سبتمبر، وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية في تطبيق إستراتيجيتها لمحاربة الإرهاب ضمن تحالف دولي وتأييد عالمي بالهجوم على أفغانستان، لاتهامها بإيواء منظمات إرهابية وبخاصة تنظيم القاعدة.
لكن سرعان ما تبيَّن لدول العالم أن الهجوم على أفغانستان لم يكن سوى المحطة الأولى في طريق طويل، ربما سبق التخطيط له منذ فترة، وكانت أحداث 11 أيلول / سبتمبر إشارة للبدء فيه. وكانت المحطة التالية هي العراق بخاصة والخليج بعامة[12]. ومن ثَمَّ، بدأت واشنطن تكيل الاتهامات التي تسوغ المضي في طريق الهجوم عليها، فحاولت الربط بين العراق والإرهاب عبر تنظيم القاعدة ولم يقتنع العالم، فكان اتهامها بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وبالتالي تهديد أمن الولايات المتحدة الأمريكية إذا أمدّت بها منظمات إرهابية متطرفة، ومن ثمَّ جاء قرار مجلس الأمن بتعيين لجان تفتيش للتأكد من وجود هذه الأسلحة في العراق من عدمه، ولم يظهر لهذه اللجان أي أدلة لوجود أسلحة دمار شامل.
ولم تقتنع الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تنتظر لإتمام لجان التفتيش لمهامها، وهنا سقط القناع عن وجه الولايات المتحدة، فالضربة العسكرية للعراق قادمة، بدون انتظار قرار من مجلس الأمن أو موافقة دولية، ونجحت أمريكا في تشكيكها بامتلاك العراق لهذه الأسلحة، إضافة إلى سبب آخر، هو تغيير نظام الحكم ، ومن ثَمَّ، كان الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله، ولم تكن هذه الحرب حرباً عادية، بل استخدمت فيها الإدارة الأمريكية أحدث أنواع الأسلحة، وأكثرها شدَّة وعنفاً وتأثيراً، حيث راح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين العراقيين الأبرياء.
وتعدُّ هذه الحرب كارثة إنسانية للعراق بكل المقاييس، كما لم تقتنع معظم دول العالم بالمسوغات الأمريكية لشن الحرب، حيث أن أمريكا هي التي أمدته بعناصر تصنيع هذه الأسلحة وعاونت بريطانيا أيضاً في ذلك، وبالرغم من قيام الهند وباكستان بتجارب نووية في وقت سابق، وامتلاك إسرائيل لبرنامج نووي شامل وأسلحة ذرية ، ومع ذلك ركَّزت الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً على العراق، وهذا بالطبع لأهداف أخرى غير معلنة، سواء للسيطرة على مصادر الطاقة في العالم، أو للوجود العسكري في هذه المنطقة الإستراتيجية الهامة من أجل إعادة رسم الخريطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط.وإضعاف العالم العربي لصالح أمن إسرائيل، وكسب موضع قدم داخل آسيا سواءً في الوسط أو الشمال على الحدود الروسية والصينية، والاقتراب من إيران وسورية استعدادا لاستئناف الطريق التي بدأته من أفغانستان للوصول إلى محطات ودول أخرى تمانع وتقاوم النهج الأمريكي، وكلها نوايا قائمة وأهداف غير معلنة للإستراتيجية الأمريكية المبنية على القوة والغطرسة والمصالح النفطية[13].
لقد أخذت الولايات المتحدة الأمريكية على عاتقها لعب دور الشرطي في العالم، لتحاسب بعض الدول في المجتمع الدولي طبقا لتصنيفها من "دول معادية" أو "دول محور شر" أو "دول مارقة" أو "دول حليفة"، وأخطر من ذلك ما أصاب العالم العربي من هزّات عنيفة، ظهرت أولى معالمها في تصريحات المسؤولين الأمريكيين بتوجيه التهديدات إلى كل من سورية وإيران، والتي عُدّت محطات تالية على طريق الولايات المتحدة الأمريكية تحت مظلة مكافحة الإرهاب.
لقد أثار السلوك الأمريكي العديد من التساؤلات، حول ما هي المحطات التالية بعد العراق؟ فالقوات الأمريكية منتشرة في الخليج على استعداد للتدخل في إيران، ويمكن استخدامها تجاه سورية، وثمة قوات في البحر الأحمر تتمركز في بعض الدول الإفريقية وشرقها ، ويمكن استخدامها في اتجاه السودان، ومن هنا أصبحت التهديدات واضحة تماماً وواقعاً ملموساً.وأصبح من الواضح أن العالم العربي معرّض للضربات العسكرية الأمريكية، بهدف إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة، بما يهدد الأمن القومي العربي، ويصب في مصلحة إسرائيل، وهنا برز التساؤل بالنسبة لمستقبل الأمن القومي العربي، وهل يستطيع العرب أن يطوّروا أنفسهم وأهدافهم السياسية والاقتصادية والأمنية بما يحقق مستقبلاً أفضل، في ظل هذه الهجمة الشرسة، خاصة ما يحيط بها من شبهة في تضمنّها أهدافاً عقائدية تهدد العالمين العربي والإسلامي؟، وهذا بالطبع يحتاج إلى جهود عديدة تتعلق أساساً بتوفير آليات جديدة لمنظومة النظام الإقليمي العربي[14].
وبذلك أصبح هناك خطورة كبيرة في شنِّ حروب تحت عناوين مكافحة الإرهاب، باعتبار أن الولايات المتحدة – وفقاً لمصالحها – تختار الدول التي توجّه لها الضربات الوقائية، بما يعني الاعتداء على سيادة الدولة في إطار مفهوم الحرب ضد الإرهاب، وقد يكون اختيار توجيه الضربة الوقائية تحت زعم امتلاك تلك الدولة للقدرات النووية والكيميائية والبيولوجية، ما يتطلب توجيه ضربة إحباط فورية، كما كان محتملا التوجه الأمريكي قائماً على توجيه ضربة وقائية نووية لتحقيق الحسم في القضاء على القوة العسكرية المعادية، فالخيار النووي مُتاح في الفكر العسكري الأمريكي.
وبناء عليه، عمَّ عدم الاستقرار الدولي، والقلق المستمر في توقّع توجيه ضربات وقائية إلى البنية الأساسية للدول المستهدفة، فقد أدى هذا المفهوم الأمريكي إلى أن يكون الحرب بديلاً عن السياسة بما يجعلها عملية مستمرة لا تتوقف، مع إمكان فرض أزمات على دول غير مرغوب في سياستها، وبذلك يفتح الطريق أمام توجيه الضربات الوقائية التي تعتبر أحد أساليب إدارة السياسة الخارجية.
وقد أصبح المجتمع الدولي بعد هجمات 11 أيلول / سبتمبر مهيئاً لإقرار سياسة "الهجمات الوقائية"، حيث منح مجلس الأمن الولايات المتحدة الأمريكية موافقة على القيام بأي عمل عسكري طبقاً للمادة (51) من الميثاق على أساس أن الهجمات كانت ضخمة للغاية، ومن ثَم، فإن واشنطن من حقها توجيه ضربة في إطار الدفاع عن النفس، وتنبع خطورة هذه السياسة على المستويين الدولي والإقليمي في الآتي[15]:
- على المستوى الدولي: إن الولايات المتحدة الأمريكية لها الحق بمفردها في توجيه ضربة وقائية ضد أي دولة تقرّر أنها تقوم بتطوير أسلحة الدمار الشامل أو تدعم الإرهاب، الأمر الذي يمثل ضوءاً أخضر لشنِّ حرب أمريكية ضدَّ أية دولة، أو ضدَّ أي منطقة في العالم ترى واشنطن أنها تهدد مصالحها، دون أن تحتاج لأن تثبت تورّطها في أعمال من هذا النوع، ومن ثمَّ فإنه في حالة القبول بتقنين سياسة الإجراءات الوقائية، فإن هيكل السلام الدولي سوف يتعرّض للانهيار؛ إذ يمكن لأية دولة، أن توجّه ضربة لدولة أخرى بحجة أنها شعرت بتهديد، مهما كان هذا التهديد بعيداً.
- على المستوى الإقليمي: أنه إذا كانت لإستراتيجية "الهجمات الوقائية" الأمريكية، هذه الخطورة على الساحة الدولية، فإن الأمر الذي لا شكَّ فيه هو أنَّ هذه الخطورة ستكون أشدُّ وأكثر فداحة على المنطقة العربية، ذلك في ضوء عاملين: الأول، استهداف الدول العربية من قبل بعض الدول، خاصة من الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي يمكن أن توجّه، في إطار هذه الإستراتيجية، الهجمات الوقائية ضد دول، ترى أنها تهدد أمنها، وفي مقدمتها سوريا من الدول العربية، وإيران من الدول الإسلامية.والثاني، يتمثّل في التراجع المستمر للثقل العربي سياسياً على المستوى الدولي، وهذا ما يتيح للولايات المتحدة الأمريكية الاستمرار في "تصفية الحسابات القديمة" مع دول بعينها داخل المنطقة.
رابعا : لماذا العراق بعد أفغانستان؟
واقع الأمر لم يكن الغزو الأنغلو- أمريكي للعراق ساحقا فحسب، إنما كان أيضاً ضاراً ضرراً بليغاً بالمنطقة العربية ومن مختلف الجوانب وعن ذلك كتب توماس فريدمان، في صحيفة نيويورك تايمز[16] عن ذلك قائلاً: "إن السبب الحقيقي للحرب الأمريكية على العراق ناشئ من حاجة أمريكا بعد أحداث أيلول / سبتمبر2001، إلى إرضاء النزوع إلى الانتقام بالضرب في قلب العالم العربي والإسلامي"، ومن هنا كان اختيار العراق هدفا مركزيا.
كما كانت مشاهدة بغداد تحترق، تمثّل تجربة صادمة لمعظم العرب، وهي تعادل شعور الغربيين ما إذا دُمِّرت رموز حضرية مثل باريس أو روما أو فيينا، فاسم بغداد، يعني موطن الحضارة الإسلامية، فبغداد ظلت على مدى عدة قرون، مدينة لا نظير لها في العالم.فكانت حرب عام 2003 على الجانب الخاص بالعلاقات العربية ـ العربية والنظام الإقليمي امتدادا وتعزيزاً وتصعيداً لآثار حرب عام 1991.
اقتصاديا، حين كان أركان إدارة جورج بوش "تشيني، ورامسفيلد "خارج دائرة صناعة القرار، عكفوا على إعداد "مشروع القرن الأميركي الجديد"، ثم وضعوه على أمام الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، مطالبين بضرورة تغيير النظام العراقي، في إطار تأمين أحد أهم مصادر إمداد الولايات المتحدة بالنفط، من منظور يتجاوز الاحتياجات الآنية، إلى تأمين استحقاقات المستقبل على مدى القرن الواحد والعشرين وما يليه.
وبعد أن أصبح جورج بوش الابن، رئيسا للولايات المتحدة، وأصبح من كانا خارج الضوء ، صانعا للأحداث ، قدَّم تشيني - نائب الرئيس بوش، ورجل الإدارة القوي - تقريرا شدَّد فيه على العلاقة بين الأمن القومي الأميركي وأمن الطاقة، وطالب بوش بمنح أمن الطاقة أولوية قصوى في رسم السياسات الخارجية على المستويين الاقتصادي والسياسي، ولم يلبث إيقاع الأحداث طويلا حتى بات في خدمة التوجّهات التي حملها تشيني وطاقمه - وفي المقدمة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وصاغت بالتالي التفكير الاستراتيجي لإدارة بوش.
جاءت إستراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي تمَّ إعلانها بعد عام من أحداث أيلول / سبتمبر لتربط بوضوح تام بين حتمية السيطرة على الموارد الأساسية للطاقة في العالم، وإبعاد المنافسين المحتملين عنها، وبالتالي ضمان استمرار الهيمنة الأميركية، وتشكيل النظام العالمي الجديد، بقيادة أميركية منفردة باعتبار الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة.
هكذا أصبح النفط شأناً لصيقاً بالنفوذ الدولي، وقيادة النظام العالمي، ولم يعد مجرد أمر يتعلق بضمان الرفاهية للشعب الأميركي فقط ، ولم يكن ما تضمّنته وثيقة إستراتيجية الأمن القومي، مفصولا عن إعلان أميركي صدر في أوائل الثمانينيات يؤكد على أن حدود الأمن القومي هي آخر قطرة نفط في آبار منطقة الخليج العربي ، وكان ذلك الإعلان أيضا غير مفصول عن التطورات الدراماتيكية في السبعينيات من القرن الماضي، والتي مثّلت تحدّيات واضحة لإمدادات النفط الواصلة للسواحل الأميركية، ومرّة أخرى، فإن تشيني ورامسفيلد تحديدا، لم يكونا بعيدين عن الدائرة، فكلاهما كان ضمن طاقم الرئيس الأميركي ، جيرالد فورد، في ذروة استخدام العرب لسلاح النفط، الأمر الذي كان له تداعياته وانعكاساته على رئاسة فورد، بل وعلى خروج الجمهوريين من البيت الأبيض في انتخابات العام 1976.[17]
إن "منطقة الخليج وما تحويه من كميات هائلة من احتياطيات النفط تجعل من الضروري أن تحتفظ الولايات المتحدة بحرية التدخّل في الإقليم والاستفادة من تلك الثروة النفطية الهائلة" هذا ما أكده أنتوني زيني القائد السابق للقيادة المركزية قبل وصول جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض، ثم جاءت الأحداث وتداعياتها لتقدِّم الفرصة المناسبة لتحويل الأقوال إلى أفعال، وإذا كانت عاصفة الصحراء بمثابة المقدمة، فإن ما حمله نحو عقد من الزمن قد مهَّد الطريق أمام صقور واشنطن في الإدارة السابقة لتحقيق الغاية النهائية بعد حياكة التفاصيل بهدف التوصّل إلى إعادة رسم الخرائط الجيو إستراتيجية بما يخدم قيادة الولايات المتحدة منفردة للنظام العالمي الذي تتشكل ملامحه، ويطمح هؤلاء الصقور أن تثمر جهودهم في السيطرة على إمدادات النفط الدولية في ضمان الهيمنة الأميركية على مدى القرن الحالي.
ولم تعد خريطة النفط، الآبار والإمدادات وتأمين الطرق، مسألة تقع ضمن اهتمام أباطرة صناعة النفط ودوائر التجارة والمال والاقتصاد خارج الإدارة وداخلها، بل بات النفط محل اهتمام دوائر الدفاع والأمن القومي والمخابرات والشؤون الخارجية، وكان منطقيا في ظل ذلك أن يتمَّ بناء جهاز دبلوماسية الطاقة في إدارة جورج بوش بهدف ترجمتها إلى قرارات تنفيذية ضمن تعاون وثيق بين الأجهزة المعنية ، وأن يتولّى رئاسة الجهاز الجديد مفوَّض له حرية الحركة في كافة أنحاء العالم، وتحت التوجيه المباشر لنائب الرئيس ديك تشيني ، الذي أحاط اتصالاته الخاصة بسياسة الطاقة بسياج من السرية.[18]
وعلى الرغم من كل محاولات إدارة جورج بوش في التقليل من الاعتماد على النفط العربي وبخاصة الخليجي ، فإن هذا الحلم بات في عداد المستحيل، من ثمَّ فإنَّ الهدف تحوَّل من السعي لتقليل الاعتماد على النفط العربي، إلى استهداف السيطرة على منابعه للتحكّم في تدفقه وأسعاره. فحسابات "جهاز دبلوماسية الطاقة" أكدت على عدة حقائق أبرزها:
ـ حقول نفط عديدة خارج دول أوبك نضبت أو سوف تنضب في مدى زمني قريب.
ـ رغم كل ما أشيع عن ضخامة نفط بحر قزوين، إلا أن الواقع ليس كذلك.
ـ الرهان على تحالف استراتيجي في مجال الطاقة مع روسيا لا يخلو من مخاطر.
ـ الاكتشافات النفطية في المناطق الجديدة يعيبها ارتفاع تكلفة الاستخراج، أو انخفاض جودة الخام.
ـ رغم أن أوبك لم تعد بالقوة السابقة إلا أنها ما زالت قادرة على التأثير في صناعة القرار النفطي على المستوى الدولي.
ـ مشروع جورج بوش للتنقيب في آلاسكا لا يواجه معارضة أنصار البيئة فحسب، لكنه يلقى معارضة من حزب الرئيس!
ـ فشل الرهان على بدائل النفط من مصادر الطاقة الأخرى في المدى المنظور. وحقائق ومعطيات أخرى تقود إلى استخلاص مهم لا يمكن الالتفاف حوله أو تجاوزه: إن الاستغناء عن النفط العربي بشكل عام، والخليجي بشكل خاص، والعراقي بدرجة أخص، أمر مستحيل.
ثمَّة حقيقة أخرى، أنَّ معظم الاحتياجات ولمدى زمني غير قليل سوف تكون من منطقة الخليج ولأكثر من سبب، فاكتشاف النفط وإنتاجه هناك أقل تكلفة من أي منطقة أخرى في العالم، ثمَّ أنَّ جودته عالية، ولا بديل مناسب، وقد جربت واشنطن الاستغناء تدريجيا عن وارداتها النفطية من الخليج، لكنها فشلت، وأدرك أركان الإدارات المتعاقبة قبل وصول جورج بوش الابن، أنَّ الاعتماد على النفط الخليجي حقيقة لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها.
أمَّا البديل فيتمثل في السيطرة،والهيمنة على مصادر الطاقة يبدأ من الخليج، والحلقة الأخطر في ذلك المخطط تبدأ من العراق! أمَّا لماذا العراق؟ فالأسباب كثيرة ومتنوعة أبرزها:
ـ يحتل نفط العراق المركز الثاني من حيث الاحتياطي العالمي بعد السعودية.
ـ المخزون الحقيقي أعلى بكثير من الأرقام المتداولة، مع جودته العالية.
ـ احتمالات الاكتشاف الجديدة هائلة، مع قلة التكلفة الإنتاجية.
ـ التوقعات ترشحه كآخر نفط ينضب في العالم.
والمحصلة النهائية تؤكد أن السيطرة على العراق تعني التحكم فيما يقارب نحو ربع إجمالي احتياطي النفط العالمي، ثمَّ أنَّ العراق بموقعه الاستراتيجي يجعل من يسيطر عليه ،يسيطر على ثلثي الاحتياطي العالمي للنفط الذي يتركز في الخليج العربي.
ولعلَّ ذلك يضمن للولايات المتحدة تحقيق أكثر من هدف جزئي في سياق هدفها الأساسي:
ـ السيطرة على نفط العراق تقلل من اعتماد واشنطن على النفط السعودي.
ـ السيطرة على ثروة نفطية بهذا الكم تساعد على التحكّم في أسعار النفط، ومن ثمَّ الحد من تأثير"أوبك"، وفي تهميشها كمرحلة أولى.
ـ التأثير بقوة في المصالح الاقتصادية للقوى الطامحة في لعب دور في النظام الدولي، عبر التحكّم في إمداداتها من النفط الخليجي. فالسيطرة على العراق حرباً كانت أو سلماً تمثل الحلقة الأخطر في مخطط الهيمنة على مصادر الطاقة، عبر التأثير في الاقتصاد العالمي لعقود عديدة قادمة.

خامسا : 11 أيلول / سبتمبر والحرب ضد الإرهاب بغزو العراق
أتاحت أحداث 11 أيلول / سبتمبر أكثر من أي أمر آخر لمجموعة المحافظين الجدد الذين تولّوا مواقع رئيسة للسلطة في إدارة جورج بوش، أن تأخذ الولايات المتحدة الأمريكية للسير في مسار جديد في النظام الدولي، وقد حذَّر الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، من هذه المجموعة في مقال بصحيفة "واشنطن بوست"[19] قال فيها: "يبدو أن مقاربات جديدة تتطور مع مجموعة محورية من المحافظين، الذين يحاولون أنَّ يحققوا طموحات طال انتظارهم لها تحت غطاء الحرب المعلنة ضدَّ الإرهاب". لكن مثل هذه التحذيرات أخفقت في ثني الإدارة الأمريكية عن شنِّ حربها على العراق، التي كانت قد تقرَّرت بالفعل.
لقد فتح الغزو الأمريكي للعراق، الباب أمام تساؤلات عدّة حول الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة، ويأتي في مقدمة هذه التساؤلات: هل خرجت الولايات المتحدة في حملة صليبية لتغيير خريطة المنطقة، وخلق شرق أوسط جديد؟، وهل هدف الولايات المتحدة الهيمنة الكلية على نفط الخليج؟، وهل شنّت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الحرب خدمة لحليف إقليمي، هو إسرائيل؟. وهل هذا ما عناه بول وولفويتز حينما قال "إن العراق ليس يعني العراق فحسب"[20].
وبالطبع فإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية، قد شنَّت الحرب على العراق لا لتجلب الديمقراطية إلى شعبه، والتفسير العقلاني الوحيد، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت مدفوعة بأمرين هما: النفط وإسرائيل، وهو ما برز في عدة أمور من بينها[21]:
- إعلان الولايات المتحدة الأمريكية أنها ستبقى في العراق لمدة طويلة، حتى تنجح في إقامة نظام حكم ديمقراطي مستقر وصديق لها، وحتى عندما تفكّر في الخروج من العراق، فإنها ستترك قواعد عسكرية لها في كافة أنحاء العراق.
- توريط كل من إيران وسوريا في الحرب الأهلية داخل العراق، وبما ينشأ وضع جديد، يتيح للولايات المتحدة الأمريكية التدخّل ضدَّ هاتين الدولتين، أو استدراجهما لأزمات تؤدي إلى شنِّ الحرب ضدَّ أي منهما، مع إعطاء أسبقية لتدمير البرنامج النووي الإيراني.
- إنَّ احتلال العراق، سيضعف من المركز التفاوضي للفلسطينيين ومؤيديهم من العرب بدرجة كبيرة، ومن ثمَّ يصبحون على استعداد للتخلي عن قدر كبير من حقوقهم التاريخية والتراجع عن مواقعهم السابقة.
- العمل على إضعاف النظام الإقليمي العربي، وشلِّ القدرة على تبنّي عمل عربي مشترك.
- عندما احتل الأمريكيون العراق لم يقضوا على النظام فقط، بل قضوا على الدولة العراقية نفسها، فقد فككوا الدولة العراقية وأنهوها، وحلّوا الجيش وقوات الأمن، وسمحوا بنهب الإدارات الحكومية وحرقها، وبذلك أنهوا الدولة العراقية ليحاولوا إعادة تشكيلها كما يريدون، فكل ما قيل قبل الحرب عن أسلحة دمار شامل، تبيّن للعالم كله كذبه، وأن لا أسلحة دمار شامل بالعراق، وهو ما يوضح عدم صدقية الرئيس جورج بوش في خطابه للاتحاد في كانون الثاني/ يناير 2003، وكذب التقرير الذي قدمه وزير الخارجية، كولن باول، لمجلس الأمن عن أسلحة الدمار الشامل بالعراق في شباط / فبراير 2003.
سادسا: العقيدة العسكرية الأمريكية والهدف الحقيقي للحرب
يتلخص الهدف الحقيقي للحرب من وجهة النظر العسكرية الأمريكية في العديد من الأوجه ابرزها[22]:
1 - تأكيد سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها على النظام العالمي الجديد، وصياغة مبادئ لهذا النظام تضمن سلامة الولايات المتحدة الأمريكية وأمنها في ضوء أحداث أيلول/ سبتمبر 2001، وكان العراق هو الوسيلة التي حدَّد من خلالها "بوش الأب" بداية نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة عام 1991[23]، فقد كان العراق أيضاً هو الوسيلة التي يعلن من خلالها "بوش الابن" هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على مقدرات العالم عام 2003.
2 - إن اختيار العراق هدفاً، المقصود منه التطبيق الأمثل لقدرة النظام العالمي للتعامل مع الدولة المناوئة، ولا سيما تلك التي تقع في مراكز الثقل من العالم، وربما تتضح صورة ذلك من خلال العديد من الإشارات التي أرسلت قبل الحرب وبعدها، منها:
- مبادرة كولين باول وزير الخارجية الأمريكي عن تحقيق الديمقراطية في دول الشرق الأوسط والتي طرحها في كانون الأول/ ديسمبر 2002، وأشار فيها إلى أن أنظمة الشرق الأوسط أدَّت إلى تصاعد الإرهاب.
- تعدّد الإشارات من المسؤولين الأمريكيين عن "دول الشر" و "الدول المناوئة"[24]، وربمَّا كانت الإشارة الأوضح التهديدات التي وُجِهت إلى سوريا في أعقاب النصر العسكري الأمريكي البريطاني في العراق، ومقولة باول: "على سوريا أن تقدر أن نظاماً جديداً نشأ على حدودها، وأنَّ أوضاعاً جديدة حدثت في المنطقة".
- إعلان الهند وباكستان عودة العلاقات بينهما، والتفاوض لإنهاء نزاع دام أكثر من نصف قرن.
- الاستجابة المتدرِّجة من كوريا الشمالية للشروط المملاة عليها من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت ترفضها تماماً في السابق أثناء اشتعال أزمة العراق.
- إعلان وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفليد، سحب قواته من السعودية قائلاً "إن قواتنا لن تبقى في دول لا تتمنى وجودنا"، ثمَّ إعلانه المفاجئ نقل القيادة الجوية الأمريكية من قاعدة الأمير سلطان من السعودية إلى دولة قطر.
3 - تأكيد السيطرة على المنطقة، وما حولها، حيث أنَّ العراق يشكل منطقة إستراتيجية مفصلية هامة تربط ما بين دول الخليج وتركيا، وهو الأقرب إلى دول آسيا الوسطى، ويمثل الحدود البرية مع كل من إيران وسوريا". وهي من الدول المناوئة التي يجب احتواؤها"، وهذا يعني احتلال العراق يكمل حلقة السيطرة على الشرق الأقصى والأوسط، ويحد من امتداد نفوذ كل من روسيا الاتحادية والصين، كما يحد من انتشار المصالح الأوروبية في منطقة الشرق الأوسط.
4 – إضافة إلى ذلك موارد العراق، ويأتي في مقدمتها النفط الذي يمثل 11% من حجم النفط العالمي، وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على نفط الشرق الأوسط، تعني تكامل العولمة الاقتصادية، ووضعها تحت سيطرة النظام العالمي الجديد إلى جانب السيطرة السياسية والعسكرية.
5 - إن الولايات المتحدة الأمريكية عندما كانت تتوجه للحرب ضد العراق، كانت تعلم أن الانتصار الأكبر، هو الانتصار على القوى العالمية، التي تحاول أن تجد لنفسها مكاناً في قمة النظام العالمي الجديد، فهناك الاتحاد الأوروبي الذي تتعاظم قوته، وروسيا التي تُسرع في اعتلاء مكانة مناسبة، وهناك الصين التي تحاول بناء قوتها العالمية في خطوات ثابتة.
6 - قيام الولايات المتحدة الأمريكية باتخاذ العديد من الإجراءات في إطار تنفيذ إستراتيجيتها، الهادفة لتحقيق الهيمنة في إطار النظام العالمي الجديد، ومنها على سبيل المثال:
- الإطاحة بالشرعية الدولية، من خلال تهميش دور مجلس الأمن، الذي حاولت دول "الضد" استغلاله في عدم تمرير قرارات تعتمد عليها الولايات المتحدة كذريعة للحرب.
- الاكتفاء بتحالف محدود عوضاً عن تحالف دولي كبير على نمط ما حدث في حرب الخليج الثانية، وكانت بريطانيا وأسبانيا، هما الدولتان الرئيستان في هذا التحالف.
- توجيه إنذار بعواقب وجزاءات سوف تتعرض لها الدول التي عارضت الولايات المتحدة الأمريكية في شنِّ الحرب.
7 - إشعار المواطن الأمريكي وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، أن الولايات المتحدة الأمريكية قوية وقادرة على تحقيق النصر في أي مكان من العالم وحماية أمنه، وأنَّ أي قوى تناوئ الولايات المتحدة الأمريكية لا بد من تدميرها.
8 - ضغوط لوبي التصنيع الحربي في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي تمكَّن من إنتاج كم هائل من الأسلحة الذكية ولا بد له من تصريفها حتى يواصل تطوير التكنولوجيا العسكرية، وكذلك تسويقها في أرجاء العالم، وهو عامل مؤثر.
سابعا : رائحة النفط قي الاتفاقية العراقية الأمريكية[25]
غريب المفارقات في الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية عدم ذكر كلمة النفط سوى ثلاث مرات في نص بلغ عدد كلماته حوالي الستة آلاف، والتي جاءت ضمن البنود الخاصة بالتعاون في المجالات الاقتصادية؛والأغرب من ذلك أيضا ما أثارته بنية الاتفاقية التي خلت من أي قسم خاص بهذا الموضوع الإستراتيجي، رغم تضمّنها أقساما عديدة لقضايا أقل أهمية.والمضحك المبكي ما ورد من إلزام الطرف الأمريكي نفسه بدعم جهود العراق بهدف استثمار موارده بهدف التنمية الاقتصادية والتنمية المستدامة، ذلك في نصوص تأويلية لا توضح ولا تحدد معنى الدعم ومجالاته وآلياته وكيفيته، خلافا لما جاء في أقسام أخرى ذُكرت فيها تفاصيل دقيقة يمكن الاستغناء عنها.
رغم ذلك، إن التدقيق في نصوص الاتفاقية يظهر ما اخفيَّ من مرجعية تحدد مصير النفط العراقي، وتمنع في نفس الوقت أية حكومة عراقية من التفكير في العودة إلى زمن التأميم.ويؤكد ذلك ما ورد في الاتفاقية عن التزامات عراقية تجاه النظام العالمي، وبخاصة الشريك الأمريكي. وكذلك ما جاء من نصوص بشأن صلاحيات الحكومة العراقية في مجال تنفيذ الاتفاقية نفسها. وبذلك تتيح الاتفاقية الفرصة للحكومة العراقية لشرعنة الإجراءات التي اتخذتها خلال السنوات الماضية بهدف ترجمة الرؤية الأمريكية المعلنة في الجانب النفطي، وكذلك على القوانين والقرارات والاتفاقات التي يمكن ان تصدرها أو تبرمها مستقبلا.ومهما يكن من تأويل وإبهام في النصوص ثمة اتجاهات ثلاث حددتها الاتفاقية.
- أولا، الإطار العام الذي يُنظِّم العلاقات الاقتصادية بين بغداد وواشنطن ، ولتحديد الآليات التي تحكم عمل الاقتصاد العراقي. ذلك عبر عدة مسارات متصلة منها: "بناء اقتصاد عراقي مزدهر ومتنوع ومتنام ومندمج في النظام الاقتصادي العالمي"، و"دعم جهود العراق لاستثمار موارده من أجل التنمية الاقتصادية المستدامة"، و"إدامة حوار ثنائي نشط حول الإجراءات الكفيلة بزيادة تنمية العراق"، و"تشجيع توسيع التجارة الثنائية من خلال حوار الأعمال التجارية الأمريكي العراقي وبرامج التبادل الثنائية مثل أنشطة الترويج التجاري، و"الوصول إلى برامج مصرف التصدير والاستيراد". ذلك يعني أن الحكومة العراقية ملتزمة بشروط المنظمات الاقتصادية الدولية، وبخاصة منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين ، لجهة تحرير التجارة ، أو فتح الحدود أمام الاستثمارات الأجنبية إلى داخل العراق، كما تعني أيضا أن الولايات المتحدة ستعطى ميزة الدولة الأكثر رعاية في المجالات المذكورة .كما يلاحظ أن الاتفاقية قد وفرت للطرفين العراقي والأمريكي آلية ثنائية لضمان ومراقبة تنفيذ ما جاء فيها، بما في ذلك ملف التعاون الاقتصادي، عبر لجنة تنسيق عليا تجتمع بصفة دورية، فضلا عن لجان مشتركة إضافية ستتشكل حسب ما تستدعي الظروف.وكجزء من تطبيق الرؤية الأمريكية للانفتاح الاقتصادي العراقي، سيكون ضخ النفط من العراق إلى مصافي التكرير في مدينة حيفا في فلسطين المحتلة جزءا من المشاريع المتوقع تنفيذها في ظل الاتفاقية؛بحسب ما ذكرته صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية، نقلا عن مسؤول في وزارة الدفاع من أنه سيتم نقل النفط من كركوك، حيث ينتج نحو 40% من النفط العراقي، عبر الموصل والأردن ليصل إلى "إسرائيل".
- ثانيا،خصخصة النفط بحجة التنمية، فالاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ في أول كانون الثاني/ يناير 2009، ستحرر السلطة العراقية من القيود التي فرضها مجلس الأمن طوال العقدين الماضيين، وبالتالي ستكون نظريا حرة في إدارة شؤون الدولة، وستمارس سلطانها الكامل على قطاع النفط.أما واقعيا، فتشكل الاتفاقية تتويجا لمجموعة الإجراءات والقرارات التي اتخذها الطرفان على الصعيد النفطي خلال السنوات الخمس الماضية، والتي تأسست على رؤية سلطة الائتلاف المؤقت التي حكمت العراق حوالي 14 شهرا بعد احتلال بغداد.وتقوم هذه الرؤية التي تبنتها مختلف التشكيلات الحكومية العراقية على ضرورة خصخصة العمل في مجال النفط، وعقد اتفاقيات لتقاسم الإنتاج لتطوير القطاع النفطي ، وإعطاء الأولوية إلى شركات النفط الأمريكية.كما أن الاتفاقية تتوافق مع ما جاء في الدستور العراقي، الذي ينص على أن "الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط سترسمان السياسات الإستراتيجية الضرورية لتطوير الثروة النفطية والغاز الطبيعي لجلب المنفعة الأكبر للشعب العراقي، اعتمادا على أكثر التقنيات تطورا فيما يخص مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار".وبحسب الأجواء التي أحاطت بإقرار الاتفاقية الأمنية في مجلس النواب العراقي، مقدمة لإقرار قانون النفط المتعثر ، والذي ينهي سيطرة الدولة على هذا القطاع، وينص بشكل صريح على فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية.
- ثالثا، تعطي الاتفاقية الأمنية الشركات الأجنبية، وبخاصة الأمريكية، فرصة الحصول على الحصة الأكبر من النفط الذي ازدادت تقديرات حجم الاحتياطيات المتاحة إلى 350 مليار برميل، ما يعادل ثلاثة أضعاف الاحتياطيات المؤكدة حاليا، كما أنه يتجاوز الاحتياطيات السعودية المقدرة بنحو 264 مليارا، والإيرانية البالغة نحو 137 مليارا.
إن تحقيق الأهداف والخلفيات غير المعلنة في الاتفاقية يتوقف على مجموعة عوامل متصلة بالوضعين الأمني والسياسي، فعدم الاستقرار الأمني وعجز الحكومة المركزية وقبلها قوات الاحتلال على حماية حقول النفط وأنابيبه تبقى مسألة مهمة في هذا الإطار.ومن الناحية السياسية، ستكون الخلافات بين السلطة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان حول شرعية قيام الأخيرة بتوقيع اتفاقيات منفصلة مع شركات أجنبية دون موافقة أو حتى إشعار وزارة النفط في بغداد، محددا رئيسا في تحديد حجم الاستثمار الأجنبي في حقول الشمال.كما أن التحدّي الآخر يظهر في عدم وضوح أوجه إنفاق عائدات النفط ؛ حيث يشك كثيرون في توجيه هذه العائدات لتمويل الاحتلال الأمريكي، فيما تصرُّ الحكومة على أنها ستخصصها للنهوض بالبنية الأساسية للبلاد، ولتحسين الخدمات العامة، وتسديد الديون الخارجية.
ثمَّة حديث يطول حول الاتفاقية بكافة جوانبها،إلا إن رائحة النفط المنبعثة من بين النصوص الأمنية تجعل العراق ومستقبله مرهون بشكل أساسي حول ما يحاك حول نفطه،فكيف سيتصرف العراقيون أولا؟ وكيف ستتصرف الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض مع الإرث الثقيل؟أم أنَّ الأمر سيان بين الجمهوريون الجدد والديمقراطيون الجدد؟.أسئلة ربما يصح الإجابة عليها في القادم من الأيام.



[1] - Anthony H. Cordesman (Author); Iraq and the War of Sanctions: Conventional Threats and Weapons of Mass Destruction, Praeger Publishers, (1999).
[2] - Milan Rai (Author), Noam Chomsky (Author); War Plan Iraq: Ten Reasons Against War with Iraq, W. W. Norton & Company, (2003),p98.
[3] - راجع لمزيد التفاصيل، سول لانداو، الإمبراطورية الاستباقية.. الدليل إلى مملكة بوش، شركة الحوار الثقافي، بيروت، 2005.ص ص 78-79.
[4] - لمزيد من التفاصيل حول السياسة الأمريكية تجاه نفط الخليج ،راجح حافظ برجاس،الصراع الدولي على نفط الخليج،بيسان للنشر والتوزيع والأعلام،بيروت،ط1 ،2000.

[5] - Dr Khalil hussein,International & regional organization,Dar Al Manhal Al loubnanee,(2006),P P 62 – 64.
[6] - للمزيد راجع محمد حسنين هيكل، الإمبراطورية الأميريكية والإغارة على العراق، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 2003.
[7]- International Politics And Society- Christoph BertramM ,Europe's Best Interest : Staying Close To Number One . January 2003 .
[8] - أشتون كارتر ووليام بيري ، الدفاع الوقائي.. إستراتيجية أمريكية جديدة للأمن، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة،ط 1، 2001.ص ص 33-34.
[9] - راجع خليل حسين،قضايا دولية معاصرة:دراسة في موضوعات النظام العالمي الجديد،دار المنهل اللبناني،بيروت، 2006،ص 332 وما يليها.
[10] - نعوم تشومسكي، الدول المارقة.. حكم القوة في الشؤون الدولية، دار الكتاب العربي، نينوى للدراسات والنشر، دمشق، ط 1 ،2003.
[11] - نُشرت هذه الدراسة لنا في صحيفة اللواء،بيروت، 18-4-2006.
[12] For more see Emirates Center for Strategic Studies and Research (Editor); Oil in the Aftermath of the Iraq War: Strategies and Policies, Emirates Center for Strategic Studies,(2006),p 83 - 84.
[13] - For more details see : Gerry Schumacher (Author), Steve Gansen (Editor); A Bloody Business: America's War Zone Contractors and the Occupation of Iraq ,Zenith Press,(2006),2nd ch.
[14] - راجع بهذا الخصوص خليل حسين،الجغرافيا السياسية،دار المنهل اللبناني،بيروت،2009،الفصل التاسع عشر،ص ص 267 – 291.
[15] - For more see: Jane Boulden (Editor), Thomas G. Weiss (Editor); Terrorism and the UN: Before and After September 11, Indiana University Press (2004),pp12-14.
[16] - New York Times;22-6-2003.
[17] فثمة ميراث عمره عقود ساهم بدرجة أو أخرى في صياغة التفكير الاستراتيجي لإعمدة حكم جورج بوش الابن، وبالتالي في صياغة مشروع القرن الأميركي الجديد، ثم وثيقة الأمن القومي الجديدة التي بلورت ما سمي بعقيدة جورج بوش.للمزيد راجع خليل حسين،النظام العالمي الجديد والمتغيرات الدولية،دار المنهل اللبناني، بيروت،2009،الباب الثالث.
[18] - هذا الأمر دعا إلى تحريك دعوى قضائية ضده من جانب مكتب المحاسبة بهدف دفعه للإعلان عن تفاصيل اتصالاته مع إصراره على الرفض، وادعاء أن تدخل المكتب المذكور يعد تطفلا على سرية مشاوراته في مجال الطاقة، بما يهدد الأمن القومي.والمثير للانتباه أنه ، بع أيام قليلة تمَّ إسقاط الدعوى القضائية ضد تشيني تحت ضغوط الجمهوريين بعد أن حصلوا على الأغلبية في الكونغرس خلال الانتخابات ، ليسجّل رجال صناعة النفط وصقور الإدارة نجاحا آخرا، وخطوة متقدمة على طريق تنفيذ مشروع القرن الذي يهدف إلى الهيمنة على مصادر الطاقة.

[19] - Washington Post ;9-5-2003.
[20] - راجع بهذا الخصوص:خليل حسين،العدوان الإسرائيلي على لبنان، الأبعاد والخلفيات،دار المنهل اللبناني،بيروت،2006،الفصل الأول،ص ص17 وما يليها.
[21] لمزيد من التفاصيل حول خلفيات وأهداف الغزو راجع:محمد حسنين هيكل،الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق،دار الشروق،القاهرة،ط 1 ،2003.
[22] - Center Of Military History (Author); American Military History, Kessinger Publishing, LLC, (2004),pp 121-122.
[23] - راجع خليل حسين،النظام العالمي الجديد ومستقبل العالم الثالث،مجلة مقاربات، المركز اللبناني للبحوث والتوثيق والإعلام،بيروت،العدد الأول،شتاء 1991.
[24] - For more see: Scott Taylor (Author); Spinning on the Axis of Evil: America's War Against Iraq, Esprit de Corps Books, (2003),pp 78 -79.
[25] - نشرت لنا هذه الدراسة في الخليج،الشارقة،16-12-2008.