10‏/09‏/2009

خلفيات التشكيّلة الحكومية اللبنانية وتداعياتها

خلفيات التشكيّلة الحكومية اللبنانية وتداعياتها
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
بصرف النظر عمَّا ستؤول إليه تشكيلة الحكومة،ثمّة أبعاد وتداعيات متنوعة ومتعدّدة، حكمتا ظروف إعلان التشكيلة وما يمكن أن ينشأ عنها؛وفي حقيقة الأمر ليس بالجديد القول أنَّ مختلف حقبات تاريخ لبنان السياسي تعجُّ بالمؤثرات الخارجية والداخلية لطبيعة أنماط الحكومات وسياساتها التي حكمت لبنان، بخاصة مرحلة ما بعد اتفاق الطائف.وإذا كانت هذه السمة ليست بسابقة ، إلا أنَّ الجديد فيها، حجم الاستثمارات الداخلية والخارجية التي بدأت تؤثر بشكل مباشر في طبيعة وتركيبة الكيان اللبناني، بحيث لامست الأسس التي يقوم عليها وبالتالي خطورة انهيارها.
وإن كان التأخير في إعلانها وبالشكل الذي تمّت فيه، له ما يماثلها في تشكيل الحكومات السابقة،فإن ظروفها الحالية أخذت منحى أكثر شدّة لجهة الواقعين الداخلي والخارجي،فما هي هذه الأبعاد وما هي تداعياتها؟ وهل بالإمكان القول أنَّ لبنان يمرُّ هذه المرة بامتحان عسير، ربما يقرّر مصيره في خارطة سياسية تضجَّ بمشاريع هلامية لم تتكوّن صورها بعد؟.
في الوقائع،ثمّة نقاط ارتكاز كثيرة دعمت تأخير إعلان التشكيلة،إن لم يكن إرجاءها إلى هذه الفترة بالذات،وبطبيعة الأمر تُعتبر هذه النقاط ليست وحيدة المصدر، ولا الاتجاه وبالتأكيد الاستثمار،فهي نتاج تقاطع مصالح متنوعة الأهداف والخلفيات،فإن خسر فيها طرف لن تكون حجم الأرباح للخصم المقابل متوازية بالضرورة، وبالتالي هي أقرب ما تكون إلى نظرية الفوضى الخلاقة مع بعض التفاصيل الضرورية التي تميّز الواقع اللبناني.
إقليميا ودوليا، ثمّة حاجات متبادلة لشراء الوقت المستقطع من عمر أزمات وملفات المنطقة الكبيرة،فإسرائيل التي أعلنت جهارا ومنذ إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة رفضها إشراك حزب الله تحديدا في الحكومة،واعتبار أي سلطة ستتولى الحكم في لبنان مسؤولة مباشرة عمَّا ستؤول إليها الأمور، وهي بذلك حاولت رسم إطار وسياسات الحكم في لبنان سلفا،وعلى الرغم من عدم تبنّي أي طرف لبناني لهذا المطلب،بل ثمَّة رفض قاطع لها وبخاصة الفئات السياسية الوازنة،فإن المحاولات الخارجية وبخاصة الأمريكية لم تتوان عن دعم هذه المقترحات وتظهيرها بمطبات سياسية وصلت إلى الحدود الأمنية غير المعلنة؛وبذلك من السهل الاستنتاج ثمّة مصلحة إسرائيلية واضحة جدا في نسف أي صيغة حكومية وفي أحسن الأحوال إرجاءها وإبقاء الواقع اللبناني في مرحلة الإنعاش السياسي لاستعماله في صيغ تصريف الأعمال الخارجي كما الداخلي، بانتظار منعطفات إقليمية أخرى تعيد إنتاج وقائع قابلة لخط الأوراق مجددا. علاوة على ذلك إن إبقاء الوضع الداخلي اللبناني على ما هو عليه من وجهة النظر الإسرائيلية،أمر من شانه إبقاء لبنان في موقع غير القادر على تحديد أي موقف تجاه أي استحقاق طارئ أو محدَّد وهي بطبيعة الأمر كثيرة وآتية.
في الجانب الإقليمي الآخر الضاغط باتجاه الاستثمار الأمريكي للواقع اللبناني وتشكيل حكومته،ثمَّة اتجاهان مهمان وظاهران،هما الضغط باتجاه سوريا وإيران أيضا.فبعد أن استُبعِدت سوريا نسبيا عن ملف المحكمة الخاصة بلبنان،جاء تأليب وتأجيج العلاقات السورية العراقية على قاعدة تفجيرات بغداد واتهام سوريا بها ،ومطالبة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي،بمحكمة جنائية دولية للتحقيق بالتفجيرات،الأمر الذي يستدعي مزيدا من خلق بيئة إقليمية داعمة لهذا التوجّه إذ لم تذعن سوريا لمطالب واستحقاقات أخرى يبدو أنَّ دمشق مطالبة بالإجابة عليها،ويبدو أنَّ لبنان ووضعه قد أعيد نصبه مجددا في هذا الاتجاه عبر الحكومة،باعتبار أنَّ من مصلحة سوريا تشكيل حكومة لبنانية لا تناصب العداء لها.فتأخير تشكيل الحكومة في لبنان يربك سوريا وسط موجات الاستحقاقات القادمة رغم الانفتاح الغربي عليها مؤخرا.وعلى الرغم من أنَّ ثمة من يقول، أنَّ من مصلحة سوريا أيضا أن تكون الحكومة وتشكيلها مادة لأذرع السياسة الخارجية السورية،فإن مقاربة الموضوع من وجهة برغماتية صرف، تثبت عكس الادعاء؛باعتبار أنَّ البيئة المستقرة في مجال العلاقات بين الدول وبخاصة اللبنانية السورية هي أكثر قابلية لتبادل المصالح،وعليه إنَّ بقاء الوضع على ما هو عليه لا يخدم سوريا بشكل أفضل مما إذا تغيّرت نوعية العلاقة عبر حكومة تحفظ توازنات الداخل اللبناني من جهة وتعرف كيف تستغل الاتفاق الخارجي عليها.
أما في الجانب الإيراني،فثمة استحقاقان أساسيان في برنامجها النووي وكلاهما يحتاجان لعدة شغل غربية وإيرانية في ملفات إقليمية ومنها لبنان. ففي اجتماع الخمسة الكبار إضافة إلى ألمانيا في الثاني من أيلول الحالي،واجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في التاسع منه أيضا، تكوّنت ظروف الشد والجذب الإقليميين والدوليين،وإذا كان هذا الملف يستدعي من وجهة نظر الطرفين الإيراني والغربي مزيدا من الوقت المستقطع،فإن الساحة اللبنانية ،تبقي عناصر التوتير وعدم الاستقرار عاملا إضافيا باتجاه التأخير بحسم الوضع الحكومي اللبناني،بهدف إبقائه أيضا بيئة قابلة للتفجير وسط غياب حكومي قادر على اتخاذ ما يلزم من مواقف .
وإذا كانت جميع هذه الظروف قد تضافرت وتقاطعت باتجاه تأخير الإعلان عن الحكومة،فما هي مفاتيح الإعلان عنها في هذه الظروف بالتحديد؟.في الوقائع لقد اخذ الرئيس المكلف تشكيل الحكومة كامل الوقت في مشاوراته بصرف النظر عن طبيعتها ومآلاتها،إذ كان بالمقدور إعلان نفس التشكيلة منذ الأسبوع الأول للتكليف،إذ لا مستجدات ولا شروط خاصة في هذا الإطار ظهرت حاليا،فما هو العامل الضاغط الذي دفع بالإعلان عنها في جوٍ مؤكد بأن المعارضة لن تقبل بها لا شكلا ولا مضمونا؟
إن التدقيق في الحراك الدبلوماسي الذي سبق إعلان الحكومة يقودنا إلى زيارة المسؤول الأمريكي زلمان خليل زاده،إلى لبنان دون الإعلان عنها لا توقيتا ولا برنامجا،بل دخل إلى بيروت بطريق الخِلسة الدبلوماسية دون المرور بأدنى ترتيبات اللياقات البروتوكولية،حيث عقد اجتماعات دون الإعلان عن طبيعتها أو نوعها أو مستواها أو نتائجها،لكن النتيجة الوحيدة التي ظهرت للعيان تأزيم الخطاب السياسي وتصعيد لهجته المفاجئة، بعد سلسلة من اللقاءات بين أطراف الأزمة الحكومية التي انعكست إيجابا على مستوى التخاطب السياسي؛ ومن ثمَّ الإعلان عن التشكيلة الحكومية التي رفضتها المعارضة مقرونة بالإصرار على الحوار للتوصّل إلى حل مناسب.
إن الظاهر المؤكد، أنَّ التشكيلة أتت وفقا للتوقيت الأمريكي الهادف إلى استثمار الوضعين الإيراني والسوري، وما لهما من امتدادات داخلية لبنانية قابلة للصرف السياسي في غير اتجاه.فما هي تداعياتها والى أين يصوَّب فيها وعِبرها؟.في هذا المجال يمكن تسجيل العديد من الملاحظات والآثار ومنها:
- في المبدأ لم تصعِّد المعارضة مواقفها إلى الدرجة التي يمكن أن تقلب الطاولة،بل تمسّكت بالحوار بهدف الوصول إلى حلٍ يمرّر قطوع الحكومة في ظرف هو الأشد خطورة على لبنان بعد اتفاق الطائف.وبذلك فإن المعارضة تُدرك حراجة الوضعين الداخلي والخارجي وهي قابلة لتقديم بيئة مرنة بحيث لا تفتح المجال لفرط الصيغة الحالية لجهة توزيع القوى السياسي في التشكيلة لجهة 15/10/5،باعتبار أنَّ البديل عن تأزيم الوضع،هو اعتذار الرئيس المكلّف وإعادة خلط الأوراق بحيث من الصعوبة بمكان، قدرة أي طرف على ضبط قواعد اللعبة من جديد، وإعادة إطلاق أفكار أو اقتراحات قابلة للحياة.
- إن عدم الوصول إلى حلٍ مناسب، سيؤدي حكما إلى إعادة المشاورات النيابية الملزمة لتكليف جديد،ولن يكون سهلا إعادة تكليف الرئيس المكلف الحريري من دون شروط مسبقة تحت الطاولة وفوقها،وبالتالي إعادة إنتاج أزمات إضافية جديدة ليست اقل تعقيدا وخطورة عما سبقها،بخاصة إذا تمَّ الاتجاه إلى إعلان تشكيل حكومة من لون واحد،الأمر الذي سيشكل سابقة إضافية في الحياة الدستورية والسياسية في لبنان تمهد لتداعيات تلامس تهديد الثوابت الوطنية والكيان في آن.
- إن حاجة جميع الأطراف الإقليميين والدوليين إلى مزيد من الوقت، يفترض التنقّل بين ألغام الحكومة اللبنانية بدقة متناهية،ما يستدعي من طرفي المعادلة اللبنانية التروّي والتمهّل في اتخاذ قرارات ذات طابع استفزازي أو متطرف،الذي يعني بشكل أو بآخر أنَّ تداعيات التشكيلة ستستمر نقاشا لبعض الوقت قبل الوصول إلى مفترق الطريق الذي سيتيح اتخاذ الخيارات، إمَّا تفهما وتهدئة ،وإمَّا تعنتا وتصعيدا،وفي كلا الحالين أمرٌ مرتبط بواقع ليس للبنانيين تأثير كبير فيه.
- ربما قدر التركيبة السياسية اللبنانية أن تبقى أسيرة توازنات ومواقف متغيرة،وربما قدر رئيس التكتل الديموقراطي وليد جنبلاط أيضا البقاء مفتاح الحل والربط في هذه المرحلة،فهو إن أحسن مسك العصا الحكومية من النصف،من الممكن أن تُدوَّر الزوايا ،وبالتالي فتح الوضع القائم على أفكار جديدة قابلة للحياة والبناء عليها. وما يرجِّح هذه الفرضية تصريحات جنبلاط ومواقفه الدقيقة التي تراعي النقاط الحساسة لكلا الطرفين.
- وبصرف النظر عن القدرة أو الرغبة اللبنانية في التوصّل إلى نقاط مشتركة يبنى عليها ، فإن شروطا إضافية ينبغي توافرها ،من بينها التفاهم بين بعض الأقطاب العربية ومن بينها سوريا والسعودية ومصر على بيئة تُهدأ غليان الوضع اللبناني، وهو أمرُ ممكن التحقق رغم صعوبته وفقا للظروف القائمة.
يبقى اللبنانيون وبسوادهم الأعظم هم أصحاب المصلحة الأولى في الوصول إلى حلٍّ دائم ومناسب لمشاكلهم التي لا تعد ولا تحصى،وهو أمرٌ بات حلما من أحلام اليقظة؛فإلي متى سيظل اللبنانيون معتصمون بحبل الحكومات ومن يؤثر فيها،والى متى سيبقى الاستخفاف بالعقول وكأنه أمرٌ كان مقضيا؟