13‏/12‏/2010

زلزال دبلوماسي على مقياس ويكيليكس

زلزال دبلوماسي على مقياس ويكيليكس
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
www.drkhalilhussein.blogspot.com
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 5-12-2010
بصرف النظر عن إمكانية تورط الإدارة الأمريكية من عدمه بنشر وثائق تعتبر حساسة في تاريخ نشرها،ثمة أسئلة وتداعيات كثيرة تدور بمجملها حول خلفية التوقيت وانتقائية الوثائق المنشورة.سيما وان هذه الدفعة الثانية التي شملت مروحة واسعة لجهة السياسات المستهدفة أم لجهة الأشخاص القيمون عليها أو الذين شاركوا في تحديد معالمها الفضائحية اذا جاز التعبير.
فالربع مليون وثيقة ليست وحدها كافية لتظهير صورٍ رمزية تحاول الإدارة الأمريكية إبرازها في الواقع السياسي الدبلوماسي العالمي، في وقت تعاني هي نفسها من تداعياتها السلبية.فبصرف النظر أيضا عن دقة وصحة ما جاء فيها، فهي مشاركة بشكل أو بآخر في تركيب وتكييف أطرها السياسية العامة والخاصة في آن معا،ولكن الملفت في الأمر ان إخراج هذه الوثائق إلى النور رغم حداثة سنها تعتبر مفارقة في التعامل الأمريكي وغير الأمريكي في ضرب أعراف دبلوماسية متعارف عليها،مفادها إخراج الوثائق إلى العلن بعد مضي عقود طويلة على أحداثها.ما يعني ان الأمر يتعدى الشفافية وهي مسألة ليست بالضرورة أمرا متعلقا بالشهامة السياسية غير الواردة أصلا في هذا المقام.
فالوثائق الفضائحية طالت غير موقع سياسي وفي الوقت الذي تحتاج جميعها مزيدا من عمليات التستّر على سلوكها السياسي في علاقاتها الدولية والإقليمية،وكأن في هذه الوثائق من جاء ليصب الزيت على النار ،ويجعل هذه المواقع وقودا لإشعال فتن وحروب وتأليب دول بعضها على بعض.
فبينما يشهد الشرق الأوسط برمته حراكا قويا ولافتا لاستيعاب أزمة لبنان وقرار المحكمة الظني،جاءت بعض هذه الوثائق لتباعد بين أطراف أساسيين في كثير من الملفات اللبنانية، فالتقارب السعودي الإيراني معطوفا على السوري أيضا، وكذلك الحراك القطري التركي، يحتاج إلى المزيد من الحياكات السياسية الهادئة لإخراج لبنان من أزمته،أتت تسريبات الوثائق لتستهدف هذا الحراك وهذه المحاولات.علاوة على إطلاق العنان لمخيلة الكثيرين للسباحة في ما يفترض من إسرار المواقف والسياسات التي أعلن عنها.
إضافة إلى ذلك،ثمة خلفيات غير بريئة للتوقيت الحالي وبخاصة تجاه بعض المواقف الخليجية باتجاه إيران، فالأمر بالطبع ليس حبا بطهران ولا غراما أمريكيا بالمواقف الخليجية، بقدر ما هو تسليط الضوء على مواقف سياسية يمكن ان تستخدم في تأليب الأوضاع الداخلية لبعض هذه الدول،وبخاصة في ظل الوضع الخاص لبعضها.
وكما كان التركيز في الموجة الوثائقية السابقة،كذلك الحالية التي طالت هذه المرة جانبا شخصيا لكثير من الحكام والمسؤولين،وهي سابقة لافتة في التعامل السياسي والدبلوماسي الدولي لأشخاص لا زالوا يشغلون مناصب كبيرة في دولهم. وكأن كثيرا من المحرمات باتت قاب قوسين أو أدنى لتبديل أساليب التعامل معها.
لا شك ان لهذا الأسلوب من النشر تداعيات خطيرة على دول ومواقع كثيرة، من بينها إرباك دول كثيرة في علاقاتها الإقليمية والدولية،كما ستشكل سوابق جديدة في التعامل مع كثير من المراسلات والبرقيات السياسية والدبلوماسية، بحيث من الممكن ان تعود للظهور مجددا سياسات الدبلوماسية السرية بعدما دفع جهد كبير في السابق لتخطيها والابتعاد عنها قدر الإمكان،الأمر الذي يمكن ان يتسبب بإشعال حروب وصراعات ونزاعات لا يعرف أحدا نتائجها ونهاياتها.
من الطبيعي ان تكون للدبلوماسية العلنية مساحات أوسع وأعمق في الحياة السياسية الدولية وبخاصة في الفترات الصعبة،إلا ان نجاحها يتوقف على كثير من العوامل من بينها احترام المواقف السياسية لأصحابها وعدم محاولة استغلالها بطرق رخيصة، كما الابتعاد عن التشهير في القضايا الشخصية التي لها بالغ الأثر في الحياة السياسية لمن يتولون الأمر والنهي.
بالطبع ثمة ملايين الوثائق السرية الهامة التي مضى عليها عقود وعقود ،لم تكشف بعد،وهي متعلقة بكثير من قضايانا نحن العرب والمسلمين،فهل سيتجرأ، من يعنيهم الأمر ويكشفون عنها،بالتأكيد لن يحصل ذلك يوما ،وجل ما يمكن ان يكشف عنه سيل من الوثائق المليونية وان أدانت من كشفها،تبقى الوجهة الحقيقية لأهدافها ليس نشر الوثائق بل نشر بيئة الفوضى الخلاقة التي ستساعد بالتأكيد على مراكمة عشرات الألوف بل الملايين من الوثائق الأخرى التي ستكون جاهزة وغب الطلب للكشف عنها عندما تحين فرص الدسائس وإطلاق النزاعات والحروب والصراعات.
نحن في هذا الشرق العربي،بحاجة إلى مزيد من الشفافية والوضوح في علاقتنا مع أنفسنا ومع غيرنا، عندها وعندها فقط لا تنفع تسريبات مثل تلك الوثائق ولا غيرها ان وجدت،فهل نعقل ويعقلون ذلك، ربما الإجابة على ذلك يتطلب نشر وثائق أخرى أكثر حراجة وأسى،تتسبب بزلازل لن ينجو الكثير من تردداتها وتداعياتها!.