28‏/02‏/2012

ايران وجيوبولتيكا البحار المفتوحة

إيران وجيوبولتيكا البحار المفتوحة
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في جريدة الخليج الإماراتية بتاريخ 28/2/2012

قبل عام دشنت إيران سياسة جغرافية هي أقرب إلى الجيوبولتيكا من أي أمر آخر،بعدما عبرت سفنها البحرية قناة السويس،فكانت رسالة واضحة الأبعاد في ظل انطلاق الحراك المصري وغيره آنذاك، اليوم عبرت بارجتان حربيتان القناة وصولا إلى مناطق بحرية تشكل حساسية جيوسياسية إقليمية ودولية،مترافقة مع اختلاف الظروف نسبيا،كما تغيّر حجم وقوة اللاعبين الإقليميين،فما هي أبعاد وتداعيات هذه السياسة؟وهل يمكن صرفها سياسيا وأمنيا وعسكريا في هذه الأوضاع؟
ثمة نظريات كثيرة في الجغرافيا السياسية غالبا ما تتحول وبسهولة إلى وجهات جيوبوليتيكة،وهنا تكمن حساسية الموضوع بتداعياته على دول الجوار لأي دولة تتخذ سياساتها الخارجية ذلك النطاق والإطار. وغالبا أيضا ما تحوّلت تلك النظريات وتطبيقاتها إلى تجميع عناصر وعوامل تشكل قلقا وتوجّسا وخوفا لدول الجوار الجغرافي لتلك الدولة أو الدول التي تعتمد مثل تلك السياسات.
في الواقع أيضا،ليس بمستغرب على مطلق دولة طامحة للعب أدوار إقليمية كبرى ان تنحو باتجاه تلك السياسات،إلا ان الأهم في ذلك تحديدا اختيار الظرف المناسب للتنفيذ،لئلا يتحوّل الأمر إلى مبرر لإطلاق النزاعات والحروب التي ليست بالضرورة تخدم أو تفيد هذه السياسات.
استعملت إيران قبل شهر ونيف مضيق هرمز لإيصال رسائل باتجاهات مختلفة منها القريبة والبعيدة،وقبلها العبور الأول لقناة السويس وهي سابقة في ظل الجمهورية الإسلامية،العبور الثاني باتجاه المتوسط وبالتحديد الشواطئ السورية، مع الإعلان الواضح باستتباع هذه الخطوة بخطوة بحرية أخرى باتجاه المحيط الأطلسي، ما يعني أيضا قدرتها العملية والفعلية على الإبحار في أعالي البحار أيضا وفي المحيط الهادئ الذي يعتبر بحر العرب جزءا ومدخلا له.
في التحليل المبدئي، يعتبر التوسّع الجيوسياسي البحري الإيراني ان لم يكن الجيوبولتيكي، مسارا نوعيا في السياسات الخارجية الإيرانية،وهو طموح عالي الكلفة إقليميا ودوليا، فمن الصعب على الدول المعنية به، بلع وهضم تلك الرسائل بيسر وسهولة،ان لم تكن هذه الخطوة هي سياق سياسي لمسار تفاوضي قادم يهدف إلى المبادلة فيه بأحجام أخرى من النوع الاستراتيجي، فما هي الأثمان المحتملة لذلك؟
أولا،ان الإبحار الإيراني في أعالي البحار وصولا إلى مناطق إستراتيجية حساسة ، هو من نوع التحدّي القابل للصرف السياسي بحدود معينة، لكنه في المقابل من الصعب التعويل عليه لحسابات إستراتيجية ذات وزن عالٍ،باعتبار ان الإبحار في تلك الحالات يتطلب بيئة إضافية غير متوفرة من حيث المبدأ لدى إيران، من بينها استمراريته والقدرة على حمايته،كما توفير البيئة الرادعة له في حال عدم قبول الخصم به، ما يعني ان طهران باستطاعتها استثماره لأهداف محددة في المكان والزمان المناسبين بالنسبة لها،ولا تستطيع المضي في كسب مواقف أو فرض برامج ذات أبعاد إستراتيجية.
في الحالة الراهنة، التوجه نحو البحر المتوسط وبالتحديد الساحل السوري رسالة واضحة للمعنيين في ملف الأزمة السورية، وهي تفسير واضح على ان الأمر بات يستدعي رسائل نوعية بصرف النظر عن نتائجه العملية. كما هي رسالة واضحة لإسرائيل بأن سفنها الحربية هي على مسافة لصيقة منها،وهي بطبيعة الأمر لا تحتملها إسرائيل لذلك ترافق الوصول الإيراني إلى المتوسط مع وصول المستشار الأمريكي لشؤون الأمن القومي إلى إسرائيل،الأمر الذي يضع الموضوع ضمن التحديات الجدية التي يفترض عدم تمريره أو تبسيطه من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية.
ان تمكّن طهران من تثبيت تلك السياسة البحرية ولو بحدود معينة، يعني بشكل أو بآخر تكريس جيوسياسي لمساحات أرضية مترامية الأطراف تبدأ من إيران نفسها مرورا بالعراق وسوريا ولبنان، علاوة على تشكيل سوابق المرور غير الاعتراضي في كل من مضيقي باب المندب جنوب البحر الأحمر وقناة السويس في شماله،وان كان هذا المرور مغطى قانونا باتفاقية القسطنتينية لعام 1888.
في المرور الأول كانت الولايات المتحدة الأمريكية لا زالت رسميا في العراق ،وكانت إيران تمثل الدولة المتوجسّة من ذلك الاحتلال،اليوم وفي العبور الثاني الذي سيليه الثالث باتجاه المحيط الأطلسي، واشنطن رسميا خارج الصورة العراقية في الوقت الذي تشغل فيه طهران حيزا مهما من الساحة العراقية وهي التي بحاجة لعدم المسِّ بأي امتداد جيوسياسي شرقي والمعني به هو سوريا بالتحديد.
في الانطلاق السياسي البحري الأول قبل شهر،استعملت طهران التهديد بإغلاق مضيق هرمز كرزمة رسائل،فاستقبلت وزير الخارجية التركية داوود اوغلو، وسلمته همسات التفاوض بشأن البرنامج النووي، لم تنطلق المفاوضات ،بل وجِهت رزم إضافية من العقوبات الدولية على طهران، قابلته بالإعلان عن انجاز نووي آخر متصل بالتخصيب ذات الآليات المتسارعة،فماذا سيكون ثمن الإبحار الثاني؟
الظروف الإقليمية والدولية في المنطقة دقيقة جدا،ولا تحتمل المقايضات من العيار الاستراتيجي، بخاصة اذا كانت تداعياتها المستقبلية تشكل أخطارا صلبة على إسرائيل من الوجهة الكيانية ،الأمر الذي يبقي باب الأزمة مفتوحا على أبواب التصعيد وربما وصولا إلى اللجوء للكي وهو صورة من صور الحرب التي ستكون مكلفة ومؤلمة في آن معا.
ان الوصول للبحر الأبيض المتوسط، يستلزم المرور في مضيقين يشكلان تاريخيا مفتاحا للأمن القومي العربي، والمفارقة ان هذين المضيقين يجمعان بين دفتيه بحر أحمر سببه المرجان،فهل سيكون حَمارته هذه المرة دما يسال من حرب إقليمية عظمى من السهل ان تنزلق إلى حرب ذات أبعاد عالمية؟.