22‏/03‏/2014

موسكو وكييف : غرام سياسي وانتقام اقتصادي

موسكو وكييف : غرام سياسي وانتقام اقتصادي
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
بيروت : 7/3/2014
نشرت في الخليج االاماراتية بتاريخ 10/3/2014
   عندما دخل الاتحاد السوفياتي الامم المتحدة ، أصرَّ على اعتبار اوكرانيا دولة كاملة العضوية في المنظمة الدولية ، بصرف النظر عن وضعها الاتحادي مع موسكو؛ وفي العام 1954 وصل الامر بالرئيس السوفياتي خروتشوف وهو من اصل اوكراني ، إلى تقديم شبه جزيرة القرم إلى اوكرانيا كهدية عيد ميلاد لرئيسها انذاك.هذه العلاقة التي قلَّ نظيرها في تاريخ الدول ، توحي بأن ثمة خلفيات كثيرة تغطي الالتباس الحاصل في السياسة والاقتصاد وحتى الأمن.
      فأوكرانيا التي تعد الثالثة في الترتيب السوفياتي سابقا بعد روسيا وروسيا البيضاء، ظلت قبلة موسكو السياسية والأمنية بعد العام 1990، بالنظر للعديد من الاعتبارات المتعلقة بالجغرافيا السياسية للبلدين ، اضافة إلى الطبيعة الاستراتيجية التي تنظر فيها موسكو لمجمل ما تمثله كييف ربطا ووصلا بقضايا اقليمية ودولية أخرى.
       فمنذ قرون ، ظلت روسيا القيصرية ، وموسكو السوفيتية ومن بعدها الليبرالية ، تعتبر ان المياه الدافئة هي الرئة التي تتنفس منها ، وبالتالي لم تتخل في يوم من الايام عن اي عنصر مساعد لهذا الخيار المكلف عمليا. وفي قراءة بسيطة وغير معقدة ، تظهر ان ادارة الرئيس فلاديمير بوتين للازمة التي افتعلت في القرم، هي تعبير واضح عن الاصرار الروسي في المضي بهذا الخيار ، ولو بطرق تعيد موسكو إلى زمن بابراك كرمل في افغانستان،. بداية اوحى بوتين ان الخيار العسكري في اوكرانيا هو خياره الانسب ، وعندما شعر بالمواجهة الغربية الجدية ، تراجع بلغة دبلوماسية فائقة ، فعرف الغرب كيف يقرأها ويبني عليها. واليوم تدار الازمة الاوكرانية على طريقة الاحتواء المزدوج بين العواصم الغربية من جهة وموسكو من جهة أخرى.  لكن كيف ستكون ادارتها مستقبلا بين الطرفين.
     تحاول روسيا اليوم تقطيع الوقت الدبلوماسي والسياسي ريثما يتم الاستفتاء حول شبه جزيرة القرم وهو عمليا سيكون لمصلحتها ، لكن وبصرف النظر عن خيار القرم الانضمام إلى روسيا ، سيظل امرا قابلا للاستثمار ربطا ووصلا بغيرها من القضايا الاقليمية الساخنة ومنها الازمة السورية مثلا.فالغرب  وفي طليعته الولايات المتحدة الامريكية ،تعتبر انه لم يتم تحقيق الشيء الكثير في الأزمة السورية ، وبالتالي ثمة حاجة إلى اوراق أخرى يمكن من خلالها تشتيت الجهد الروسي ، ومن هنا اثارة الزوبعة الاوكرانية في هذا الوقت بالتحديد. والسؤال الهام لماذا اوكرانيا وليس غيرها حاليا؟
     اذا كان دخول موسكو على خط الازمة السورية من باب الحفاظ على مصالحها الحيوية في البحر الابيض المتوسط وبالتحديد قاعدتها البحرية في طرطوس، فان الحفاظ على هذا الموقع يتطلب أيضا الحفاظ على خطوط الدعم الأساسية له ، والمتمثلة في ميناء سيباستيبول في القرم الذي يضم عمليا البيئة الاستراتيجية البحرية الروسية للعبور إلى مضيقي الدردنيل والبوسفور التركيين قبل الوصول إلى البحر الابيض المتوسط. وبدون ذلك لا معنى لأي تواجد عسكري بحري روسي في المتوسط من دون تأمين خلفية الدعم الاستراتيجي.
      وإذا كانت الادارة الروسية للازمة الاوكرانية تبدو في سياق لعبة حافة الهاوية مع الغرب ، إلا ان هذا الأخير يمارس نفس اللعبة من وجهة نظر اقتصادية سياسية ايضا. فموسكو التي استعملت الخناق الاقتصادي على كييف، تواجه عمليا بمساعدات مالية واقتصادية غربية ، يُقال انها عاجلة وتقدر بحوالي 15 مليار دولار  ستضخ قريبا لإنقاذ الاقتصاد الاوكراني، لكن في مقابل سياسات يعتبرها القادة الاوكرانيون الجدد انتحارية ، لا سيما الشق المتعلق بالسياسات التي ستفرض من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، وجلها متعلق بسياسات خصخصة القطاع العام، وترشيد الادارات العامة، علاوة على السياسات الضريبية الموجهة إلى الشرائح الاجتماعية ذات الدخول المتواضعة، والذي يعتبره الكثير من المراقبين سياسات ذات طبيعة سلبية ، سرعان ما ستنهار امام وقائع مالية واقتصادية تتطلب المزيد من العناية الدولية الفعلية.
      لم تكن منطقة القرم يوما خارج الحسابات الوازنة للإمبراطوريات والدول المؤثرة عبر التاريخ القديم والحديث ، واليوم تطل الازمة الروسية الاوكرانية  على خلفية منطقة القرم وما تمثله بالنسبة لموسكو ، وإذا كانت هذه القضية قد شكلت في الماضي بيئات اقليمية ودولية اشعلت حروبا مدمرة ، فاليوم يبدو انها متجهة إلى خيارات اخرى، من ضمنها مواجهات سياسية واقتصادية وربما عسكرية ،اذ لم يقتنع جميع المعنيين بهذه الأزمة ، ان موسكو سارت بحسابات ربما متهورة ، سيما وان الغرب كما يقال مختبئ على مفترق اوكرانيا، الذي يعتبرها معركته الأساسية لثني موسكو عن بعض سياساتها في اوراسيا  وكذلك الشرق الأوسط.