03‏/04‏/2014

القرم وحق تقرير المصير في القانون الدولي

القرم وحق تقرير المصير في القانون الدولي
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 29/3/2014

       لم تكن شبه جزيرة القرم يوما بعيدة عن الحسابات الاستراتيجية للقوى الاقليمية الكبرى في المنطقة، كما لم تكن بمنأى عن استغلال القوى العظمى لحساسية هذه المنطقة. فكانت  سببا مباشرا لاندلاع الحروب، وممرا ضروريا لانجاز الاتفاقات والمعاهدات،بالنظر إلى حساسية وضعها وارتباطه بمصالح الاطراف الفاعلين فيها.
      فشبه جزيرة القرم ، الخاصرة الرخوة في الكيان الاوكراني ، كانت سابقا مسرحا لنزال عثماني - قيصري روسي بين الاعوام 1768-1774 والتي انتهت بمعاهدة كويك كايناركا ، التي أقرّت بأن شبه الجزيرة ، لن تستقل عن الإمبراطورية العثمانية، ولن يتم ضمّها من قبل أي بلد آخر وخصوصا الإمبراطورية الروسية. إلا أن روسيا لم تحترم الاتفاقية التي حيّدت منطقة القرم وانتهى الأمر بضم موسكو لشبه الجزيرة بأكملها عام 1783. وبحجة الحفاظ على الموروث الارثوذكسي تمكنت روسيا من السيطرة على مناطق كثيرة في محيطي الدردنيل والبوسفور، الامر الذي استفز السلطنة ، التي استقوت بدعم اوروبي كبير وتمكنت من الحاق الهزيمة بموسكو بعد حرب استمرت ثلاث سنوات بين الاعوام 1853 و1856. لكن الوضع تغير بعد الحرب العامية الاولى ، وباتت شبه الجزيرة جزءا من الاتحاد السوفياتي. وغريب المفارقات في مصير شبه الجزيرة ان اهداها الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف في العام 1954 وهو من اصل اوكراني ، الى مواطنه الرئيس الاوكراني كهدية في عيد ميلاده!
       اليوم ضمت شبه الجزيرة الى روسيا بعد استفتاء كانت نتيجته 95.5 % لموسكو، فيما رفض الغرب النتيجة والضم، وأطلق عقوبات على موسكو ، مترافقة مع جدل قانوني وسياسي حول هذه الخطوة وتداعياتها الاقليمية والدولية. فما هو وضع حق تقرير المصير في القانون الدولي ، وما هو مدى مشروعيته في ضوء المصلحة القومية للشعوب والدول؟
        يقصد بحق تقرير المصير ، حق كافة الشعوب في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي ، والتخلص من السيطرة الاجنبية أياً كان نوعها. ويمكن أن يكون حق تقرير المصير خارجياً ، وفي هذه الحالة يعني إنهاء كافة أنواع الاستغلال وسيطرة شعب على آخر ، وأن يختار كل شعب وضعهُ الدولي كيفما يشاء سواءً بالانفصال عن دولة معينة او الاتحاد مع دولة اخرى. كما يمكن أن يكون حق تقرير المصير داخلياً ، ويعني حق كل شعب ان يقرر بحرية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يلائمهُ. فهو من ناحية منظم للعلاقات الدولية ، ومن ناحية أخرى محدد لنوع الحكم الداخلي الذي تكون فيه السيادة للشعب ، وقد مرَّ حق تقرير المصير كغيره من المفاهيم القانونية والسياسية بمراحل تاريخية مختلفة لحين تدوينه في القانون الدولي العام.
وبرز حق تقرير المصير بشكل ملحوظ أثناء الحرب العالمية الأولى عندما نادى الزعيم الشيوعي (فلاديمير لينين) في كتاباته بضرورة منح هذا الحق للشعوب ، ومن ثم إعلان الرئيس الامريكي (ودرو ولسن) هذا الحق في البنود الأربعة عشر. غير انه بعد قيام عصبة الأمم لم تلتزم دول الحلفاء بالعمل عل منح الشعوب المضطهدة حق تقرير مصيرها، اذ اهملت بحث هذا الحق في مؤتمر الصلح المنعقد في باريس عام 1919، ولم يرد ذكره حتى في ميثاق عصبة الأمم. وهذا ما حدث مثلا لشبه جزيرة القرم آنذاك التي تعج بالأقليات ، ومن بينها الاقلية الكبرى ذات الاصول الروسية.
اما ميثاق الأمم المتحدة ، فقد وضع حق تقرير المصير من بين مقاصد المنظمة، حيث نصت الفقرة الثانية من المادة الأولى على "إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالمساواة بين الشعوب ، وبأن يكون لكل منها حق تقرير مصيرها". بحيث يعد الميثاق مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقات الودية السياسية والاقتصادية بين شعوب العالم ، كما تبرز فيه فكرة تساوي الشعوب في الحقوق بوصفها شعوباً وبالتالي حقها في تقرير مصيرها. وتتضمن المادة (55) من الميثاق والمدرجة ضمن الفصل التاسع الخاص بالتعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي النص على المبدأ ذاته .
كما أعاد الميثاق التأكيد وبشكل غير مباشر على حق تقرير المصير في الفصلين (12،11)، المتعلقة بإدارة الاقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والأقاليم الخاضعة لنظام الوصاية. فالمادة (73) من الميثاق تطرقت بشكل غير مباشر الى حق تقرير المصير عند التحدث عن المناطق غير المتمتعة بالحكم الذاتي ، ونصت على أن "يقر أعضاء الأمم المتحدة ، الذين يضطلعون في الحال او في المستقبل بتبعات ادارة اقاليم لم تنل قسطاً كاملاً من الحكم الذاتي ،. كما نصت المادة (76) من الميثاق والمتعلقة بنظام الوصاية على : " العمل على ترقية أهالي الأقاليم المشمولة بالوصاية في أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد والتعليم ، واطراد تقدمها نحو الحكم الذاتي او الاستقلال حسب الظروف الخاصة لكل اقليم ، ويتفق مع رغبات هذه الشعوب التي تعرب عنها بملئ حريتها وطبقاً لما قد ينص عليه في شروط كل اتفاق من اتفاقيات الوصاية"، ويلاحظ أن هذه المادة لم تذكر صراحة حق الشعوب في تقرير مصيرها ولكنها تضع كهدف أساسي لها الحكم الذاتي او الاستقلال، والاختيار بين هذين الهدفين يعتمد على الظروف الخاصة لكل اقليم وشعوبه.   
يشار الى ان البعض انتقد صياغة الميثاق الذي تجنب الاشارة الصريحة الى حق تقرير المصير لدى التطرق الى نظام الوصاية الدولي والأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي. حيث استعملت عبارة الحكم الذاتي (self- goverment) بدلا من تقرير المصير (self –Determination)، ويرون ايضاً أن نص المادتين الأولى والخامسة والخمسين لا يشمل حق تقرير المصير في حد ذاته ، وإنما يتحدث عن الاحترام الواجب للسيادة القومية. ولكن رغم ذلك يمكننا القول بأن مبدأ حق تقرير المصير كان مبدأ سياسياً قبل الميثاق، وأنه أصبح مبدءاً قانونياً ملزماً بعد أن اشارت اليه نصوص الميثاق
 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في عام 1960، إعلاناً يتعلق بمنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، بموجب القرار رقم 1514 في 14/12/1960 ، الذي صوتت لصالحه 89 دولة وامتنعت (9) دول عن التصويت ولم تصوّت أية دولة ضده.ويعد هذا الإعلان التاريخي أحد إسهامات الأمم المتحدة في تطوير مفهوم حق تقرير المصير، وفي إدانة الاستعمار وجميع أشكال إخضاع الشعوب للسيطرة والاستغلال الاجنبيين.
ورد حق تقرير المصير في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، وقد اشار العهدان المذكوران بشكل واضح الى حق تقرير المصير كحق من الحقوق الجماعية لكافة الشعوب، بل ان ذكر هذا الحق جاء في مقدمة الحقوق الأخرى ، وقد نصت المادة الاولى المشتركة في العهدين على:
1-      "لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لإنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
2-      لجميع الشعوب، السعي وراء اهدافها الخاصة ، والتصرّف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية دونما اخلال بأية التزمات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي والدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة في القانون الدولي، ولا يجوز في اية حالة حرمان أي شعب من اسباب عيشه الخاصة.
وبناءً على ما جاء في المادة الأولى المشتركة للعهدين، يلاحظ أن هذا الحق جاء في مقدمة حقوق الانسان الأخرى ، فقد تناولت الفقرة الأولى منها الجانب السياسي لحق تقرير المصير، بينما تضمنت الفقرة الثانية المحتوى الاقتصادي لهذا الحق ، فهي تؤكد على ان لكل الشعوب مطلق الحرية في التصرف بثرواتها الطبيعية، وتوضح طبيعة الالتزام وفقا لما تقضي به نصوص ميثاق الأمم المتحدة. أما الفقرة الثالثة، فتفرض التزامات محددة على الدول الاطراف، لا فيما يتعلق بشعوبها وحسب، وإنما أيضاً تجاه جميع الشعوب التي لم تتمكن من ممارسة حقها في تقرير المصير. او التي حرمت من امكانية ممارسة هذا الحق. ويترتب على هذا الالتزام في الواقع ان تتخذ الدول الأطراف في العهدين تدابير إيجابية بهدف تسهيل تحقيق حق الشعوب في تقرير المصير وبصورة خاصة يتعين عليها أن تمتنع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى والتأثير بذلك بصورة سلبية في ممارسة حق تقرير المصير، وهذا ما يعتبره الغرب انه قد حصل من قبل روسيا لشبه الجزيرة.
اضافة الى ما سبق فقد أشار البعض الى اهمية العهدين فيما يتعلق بموضوع حق تقرير المصير عبر  جانبين، الجانب الأول، يجد بأن العهديين اضفيا على مبدأ تقرير المصير صفة الحق القانوني ولم يقتصرا بالنص عليه كمجرد مبدأ قانوني او سياسي ، أما الجانب الآخر الذي ظهر في العهدين ربط بين حق تقرير المصير السياسي والأسس الاقتصادية ، أي بين حق تقرير المصير السياسي وحق تقرير المصير الاقتصادي، وهو امر متعلق بالمصلحة القومية للشعوب.
ويثار السؤال هنا حول تحديد طبيعة حق الشعوب في تقرير المصير. هل هو مبدأ سياسي أم مبدأ قانوني ملزم؟ هناك اتجاه ، اعتبر حق تقرير المصير، مجرد مبدأ سياسي غير ملزم، وله تأثير في سلوك الحكومات فقط. ولا يرتب على عاتق الدول أي التزام قانوني ، ذلك لأنه غامض ويصعب تحديد مفهومه ، كما ان تطبيقه يمس السيادة. بينما يذهب الجانب الراجح من الفقهاء الى اعتبار مبدأ حق تقرير المصير مبدأ قانونيا من المبادئ التي ينهض عليها التنظيم الدولي المعاصر، وقاعدة من قواعد القانون الدولي، وانه بمجرد النص عليه في ميثاق الأمم المتحدة اصبح احد المبادئ القانونية الدولية الملزمة ، يجب احترامها من الدول التي صادقت على الميثاق.
في المبدأ، تنطبق حالة تقرير المصير والمصلحة القومية على شبه جزيرة القرم، لما لها من خصوصيات اتنية عرقية وقومية ودينية وحتى جيوساسية ، ففيها اقلية كبيرة توازي الـ 60% من الروس، اضافة الى التتار 12% ، والأقليات الصغيرة الأخرى مثل الارمن والغجر واليهود وغيرها، وهي من الناحية العملية خليط غير متجانس، تلعب فيه اليوم المصالح الاقتصادية اكثر من غيرها كعوامل للفرز السياسي والضم القانوني. وبصرف النظر عن نتيجة الاستفتاء ونتائجه عمليا ، يبقى البحث في الخلفيات ومستقبلها اهم بكثير من الواقع الذي وصلت اليه شبه الجزيرة. فلو كانت شبه الجزيرة المتمتعة بمواصفات اللا مركزية السياسية عن اوكرانيا تتمتع بنمو وازدهار مالي واقتصادي، ولو كانت اوكرانيا مثلا قادرة على سداد عجزها ومتطلبات شبه الجزيرة، أكانت نتائج الاستفتاء كما هي ؟ ان الاعتراف الدولي بهذه الخطوة هي الامر الاهم في هذه الحالة ، فمثلا ان حالة ابخازيا التي ضمتها روسيا بعد فصلها عن جوريجا ، لم يعترف بها سوى خمس دول فقط ، فهل ستكرر التجربة نفسها القرم اليوم؟.صحيح لقد وضعت موسكو ثقلها العسكري والاقتصادي والسياسي لضم القرم ،كما فعلت في اواخر القرن الثامن عشر اثر حربين مكلفتين، إلا ان العبرة تكمن في الكثير من المسائل التي ربما ستجد موسكو صعوبة في مواجهتها.