خريف اميركا
العنصري
د. خليل خسين
رئيس قسم
العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
بيروت1/6/2020
بعد وصول بارك أوباما كأول رئيس أميركي من
أصول افريقية ، شاع اعتقاد في الداخل الأميركي مفاده ،ان المجتمع الأميركي تخطى
عقدة التمييز العنصري التي سادت في السلوك الجمعي لسنوات طويلة، الا ان الكثير من
الاحداث أثبتت ان هذا السلوك ليس عابرا في الحياة السياسية الأميركية، بل لها
أسباب من الصعب تجاوزها، اذ ان التمييز العنصري انطلق من خلفيات قانونية ارست اكثر
من مجرد اعراف تسببت بالكثير من الأذى المجتمعي.
ورغم ان موجة الاحتجاجات القائمة على
خلفية مقتل جورج فلويد ليست سابقة ، الا ان وقائعها وردود الفعل عليها اعطتها زخما
اقوى وبالتالي تأثيرات اكثر حدة في الحياة السياسية الأميركية ، لجهة تأثيرها على
مجريات الانتخابات الرئاسية القادمة، سيما وان، اتهامات متبادلة بين الجمهوريين
والديموقراطيين اخذت طابعا انتخابيا اكثر منه اجتماعيا.
ان التدقيق في خلفيات بعض الأرقام
وتداعياتها الاجتماعية والسلوكية، تظهر صورا قاتمة ، فتعداد السود يبلغ 26 مليونا
أي 11.4 % من مجموع السكان ، وهي بذلك تعتبر من الاقليات الكبيرة ، التي جلبت من
القارة الافريقية واستغلت كوقود انتاجي في ظروف قاسية، عمقت الشرخ الطبقي ، واعطت
التمييز العنصري لونا اشد سوادا على مر السنين .وبات صورا من تراث يتم التعامل فيه
دون خجل في مجتمع يدعي شرب الديموقراطية مع حليب الأطفال.
وعلى الرغم من الإنجازات السياسية المتفرقة
لا زال السود يعانون من تمييز قاس ، ويظهر ذلك من خلال الوظائف المتاحة لهم والتي
لا تصل في احسن الأحوال الى 1% من الوظائف الإنتاجية ، في حين يصل دخل الفرد
الأبيض ضعف نظيره الأسود، ما عزز التفاوت الطبقي بشكل مخيف، سيما وان نسبة البطالة
لدى السود هي ضعفها لدى البيض، وتنعكس تلك النسبة على الحالة التعليمية في مختلف
مستوياتها، حيث يسجل ترك السود التعليم في مختلف المراحل لأسباب متعددة كصعوبة
الاندماج الاجتماعي او عدم القدرة على تأمين البدلات التعليمية ،مما أسس لشروخ
سلوكية يصعب ردمها في ظروف تقليدية.
وظاهرة التمييز ليست بجديدة ، بل تعود جذورها
وتداعياتها الى قرون مضت، وعلى الرغم من بروز محاربتها في غير مفصل تاريخي، كنضالات
مارتن لوثر وتمدده من الجنوب باتجاه الشمال ، الا ان استمرار الفروق الشاسعة أعاد
ظهور التمييز بأشكال اشد قسوة، خاصة وان احداث متفرقة تظهر حالات قتل لأفراد سود لأسباب
لا يعتد بها، ويمكن تفاديها، في الوقت الذي يتم غض الطرف عن الوسائل السيئة في
معالجتها، الامر الذي زاد من نقمة السود وتبرهم في الفترة الأخيرة، وتم التعبير
عنها بوسائل عنيفة ورغم محاولات الاحتواء، تمددت حالات الاحتجاج لتصل مستويات غير
مسبوقة.
ثمة مشكلة حقيقية يصعب التغاضي عنها في
مجتمع تعددي ، تحكمه آليات اجتماعية واقتصادية لا تتسم بعلاقات إنسانية مرنة، ما
يعزز الشعور بالدونية لشريحة عانت كثيرا ولم تجد مخرجا لها، بل تجمعت صورا مضادة
لها تمثلت بشعور التفوّق العرقي لدى البيض والذي يولد غاليا احتقانا يصعب السيطرة
عليه. فعلى الرغم من وجود الآليات السياسية والقانونية التي حاولت الحد من المظاهر
السلبية للتمييز، ظلت الفوارق متأصلة في السلوك المجتمعي وبخاصة لدى السود. الامر
الذي كوّن البيئات المناسبة لإعادة انتاج العنف بين فترة وأخرى.
ان إعادة التكوين في المجتمعات المتعددة،
تتطلب مسيرة طويلة من التضحيات المتبادلة وبخاصة من الشرائح المتحكمة اقتصاديا
وسياسيا ، الامر الذي لم يظهر في المجتمع الأميركي حتى الان، ما يثير تساؤلات مرعبة
حول ديموقراطية النظام وقدرة الليبرالية الجديدة على ترجمة العديد من شعاراتها
وبرامجها المتعلقة بالمساواة والعدالة الاجتماعية.
اعتقد الكثيرون ان الولايات المتحدة انتقلت الى
القرن الحادي والعشرين بجلباب التسامح مع الماضي الاسود للتمييز العنصري، الا ان
الوقائع اثبتت العكس، ان مجمل الظروف الخارجية والداخلية التي تعيشها الولايات
المتحدة تشير الى صعوبة ردم الفجوة في مجتمعها التعددي، مما يفاقم المشكلة ويعقدها
ويزيد من صورها النمطية في الحياة السياسية والاجتماعية.