هل ستتغير السياسة الأمريكية في العراق؟
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
عكس الاهتمام العربي بالانتخابات الأمريكية كنوع من محاولات استكشاف مستقبل السياسات الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة الأزمة العراقية المتصاعدة من وقوع العراق تحت الاحتلال الأمريكي منذ نيسان 2003. إذ حدث نوع من التفاؤل باكتساح الحزب الديموقراطي علي الجمهوري على قاعدة أن عودة الديموقراطيين إلي أغلبية الكونغرس قد جاءت على أساس رفض احتلال العراق ومطالبة إدارة الرئيس بوش بوضع جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية.
ربما يكون التفاؤل صحيحاً من الناحية النظرية إذ أن فوز الديموقراطيين قد يعني بداية النهاية لحقبة للمحافظين الجدد وتجميد استراتيجية الأمن القومي الأمريكي ، التي تتأسس على الاعتماد المفرط للقوة العسكرية، والحروب الاستباقسة، والعمل بمبدأ تغيير أنظمة الدول بما يتوافق مع المصالح الأمريكية بعيدة المدى. وهو ما تم تطبيقه في كل من العراق وأفغانستان دون نجاح يذكر. إن استقالة دونالد رامسفيلد واستبداله بروبرت جيتز بعد إعلان فوز الديموقراطيين بمجلسي الكونغرس، قد جاءت كإعلان مباشر على بداية أفول نجم المحافظين الجدد من دائرة التأثير المباشر على السياسة الخارجية لفترة قد لا تقل عن عامين وهي الفترة المتبقية لولاية الرئيس بوش. كما أن وزير الدفاع الجديد لم يعرف عنه ارتباطه بالمحافظين الجدد، وإنما اشتهر بأنه من أبناء المدرسة الواقعية بالحزب الجمهوري التي ينتمي إليها الرئيس جورج بوش الأب، ووزير خارجيته السابق جيمس بيكر، التي تفضل سياسات الاستقرار الدولي وعدم التدخل صراحة في الشئون الداخلية للدول. وبالتالي فإن جانب التفاؤل قد يكون مدفوعاً بتلك التغيرات الداخلية التي قد تشهدها بعض الوزارات المهمة كوزارتي الدفاع والخارجية، ما سينعكس بطبيعة الحال على مستوى أداء سياسة الرئيس بوش الخارجية في الفترة المتبقية من رئاسته. وبناء على ما سبق ركزت التوقعات على حدوث تغيير جوهري في السياسة الأمريكية في الفترة المقبلة تجاه الملف العراقي بشكل رئيس، وتوقعات أخرى بأن يشهد الملفين الإيراني النووي ، والسوري االاستراتيجي تغييراً جوهرياً في استراتيجية التعامل.
بيد أن خسارة الرئيس بوش لأغلبيته في الكونفرس وعودة الديموقراطيين لا تعني بالضرورة حدوث تطورات إيجابية في الشأن العراقي، ويعود ذلك إلي عدة عوامل وأسباب بعضها خاص بطبيعة البنية السياسية الأمريكية، والبعض الأخر مرتبط بمرحلة التنافس السياسي بين الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي.
إن تحول الأغلبية في الكونغرس الجديد كجبهة معارضة لاحتلالا العراق يعتبرتأثيراً ثانوياً لعدة أسباب. أولاً؛ وطبقا للدستور الأمريكي فإن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وبالتالي فإن أدوات وآليات القرار مركزة في رأس السلطة التنفيذية، ومن هنا يصعب على الكونغرس تغيير تلك السياسات حتى وإن ابدى معارضته الشديدة لها. وهناك حالة وحيدة وهي استثنائية في طبيعتها والتي قد تدفع بتغييرات حقيقية في العراق من الناحية العسكرية، إذا رفض الكونغرس الزيادة السنوية للميزانية المخصصة للحرب في العراق والتي سيطلبها الرئيس بوش من الكونغرس الجديد.وبالتالي يجبر الكونغرس الرئيس على اتخاذ قرار بتقليص عدد قوات الجيش الأمريكي في العراق أو إعادة انتشاره، إلا أن الكونغرس الديموقراطي سيصعب عليه اتخاذ مثل هذا القرار حسبما تشير المؤشرات الأمريكية نفسها، حيث أن تقليص ميزانية الحرب ستعني أمام الرأي العام الأمريكي المسؤولية المشتركة للحزب الديموقراطي مع الجمهوري عن هزيمة الولايات المتحدة في العراق، وتحمل التبعات السياسية والتاريخية لمثل هذا القرار الذي قد يقضي على فرص الحزب الديموقراطي في الحفاظ على أغلبيته في الكونغرس، ومن ثم استحالة وصوله إلى البيت الأبيض في السباق الرئاسي لعام 2008.
أما الأمر الثاني الذي سيعرقل إحداث تغيرات جوهرية في السياسة الأمريكية في العراق، هو أن الحزب الديموقراطي لم ينجح إلى الآن في بلورة استراتيجية واقعية وفعالة تنجح في سحب وإعادة انتشار القوات الأمريكية بحلول عام 2008، وعلى ذلك فإن الحزب الديموقراطي كنظيره الجمهوري في تلك الحالة يشهد انقساماً داخلياً على استراتيجية الخروج من العراق.
ثمة فريق يرى أن وضع جدول زمني للانسحاب من العراق أمر ضروري مهما بلغ الثمن باعتباره وسيلة ضغط على الحكومة العراقية وبالتالي يحتم عليها تحمل مسئولياتها السياسية، بخاصة في الملف الأمني وتفكيك المليشيات ومحاربة الإرهاب. وثمة فريق آخر يرى صعوبة الحفاظ على وحدة العراق مع ازدياد وتيرة العنف الطائفي، وبالتالي فإن التوصل إلى اتفاق سلام بين الأطراف العراقية الرئيسة وتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية في الشمال، شيعية في الجنوب، وسنية في الوسط، ربما يكون المخرج الوحيد للقوات الأمريكية الذي يتيح لها الخروج من العراق في أسرع وقت ممكن.
إن تأزم الموقف في العراق قد يدفع الحزب الديموقراطي على عدم الخوض في إشكاليات إدارة الرئيس بوش في التعامل مع الشأن العراقي، والاكتفاء بعمل رقابي قوي وفعال، من خلال سلطات الكونغرس على أداء الإدارة الأمريكية في العراق من خلال لجان الميزانية والقوات المسلحة والعلاقات الخارجية والمخابرات التي سيرأسها أعضاء الحزب الديموقراطي في مجلسي الشيوخ والنواب.،الأمر الذي سيتيح للحزب الديموقراطي متابعة أداء الإدارة الأمريكية في الوصول إلى حالة مستقرة بين الأطراف السياسية العراقية الرئيسة دون الممانعة من تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية وشيعية وسنية، وأيضاً دون الاكتراث بمبدأ تحقيق الديموقراطية في العراق. وبالتالي فإن سياسة عدم التورط في العراق ستمنح بدورها الحزب الديموقراطي وقتاً إضافياً قد يساعده على وضع استراتيجية أكثر ملائمة للشأن العراقي تهدف في النهاية إلى انسحاب القوات الأمريكية ، وربما تكون تلك الاستراتيجية هي البرنامج الانتخابي للمرشح الديموقراطي القادم للانتخابات الرئاسية في عام 2008.
كما أن المتوقع أن يستثمر الحزب الديموقراطي الفترة المقبلة في الكونغرس في البدء بتحقيقات و استجوابات متعلقة بعمليات الفساد الخاصة بعقود إعادة الأعمار في مجال النفط وبعض الصفقات العسكرية التي تحيط عددا من الشركات الأمريكية وبعض رجال الجيش الأمريكي وبعض أعضاء الكونغرس الجمهوريين، ما قد تساهم في زيادة الفرص الانتخابية المقبلة للأعضاء الديموقراطيين في الكونغرس والبيت الأبيض، وأيضا تحسين صورتهم أمام الرأي العام الأمريكي، لاسيما وأن الجانب الأكبر من برنامجهم الانتخابي ركز على ضرورة محاربة الفساد الذي استشرى بسبب ضعف الدور الرقابي للكونجرس خلال فترة الأغلبية الجمهورية منذ عام 1994.
إن مجموعة دراسة العراق أو ما تعرف بلجنة لم تخرج بما هو جديد عن المتداول في الدوائر البحثية والأكاديمية الأمريكية، والتي تركز بدورها على عدة سياسات منها على سبيل المثال وليس الحصر، ضرورة التفاوض مع الجانبين الإيراني والسوري فيما يخص الملف الأمني العراقي، وتشجيع الولايات المتحدة للدول العربية وبالأخص السعودية والأردن في الإسهام في عمليات استقرار العراق.
إن الاهتمام بأعمال لجنة بيكر يأتي بكونها تعبّر بشكل ما عن مساحة للحوار والتفاهم المشترك بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي بعيداً عن الحسابات الانتخابية، حيث يسعى كل من الطرفين إلى التوصل من خلال أعمال اللجنة إلى صيغ وحلول مشتركة للخروج من الورطة العراقية وخلاصة القول أن تداعيات فوز الحزب الديموقراطي بأغلبية مقاعد مجلسي الشيوخ والنواب ربما لن تسهم بشكل مباشر في حدوث تغيرات وتطورات جذرية في الشأن العراقي، على الأقل في المدى المنظور.