01‏/01‏/2009

النظام العالمي الجديد والمتغيرات الدولية


النظام العالمي الجديد والمتغيرات الدولية
المؤلف:الدكتور خليل حسين
الكتاب : النظام العالمي الجديد والمتغيرات الدولية
الطبعة الاولى 2009
الناشر :دار المنهل اللبناني

مقدمة كتاب النظام العالمي الجديد والمتغيرات الدولية
بصرف النظر عن التوصيف اللغوي ومقاربته لبعض المفردات ومنها النظام العالمي ، فان تاريخ البشرية الموغل في القدم وبخاصة الفترات التي تكونت معها بعض مظاهر الحياة الاجتماعية ومتطلباتها شهدت بشكل أو بآخر محاولات لتنظيم أنماط العيش وكيفية التعامل مع المحيط ، إن كان على مستوى العلاقة مع الآخرين أو مع الطبيعة أو غيرها من القضايا ذات الصلة بحياة الإنسان اليومية الحيوية ؛ وكما أسلفنا بصرف النظر عن دقة المقاربة أو عدمها ، فإن محاولة تنظيم الأوضاع الاجتماعية - المعيشية الخاصة كانت البداية للتفكير بنسق أو نظام علاقات يحكم ويضبط المجموعة ومن حولها وكذلك في المحيط الأوسع الذي تتواجد فيه .
وان كانت هذه الفكرة هي قائمة واقعيا لما لها من ارتباط في ذهنية وتفكير الإنسان لجهة حب البقاء وتأمين مستلزماته ، فإن تطور الحياة الاجتماعية وما آلت إليه من مراحل عبر العصور ، قد حدت بالعديد من المفكرين إلى تصويب أفكارهم في الوجهة التي تخدم الجماعة البشرية عبر تنظيمها في اطر اجتماعية كانت أم سياسية وفقا للإيديولوجية والمعتقدات التي يرتكز إليها كل منهم.
وعليه فإن نظرة سريعة إلى الفكر السياسي في القرون الماضية تظهر الملامح العامة التي نظر إليها بعض المفكرين لرؤيتهم للنظام العالمي التمثل والسبل الآيلة إلى سعادة البشر ورفاه حياتهم وعلاقاتهم، وان كان تضارب الأفكار والمعتقدات شيئا ظاهرا وبارزا بين هذه الأفكار إلا أن كل منها سعت جاهدة إلى إظهار نفسها البديل الملائم والصحيح للحياة الكريمة والرقي والازدهار الذي يحلم فيه جميع بنو البشر.
أولا - النظام العالمي من الرواقية إلى الإسلام :
بداية يمكن تلمّس فكرة المجتمع البشري ذات الصفة أو المظاهر العالمية في الفكر الرواقي في القرن الثالث قبل الميلاد عبر زعيم هذه المدرسة المفكر زينون zenon ؛ الذي دعا إلى مدينة عالمية يكون فيها جميع البشر متساوون ، ومواطنون اخوة تجمعهم حياة واحدة ونظام واحد للأشياء على قاعدة القانون الطبيعي الذي يتسق ويتآلف مع القواعد والمبادئ الأساسية للعدل والعقل ؛ وتعتبر الرواقية أن القانون الطبيعي هو فوق القوانين الوضعية وانه يسمو عليها ،وفي الواقع تعتبر الدعوة الرواقية من هذه الوجهة ردة فعل على تفرق المدن اليونانية وتبعثرها وعدم اتساق علاقاتها في ظل تعدد وتنوع الأنظمة والقوانين التي حكمتها.
وكما كان الأمر مع الرواقية لجهة تطويع القانون الطبيعي لخدمة أفكارها ومعتقداتها، أتت مرحلة الإمبراطورية الرومانية لتبرر احتلالها وفرض شرعيتها على الشعوب عبر القانون الطبيعي كذلك، وفي الواقع استلهمت قانون الشعوب Jus Gentium لهذا الغرض باعتباره قانونا عالميا من وجهة نظرها؛ وواقعا تلاشت الدول في شخصية الإمبراطورية الرومانية في تلك الفترة، وساعد هذا التلاشي ظهور المسيحية واتخاذها كديانة رسمية في القرن الرابع، كما سعت الكنيسة الرومانية آنذاك إلى التبشير بالرسالة المسيحية للعالم على مبادئ السلام بين الشعوب وإقامة العلاقات التي تخدم هذه التوجهات على قاعدة الخضوع لله؛ إلا أن فكرة المدينة العالمية اقتصرت آنذاك على العالم المسيحي ليس إلا، ولم يطل الزمن حتى انتشرت الحروب في القرون الوسطى وتبين أن حكم الشعوب بالقانون الذي فرضته الإمبراطورية الرومانية بالقوة غير قادر على استيعاب مصالح الشعوب وتطلعاتها، الأمر الذي أدَّى إلى تفكك الإمبراطورية إلى إقطاعيات تحكمها الأمراء ولصحاب السلالات العريقة في أوروبا.
إنَّ فكرة حكم العالم في قانون واحد كان مغايرا تماما للواقع وغير قابل للتطبيق وهذا ما أكدته أحداث تلك الفترة والظروف التي مرّت بها ، وكانت ضربة قاسية لفكرة الحكومة العالمية ، حيث انتقلت الأمور من حكم الإمبراطورية الموحدة إلى الإمارات الإقطاعية ؛ أي بكلام آخر من مرحلة التوحّد في الحكم إلى مرحلة التفتّت والتشتّت والمزيد من الحروب التي طالت فيما بعد العديد من الإقطاعيات والشعوب التي سيقت حكما تحت سلطاتها.
إنَّ انهيار فكرة الحكومة العالميةالخاصة، ة العديد من الظروف، عادت للظهور مجددا وبقوة اثر ظهور الديانة الإسلامية بمعتقداتها التي تفسر مختلف مظاهر الحياة الدينية والدنيوية، وبكلام آخر إن الإسلام الذي اعتبر دين ودنيا قد أعاد فكرة الحكومة العالمية إلى الظهور على قاعدة أن لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى وبالتالي فان حكم الشعوب لا يخضع لأي مقاييس سوى الإيمان بالدين الحنيف الذي ابرز المساواة والعدالة الاجتماعية وغيرها من هموم الحياة الاجتماعية للجماعة والفرد، وقدَّم عبر مفكريه ومجتهديه وعلمائه شتى أصناف العلوم والبدائل التي تتيح للإسلام بأن يكون نموذجا لحكم ما، وقاعدة لعلاقات اجتماعية داخلية كما كعلاقات دولية ذات أُطر وقوانين خاصة.
وكما أنَّ لكل امة ودولة ظروفها الخاصة، فإن للدولة الإسلامية التي ترامت في شتى بقاع العالم وتمكَّنت في فترة وجيزة من تقديم بدائل هامة في مختلف المجالات، فإن ظروفا داخلية وخارجية أدَّت فيما بعد إلى الانتقال بفكرة الحكومة العالمية أو النظام العالمي وفقا للمنظور الإسلامي ، إلى واقع معاش آخر وهو العلاقات الدولية في مفهوم الدولة الإسلامية - العربية القائم على انقسام العالم إلى معسكرين دار الإسلام ودار الكفر.
إذن، يلاحظ أن الفترة التي سبقت القرن السابع عشر كانت فكرة النظام الدولي من الأفكار والأحلام الوردية، ذات الطابع المثالي اليوتوبي غير القابل للتطبيق بفعل العديد من الأسباب والعوامل الذاتية والموضوعية والفكرية وغيرها.
فالفلسفة الرواقية ومن اتبع هديها فيما بعد على وقع مبادئ القانون الطبيعي لم يتمكن من إنجاح فكرته باعتبارها من عالم المثل بامتياز ومن الصعب أن تمتَّ إلى الواقع بصلة، فيما الطروحات والأفكار الأخرى أتت نتاج الغزوات والحروب والاحتلال والإخضاع لتبرير جميع هذه القضايا غير الشرعية، وتلاشت مع تلاشي قواها وعوامل قوتها وبطشها، فيما العقائد والاجتهادات والتفسيرات الأخرى جاءت نتاج معتقدات دينية لم تصمد آنذاك بفعل عدم تمكنها من إبقاء سيطرتها على الشعوب التي فتحتها كما حدث في عهود الدولة الإسلامية - العربية أولا ومن ثم حقبة الحكم العثماني لاحقا.
وأيَّا يكن الأمر من هذا الفشل، فإن جملة ملاحظات يمكن أن تطرح أبرزها:
- إنَّ أي فكرة لوحدة عالمية قائمة على قاعدة العقيدة الدينية لم تثبت صمودها حتى الآن ، لأسباب كثيرة من بينها ، انه من الصعب احتواء جميع هذه الشعوب والأمم بمختلف عقائدها وتصوراتها إلى مشاريع ذات خلفية تتعارض مع معتقداتها ومفاهيمها وحتى تتناقض إلى مستوى استحالة اللقاء على بعض المسائل الأساسية بالنسبة لكل منها، وفي التاريخ القديم كما الحديث مختلف الأدلة والبيّنات ذات الصلة بالموضوع.
- إنَّ محاولة تصوير هذه الأفكار من قبل أصحابها على أنها عالمية ، لهو في الواقع غير ذلك ، فمجمل الأفكار والمشاريع التي ظهرت كانت بمجملها بعيدة كل البعد عن العالمية وكانت نتاجا للجغرافيا والتاريخ الذين انطلقتا منه.
- لقد كانت فكرة النظام العالمي في مختلف تجلياته المبكرة وغير المكتمل نتاج مبدأ القوة وليس أيّ شيء آخر ، فلا الشرعية مهما اختلفت تسمياتها وخلفياتها قادرة على تغطية وتبرير أي أمر قائم، ولا العقيدة مهما اختلفت انتماءاتها ومفاهيمها كانت قادرة على استيعاب ما يوجه باسمها تبريرا أو دفاعا عن عمل أو وجهة نظر أو أي أمر آخر.

ثانيا - مرحلة النظم المؤسساتية القائمة على أسس القانون الوضعي:
إنَّ مرحلة حكم الإقطاعيات والأمارات التي سادت أوروبا في القرون الوسطى وما أحاط بها من ظروف، أسَّست لحروب فيما بينها ناهيك عن الثورات الداخلية في بعض الدول والتي أثرت بشكل كبير على مسار العديد من الأمور لا سيما في مجال العلاقات الدولية آنذاك، ولو أنَّ الأمر كان منظورا من الوجهة الأوروبية تحديدا.
إنَّ المفصل الأساس في تلك الحقبة يبدو جليا فيما أقرته معاهدة وستفاليا سنة 1648 التي جاءت بعد سلسة من المنازعات والحروب الطاحنة، فهي وإن وضعت حدا ولو مرحليا لبعض القضايا الأوروبية فقد أسّست لنوع جديد من العلاقات القائمة على قاعدة التعاون المشترك بدلا من سياسة القوة والإخضاع والسيطرة، وعلى الرغم من إنَّ جميع المشاركين فيها هم أوروبيون وان جوهرها ومضمون إحكامها كانت للقضايا الأوروبية، إلا أن ما آلت إليه الأمور بطبيعة الحال امتداد مفاعيلها إلى خارج النطاق الجغرافي لأوروبا لما لهذه الدول الأخيرة من امتدادات استعمارية خارج القارة، وبهذا المعنى، وإن كان الأمر يبدو إقليميا وتحديدا أوروبيا فان أهدافه ومفاعيله طاولت مناطق جغرافية مما أسس كما أسلفنا لبداية نوع من النظام الدولي.
إن ما يميّز معاهدة وستفاليا في تلك الحقبة الفصل في تاريخ النزاعات الأوروبية للعديد من الأمور أبرزها:
- أنها المعاهدة الإقليمية الأولى ذات الطابع والامتداد الدولي للأسباب السالفة الذكر.
- لقد أعطت إضافات جديدة هامة على مفهوم المعاهدات ومضمونها، إن لجهة النظرة لحل القضايا الخلافية عبر إحلال مفهوم التوازن كما أسلفنا ، أي بمعنى إعطاء الحق لأية دولة التدخل ضد أي دولة تجرؤ على الخروج عن التوازنات المطروحة.
- كما أعطت بعداً آخراً في مجال القانون الدولي، إذ وضعت القواعد لتدوين القوانين والمعاهدات الدولية الملزمة للأطراف الموقعين عليها.

إنَّ تاريخ الشعوب والدول متغيّر بتغيّر الظروف التي تحكمهما، وبطبيعة الأمر فإن ما رست عليه معاهدة وستفاليا لم تبق على ما كانت عليه، فلم يمض وقت طويل حتى عصفت بأوروبا مجددا العديد من المتغيرات، متأثرة بالفكر العارم الذي إشاعته الثورة الفرنسية سنة 1789 التي قلبت الكثير من المفاهيم وغيَّرت الكثير من القيم في أوساط الشعوب والمجتمعات الأوروبية الرازحة تحت حكم الإقطاع والأمراء، وبمعنى آخر ساد تياران أساسيان، الأول قاده الفكر التحرري متأثرا بما نادت به الثورة في فرنسا، والثاني قادته الإقطاعيات المحافظة والمنادية بإبقاء التوازنات المعهودة على ما هي وفي أحسن الأحوال السعي إلى توازنات جديدة لمصلحتها.
وكما الأمر بعد كل جولة من الحروب التي تؤدّي إلى تحالفات وموازين جديدة، كانت هزيمة نابليون مناسبة هامة لإعادة صياغة الواقع الأوروبي من جديد على قواعد وأسس تراعي المتغيرات الحاصلة على الأرض.
ولذلك تداعت الدول المنتصرة إلى عقد مؤتمر فيينا الذي أسَّس لمرحلة جديدة أيضا من النظام الدولي، أما ابرز ما أتت به معاهدة فيينا لسنة 1815 التالي:
- إعادة التوازن في أوربا عبر إعادة العروش إلى "أصحابها" وتقسيم الأراضي الأوروبية مجددا.
- إعادة الملكية إلى بروسيا والنمسا، وتوحيد السويد والنروج في اتحاد فعلي.
- ضم بلجيكا إلى هولندا في مملكة قوية بمواجهة فرنسا .
- ازالة بولندا عن الخارطة الجغرافية – السياسية لأوروبا وتوزيعها بين روسيا وبروسيا والنمسا .
- وضع سويسرا في حياد دائم .
إنَّ الإجراءات المقررة في معاهدة فيينا وان كانت ذات طابع جغرافي اوروبي كما حدث مع معاهدة وستفاليا ، الا أنها تشترك ايضا معها في المدى الذي يمكن ان تصله مقرراتها ، بحيث تطاول قضايا ومواضيع خارج القارة والتي لها صفة العالمية بشكل أو بآخر .
إنَّ معالم النظام العالمي الذي ساد في تلك الحقبة تطور عمليا واتخذ اشكالا اكثر وضوحا عبر سلسلة المعاهدات التي ابرمت لاحقا بين الدول ، فعلى سبيل المثال لا الحصر معاهدة باريس لعام 1856 التي شملت احكامها الدولة العثمانية ايضا ، اذ لم يعد الأمر مقتصرا على الدول الأوروبية فقط بل تعداها ليشمل دولا خارجها ، وبمعنى لم يعد الأمر مقتصرا على الدول ذات الطابع والديانة المسيحية بل شملت ايضا غير الدول المسيحية الديانة .
كما عقدت سلسلة من المعاهدات بين الأعوام 1864و 1867 في جنيف تناولت قضايا جرحى الحرب والمدنيين تحت الاحتلال وغيرها... وكذلك اتفاقات لاهاي لسنتي 1899و1907 المتعلقة بقواعد الحرب والسلم والحياد ، وسبل حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية .
إن قراءة دقيقة وهادفة إلى التاريخ تثبت إن أي نظام عالمي هو نتاج المنتصر في الحرب، كما تثبت إن أيا من الأنظمة العالمية التي مرّت عبر التاريخ لم تدم، بل كانت عرضة لتغيير مستمر؛ وبطبيعة الأمر فان ما يسود اليوم هو متغير غدا.
إن سلسلة المعاهدات السالفة الذكر لم تتح للنظام الذي أنشأته إن يدوم طويلا، فسرعان ما انقلب موقعو المعاهدات على تواقيعهم، وجرت أوسع عمليات التدخل في الشؤون الداخلية للدول وسادت المصالح الخاصة مكان التعاون، والأطماع الإقليمية وحروبها مكان حل النزاعات بالطرق السلمية، باختصار لم تنتج الدول الأوروبية نظاما عالميا إلا وبدأت هي نفسها في الاتجاه الذي سيلغيه مجددا، وهذا ما كان، حيث كانت ظروف ومقومات الحرب العالمية الأولى تتحضر بوتيرة متصارعة، وهكذا لم يأت منتصف العقد الثاني من القرن العشرين إلا وكانت الحرب قد اشتعلت لتغير مفاهيم وقيم وأنظمة بنتائجها.
ثالثا- النظام الدولي المتعدد الأقطاب بأشراف عصبة الأمم
إن حروب أوروبا المستمرة لم تكن في الحرب الأولى من القرن العشرين كسابقاتها، بل اتخذت صفة العالمية بامتياز، إذ جمعت في ايونها الكثير من الدول والشعوب خارج القارة الأوروبية، كما وان نتائجها امتدت إلى خارجها، ليصبح النظام الذي رست عليه اتفاقات الصلح عالميا.
وإذا كان الأمر يظهر بهذه البساطة كون النظام الذي فرض هو نتاج المنتصرين والمحتوى القانوني لمصالحها، فان لهذا النظام العديد من المظاهر التي تستحق الوقوف عندها وأبرزها:
- إضافة إلى ارتكاز هذا النظام على مبدأ قوة المنتصر ومصالحه فان المعاهدات الخمسة التي اعتبرت ركيزة النظام العالمي آنذاك، أعطيت صفة الدولية والإلزام، بحيث أصبح من مصادر القانون الدولي تلك المعاهدات وما جاء فيها.
- إن التغييرات الحاصلة نتيجة لمعاهدات الصلح وخصوصا تلك المتصلة بالجغرافيا السياسية لأوروبا تعكس هواجس الدول المنتصرة وتطلعاتها في أوروبا نفسها وفي خارجها أيضا، فإضافة إلى إعادة استقلال تشكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وفصلهما عن الإمبراطورية النمساوية، وإعادة بولونيا إلى الخارطة السياسية الأوروبية، فإن مبدأ تشكيل الدول على أساس قومي طاول أيضا القوميات التي خضعت للحكم العثماني باستثناء البلاد العربية، التي جزِّأت بدل من توحيدها قياسا على ما جرى في غير منطقة.
- إن ابرز ما أنجزته الدول المنتصرة في سياق تظهير النظام الدولي على أسس شرعية وفقا لمصالحها، هو تأسيس عصبة الأمم وانضمام العديد من الدول الفاعلة إليها ( رغم بقاء الولايات المتحدة خارجها) وإعطائها صفة الإشراف على النظام العالمي، إضافة إلى إنشائها ضوابط تحكم العلاقات الدولية.
- ورغم الآمال الكبيرة التي علقت عليها، فإن عصبة الأمم التي أوكل إليها مهمة الإشراف على النظام العالمي كانت تحمل في طياتها أسباب فشلها وانهيارها لاحقا؛ فعلى الرغم من المهمة العسيرة التي أنيطت بها لم تعط الصلاحيات الكافية لها، فإجراءاتها توصيات ليس إلا، وليس بمقدورها فرض أي قرار تمليه مصلحة النظام العالمي حتى ولو كان من منظور الدول المنتصرة، إضافة إلى ذلك إن بقاء الولايات المتحدة خارجها، وانسحاب ألمانيا منها بعد دخولها إليها، قد ولد الانطباع بأن النظام العالمي الذي ساد آنذاك، كان في الواقع متكىء على قدم عرجاء وليس بمستطاعه المضي كثيرا.
- إن احد المرتكزات التي قام عليها النظام العالمي آنذاك هو توازن القوى في عالم متعدد الأقطاب، ومن الطبيعي عند اختلال التوازن سيختل النظام القائم وهذا ما حدث عمليا بعد فترة وجيزة من الزمن، الأمر الذي أسس للحرب العالمية الثانية.
رابعا - الثنائية القطبية في ظل الأمم المتحدة:
إذن للأسباب السالفة الذكر، ولأسباب متنوعة ومتعددة أخرى انهار التوازن في القوى الدولية، ونشأت معتقدات وأفكار جديدة كانت نتيجة الضغط الهائل الذي مورس على الإطراف المهزومة ومنها ألمانيا، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، والتي أتت بنتائج قلبت العديد من الأمور رأسا على عقب، وأدخلت مفاهيم جديدة ومصطلحات كثيرة في سياق تنظيم النظام الدولي بعد الحرب.
ففيما كانت الحرب العالمية الثانية مستعرة كانت دول الحلفاء تخطط لما بعد الحرب، وتطرح تصوراتها للنظام الدولي الذي ستبنيه على خلفية انتصاراتها الموعودة ضد دول المحور ( ألمانيا، ايطاليا، اليابان)، ولهذا عقدت أولى اجتماعاتها في كانون الثاني 1941 وتكرَّرت اللقاءات فيما بعد حيث تمّت اجتماعات في الدار البيضاء وباريس ولندن وفي دومبارتن اوكس، وكانت نتائجها الأساسية الاتفاق على تأسيس هيئة دولية تحل مكان العصبة وتسند إليها مهام الإشراف على النظام الدولي المزمع إنشاؤه، إن لم نقل فرضه.
إنَّ الصلاحيات التي أعطيت لهيئة الأمم المتحدة تعكس بوجه وبآخر النظرة التي سينطوي عليها النظام العالمي الجديد بصرف النظر عن نجاحها وفشلها ، فقد حاول الحلفاء بادىء الأمر الاستفادة من ثغرات عصبة الأمم وأسباب فشلها وبالتالي ما تسببت به من أثر في النظام العالمي آنذاك، محاولين أو معتبرين إن تقوية المنظمة الدولية يعني بالضرورة ، إن دورها في النظام العالمي سيكون رياديا ، وبصرف النظر عن ذلك فقد أثبتت الأيام فيما بعد عدم صحة هذه الرؤية وفشلها فشلا ذريها.
إن احد المهمات الرئيسة المسندة إلى الهيئة هي حفظ الأمن والسلم الدوليين، وحل النزاعات بالطرق السلمية ، وإنماء العلاقات الودية بين الدول ، ومعاملة جميع دول العالم بمساواة وعدالة ، وبالتالي إن السياق العام الذي حاول الحلفاء إبرازه هو العديد من الأمور وأبرزها :
- إن النظام العالمي بعد الحرب العالمية هو برعاية وعناية هيئة الأمم المتحدة، وتحديدا مجلس الأمن الذي أنيط به حماية السلم والأمن الدوليين، بل التدخل حتى بالطرق العسكرية لفرضه إذا دعت الضرورة ذلك.
- وعلى الرغم من ذلك، أي إظهار الصلاحيات الواسعة لمجلس الأمن، إلا إن الأمر لا يعدو كونه صوريا من الناحية العملية باعتبار إن المسيطر على القرار الفعلي لمجلس الأمن هو الدول الخمس الكبرى، أي إن النظام العالمي في هذه الفترة هو عمليا نتاج هذه القوى وعلى شاكلة وقدرة هذه الدول نفسها.
- إنَّ إفساح المجال لكل الدول المستقلة الدخول في عداد الأمم المتحدة هو في الواقع، محاولة إسباغ العالمية على المنظمة الدولية وبالتالي ربط هذه الدول بمواثيق ومعاهدات من الصعب الإفلات منها بسهولة، وهذا ما حدث فعلا عبر شبكة المنظمات والوكالات المتخصصة التابعة للمنظمة الدولية، بحيث باتت جميع الدول المنضمّة تحت لواء المنظمة الدولية أسيرة سياسات النظام العالمي المفروض على الدول الأخرى، والتي لا حول ولا قوة لها إلا الدخول والمضي به، بصرف النظر عن بعض الاستثناءات القليلة والمعزولة عمليا.
- إنَّ التوسّع القاعدي لعداد الدول في تركيبة النظام العالمي وتحلقها حول الأحلاف وخصوصا بين المحورين الأساسيين، أدَّى إلى انقسام واضح على المستوى العقائدي والسياسي والاقتصادي بين الدول، الأمر الذي انعكس سلبا على النظام العالمي في ظل الأمم المتحدة، وجعل هذا النظام أداة بيد الدول المؤثرة فيه من الناجيتين العسكرية والاقتصادية.
- إنَّ حصر التنافس عمليا بين واشنطن وموسكو آنذاك على قيادة النظام العالمي، أدَّى عمليا إلى تهميش كل القوى الواعدة للمنافسة معها, وبالتالي ظلت جميع الإطراف الأخرى دول تابعة بصرف النظر عن قوتها وقدرتها التي تبدو بأنها لا يستهان بها ( كنموذج اليابان وألمانيا وايطاليا ومجموعة الدول الأوروبية كفرنسا وبريطانيا شركاء الحلفاء في الحرب).
- إنَّ تبدّل ثوب النظام العالمي في حكم الشعوب والأمم لم يغيّر في الأمر شيء يذكر، فبعد الحرب العالمية الأولى استفادت بعض القوميات الأوروبية في إنشاء كياناتها السياسية، بينما لم يكن تحرر بعض دول العالم الثالث بعد الحرب الثانية وفي ظل النظام العالمي المستجد أمرا جديدا، فعمليا انتهى حكم الاستعمار المباشر ليحل مكانه الاستعمار الاقتصادي غير المباشر، وبذلك لم يكن النظام العالمي في ظل الأمم المتحدة النظام المنشود خصوصا للدول النامية.
- ونتيجة لما سبق، فبدلاً من رعاية هذه الدول وفقا لمنظور وأهداف الأمم المتحدة ذات الصلة بالتنمية للشعوب والدول، فقد زاد التنافس بين الإطراف الفاعلة في النظام العالمي على استغلال ثروات الشعوب والدول وبطرق غير مشروعة تحت مبررات وحجج متعددة ومتنوعة، والقاسم المشترك بينها عدم شرعيتها في ظل نظام هيئة دولية استندت في شرعيتها على مواثيق ومعاهدات لو طبقت بالشكل المقبول لكانت الأمم والشعوب بنعيم ليس بعده نعيم.
- إنَّ التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهده النصف الثاني من القرن العشرين قد اثرَّ بشكل مباشر على سلوك العلاقات الدولية بين الدول، سيما وإنَّ هذه التكنولوجيات قد استخدمت بشكل مباشر ومبالغاً فيه في القضايا العسكرية والاستراتيجية منها، وواقعيا كان احد أسباب انهيار هذا النظام على قاعدة التنافس الحاد بين قطبي النظام وعدم تمكّن احده من مجاراة الآخر، ما أدَّى إلى استسلامه عمليا وتفككه.

إنَّ الأسباب والآثار السالفة الذكر قد أفرزت العديد من القضايا ذات الصلة بأوضاع النظام العالمي والتي تعتبر في نفس الوقت احد سماته التي رافقته حتى انهياره والتي لم يوجد لها الحلول المناسبة، أما ابرز ها فهي:
- السباق المحموم على التسلح والذي يعتبر بوجه من الأوجه عدم إيمان الدول بهذا النظام وعدم الائتمان له، الأمر الذي أدَّى إلى استنزاف المداخيل الضخمة للعديد من الدول والذي اثرَّ بدوره على التنمية الاقتصادية- الاجتماعية لمعظم الدول إن كانت في المحور الاشتراكي أو الرأسمالي ، وكذلك في دول العالم الثالث.
- إنَّ ازدياد وتيرة التسلح في العالم وخصوصا النوعي منها ، أدَّى إلى تفكير العديد من الدول بامتلاك الأسلحة غير التقليدية ، لا سيما الدول النامية ، ما تسبَّب بأنواع جديدة من اختلالات التوازنات الإقليمية وبالتالي ظهور الحروب مجددا التي غالبا ما تركت آثارا على مستوى النظام العالمي.
- ظهور حروب الواسطة بين الدول الكبرى على أراضي دول العالم الثالث، حيث امتدت جغرافيا وتاريخيا في مختلف المناطق الحساسة في العالم والنماذج عليها كثيرة.
ثمَّة العديد من الأسباب التي أدَّت إلى الحرب الباردة وما رافقها في تلك الحقبة،وما أدت من تحوّلات ومتغيرات دراماتيكية سريعة كانهيار الاتحاد السوفييتي وكتلته،ومن ثمَّ انفراد الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم،وهذا ما عالجناه في كتابنا هذا.
لقد قسّمنا كتابنا إلى ثلاثة أبواب،عالجنا في الباب الأول منه نظريات توازن القوى والمصالح وما تخلَّل مختلف الحقبات من أنظمة عالمية،أمَّا الباب الثاني فقد خصصناه إلى المتغيرات المتعلقة بالأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي وما نجم عنه من تداعيات وآثار في النظام العالمي؛أمَّا الباب الثالث فقد عالجنا فيه هجمات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر وتداعياته الأمريكية والدولية والخلفية التي وقفت وراءها الولايات المتحدة لخوض الحرب على الإرهاب والتي من خلالها نفذت ثلاث حروب في بداية الألفية الثالثة،احتلال أفغانستان والعراق ومن ثمَّ حربها على لبنان بواسطة إسرائيل.وانهينا كتابنا بخاتمة تعالج صعود الإمبراطورية الأمريكية عبر قيادتها للنظام العالمي، ومن ثمَّ ناقشنا ما يمكن أن تؤول إليه أوضاع أميركا من سقوط وانهيار لقيادتها العالمية.
لقد اعتمدنا منهجاً علميا في توصيف الأمور وتكييفها،معتمدين على التحليل الموضوعي للظواهر والأحداث وصولا إلى تلمّس آفاق ومستقبل النظام العالمي،في محاولة للإسهام في وضع لبنات متواضعة لحل المشكل الدولية،آملين أن نكون قد وُفقنا بذلك.