13‏/04‏/2009

جرائم اسرائيل في غزة وتداعياتها القانونية والسياسية





Israel's crimes in Gaza
the legal and political Effects


Dr Khalil Hussein
Professor of International law
Faculty of Law / Lebanese university




Research submitted to the conference of the Muslim countries Prosecutors with Participation of prominent Judicial and Legal Personalities
"April 21/22/2009 –Tehran"














Email: drkhalilhussein@hotmail.com l Web - site www.drkhalilhussein.blogspot.com
Tel : 009613275781 l P.O.Box; 11/3317-Beirut - Lebanon









جرائم اسرائيل في غزة وتداعياتها القانونية والسياسية
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي
في كلية الحقوق / الجامعة اللبنانية





دراسة مقدمة إلى
مؤتمر المدعين العامين والحقوقيين الدوليين
في الدول الإسلامية
" طهران 21/22/2009"




كعادتها لم تتورع إسرائيل يوما عن انتهاك القوانين والأعراف الدولية المنظمة للحروب، بل عمدت منذ بداية عدوانها على غزة إلى استهداف المدنيين والمنشآت غير العسكرية، فنفذت المجازر على مساحة غزة بكاملها، وامتدت يد الغدر إلى الأطفال والشيوخ والنساء، دون رادع أو وازع قانوني أو أخلاقي. كما دمّرت بشكل منهجي البنى التحتية من جسور ومنشآت صحية وتربوية ودينية وكل ما يخطر ولا يخطر على البال،خارقة بذلك كل ما يمكن أن يوصف بحقوق الإنسان أو القوانين المنظمة لحماية المدنيين أثناء الحروب والنزاعات.فماذا عن اتفاقيات القانون الدولي الإنساني التي انتهكتها اسرائيل؟ وكيف تعاملت المنظمات العربية والدولية لحقوق الإنسان مع محرقة القرن الواحد والعشرين؟ وما هوالاساس القانوني الذي يمكن مواجهتها به؟
اولا : انتهاكات اسرائيل للاتفاقيات الدولية
في الواقع يمكن القول ان جميع الاتفاقيات الدولية لا يمكن لها ان تغطي فداحة الجرائم المرتكبة التي فاق حجمها إي تصوّر بالمقارنة بين المدة الزمنية ومساحة الأرض المحروقة التي اتبعتها اسرائيل وكذلك حجم الكثافة السكانية لغزة التي تعتبر الأولى في العالم! وفي مقاربة أولية لما جرى مع الاتفاقيات الدولية يمكن تسجيل ابرز الانتهاكات منها:
- اتفاقية " جنيف الأولى" لسنة 1864.
- إعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 لحظر القذائف المتفجرة.
- إعلان لاهاي لسنة 1899 حول قذائف "دم دم" والغازات الخانقة.
-اتفاقية " لاهاي" لعام 1907 وهي تتضمن نصوصا أساسية تضع ضوابط وقواعد وأصول مهمة للنزاعات المسلحة، إذ تهدف إلى تنظيم وسائل حل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية والى وضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلحة البرية والبحرية.
- اتفاقية هيغ لعام 1907 التي تتضمن قواعد مهمة تتعلق بمفهوم الحياد وبمفهوم الاحتلال وبكيفية إدارة العمليات الحربية. يشار إلى أنه أضيفت على هذه الاتفاقية قواعد الحرب الجوية التي وضعت مسودتها في العام 1923.
- بروتوكول جنيف بشأن حظر استعمال الغازات السامة والأسلحة الجرثومية لعام 1925 .
- ميثاق الأمم المتحدة.
- اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.والبروتوكولات الملحقة بها.
- اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية المواقع الثقافية في زمن النزاعات المسلحة.
- اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية لعام 1972.
- اتفاقية 1983 لمنع استخدام بعض الأسلحة،ومنها الفسفورية ضد المواقع العسكرية التي تقع بين المنشآت المدنية والتي استعملتها اسرائيل بكثافة في عدوانها على غزة.
- اتفاقية باريس لحظر استعمال الأسلحة الكيماوية.
- اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1980 بشأن حظر أو تقييد بعض الأسلحة التقليدية.
- البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف الأربع الموقعان في العام 1977 لاستكمال الحماية التي تضمنها اتفاقيات جنيف لعام 1949 في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.
وبعد التدقيق في نصوص الاتفاقيات والصكوك الدولية السالفة يتضح أن الحرب المدمرة والمبرمجة التي شنّها الجيش الإسرائيلي على غزة والتي نتج عنها قصف المدنيين الآمنين وتشريد مئات الآلاف منهم وضرب البنى التحتية والاقتصادية دون التركيز على الأهداف العسكرية، تشكّل خرقا فاضحا لقوانين النزاعات المسلحة وللمبادئ العامة والأعراف التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني.
إن العدوان الذي شنته إسرائيل ضد غزة وعلى النحو البربري والوحشي الذي اعتمدته أساسا لنجاحه عبر القضاء على أكبر عدد ممكن من المدنيين الأبرياء وتهديم ما أمكن من المنشآت المدنية، تشكّل انتهاكا فاضحا للعديد من القواعد والمبادئ الأساسية التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، إذ خالفت مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة والحل العسكري، ومبدأ التقيّد بحدود دولية معينة لاستعمال وسائل القتال، وموجب تحييد المدنيين ومبدأ تناسب الوسيلة العسكرية المستعملة مع حجم الاعتداء أو الخطر المحدق بالجهة التي تلجأ إلى القوة من أجل حل نزاعها مع الطرف المستهدف.
ففي جانب مخالفة مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال الحل العسكري ، فمن الواضح لا تسمح قواعد القانون الدولي الإنساني باللجوء إلى استعمال القوة من اجل حل النزاعات بين الدول أو في داخل الدول، إلا في حالة الضرورة القصوى بحيث تكون القوة الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها من أجل التوصّل إلى حفظ السلم والأمن الدوليين، أو من اجل رد العدوان أو وضع حد للأعمال الإرهابية التي تتعرض لها الدولة المعتدى عليها. وهذا ما يمكن استنتاجه من نص البند الثالث من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة الذي جاء فيه أنه " يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر". وهذا ما يؤكّد عليه أيضا وبشكل صريح البند الرابع من المادة ذاتها بنصه على أنه " يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة". ما يعني أن الدولة المعنية لا يمكنها استعمال القوة العسكرية ضد دولة أخرى أو بلد آخر إلا في حالة الضرورة كحالة الدفاع عن النفس أو كالحالة التي يصبح فيها استخدام القوة العسكرية الوسيلة الوحيدة المتوفرة لرد العدوان أو لحفظ الأمن والسلم الدوليين أو لمواجهة أعمال إرهابية تطال من أمن الدولة المعنية ومن سلامة مواطنيها.
إن مراجعة سير وطبيعة الأعمال الجرمية التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد غزة، يتبيّن أن هذه الأعمال لا يمكن إسنادها إلى حالة الضرورة العسكرية، باعتبار أن فعل إطلاق الصواريخ لا يؤلّف مبررا كافيا ومقنعا كي يستخدم كأساس شرعي لهذا العدوان، كما أنه لا يهدد فعلا الكيان الإسرائيلي ولم يحمل اعتداء خطير على أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها وبالتالي لا يبرر حربا مدمرة ومنظمة واسعة النطاق.
اما لجهة مخالفة مبدأ التقيّد بحدود معيّنة في استعمال القوة العسكرية ، فأكّدت المادة 35 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف الموقع في العام 1977 على "أن حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقا لا تقيده قيود". وفي الاتجاه ذاته، كانت قد أشارت صراحة المادة 22 من اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية الموقعة في 18 اكتوبر/ تشرين الأول سنة 1907 إلى أنه " ليس للمتحاربين حق مطلق في اختيار وسائل إلحاق الضرر بالعدو" . وعليه ليس للمتحاربين الحق غير المقيّد بأي قيد في اختيار وسائل الإضرار، باعتبار أن الهدف الرئيس للحرب يكون ضرب القوة العسكرية للعدو وإيقاع الهزيمة به. وفي السياق ذاته، يحظّر البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949 استخدام الأسلحة التي من شأنها زيادة معاناة الجرحى وآلامهم وجعل تدهور حالتهم الصحية أو موتهم أمرا محتوما ومؤكدا. وهذا ما كانت قد أكّدت عليه من قبل المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان والتي جاء فيها أنه "يجب في جميع الأحوال احترام وحماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة وغيرهم من الأشخاص المشار إليهم في المادة التالية". وكذلك تنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب على أنه "يكون الجرحى والمرضى وكذلك العجزة والحوامل موضع حماية واحترام خاصين".
إن إسرائيل لم تفرط في استعمال القوة العسكرية فقط وإنما لم تتقيد بأي حدود أو سقف في تنفيذ عملياتها العسكرية حيث لجأت إلى استعمال كافة الأسلحة الثقيلة وحتى بعض الأسلحة المدمرة وغير المسموح استعمالها والمحرّمة دوليا ضد المدنيين الشيوخ والأطفال والنساء والمرضى من دون تمييز ولم تضع لعملياتها الحربية أي حدود أو أهداف واضحة ومحددة غير تلك التي تبتغي القتل والدمار والتهجير.
أما مخالفة واجب تحييد المدنيين فيفرض قانون النزاعات المسلحة على الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية حماية المدنيين وتحييدهم عبر اتخاذ الإجراءات الضرورية التي يمكن بموجبها التمييز بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين. وتلتزم الدولة التي تختار القوة العسكرية لحل نزاعها مع دولة أخرى أو لصد عدوان ما أو لوضع حد لخطر إرهابي أو لأعمال إرهابية معينة بحماية الأشخاص العاجزين عن القتال أي المقاتلين الذين عجزوا عن القتال بسبب مرضهم أو إصابتهم بجروح أو أسرهم أو لأي سبب آخر يمنعهم من الدفاع عن أنفسهم وعناصر الخدمات الطبية وأفراد الهيئات الدينية، ذلك تطبيقا لنص المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى في الميدان ولنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. كما يتوجب على القوات المسلحة التي تستخدم القوة العسكرية، عملا بأحكام المادة 21 من اتفاقية جنيف الرابعة، احترام وحماية عمليات نقل الجرحى والمرضى المدنيين والعجزة والنساء التي تجري في البر بواسطة قوافل المركبات وقطارات المستشفى أو في البحر بواسطة سفن مخصصة لهذا النقل. وعلى كل طرف من أطراف النزاع أن يكفل حرية مرور جميع إمدادات الأدوية والمهمات الطبية ومستلزمات العبادة المرسلة حصرا إلى سكان مدنيين حتى ولو كانوا تابعين لدولة عدوة. وعليه أيضا الترخيص بحرية مرور أي إمدادات من الأغذية الضرورية، والملابس، والمقويات المخصصة للأطفال والنساء الحوامل أو النفاس (م 23 من اتفاقية جنيف الرابعة). ويكون من واجبات أطراف النزاع اتخاذ التدابير الضرورية لضمان عدم إهمال الأطفال دون الخامسة عشر من العمر الذين تيتموا أو افترقوا عن عائلاتهم بسبب الحرب وتيسير إعالتهم وممارسة طقوس ديانتهم وإيوائهم في بلد محايد طوال مدة النزاع (م 24 من اتفاقية جنيف الرابعة.
إن الوقائع الثابتة بالصور والمشاهد التلفزيونية والتقارير الصحافية والأمنية تثبت أن القوات الإسرائيلية انتهكت جميع هذه القواعد والأعراف التي تحكم النزاعات المسلحة كونها تستهدف بقصفها العشوائي المدنيين من دون تمييز بين مواقع عسكرية وأخرى مدنية، ومن دون التمييز بين مقاتلين وغير مقاتلين وتقوم بضرب الجسور وبقطع كل المواصلات البرية بهدف منع وصول المؤن والأغذية والأدوية إلى المدنيين المحاصرين. إضافة إلى ذلك أن هذه القوات وبدلا من أن تتخذ إجراءات معينة لتحييد المدنيين من الأطفال والنساء والعجزة ولحمايتهم أو لتسهيل عملية نقلهم إلى مناطق آمنة أو محايدة، راحت تلقي عليهم الأطنان من القنابل وتقطع عنهم المؤن والأغذية وترتكب بحقهم أبشع الجرائم وأخطرها ( جرائم حرب ) التي يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي، ما يؤلّف خرقا فاضحا وخطيرا لكل قواعد قانون النزاعات المسلحة أو للقانون الدولي الإنساني.
أما لجهة مخالفة مبدأ التناسب بين الوسيلة العسكرية وحجم الاعتداء وخطورته ،فبات من المسلّم به أن عدوان إسرائيل ضد غزة تخطى بمداه وبنوع الأسلحة والوسائل العسكرية المستعملة وكثافة القصف الجوي الذي لجأ إليه الجيش الإسرائيلي في عملياته الحربية ضد المواطنين المدنيين والبنى التحتية ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني ودور العبادة وغيرها، حجم وخطورة اطلاق الصواريخ التي نفذتها المقاومة ضد القوات العسكرية الإسرائيلية. وهذا ما يخالف مبدأ تناسب الوسائل العسكرية المستعملة مع حجم وخطورة العمل الذي تعرضت له الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية. ويقضي هذا المبدأ بعدم الإفراط في استعمال القوة العسكرية ووسائل القتال بحجم لا يتناسب مع خطورة الوضع العسكري أو الصفة العسكرية للهدف المقصود. ومن هذا المنطلق يضع قانون النزاعات المسلحة لزاما على أطراف النزاع ببذل رعاية متواصلة في إدارة العمليات العسكرية من أجل تفادي إلحاق الأذى بالمدنيين وبالامتناع عن اتخاذ قرار بشن هجوم عسكري قد يتوقع منه أن يحدث، بشكل عرضي، خسائر في الأرواح بين المدنيين أو إلحاق الأذى بهم أو بممتلكاتهم. كما أن قواعد قانون النزاعات المسلحة تفرض بأن يلغي أو يعلّق أي هجوم عسكري إذا تبيّن أن الهدف المتوخى من ضربه ليس هدفا عسكريا أو قد ينتج عنه، بصورة عرضية ضررا وخسائر بشرية أو مادية مدنية.
ويظهر من خلال طبيعة العمليات الحربية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في غزة أن الوسائل العسكرية التي استعملها لا تتناسب مع خطورة الأعمال التي قامت بها المقاومة ولا حتى مع الوسائل الحربية المستخدمة من قبل هذه المقاومة التي لا تمتلك كالجيش الإسرائيلي كافة الأسلحة والأعتدة الحربية المتطورة ولا الدبابات ولا الطيران الحربي الذي لجأت إليه إسرائيل بصورة رئيسة في المعركة، ما يعتبر خرقا فاضحا لقواعد قانون النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.
ثانيا: منظمات حقوق الانسان وكيفية التعامل
منذ بدء العدوان على غزة انطلقت في غير مكان عربي ودولي بيئة مستنكرة ومدينة للعدوان وجرائمه الموصوفة قانونا،لكن العبرة لا تتعلق بالتحرك وانما فعاليته وتداعياته ونتائجه العملية.فما هي هذه المنظمات وكيف تعاملت؟وما هي تداعيات تحركها؟فعلى الرغم من فداحة الخروق لم يكن تحرك المنظمات الأهلية والرسمية كافيا لجهة التناسب مع حجم الجريمة،فغالبها تعامل مع القضية من منطلق وظيفي فرضته طبيعة عمل واهداف هذه المنظمات،وبالتلي يُصنف من النوع غير الكافي للبناء عليه.
فعلى سبيل المثال لم يتجاوز عمل "مجلس حقوق الإنسان" التابع للأمم المتحدة اتخاذ قرار بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق لما يجري في غزة،ولم يتمكن من التوصل الى قرار لإدانة المجازر الإسرائيلية وانتهاكات القانون الدولي الإنساني،بفعل المعارضة الأوروبية لذلك على قاعدة ما اسماه عدم التوازن في مشروع القرار،ما أدى إلى صدور قرار هزيل لا يتناسب وحجم المحرقة.وكما مجلس حقوق الإنسان كذلك باقي المنظمات،ومرد ذلك إلى العديد من الأسباب والاعتبارات ومن بينها:
- أنّ تصوّرات القائمين على المنظمات شأن معظم منظمات حقوق الإنسان خارج النطاق الرسمي، تنطلق تلقائيًّا من تصورات وإرث فكري وعقائدي ساهم مباشرة في تكوين الشخصية الغربية عبر القرون، فهم مع توفر أشدّ درجات الحماس لدعواتهم ومواقفهم، قد يصطدمون قاصدين أو غير قاصدين بتصورات ومعتقدات أخرى، لا سيما وأنهم ينطلقون في تحديد معاييرهم من بيان حقوق الإنسان العالمي، الذي يتفق في بعض الأحيان مع المعتقدات والتصورات البشرية عمومًا، ولكنه يتضمن أيضًا بعض ما لا ينسجم معها أو مع بعضها، وقد وُضع إجمالاً في حقبة كانت الكلمة الحاسمة فيها للغرب عقب الحرب العالمية الثانية.
- أنها كغيرها تتعرّض لمدِّها بمعلومات غير صحيحة، لا سيما عند اعتمادها في البلدان العربية والإسلامية مثلاً، على مصادر وأشخاص هم أقرب من غيرهم إلى تصوّراتها ومعاييرها في قضايا حقوق الإنسان، فضلاً عن عزوف آخرين من تلقاء أنفسهم عن التعاون معها، ناهيك عن المشاركة في نشاطاتها، بدعوى المعايير المتباينة مع ثوابت إسلامية مثلاً.
- توظيف نشاطاتها وأعمالها وتقاريرها لتحقيق أغراض غير الأغراض التي استهدفتها في الأصل، وفق أساليب منحرفة معروفة تحت عناوين الازدواجية والانتقائية.

ثالثا: ازدواجية المعايير في التعاطي مع المجازر

غريب المفارقات ما يظهر تحديدا في المنظمات الأهلية والرسمية المختصة بحماية الحقوق الأساسية للإنسان،فعلى الرغم من أن جوهر وظائفها ومبرر وجودها وأسلوب عملها يقتضي وجوب الحيادية والنزاهة في العمل والتعاطي مع أطراف القضية الواحدة بموقف يكون على مسافة واحدة،نرى تهميش وتجهيل الأمور المتعلقة بالقضايا العربية تحديدا،وغض الطرف عن الممارسات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
فمنذ سنوات ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها من منظمات المجتمع المدني وهي تطالب المجتمع الدولي بالتدخل الفاعل والجاد واتخاذ إجراءات عملية في مواجهة التحدي المستمر من جانب إسرائيل وقوات احتلالها لقواعد القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، بهدف إجبارها على احترام التزاماتها التعاقدية حيال المدنيين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول/ سبتمبر 2000، تزايدت المطالب من جانب منظمات المجتمع المدني المحلية والإقليمية والدولية بضرورة التدخل الدولي لحماية المدنيين الفلسطينيين، أمام التصعيد المستمر في جرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني (كما تحددها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب) التي تواصل قوات الاحتلال اقترافها ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة. وتستند هذه المطالب المشروعة إلى:
- اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب والتي تنص المادة الأولى منها على أن "تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال." كما تضع المادة 146 من الاتفاقية التزامات محددة على الأطراف السامية المتعاقدة، بما في ذلك اتخاذ إجراءات تشريعية، لملاحقة المتهمين باقتراف مخالفات جسيمة وتقديمهم إلى المحاكمة أو تسليمهم لطرف ثالث متعاقد معني بمحاكمتهم.
- اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل التي تنص المادة الثانية منها على وجوب "أن تستند العلاقات بين الأطراف، وشروط هذه الاتفاقية ذاتها، إلى احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، والتي تقود سياساتهم الداخلية والخارجية، وتشكل عنصراً رئيساً من الاتفاقية.
- بالرغم من ذلك، كان هناك فشل مزمن من جانب المجتمع الدولي، بخاصة الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة ودول الاتحاد الأوروبي، في الوفاء بالالتزامات القانونية المذكورة أعلاه. وشكّل ذلك عاملاً مشجعاً لإسرائيل (قوة الاحتلال الحربي) للإمعان في تحديها للقانون الدولي والتصرف كدولة فوق القانون تحظى بحصانة سياسية وقانونية خاصة، والمضي قدماً في جرائمها وانتهاكاتها ضد المدنيين الفلسطينيين بل وتصعيدها إلى مستوى غير مسبوق. إذ شملت هذه الجرائم والانتهاكات: الاستخدام المفرط للقوة وجرائم القتل العمد والإعدامات خارج إطار القانون؛ التوسع الاستيطاني وضم الأراضي والاستمرار في تدشين جدار الضم؛ تدمير الممتلكات المدنية؛ فرض العقوبات الجماعية بما فيها الحصار وفرض قيود مشددة على الحركة والتنقل؛ التعذيب وسوء المعاملة؛ وإنكار العدالة للمدنيين الفلسطينيين بما في ذلك حرمانهم من التعويض عن الجرائم التي تقترفها قوات الاحتلال بحقهم بل وعدم التحقيق في الآلاف من تلك الجرائم. وعلى مدى الأعوام الثمانية الماضية، أسفرت هذه الإجراءات عن أزمات إنسانية حادة وتدهور غير مسبوق في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة والفقر والتهميش الاجتماعي بكل تفاصيله.
- لقد كانت المطالب التي وجهتها منظمات المجتمع المدني إلى المجتمع الدولي (خاصة الأطراف السامية المتعاقدة على الاتفاقية والاتحاد الأوروبي) غير كافية في نطاق الالتزامات القانونية الواقعة على تلك الأطراف. وعلى سبيل المثال، لم تتضمن المطالب الموجهة لدول الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على دولة إسرائيل، إنما تفعيل المادة الثانية من اتفاقية الشراكة ووقف الامتيازات الممنوحة لإسرائيل بموجب الاتفاقية حتى تذعن الأخيرة لالتزاماتها. ولم تكن المطالب الموجهة للأطراف أكثر من الدعوة لتشكيل لجان تحقيق.
لقد كان من المؤمل أن تجد هذه المطالب آذاناً صاغية وأن يبادر المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات عملية ضد إسرائيل لضمان امتثالها لقواعد القانون الدولي.ولكن للأسف الشديد وبدلاً من معاقبة إسرائيل على جرائمها، يتمَّ معاقبة الضحية، أي معاقبة الشعب الفلسطيني والمدنيين الفلسطينيين الرازحين تحت نير الاحتلال الحربي الإسرائيلي وعملياته الإجرامية في غزة.
رابعا: ضرزرة توثيق الجرائم وسبل مقاضاة اسرائيل
ثمَّة ضرورة قصوى لتوثيق جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي ارتكبتها اسرائيل في عدوانها على غزة باعتبارها حجر الأساس للانطلاق نحو مقاضاة اسرائيل في المحافل الجنائية الدولية؛وفي واقع الأمر ثمَّة العديد من المحاولات الجادة التي تشكل بيئة جيدة في هذا المجال وبخاصة الجمعيات العربية وبعض الدولية.لكن العبرة تكمن في جدية المتابعة والإصرار عليها.
في الواقع ثمَّة سبل وطرق متعددة لسلوك المقاضاة رغم العثرات التي يمكن أن تواجهها.ومن الضروري الانطلاق في عدة مناهج كالبيئة الإعلامية القانونية والسياسية القانونية والحقوقية القانونية وعدم الاقتصار على هذه الأخيرة،باعتبار أن المحاكم الجنائية الدولية لا زالت قاصرة بشكل عام على احقاق الحق للعديد من الاعتبارات ويأتي في طليعتها طبيعة النظام العالمي القائم ومن يتحكم بمفاصل مساراته وأدواته القانونية والسياسية.
بداية تعتبر السلطة الفلسطينية كيانا اعتباريا على المستوى الدولي، وبالتالي لها حقوق وواجبات الاتفاقيات الدولية السابقة واللاحقة لنشوئها ما لم تطلب أو تعلن عكس ذلك في حدود ما يسمح لها القانون الدولي العام بذلك.وحتى الآن التزمت السلطة الفلسطينية بجميع الاتفاقيات الدولية وبخاصة تلك المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني باعتبارها صاحبة حق في مندرجاته.
ثمَّة خيارات عدة للمقاضاة ومنها:محكمة العدل الدولية، استنادا إلى الاتفاق الدولي المتعلق بمعاقبة جريمة الإبادة الجماعية للعام 1948 التي أصبحت نافذة اعتبارا من 12/1/ التي انضمّت إسرائيل إليها. فالمادة )9( من هذا الاتفاق تعطي محكمة العدل الدولية صلاحية النظر في كل نزاع ينشأ عن تفسير هذا الاتفاق أو تطبيقه، بما في ذلك مسؤولية إحدى الدول عن أعمال الإبادة التي ترتكبها، بحيث أن الدعوى - في حال تقديمها على أساس اتفاق عام 1948، تكون مقبولة في الشكل، وفق ما أخذ به اجتهاد هذه المحكمة، من دون الحاجة إلى موافقة خاصة من دولة أخرى منضمة إلى الاتفاق (المقصود هنا اسرائيل) . فالسند القانوني في حال تقديم الدعوى على أساس الإبادة الجماعية، هو اتفاق عام 1948 المتعلق بجريمة الابادة الجماعية، علما أن هذه الجريمة، أسوة بسواها من الجرائم الدولية هي الأكثر خطورة، وان هذا النوع من الجرائم لا يمر الزمن عليه وفق ما تمشى عليه اجتهاد القانون الدولي. وان الجمعية العمومية للأمم المتحدة أقرّت في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1968 اتفاقا أصبح نافذا في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1971 ينص صراحة على أن لا مرور للزمن في جرائم الحرب أو في الجرائم ضد الإنسانية. وكانت إسرائيل في عداد الدول التي صوَّتت على القرار الرقم 2391 العائد إلى هذا الاتفاق.
أما بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية فان فالعديد من الأفعال التي ارتكبتها "إسرائيل" في عدوانها الأخير يقع تحت طائفة الجرائم موضوع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية التي لا تحاكم دولا، بل يمكنها محاكمة أفراد متهمين بارتكاب جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة ضمن اختصاصها. فالمحكمة تضع يدها على القضية وتمارس اختصاصها إما بإحالة القضية من دولة طرف في نظام المحكمة وقبلت بصلاحياتها (يقتضي استبعاد هذه الحالة إذ أن إسرائيل لم تنضم إلى اتفاق روما أو قبلت بصلاحية المحكمة)، وإما إحالة القضية من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهذه الحالة مستبعدة أيضا لاعتبارات الفيتو الأمريكي. وتبقى الحالة الأخيرة، وهي إحالة القضية من جانب المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية الذي يحق له التصرف تلقائيا. وقد لحظت المادة 12 من اتفاق روما في فقرتها الثالثة أنه يمكن للدولة غير المنضمة إلى الاتفاق إذا وقعت إحدى الجرائم على أرضها ( المقصود السلطة الفلسطينية) أن تعلن قبولها بصلاحية المحكمة لهذه الجرائم بالذات، وان تطلب من المدّعي العام أن يتحرك، وان يحيل القضية على المحكمة إذا تبيّن له من التحقيق الذي يجريه وجود أدلّة كافية تشكل أساسا معقولا للمحاكمة.وهذا ما فعله مؤخرا مدعي عام المحكمة "اوكامبو" ضد الرئيس السوداني عمر البشير وهي سابقة دولية سجلتها المحكمة رغم عدم موضوعيتها وسندها الشرعي والقانوني.
كما انه يمكن اللجوء إلى محاكم بعض الدول الأوروبية التي اعتبرت نفسها صاحبة صلاحية في النظر في جرائم الحرب التي تقع على مواطنيها في دول أخرى كالمحاكم البلجيكية والاسبانية والفرنسية والبريطانية،عبر تقديم مواطنين يحملون جنسيات مزدوجة بين هذه الدول والسلطة الفلسطينية وثمة سوابق جرت في هذا المجال عند محاولة محاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون على جرائمه في مجزرتي صبرا وشاتيلا العام 1982 في لبنان أمام المحاكم البلجيكية.
إضافة إلى ذلك يمكن اللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سندا إلى- اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل التي تنص المادة الثانية منها على وجوب "أن تستند العلاقات بين الأطراف، وشروط هذه الاتفاقية ذاتها، إلى احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، والتي تقود سياساتهم الداخلية والخارجية، وتشكل عنصراً رئيساً من الاتفاقية.
ما جرى ويجري في غزة جرائم تندى لها جبين الإنسانية ورغم ذلك لم يتم التوصل إلا لقرار دولي حمل الرقم 1860 مضمونه الدعوة لوقف إطلاق النار مع وقف التنفيذ,بل حمل في طياته البيئة المناسبة لإسرائيل لاستمرار تنفيذ جرائمها في غزة وسط صمت عربي ودولي مريب،فماذا في هذا القرار وما هي خلفياته القانونية والسياسية؟
خامسا: القرار 1860 وخلفياته القانونية والسياسية
بداية ثمة ضرورة علمية وموضوعية للجوء إلى النص الانكليزي للقرار منعا للالتباس الذي يمكن أن يحصل من تأويل بعض الفقرات من خلال الترجمة غير الدقيقة التي أطلق فيها.سيما وان الكثير من القرارات الدولية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي قد تمَّ استثمارها قانونيا وسياسيا بغير موضعها الحقيقي،ما أدت إلى تداعيات سلبية كثيرة.وكأي قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي ينبغي النظر إليه بعين مجردة،لكي يأتي تشريحه مطابقا للواقع قدر الإمكان.وعليه يمكن تسجيل بعض الملاحظات الأولية ومنها:
- من الناحية الموضوعية، أتى القرار في صيغته اللغوية متوافقا مع التصنيف الذي يضعه في نطاق الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة،وبالتالي فهو ذات طبيعة غير إلزامية للمعنيين به،الأمر الذي يعني ان لا سلطة لمجلس الأمن وفقا لهذه الصيغة اللجوء إلى القوة العسكرية أو لغيرها لتطبيقه،فهو بالمعنى القانوني "توصية" لا "قرار" ملزم وواجب التطبيق.
- على الرغم من خطورة الوضع القائم في غزة والذي أشار إليه القرار في أكثر من فقرة ولو بلغة ذات توصيف "إنساني" لا سياسي،فان التدقيق في الإخطار السياسية والعسكرية الناجمة، أو التي يمكن أن تنجم لاحقا،تؤدي إلى الاستنتاج القاطع بأن وضعا كهذا يشكل خطرا على الأمن والسلم الدوليين،وعليه فان من واجب مجلس الأمن الدولي الذي من ابرز مهامه الأساسية حفظ الأمن والسلم الدوليين بشتى الوسائل حتى الوصول إلى استخدام القوة،الأمر الذي لم يفعله مجلس الأمن يوما في البيئة التي يتعاطى فيها مع قضايا الصراع العربي الإسرائيلي لا في هذا القرار ولا في غيره،رغم أن الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن مجلس الأمن عاجز أصلا عن ذلك لاعتبارات كثيرة.
- وللموضوعية أيضا ينبغي الاعتراف بكل شجاعة أن الظروف الذاتية والموضوعية لمن يتواجد في غزة من مدنيين ومقاومين، لم يكن باستطاعتهم انتزاع إي قرار، فوق السقف الذي أتى به القرار 1860،ما يمكن ان يصنف في إطار الممكن وسط الظروف العربية والإقليمية والدولية المعروفة.
- إن التدقيق في النص الانكليزي للقرار والترجمة العربية القانونية الدقيقة له،يظهر أبعادا وخلفيات كثيرة؛فعلى الرغم من اللبس وإمكانية التأويل في فقراته المقطعة لغويا،والمعطوفة على شروط وأولويات،ثمَّة نقاط ايجابية لا يمكن إغفالها عمليا،وان كانت بعض المظاهر السلبية بارزة للعيان.
- في 521 كلمة وردت في متن القرار لم يذكر فيها اسم "حماس" رغم انها الطرف المعني الأساسي بالقرار،بينما ذكرت "اسرائيل" و "الفلسطينيين" ثلاث مرات بالتساوي،الأمر الذي يعني ان ثمة تجاهلا لأصل الموضوع، الأمر الذي يضعف القرار عمليا باعتباره لم يخاطب صاحب العلاقة مباشرة،مشيرا إليها بطريق غير مباشر في مناحي عدة.
وبصرف النظر عن التسميات المحددة ودوافعها واعتباراتها، أتت ديباجة القرار 1860 لتعطفه على قرارات أساسية متعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي ومنها،القرار (242) لعام 1967 ،والقرار (337) للعام 1973،وكذلك القرارات (1397) و (1515) و(1850) للأعوام 2002 و 2003 و 2008،ما يعني أن معالجة القضية تأتي في سياق القضية المركزية للصراع،عبر الإشارة إليه نصا وبالتحديد،في المادة (8) " لتحقيق سلام شامل على أساس الرؤية القائمة على وجود دولتين ديمقراطيتين، فلسطين وإسرائيل"، لكنه لم يذكر المسارات العربية الأخرى تحديدا إذ اكتفى بالتعميم.
ثمة توصيف قانوني لقطاع غزة في مقدمة القرار، إذ اعتبرها من الأراضي المحتلة وجزء من الدولة الفلسطينية الموعودة،الأمر الذي يرتّب موجبات قانونية على دولة الاحتلال،من ضمنها وجوب احترام مفاعيل القانون الدولي الإنساني في مختلف اتفاقياته ومن بينها اتفاقيات جنيف الأربعة وبخاصة الرابعة منها لجهة حماية المدنيين في وقت الحرب،الأمر الذي انتهكته اسرائيل بشكل فظ ومكشوف عبر جرائم الحرب والإبادات الجماعية المنقولة مباشرة على الفضائيات.
لقد خصص القرار ثلاث مواد مباشرة للوضع الإنساني القائم في غزة عدا التي وردت عرضا أو بالإيحاء،من اصل عشرة مواد وردت في النص،ما يعني ان مجلس الأمن لا زال في نفس السياق الذي اعتاد عليه في مقاربته للقضية الفلسطينية تحديدا على قاعدة اختصارها كقضية لاجئين ذات تداعيات وأبعاد إنسانية. ففي المادة (2) دعا "إلى توفير وتوزيع المساعدات الإنسانية في كافة أرجاء غزة من دون إعاقة ،الا انه لم يذكر او يحدد الجهة المعرقلة،او التي لا تسمح بذلك.وفي المادة (3) رحب "بالمبادرات ا الهادفة إلى فتح ممرات إنسانية" لكنه لم يبادر الى تحديد الكيفية وتركها بصفة عمومية عبر فقرة استطرادية : " وآليات أخرى لضمان التوفير المتواصل للمساعدات الإنسانية"،فما هي هذه الآليات وكيف يمكن تشكيلها وتنفيذها؟ عدا دعوته إلى الصفة المتواصلة ،ما يعني بشكل غير مباشر إلى رفع الحصار لكن بشروط كما وردت في مواد أخرى.وللتأكيد على المعالجة الإنسانية للقضية ابرز ضرورة دعم دول العالم للانوروا في المادة (4) " عبر لجنة التنسيق المؤقتة". فعلى فداحة الوضع الإنساني الذي يغرق فيه قطاع غزة، ظلت المواد السالفة الذكر، مجرد توصيات وأمنيات خاضعة في كثير من آلياتها إلى حسابات سياسية بحتة لا التزامات قانونية واجبة التطبيق في إطار القانون الدولي الإنساني.
وغريب المفارقات ما ورد في الصياغة اللغوية والقانونية للمادة الأولى من وقف لإطلاق النار،فبدلا من البدء بالدعوة إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار جاء النص لـ " يؤكد على الحاجة العاجلة" ، و"يدعو إلى وقف فوري ودائم يتم احترامه لإطلاق النار" فرغم التأكيد على "الحاجة" أتت الدعوة بصيغة مخففة وبكلمات استطرادية،بعدما اقرنه ليس بوجوب "الاحترام"، إنما "يتم احترامه".والمفارقة الأخرى في المادة عينها،انه لم يدعو اسرائيل إلى الانسحاب فورا من القطاعين بل ربطه بشكل مباشر بوقف النار، اي ان وقف إطلاق النار"يؤدي إلى الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزة " ، وهي عبارة قابلة للتأويل والتكييف بحسب الظروف،فلو تصوّرنا أن أية جهة فلسطينية موجودة في غزة قامت بإطلاق صاروخ أو أي عمل عسكري ولو كان ضمن قطاع غزة لا خارجها، يمكن أن يُفسّر خرقا لوقف إطلاق النار وبالتالي إيجاد الفرصة الذريعة لعدم الانسحاب من القطاع.عدا عن أن البيئة الأمنية والعسكرية من الصعب ضبطها أو وضع حدود وقواعد لها حتى في الدول المستقرة سياسيا فكيف الأمر بقطاع غزة؟!.
علاوة على ذلك إن إطلاق النار أمر مرتبط من الوجهة الفلسطينية بمقاومة الاحتلال، الأمر الذي أُعترِفَ به في ديباجة القرار نفسه، عبر اعتبار غزة جزءاً محتلا،فكيف يمكن المواءمة بين وقف إطلاق النار ومقاومة المحتل الذي أجازه القانون الدولي العام وتكرَّس في اتفاقات ومعاهدات وأعراف شتى.والأمر اللافت في هذا المجال إن القرار عالج عمليات وقف إطلاق النار من وجهة إدانة " كل أشكال العنف والأعمال العدائية ضد المدنيين وكل أعمال الإرهاب"ذلك في المادة (5).فالإدانة هنا تبدو تبادلية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي مع اختلاف المعايير والتكييف القانوني للأعمال الحربية التي يمكن ان تبرز بين الفريقين.فالمطالبة هنا تشمل بطريق غير مباشر القائم بالاحتلال ومن يقع تحت الاحتلال، وهما إعمالا عنفية أو إرهابية بحسب توصيف القرار ،وهي سابقة أقدم عليها مجلس الأمن في توصيف الإعمال القائمة بالإرهابية وبالتأكيد المقصود هنا الجانب الفلسطيني لا الإسرائيلي ،إذ درجت العادة على تسمية عمليات المقاومة الفلسطينية ضد اسرائيل بأعمال العنف،فيما توصّف الأعمال الإسرائيلية بالأعمال المفرطة في استعمال القوة.
إن المحافظة على الوقف الدائم لإطلاق النار أمر مرتبط أيضا بتوفير الجهود للتوصل إلى " ترتيبات وضمانات" كما ورد في المادة (6) فما هي طبيعة الترتيبات والضمانات ؟ ومن هي الجهة القادرة على توفيرها وإعطائها ورعايتها مستقبلا،إذا تمَّ التوصّل إليها؟ إلا إذا كانت من قبيل المبادرة المصرية التي أشارت إليها الفقرة الأخيرة من المادة نفسها،وعلى قاعدة اتفاق العام 2005 المتعلق بالمعابر بين الجهتين الفلسطينية والإسرائيلية.
ورغم التذكير في أسس المعالجة التي يستند إليها مجلس الأمن في رؤيته لتسوية الصراع بين العرب وإسرائيل على قاعدة القرارات الدولية التي أتى على ذكرها،فقد ذكَّر بالمبادرة العربية للسلام من باب رفع العتب السياسي كما وردت في الفقرة الأخيرة من المادة (8).والسابقة من حيث التدرّج في المادة (9) التي رحَّب "بنظر (اللجنة) الرباعية، بالتشاور مع الأطراف، في عقد مؤتمر دولي في موسكو في العام ٢٠٠٩؛والتي تعتبر من باب المكافئة السياسية الموعودة لموسكو لحجز دور وموقع لها في إطار المشاريع في حال انطلاقها.
إن جوهر القرار ربما يكمن في مادته العاشرة التي ابقي فيها الموضوع قيد نظر مجلس الأمن ،ما يعني أن القرار سيؤسس لقرارات أخرى تالية بحسب موازين الوضع على الأرض،ليخلق بيئات سياسية وأمنية مختلفة لاحقة،وهذا ما يقودنا إلى الخلفيات السياسية للقرار،الأمر الذي يقودنا إلى تحليل الأهداف غير المعلنة لإسرائيل في العدوان على غزة.

سادسا : الأهداف الإسرائيلية غير المعلنة من محرقة غزة

فثمة سلسلة متواضعة من الأهداف أعلنتها القيادتين السياسية والعسكرية "الإسرائيلية" لعملية "الرصاص المسكوب" مقارنة مع حجم ونوع الأسلحة التي استخدمت في المحرقة،إلا أن التدقيق في خلفيات العدوان ومساراته يظهر خلفيات إضافية ذات أبعاد إستراتيجية يرتبط غالبيتها بالنتائج السياسية المفترضة للعدوان.فإذا كان المعلن القضاء على البيئة السياسية لحركة حماس في غزة وما سيستتبعه من تداعيات ونتائج،فإن المبيّت سيمتد بالضرورة إلى عناصر وفواعل إقليمية ودولية لها ثقلها في القضايا الشرق أوسطية؛وبالتالي فالعدوان منذ بداياته حمل رسائل في أكثر من اتجاه.
ففي توقيت العدوان، الذي جاء في الوقت الضائع من عمر الإدارة الأمريكية الراحلة بعد اقل من أسبوعين،بدا وكأنه فرض خريطة طريق إسرائيلية على إدارة باراك اوباما،أولها التملص من كافة ما سُميَّ التزامات أمريكية سابقة لمسار التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني ومشاريع الدولة الفلسطينية الموعودة.انتهاءً بإعادة تموضع تفاوضي جديد مع سوريا ومع كل من يرغب بذلك من العرب على قواعد جديدة لا علاقة لها بما سبق من اطر ومكونات قانونية - سياسية تفاوضية.مرورا بتقويض كل المبادرات والوساطات الجارية في المنطقة ذات الصلة ومن بينها التركية على سبيل المثال لا الحصر،إضافة إلى الإعدام السياسي للمبادرة العربية للتسوية المقرّة في فمة بيروت.
وعطفا على ذلك،انتهاج إستراتيجية عزل قوى الممانعة العربية لجهة الجغرافيا السياسية لأدوات الصراع في أقصى حدوده،عبر إيجاد بيئة أمنية دولية ملائمة تقوّض وسائل الصراع وتربطه بقرارات وأطر صعبة الاختراق إلا بأثمان إقليمية من الصعب تحمّلها لأي طرف يود الإخلال بها.بمعنى آخر استنساخ قرار دولي بمواصفات القرار 1701 المتعلق بلبنان والذي أثبت قدرته على تحقيق اوجه كثيرة من أهدافه لكافة أطرافه والمستفيدين منه؛سيما وأن هذا السيناريو ظهر للعلن مباشرة بعد انتهاء العدوان على لبنان في محافل إقليمية ودولية وصُرِفَ النظر عنه لأسباب واعتبارات متنوعة تتعلق بغالبيتها في الجانب الإسرائيلي تحديدا في تلك الفترة.
وإذا كان توقيت العدوان جاء في الوقت الضائع خارجيا، فهو في الوقت القاتل إسرائيليا،فالجبهة الداخلية الإسرائيلية عانت من كوما سياسية وحزبية بعد حرب تموز 2006 وتداعياتها على المؤسستين العسكرية والسياسية،فكافة الأطراف السياسية والأمنية الفاعلة في الحياة السياسية الإسرائيلية تبحث عن نصر موهوم لاستثماره في الانتخابات النيابية الشهر القادم،على قاعدة تجديد شباب الحياة السياسية استنادا إلى انتصار مفترض بعد هزيمة 2006 التي أودت بأركان وطواقم سياسية حزبية تعتبر من ثوابت الحياة السياسية في اسرائيل.إضافة إلى محاولة محو صورة الجيش المكسور، وإعادة تشكيل هيبته في الذاكرة الجماعية للمجتمع الإسرائيلي.
أما لجهة النظام الإقليمي،فالعدوان كان بمثابة الرسالة الواضحة ،لكل فواعله من العرب وغيرهم بأن لإسرائيل كلمتها أيضا بمعزل عن أي حسابات أو ضغوط دولية.ففي الوقت الذي كانت جهودا فارقة تبذل للتهدئة في قطاع غزة نفّذت محرقتها ببرودة أعصاب دون أي رادع أو وازع قانوني أو أخلاقي،محاولة تكريس صورة بدأت ملامحها تترسخ في المنطقة مفادها أن لا حول ولا قوة للعرب حتى التحرك في قضاياهم الأساسية وإيلاء أمورهم إلى الفواعل الإقليمية والدولية في المنطقة وهذا ما ظهر تحديدا عبر دفع تركيا مثلا إلى واجهة الوساطات والمبادرات في غياب تام لأي تحرك عربي فاعل وقابل للبناء عليه.وكذلك عبر إعطاء دور لفرنسا بصرف النظر عن حدوده وإمكاناته وسقفه.
وإذا كانت ظروف الشد والجذب في اعلي صورها في المنطقة وبخاصة بين المحاور العربية،فقد وجدت تل أبيب الفرصة المناسبة لتكريسه وإبعاد ذات البين العربية،وهي محاولة مكشوفة لإظهار أن عدوانها على غزة هو نصرة لفريق على آخر، وكأن الشعب الفلسطيني بات ملل ونحل موزع ومقسم بين أطياف ومشارب عربية متباينة.
في كل الحروب والاعتداءات التي نفذتها اسرائيل على العرب مجتمعين أو منفردين،كان لها أهدافها المعلنة،كما لها غاياتها غير المعلنة وهذا أمر شائع ومتداول في الاستراتيجيات الأمنية والعسكرية،إلا أن خلفيات محرقة غزة وتداعياتها السياسية التي تأملها اسرائيل هي مركزية بكل المقاييس الداخلية والخارجية لإسرائيل؛وبصرف النظر عما يمكن أن يتحقق منها،تبقى الكلمة الفصل للشعب الفلسطيني الذي اختبر ثورته على مدى 44 عاما بكافة فصائله وتلاوينه السياسية في اتجاه تحديد البوصلة السياسية التي يريد شرط المحافظة على وحدته الوطنية الداخلية الكفيلة بحمايته من إي أهداف غير معلنة.
لقد دفع العرب بشكل عام والفلسطينيون بشكل خاص أثمان باهظة لا نتيجة ضعفهم،بل بقدرة اسرائيل على تفريقهم، وإظهارها خلاف ما تبطن،في الوقت الذي لا زلنا نحن العرب نبحث عن أولويات باتت في نظر اسرائيل من الماضي السحيق.
في العام 1967 اجتمع العرب على لاءات ثلاث،لا تفاوض لا صلح لا اعتراف،وتمكنوا من اعادة الهيبة العربية في العام 1973، فهل نحن بحاجة إلى ثلاث لاءات جديدة تعيد تجميع ما فرقته اسرائيل،ربما تبدو ضرورة ملحة رغم اختلاف الأدبيات السياسية العربية المعلنة وغير المعلنة، تماما كأهداف اسرائيل المعلنة وغير المعلنة من محرقة القرن الواحد والعشرين في عِزّة
ربما من المبالغة القول أن الخلفيات السياسية للقرار 1860 يمكن أن يخدم بقدر كبير الأهداف الإسرائيلية غير المعلنة من عدوان اسرائيل على غزة، إلا انه من غير المنطقي استبعاد ما يمكن أن يقدمه القرار من استفادات سياسية وعسكرية للجانب الإسرائيلي في حال تمَّ استثماره لجهة تقطيع الوقت للبناء عليه في مراحل لاحقة ،سيما وان البيئة التي تمّت فيه استصدار القرار وظروفه الذاتية غير القابلة للتطبيق في المدى المنظور،وظروفه الإقليمية والدولية التي تعطيه زخما في التمدد الزمني، تجعله في حكم الكوما السياسية القابل للاستيقاظ عند الطلب.
وفي مطلق الأحوال، وعلى الرغم من خلفياته القانونية والسياسية، ثمَّة ايجابيات من الصعب التعتيم عليها ومنها محاولة معالجة الجانب الإنساني الذي ينبغي اعتباره أولوية مطلقة لشعب لم ينصفه التاريخ ولم تسعفه الجغرافيا.