28‏/02‏/2010

هل يشتد الخناق على إسرائيل؟

هل يشتد الخناق على إسرائيل؟
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
نشرت في الخليج الاماراتية 29/2/2010
لم تكن “إسرائيل” يوما في مأزق كالذي فيه اليوم، كثير من المتغيرات حصلت، وفعلت فعلها في أسس الكيان التي ظلت ولفترات طويلة تمسك بها وتحاول تعظيم قدراتها، بهدف تكريس تفوقها الاستراتيجي وبالتالي امتلاكها لميزان قوي غير قابل للكسر، عسكرياً واستخبارياً وسياسياً واقتصادياً، في منطقة تمتلك دولها كل هذه المقومات لكن من دون الاستفادة منها في أطر المواجهة .
في الجانب السياسي، وإن تمكنت “إسرائيل” في فترة التسعينات من القرن الماضي الخروج علناً من حالة الحصار والانكماش الدبلوماسي الإقليمي عبر مشاريع التسوية التي استفاقت عليها، وأعطتها فرصاً للانفتاح الإضافي على بعض الدول العربية وكذلك الإقليمية كتركيا مثلاً، باتت اليوم في مأزق كبير، ما يستدعي إعادة صياغة لمجمل آليات عمل السياسة الخارجية . فكثيراً من الدول العربية التي انفتحت تجارياً عليها، أعادت النظر بخطواتها . وإذا كانت الاتفاقيات الاستراتيحية مع تركيا قد أعطتها أرجحية إقليمية، باتت اليوم في المقلب الآخر بعد سلسلة الحماقات الدبلوماسية التي ارتكبتها مع أنقرة، علاوة على عدم قدرتها على هضم بعض المتغيرات الناشئة في المنطقة نتيجة سياساتها مع الفلسطينيين خاصة والعرب عامة بما يتعلق بمشاريع السلام التي كانت تطرح من هنا أو هناك . وبمعنى آخر إن سياسات المحافظين الجدد الشرق أوسطية، كانت بمثابة العصا “الإسرائيلية” الغليظة في المنطقة، والتي تسببت لها في نهاية الأمر بمشكلات بنيوية في تظهير سياسات إقليمية قابلة للهضم السياسي من حانب العرب وغيرهم في المنطقة .
في الجانب العسكري، ظلت “إسرائيل” ولنصف قرن تقريباً صاحبة لقب الجيش الذي لا يقهر، وإن تمكنت من ترسيخ هذا المفهوم في الذاكرة الجماعية للعرب، بفعل التفوق الاستراتيجي العسكري النوعي، فإن يقظة حركات المقاومة في بعض دول الطوق أعطت نموذجاً آخر لهذه العبر، فمن أصل أربع حروب عربية “إسرائيلية” كلاسيكية، تمكّن العرب في واحدة منها من تحقيق نصر مجتزئ، سرعان ما تمكنت “إسرائيل” من هضمه وتحويله نصراً في الدبلوماسية والسياسة عبر كامب ديفيد مع مصر . بينما تمكّنت حركات المقاومة من تسجيل انتصارات موثقة كنموذج لبنان عام 2000 و،2006 وغزة عام 2009 . وبصرف النظر عن حجم الانتصارات وامكانيات استثماراتها العملية، فثمة سوابق يمكن البناء عليها في إطار توصيف آليات الصراع ونتائجها المحتملة . وفي مطلق الأحوال إن التخبط الذي تمر به “إسرائيل” حالياً حول احتمالات الحرب في المدى المنظور هو شكل من أشكال الشعور “الإسرائيلي” بعدم الثقة، وفقدانها على الأقل أدوات الردع النفسية تجاه أعدائها . فخطاب الأمين العام لحزب الله الأخير كان كافياً لإعادة النظر بالكثير من المواقف التي أطلقتها القيادات السياسية والعسكرية “الإسرائيلية” تجاه دمشق ولبنان مثلاً . طبعاً لا تزال “إسرائيل” تمتلك تفوقاً استراتيجياً عسكرياً ظاهراً، لكنها في الوقت نفسه لم تعد تمتلك الوسائل والأدوات التي تمكنها من تحويل هذه القوة إلى قدرة، قابلة للصرف السياسي والعسكري والنفسي في المنطقة للعديد من الاعتبارات غير القابلة للتحكم بها “إسرائيلياً” .
في الجانب الأمني الاستخباري، ظل الموساد والشاباك وغيرهما من الأجهزة التي تفاخر تل أبيب بها، والتي أخذت حيزاً مهماً من الهيبة الإقليمية والدولية بفعل العمليات الناجحة التي تمكّنت من تحقيقها داخلياً وخارجياً . إلا أن أمراً آخر بات يظهر هذه الأيام، هو سلسلة فضائح وانكشافات استخبارية وقعت فيها، من انكشاف واسع لشبكاتها التجسسية في لبنان، مروراً بالإخفاقات الموصوفة لعدم تمكنها من إنجاز ملفات كثيرة تخص المقاومة في لبنان وغزة، علاوة على فضيحة اغتيال أحد قيادي حركة حماس في دبي مؤخراً . لقد اعتمدت “إسرائيل” عقيدة الاغتيالات والخطف للتخلص من رموز سجلوا أعمالاً لا يستهان بها ضدها، صحيح أنها تمكّنت من اغتيال عماد مغنية مثلاً، لكن كلفتها لا تزال تُدفع يومياً للقيادة “الإسرائيلية” السياسة والعسكرية بانتظار الرد الذي سيأتي يوماً من حزب الله، لكن متى وأين وكيف؟ تلك هي الأحجية التي عجزت عنها الاستخبارات “الإسرائيلية” في كافة أجهزتها وفروعها، وربما ستظل هذه الأحجية سنوات طويلة بمثابة السيف النفسي المسلط على “إسرائيل” . لقد خاضت “إسرائيل” والمقاومة حروبا استخبارية من الطراز الأول، تكبدت فيها “إسرائيل” خسائر بشرية ومعنوية باهظة الثمن، ويُقال إن سر انتصارات المقاومة في العام 2006 هو الجانب الاستخباري لدى حزب الله عن بنوك المعلومات “الإسرائيلية” وليس العكس . وربما ثمة فضائح كبيرة ستقع فيها “إسرائيل” إذا كُشف المستور عن بعض الحروب الاستخبارية السرية التي مورست ضدها .
وإن يكن الاقتصاد “الإسرائيلي” من الناحية المبدئية، لا يعاني عملياً من اختلالات بنيوية، وبالتالي قدرته على التكيّف مع بعض المستجدّات المالية والاقتصادية الدولية، إلا أن هذه القدرة مكتسبة من المساعدات الأمريكية المباشرة، علاوة على شبكات الاستثمارات الدولية التي تتأثر بدورها بأي وضع مؤثر وبخاصة الأمني منه، وبالتالي إن هذه القوة والقدرة مرهونة أولاً وأخيراً بمتغيّرات غير قابلة للضبط وفقاً للرغبة “الإسرائيلية”، من هنا الخشية “الإسرائيلية” الدائمة هي أمنية وليست اقتصادية بفعل تأثير الأول في الثاني؟
لقد حطّم العرب الأرقام القياسية في البحث عن المفردات السياسية التي تغطي سلسلة من الهزائم العسكرية، فمن النكبة إلى النكسة، ومن الحروب التحريرية إلى التحريكية، ومن اللاءات الثلاث “لا تفاوض لا صلح لا اعتراف”، إلى التسوية العادلة والشاملة والكاملة، فهل أتى الدور على “إسرائيل” هذه الأيام، أو أنها ستتعلم العِبَرَ من العرب؟ أو أن الخناق بدأ يشتد عليها؟ إن سر بقاء الأمم والشعوب واستمرارها مرهون بالقراءة الصحيحة والدقيقة للتاريخ، فهل سيقرأ العرب جيداً في كتبهم ليبقى بعض من جغرافيتهم يشدون بها الخناق على “إسرائيل”؟ إنها فرصة سانحة للمواجهة المعنوية بداية من باب مواجهة ضم “إسرائيل” للحرم الإبراهيمي، عل البرد والسلام ينزل هذه المرة على العرب والمسلمين بعدما اكتووا ببرد السلام الموعود قبل نار الحروب .