07‏/02‏/2010

رد اسرائيل على تقرير غولدستون:عودٌ على بدء

رد اسرائيل على تقرير غولدستون:عودٌ على بدء
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي غي الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية 7/2/2010
قبل يوم واحد من انتهاء المدة المحددة، قدمت كل من اسرائيل وحركة حماس تقريرهما إلى الأمين العام للأمم المتحدة،بان كي مون،على خلفية ما طلبه تقرير غولدستون عبر مجلس حقوق الإنسان،ويبدو أن الأمور قد عادت إلى المربع الأول في مسار التحقيق بمحرقة غزة،ذلك يعود للعديد من الوقائع التي تسرّبت وبخاصة من التقرير الإسرائيلي،علاوة على الآليات التي يمكن أن تتبع لاحقا لمتابعة القضية.فما هو مضمون الرد الإسرائيلي ؟وما هي السيناريوهات المحتملة؟
فقبل ثلاثة شهور أوصى التقرير، مجلس الأمن بمطالبة إسرائيل البدء في تحقيقات مستقلة، وتتطابق مع المعايير الدولية في احتمال ارتكاب جرائم حرب على أيدي قواتها في قطاع غزة، وتشكيل لجنة من خبراء حقوق الإنسان لمراقبة مثل هذه الإجراءات. كما شدَّد التقرير على أنه إذا تقاعست إسرائيل عن القيام بذلك، فينبغي على مجلس الأمن إحالة الوضع في غزة إلى مدعي المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
في المقابل، اتسم الرد الإسرائيلي بالغموض ومحاولة التملص من المتطلبات التي حث عليها التقرير،إذ أن الرد أتى في سياق الرد الأولي الذي ربطته اسرائيل باستفسارات من قبل الأمم المتحدة لفهم ما إذا كان تجاوبا مع توصية التقرير أم رفضا له.وفي الواقع يعكس هذا الرد الملتبس التباين الواضح بين مختلف القيادات السياسية والعسكرية حول كيفية التعاطي مع التقرير وما يمكن أن يتركه من تداعيات مستقبلية.كما أن الرد الإسرائيلي جاء كحل وسط بين القيادة العسكرية التي ترفض إنشاء لجنة تحقيق جديدة،وبين القيادة السياسية التي حاولت طمأنتها على قاعدة أن لجنة التحقيق المنوي تأليفها سوف تستمع إلى القادة السياسيين من بينهم رئيس الوزراء السابق اولمرت وغيره من أعضاء المجلس الوزاري المصغر،دون التركيز على القيادات العسكرية الوسطى العاملة على الأرض أثناء العدوان على غزة.
إن أمر التقريرين ومدى مطابقتهما لمطالب تقرير غولدستون، مرهون بتقرير الأمين العام الذي سيعرض في الخامس من الشهر الحالي على الجمعية العامة.وبصرف النظر عن مضمون التقرير، ثمة معوقات كثيرة ستعترض المتابعة ما يجعله قابعا في متاهات السياسات الدولية التي يتحكم فيها مجلس الأمن في نهاية المطاف.
إن مجلس حقوق الإنسان لا صلاحية له لرفع القضية مباشرة إلى المحكمة الجنائية الدولية، فيما مجلس الأمن هو صاحب الصلاحية في ذلك، كما له شروطه الخاصة وآلياته المحددة وفقا لنظامه الداخلي وكذلك للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.كما أن إحالة القضية من مجلس الأمن الدولي إلى المحكمة الجنائية مرتبطة بعدة شروط ، متعلقة بقرار يصدر عنه ذات صفة موضوعية لا إجرائية، أي بمعنى آخر وجوب صدور القرار على الأقل بتسعة أصوات يكون من بينها أصوات الدول الخمس الكبرى، أي لا ينبغي لأية دولة من الخمس التي تمتلك حق النقض معارضة القرار والتصويت ضده.
كما أن إحالة القضية على المحكمة الجنائية الدولية يعتبر عملاً عقابياً للطرف الموجّه ضده (كأشخاص وليس دولة)، والمقصود هنا الضباط الإسرائيليون الميدانيون والقادة الذين أعطوا الأوامر العسكرية ونفذوها، إذ إن المسؤولية لا تقع فقط على الجنود أو الفئات التي نفذت بل القادة العسكريين وحتى السياسيين منهم في بعض الحالات إذا توسَّع التحقيق.
كما أن رفع مجلس الأمن القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، مرتبط بأمر آخر، هو تقرير المجلس نفسه، أن الدولة التي وُجِه إليها القرار وهي إسرائيل، ليست قادرة على إجراء التحقيق وفق المعايير الدولية، أو هي ليست راغبة بذلك. باعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية ليست بديلاً عن المحاكم الوطنية، وإنما تعتبر مكملاً ومساعداً للمحاكم الوطنية وفقا لنظامها الأساسي.
في الحالة الأولى، وهو أن القرار ذات صفة موضوعية لا إجرائية، ما يستدعي إجماع الدول الخمس الكبرى على ذلك، وهو أمر بالتأكيد متعذر لجهة رفض الولايات المتحدة التصويت عليه، باعتبارها بداية قد صوتت ضد التقرير، فكيف سيكون موقفها عند بدء تنفيذ الإجراءات العملية له، وفي الجانب الثاني، وهو اشتمال التحقيق على كل من نفذ وأعطى الأمر من ضباط وسياسيين وغيرهم، وهنا تبدو القضية أشد تعقيداً من الوجهة السياسية والقانونية. فالمحكمة الجنائية الدولية هي بحكم نظامها الأساسي وآلياتها القانونية توجّه اتهاماتها إلى الأشخاص بذواتهم الشخصية لا بانتمائهم لدولهم، ، كما لا تقتصر القضية على هذا الأمر، بل الموضوع الأساس إذا تعدى نطاق التحقيق الرتب العسكرية إلى الرؤساء والقادة السياسيين، فمثلا ماذا لو وجهت التهمة إلى رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي أو وزير الدفاع أو للمجلس الأمني المصغر، وهم جميعهم يتمتعون بحصانات سياسية ودبلوماسية على الأقل في إطار الدولة؟ فكيف سيتم التحقيق معهم في إسرائيل نفسها وفقا للمعايير الدولية؟
صحيح أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يسقط الحصانة عن القادة السياسيين للدول، ويعتبرهم مسؤولين عن أوامرهم التي تؤدي إلى جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو غيرها، إلا أنّ صعوبة تنفيذ ذلك يبدو أمراً صعباً من الناحية العملية، إذ مهما بلغت قوة القوانين الدولية تبقى سيادات الدول الأكثر حضوراً وقوة على الصعيد الدولي، وبخاصة الدول ذات الشأن الدولي أو صاحبة العلاقات الإستراتيجية مع من يهيمن على النظام العالمي.
في المقلب الآخر من الموضوع، إذا لم يتمكن مجلس الأمن لسبب أو لآخر من إحالة القضية على المحكمة الجنائية الدولية، كيف ستتجه الأمور، ثمة خيار آخر متعلق بمدّعي المحكمة الجنائية نفسها، وفي هذا الإطار يمكنه التحرّك عفوا إذا كوَّن ملفاً فيه قرائن وأدلة وهي بطبيعة الأمر موجودة بكثرة، لكن السؤال يُطرح من جديد، إذا تمكن اوكامبو من تخطي الشروط الإجرائية كموافقة قاضي البداية، هل سيحرك القضية عفواً، أم كما هي السوابق سيغض الطرف عنها، كما حصل في بعض القضايا المتعلقة أيضاً بجرائم إسرائيل في لبنان؟
ثمة مفارقة في التوصيات والقرارات الدولية المتعلقة بجرائم اسرائيل،أن بأغلبها تُترك الثغرات القانونية الملائمة لتفلت اسرائيل من العقاب، في مقابل عدم قدرتنا نحن العرب على الخروج من المواجهات الإعلامية والانتقال إلى تكوين ملفاتنا القانونية الموثقة للمواجهة، فتقرير مجلس حقوق الإنسان يعد سابقة قانونية ينبغي استغلاله، لكن يبدو أن مسار الأمور تتجه فعلا إلى المربع الأول،ذلك واضحا من طبيعة الرد الإسرائيلي كما الآليات التي ستتبع لاحقا!