09‏/03‏/2012

بوتين والنظام العالمي الجديد

بوتين والنظام العالمي الجديد
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

قبل أربع أشهر من انطلاق الانتخابات التشريعية الروسية، أطلق فلاديمير بوتين حملته الرئاسية منطلقا من مشروع الاتحاد الأورو – آسيوي،وهو الوجه الجديد القديم لإتحاد الدول المستقلة،أو الكومنولث الروسي الذي أنشئ أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي. ربما اليوم الظروف هي مغايرة لما سبق،وبالتالي يبني بعض المحللين والمراقبين للوضع الروسي الداخلي والخارجي، على ان حلم بوتين بالعودة إلى المسرح الدولي بات قاب قوسين أو أدنى من التحقيق،ليس بفعل الانتخابات والرئاسة فحسب،وإنما السياسات الروسية المعتمدة في غير مكان في العالم، وبالتحديد الشرق الأوسط الذي يشهد تغيّرات دراماتيكية سريعة تعزّز الأحلام الروسية الدفينة بالعودة للعب أدوار عالمية عظمى.
في المبدأ، تمكّن بوتين في ولايتيه الأولى والثانية 2000 – 2008،من إعادة رسم صورة مغايرة لروسيا عما سبقها في العقد الأخير من القرن المنصرم، وتمكّن أيضا من إيصال ميديديف كوديعة رئاسية في سياق الوقت المستقطع من حلمه الرئاسي لفترة ثالثة، بل ثمَّة من يقول وهو أقرب إلى الحقيقة، ان بوتين لم يغادر الرئاسة ليعود إليها،بل ظل اللاعب الأقوى في رسم سياسات روسيا الداخلية والخارجية،بل يعتبر المسؤول الرئيس عن تهيئة الظروف لأجواء الحرب الباردة،التي من خلالها يحاول إعادة تموضع روسيا في ظل نظام عالمي جديد يسعى إلى تحقيقه، قوامه وركائزه ليس بالضرورة ثنائي على صورة النظام الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية،وإنما نظام تعددي تكون موسكو أحد دعائمه الأساسية إلى جانب لاعبين تقليديين كالصين مثلا،وبمساعدة لاعبين إقليميين جدد ولو بشكل ثانوي.
الحلم الروسي ليس بمستحيل، ولا هو ببعيد المنال، ترتكز موسكو على إعادة فرز سياسي إقليمي جديد ،قوامه خروج الولايات المتحدة الأمريكية من العراق،وبالتالي محاولة اللعب في ورقة ملء الفراغ.علاوة على القراءة المستقبلية للوضع الأمريكي والغربي في وسط آسيا وبالتحديد في حدوده الحيوية الجنوبية في أفغانستان حيث التعثر المستمر الذي تقرأه موسكو بداية لما حدث في بغداد.
بصرف النظر عن هذه القراءة التفاؤلية للطموح الروسي، ثمّة معوقات لا يستهان بها،وهي بمثابة عثرات يمكن ان تطيح بأحلام كثيرة بنى عليها بوتين رؤيته لمستقبل روسيا. صحيح ان روسيا تمتلك الإمكانات المادية والمعنوية وروح الارتقاء،إلا ان عالم اليوم مختلف عن عالم العقود السبعة الماضية، وبالتالي إن عدة الشغل للوصول إلى مستويات ذات طابع استراتيجي رفيع ،يستلزم وسائل وآليات مختلفة إضافة إلى الإمكانات التي يمكن ان تكون متوفرة ولو بكثرة.
فمثلا ان الروح القومية وان نمت بشكل متسارع في الواقع الاجتماعي الروسي مؤخرا، إلا أنها ليست المتكأ الأول في السياسة للدفع نحو التحفيز للمواجهة مع الآخرين لانتزاع موقع أو دور، والدليل على ذلك ما تعرّض له بوتين شخصيا في أعقاب فوز حزبه في الانتخابات التشريعية ، حيث تحرك الشارع ليس بالضرورة على قاعدة رفض النتائج بقدر ما هو اعتراض على مشاريع وسياسات داخلية وخارجية.
علاوة على ذلك، ان الذاكرة الجماعية للشعب الروسي بشكل عام، وان كان يحن إلى أمجاد روسيا القيصرية في بعض الفترات،وأمجاد روسيا السوفيتية في بعضها الآخر، لا يعني بالضرورة ترجمتها إلى حنين العودة للمواجهات الخارجية، فمتطلباته تبدو اليوم مختلفة عن السابق، فهو تأثر في صور الغرب،وبات يبحث في ثنايا السياسة عن رفاهية ربما العهود السابقة لم تقدم له شيئا منها.
صحيح ان ثمة نمو مضطرد لشرائح سياسية روسية أخرى،كالشيوعيين مثلا،لكنها لم تصل إلى الحد القادر في التأثير على مجمل سياسات موسكو،وبالتالي ان مجموع القوى الوازنة الروسية،لم تبلغ مستوى الذروة في فائض القوة للدفع بها إلى الخارج،ما يعني ان الكثير من الأحلام يمكن ان تبقى في حدودها غير الواقعية لفترات أطول مما هو متوقع.
يبقى ان التعويل على المواقف في السياسة الخارجية تجاه بعض القضايا وان كانت هامة في مكانها وزمانها،لا تعتبر بالضرورة الوازن الحقيقي في إعادة الاعتبار على المستوى العالمي،للعديد من الأسباب من بينها، ان القضايا الخارجية التي يُستند عليها غالبا ما تتغير تأثيراتها ،وبالتالي غالبا ما يتعرض التعويل عليها للانهيار بفعل عواملها غير الصلبة.
طبعا ليس بالضرورة ان يكون المطلوب عالميا، أن يظل الوضع على ما هو عليه،ثمة ضرورة لإعادة التوازن على المستوى الدولي بين قوى ولاعبين متعددين،باعتباره حلا معقولا ومقبولا ومجربا في فترات تاريخية سابقة.فالثنائية القطبية وان أبعدت الحرب بين الطرفين،إلا أنها أشعلت حروب الواسطة التي كانت نتائجها وآثارها وتداعياتها أعظم بكثير من الصدام بين الكبار،كما ان الأحادية القطبية وان استبشر فيها الكثيرون قبلا، أشعلت حروبا وأوضاعا لم يشهد التاريخ البشري مثيلا لها، فهل التعددية هي الحل؟ الجواب يبدو كذلك،لكنه ليس من المؤكد ان يكون بوتين قادر على إيصال روسيا إلى موقع يقود تعددية قطبية فاعلة تبعد أو تزيل التذمر والتبرم السياسيين السائدين في كافة أنحاء العالم،ربما تعتبر مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة اذا توفرت شروط أخرى لا تزال غير موجودة حتى الآن!