15‏/05‏/2013

لبنان بين الحياد القانوني والتحييد السياسي

لبنان بين الحياد القانوني والتحييد السياسي
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
بيروت :10/5/2013
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 15/5/2013
       من بين المشاريع والشعارات السياسية البراقة التي لها ابعادها الإستراتيجية كان لحياد لبنان وتحييده القسم الأكبر من صراخ السياسيين في غبر مرحلة من مراحل تاريخ لبنان السياسي المعاصر.وعلى الرغم من قلة أو ندرة من يدرك خلفيات وأبعاد هذه الشعارات بات الحياد والتحييد هذه الايام الخبز السياسي اليومي للكثير من المنظرين اللذين يطالبون بحياد لبنان، وكأن هذا المطلب قابل للتحقيق بسهولة ويسر في ظل الموازييك السياسي والمذهبي والطائفي الذي يعشش في لبنان ويفتك بوحدته الوطنية المهترئة أصلا.
       والدعوة إلى الحياد،أو بعبارة ادق الدعوة إلى "نظام الحياد"،لم تكن وليدة ظرف مستجد،بل ضارب في تاريخ لبنان منذ نشأة كيانه، فاشتعلت الدعوات وضمرت بحسب ظروف لبنان الداخلية وتداعيات التفاعلات الاقليمية والدولية فيه. وفي مطلق الاحوال وبصرف النظر عن النيات السياسية المبيتة لمطلقيها، استهدفت الدعوات إلى نظام حياد قانوني دولي على الطراز السويسري والنمساوي الشهيرين،فهل يمكن ان يقبل به اللبنانيون مجتمعين؟ وهل تتوفر ظروف نجاحه؟ واذا توافرت فما هي تداعيات هذا النظام وآثاره الداخلية والخارجية على لبنان؟.
        اولا ثمة اجماع لبناني في الأساس على تحييد لبنان عن سياسة المحاور العربية التي سادت في فترة من فترات الاربعينيات امتدادا إلى يومنا هذا، وعنوانه اللبناني الشهير آنذاك على ان لا يكون لبنان ممرا أو مستقر لأي قوة تهدد العرب وبخاصة سوريا.واليوم يترجم أيضا على الطريقة اللبنانية المعتادة بسياسة "النأي بالنفس". ربما هذا الشعار يمكن ان يلقى آذانا صاغية لدى الكثير من اللبنانيين وان لم يكن عليه اجماعا ، ويعتبر مقبولا إلى حد كبير. لكن المشكلة لا تكمن هنا بالذات بقدر ما تكمن بنظام الحياد القانوني المطالب به اليوم.
      فنظام الحياد من الناحية القانونية والعملية بالنسبة للبنان يتطلب ثلاثة شروط على الأقل،ينبغي توفرها بشكل دقيق لكي يكون متاحا المضي به. اولى هذه الشروط هي اجماع اللبنانيون عليه،وهو أمر متعذر بالتأكيد،وثمة على الاقل نصف اللبنانيين لا يرفضون ذلك فقط ، بل هم مستعدون للقتال من اجل افشاله،باعتباره كما يعتقدون وهو بالتأكيد مبرر باعتبار ان نظام الحياد هدفه اولا وأخيرا اخراج لبنان من دائرة الصراع العربي – الاسرائيلي رسميا وعمليا.اما الشرط الثني فهو متعلق بموافقة أو على الاقل عدم اعتراض  الدول الاقليمية عليه ويأتي في مقدمتها على سبيل المثال لا الحصر سوريا وإسرائيل وإيران وفي المجال الدولي أيضا الدول والقوى الفاعلة في ادارة النظام الدولي ويأتي في طليعتها الولايات المتحدة الامريكية وبعض القوى الأخرى ولو بنسب متفاوتة وبأقل فاعلية .اما الشرط الثالث فمتعلق بقدرة لبنان أصلا بالدفاع عن حياده من تدخل أو رفض القوى الاقليمية والدولية لمثل هذا المشروع.
       بالنسبة للشرط الأول ثمة استحالة للإجماع عليه سيما في ظل ما تمر به المنطقة ولبنان،بل ان ثمة ربط قوي من قبل الاطراف المقاومة في لبنان، وبالتالي ليس رفض المشروع بل التعامل معه كمشروع اسرائيلي يبرر حمل السلاح والقتال لإفشاله، وثمة مواقف صدرت في الفترة الأخيرة تلميحا وتصريحا حول ذلك ومن بين تداعياتها مثلا الدخول مباشرة في الأزمة السورية باعتبارها عنوانا من عناوين الصراع مع اسرائيل ومشاريعها في المنطقة.
     اما الشرط الثاني المتعلق بموافقة القوى الاقليمية والدولية ، فأيضا امر متعذر للعديد من الاعتبارت الخاصة بكل طرف من هذه الاطراف لجهة مدى استثماراته السياسية والأمنية في الساحة اللبنانية. الامر الذي يعني ان ادوات ووسائل الاتفاق عليه هي أكثر بكثير من امكانية التوافق في الحد الأدنى عليه.
       اما الشرط الثالث المتعلق بقدرة لبنان على حماية حياده بنفسه في حال قُدر له المضي به ،فكذلك امر دونه مصاعب كثيرة،من بينها امكاناته المتواضعة عمليا في مواجهة قوى وازنة اقليميا ودوليا.
      من هنا يبدو بشكل جلي ان مجرد طرح مثل تلك المشاريع لا تعدو كونها عبثا سياسيا في أحسن الأحوال أو مشاريع انقسام واقتتال اضافي جديد في أسوأ الأحوال.ولقد جرب اللبنانيون مثل تلك الدعوات والمشاريع والاقتراحات وبصوت عال ابان فترة الستينيات والسبعينيات اي في الفترة التي كانت المقاومة الفلسطينية تشكل ثقلا وازنا في لبنان،وانتهت إلى مآسٍ لم ينس اللبنانيون آلامها حتى الآن.
      في مطلق الأحوال اذا كان الحياد القانوني متعذر حاليا،فان الحياد السياسي أو على الطريقة اللبنانية النأي بالنفس هو امر ممكن تجاه سياسة المحاور العربية وأزماتها في هذه الفترة ، لكن العبرة في الأساس هي التطبيق لا التنظير.
      لقد دفع لبنان اثمانا غالية وكبيرة نتيجة عدم الاجماع بين شرائحه السياسية والطائفية والمذهبية على قضايا مركزية كثيرة،تبدأ بموقفه من القضايا العربية المركزية ومنها الصراع العربي الاسرائيلي ولا تنتهي عند تفسيرات وتأويلات بعضهم على كيفية النأي بالنفس فهما وتنفيذا وتطبيقا. خاصة وان ما يطالب به هذه الأيام هو النص على نظام الحياد كنظام في اطار القانون الدولي العام ، عبر اطار ونص دستوري خاص في لبنان ،  وهنا تكمن المعضلة الكبرى.فهل يتفق اللبنانيون اولا على تعديل دستوري بهذا الحجم ؟ انه مشروع اقتتال جديد تحت مسميات جديدة قديمة لا تبقي ولا تذر!