09‏/12‏/2013

اتفاق تخصيب موقع ايران الجيو سياسي


اتفاق تخصيب موقع ايران الجيو سياسي
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
نشر في الشرق الاوسط بتاريخ 9/12/2013
  
 في المبدأ ، ان تعترف الدول الخمس الكبرى بدخول دولة ما ناديها النووي،يعتبر انجازا لصاحب العلاقة ، وهو ما ارادته ايران بالتجديد من مفاوضات شاقة استمرت سنتين تحت ضغط من العقوبات المباشرة استمرت عقدا من الزمن وسبقه عقدان من توتر دائم في علاقة ايران بالغرب بشكل عام وواشنطن بشكل خاص. وبطبيعة الأمر لم ولن يتوقف الأمر عند هذا التوصيف، انما له تداعياته السياسية والاقتصادية في غير اتجاه ومكان.
       والمفارقة في توصيف الاتفاق ، انه كان ابلغ من مضمونه في بعض الجوانب ،فثمة من اسبغ عليه اتفاق العصر، ومنهم من خلع عليه لقب النصر، لكن التدقيق في حيثياته ومضامينه ، تقرّبه من "اتفاق الضرورة" بين اطراف لم يعد لديها ما تقدمه في عمليات الشد والجذب الاقتصادي والأمني والعسكري الذي مورس في هذا الملف.
     فإيران التي عانت من العقوبات والحصار ، باتت مضطرة للقراءة في كتاب آخر ، عنوانه الانفتاح على هواجس الآخرين ، وتقديم أو على الاقل توضيح ما اشتبه به الغرب ،وهو امر طبيعي في سياق فهم العلاقات الدولية وممارستها في نطاق امتلاك القدرات التي يعتبرها البعض غير تقليدية وبخاصة مع نظام ايديولوجي قبل ان يكون اي شيء آخر. فيما الطرف الآخر اي الغرب ، بات مقتنعا بأن نظام العقوبات والحصار والإقصاء ،بات امرا غير مجدي مع دولة عرفت وخبرت كيفية التعاطي مع الثُغر الكثيرة في السياسات الدولية ، وتمكنت في اعقد وأصعب الظروف من الوصول إلى ما تبتغيه ولو بأكلاف باهظة الثمن ، في الوقت الذي لم يتمكن الغرب من ثني ايران ولو عنوة عن المضي في برامجها التقنية والعسكرية وسياساتها الاقليمية وتحالفاتها الدولية وبخاصة مع روسيا.
       وعلى الرغم من ان الاتفاق يعتبر من نوع رابح - رابح إلى حد بعيد، اي بمعنى لا خسارة موصوفة لأحد فيه ، إلا انه يؤسس لواجهة سياسية اقليمية دولية ، أكثر منها تقنية متعلقة ببرنامج نووي،اي بمعنى ان ما ارادته طهران تثبيت توصيفها كدولة اقليمية عظمى قاربت على الوصول اليه عبر تقديمات وتعهدات هي اصلا مقننة في اطر قانونية دولية،كالبيئة الرقابية التي تفرضها الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو البروتوكول الاضافي على اي عمل ذات صلة باختصاصها. وهذا ما التزمت به ايران في سياق تسهيل عمليات التفتيش وتقديم التقارير الشفافة حول بعض المنشآت التي يعتبرها الغرب حساسة اكثر من غيرها ، ومنها مواقع آراك ونتانز وفوردو مثلا. اضافة إلى الكميات المخصبة لجهة النوع أو المستوى أو الكم ، اي ان التزام طهران بعدم بناء مواقع جديدة والاكتفاء بنسبة ما دون الخمسة بالمئة للتخصيب، أو زيادة اجهزة الطرد المركزي،جميعها تعتبر من البيئات التقنية والعملية القابلة للتعديل والتغيير لاحقا اذا اخلَّ طرف ما في تعهداته. فيما حصلت في المقابل على تخفيف بعض العقوبات وان لم تكن ذات صفة شاملة يُعتد بها ماليا واقتصاديا. وفي مطلق الاحوال فهو اتفاق الرمق الدبلوماسي الأخير بعد ثلاث جولات كادت تلامس الانفجار الذي لن يكون احد رابح فيه.
       وإذا كان الاتفاق هو اطار تفاوضي يشكل مضمونه جملة من المصاعب المنتظرة لاحقا ، إلا ان ما يؤمل منه ايرانيا ابعد من اتفاق تقني تمت فيه بعض التعهدات والوعود المتبادلة. فملفات المنطقة وتشعباتها وارتباطاها اكثر من ان تُعد أو تحصى ، وبالتالي ان اي مكسب أو تنازل هنا أو هناك هو محسوب بدقة وهو امر متبادل بين اصحاب العلاقة. فتعهدات ايران تقابلها بالتأكيد مطالب متصلة بتسهيلات في ملفات أخرى ، ومن بينها الأزمة السورية على سبيل المثال ووسائل وأدوات حلها أو ادارتها في المدى المنظور والمتوسط، علاوة على ما استجد من ارتباط الأوضاع الامنية والسياسية اللبنانية بالأزمة السورية ، وصولا إلى جملة طموحات جيو سياسية ايرانية مطلوبة في الاقليم.
       لقد تمكنت الدبلوماسية الايرانية من حياكة سجادة الاتفاق النووي، عبر ستة اذرع مواجهة لها، فهي سحبت كل من بريطانيا وألمانيا من الصف المتشدد ، لإدراكها  بمدى الحنين البريطاني لماضي العلاقة التي جمعتهما ابان حكم الشاه سابقا،كما التاريخ التقني لألمانيا في بناء التقنيات النووية ابان حكم الشاه أيضا ؛ كما تمكنت من لجم المشاغبة الفرنسية خلال المفاوضات بإيحاءات استثمارية متعلقة تحديدا بمفاعل آراك ، علاوة على تجديد شباب العلاقات الاستثمارية مع كل من روسيا والصين.
       في مقابل هذا التخصيب السياسي عالي المستوى مع دول الغرب الكبرى ، تبقى اسرائيل المتضرر الوحيد من اتفاق الاطار ، التي وقفت مكتوفة الايدي ومكتفية بتعداد الخسائر ، ومتوعدة بفتح العيون والمراقبة لاقتناص فرصة عمل عسكري ما ، لم تعد قادرة عليه في ظل الظروف الراهنة.
      في المحصلة ،ان ما يخشاه خصوم ايران التقليديين في المنطقة ، ان يكون اتفاق الرمق الدبلوماسي الأخير ، مقدمة لكتابة جيو سياسية لمنطقة هي اشد المناطق حساسية في العالم ، سيما وان سوابق التاريخ المعاصر كما الحديث والقديم ، يؤكد ان سياسات النظم الاقليمية والدولية تتجمع وتكتب وترسم في الشرق الأوسط.