03‏/04‏/2014

روسيا وتركيا وثالثهما القرم


روسيا وتركيا وثالثهما القرم
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
     من مفارقات العلاقات الروسية - التركية تأثرها المباشر في قضية تعتبرها موسكو مدخلا ضروريا ولازما لحلم الوصول إلى المياه الدافئة.ومع ادراك انقرة لتلك المفردة الاستراتيجية الروسية، ذهبت بعيدا في الماضي كما الحاضر في تحدي سياسات موسكو وفي ملعبها الجيو سياسي الحيوي، ذلك في وقت يتخبط الغرب بمواقف عالية السقف لكنها لا تخرج عن طابع التردد وعدم الوضوح في آليات المعالجة.

       لقد استشعرت تركيا مبكرا اخطار شرارة القرم ، فتواصلت مع القيادة الروسية تلميحا وتصريحا حول ما يمكن ان تصل اليه الامور في ضوء الاستفتاء والضم ، على قاعدة موقف تركي تقليدي لجهة المطالبة بوحدة الاراضي الاوكرانية وسيادتها ، ومن ضمن ذلك شبه جزيرة القرم.وهي ايضا محاولة لعدم نكأ جراح سابقة ، تعود جذورها إلى اواخر القرن الثامن عشر، والتي كلفت الامبراطوريتين الروسية والعثمانية انذاك حروبا مباشرة وغير مباشرة كلفت الكثير لروسيا في نهاية الأمر.  
      ان حقيقة الموقف التركي يعكس مناخ الشد والجذب الجيو سياسي بين البلدين. فتركيا تعتبر سلوك موسكو في شبه جزيرة القرم استنساخا لتصرفات الإمبراطورية الروسية أواخر القرن الثامن عشر، حين بدأت تستولي تدريجياً على أجزاء صغيرة من الامبراطورية العثمانية جنوب أوكرانيا والقوقاز. ما أدى إلى اشتعال الحرب الروسية - التركية 1768-1774 والتي انتهت بمعاهدة كويك كايناركا ، والتي أقرّت بأن شبه جزيرة القرم، التي كان يسكنها التتار، وهم مجموعة عرقية تركية، لن تستقل عن الإمبراطورية العثمانية، ولن يتم ضمّها من قبل أي بلد آخر وخصوصا الإمبراطورية الروسية. إلا أن روسيا لم تحترم الاتفاقية التي حيّدت منطقة القرم وانتهى الأمر بضم موسكو لشبه الجزيرة بأكملها عام 1783.
     اليوم ، وبعد الاستفتاء في القرم ، وما جرى من فرز سياسي وضم قانوني، اعادت موسكو اجواء اواخر القرن الثامن عشر مجددا الى واجهة العلاقات الاقليمية ومن بينها التركية - الروسية، فكيف سيكون الموقف التركي؟ وهل هي قادرة على اعادة تموضع سياسي جديد ؟ ام ان موقفها سيكون من ضمن الموقف الاوروبي خاصة والغربي
      وبالعودة الى الماضي أيضا ، تمكنت روسيا وبحجة الحفاظ على الموروث الارثوذكسي السيطرة على مناطق كثيرة على طول نهر الدانوب، وكذلك في محيطي الدردنيل والبوسفور، الامر الذي استفز انذاك السلطنة ، التي استقوت بدعم اوروبي كبير وتمكنت من الحلق الهزيمة بموسكو بعد حرب استمرت ثلاث سنوات بين الاعوام 1853 و1856. واليوم ايضا ربما تشعر انقرة بضرورة اعادة تموضعها  الجيو سياسي في ظل العديد من ازمات المنطقة وتداعياتها ومنها الازمة السورية ، وانطلاقا من شعورها التاريخي بضرورة الامساك بمضائق البحر الاسود وبخاصة معاهدة مونترو التي تنظم مرور السفن الحربية فيها ، ربما تعتبر هذه البيئة دافعا قويا لتحريك المشاعر العثمانية المتجددة والخوض في غمار المواجهة.
       وعلى الرغم من مواجهة الغرب للخطوة الروسية واستنفار تركيا السياسي ، تبدو المواجهة المباشرة غير متكافئة بالنسبة لتركيا، التي تعتمد مثلا على روسيا في امدادداتها الغازية التي تبلغ 60% من احتياجاتها، اضافة الى الوضع الاقتصادي التركي المأزوم ، علاوة على تدهور علاقاتها الاقليمية على قاعدة الانقلاب على سياسة تصفير المشاكل مع دول الجوار، الامر الذي سيريح موسكو نسبيا ، في مقابل اعتماد تركيا على منسوب اللهجة والفعل الاوروبيين مستقبلا.
        ربما يبدو ان الظروف سانحة حتى الآن للتحرك الروسي في القرم، لكن الأمر مرهون مستقبلا بملفات اقليمية كثيرة يمكن ان تؤثر في السلوك الروسي، فهل سيحاول الغرب مقايضة بعض الملفات بملف ازمة القرم ، ثمة الكثير من الاسباب الموضوعية المتعلقة بفواعل الازمة المباشرين وغير المباشرين التي يمكن ان تعزز تلك الفرضية.
    ربما  قدر التاريخ السياسي لتركيا المفعم في  حلم العودة للسلطنة والعثمنة ، وربما قدر الجغرافيا السياسية لروسيا دائم التحسس باتجاه المياه الدافئة، سيجعل من البلدين على ضفتي قرم يغلي بأسباب الانفجار ، فهل سيتحضر العالم لحرب تعيد الى الاذهان اسباب حروب اقليمية وعالمية كبيرتين انطلقت من بلاد البلقان؟ ام ان الغرب سيبلع لسانه مرة اخرى؟