01‏/05‏/2008

بعد التفرّد والهيمنة : نظام عالمي بلا أقطاب

بعد التفرّد والهيمنة : نظام عالمي بلا أقطاب
د.خليل حسين
مدير المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية والدولية

يشهد العالم نوعًا من التعددية القطبية، فعلى الرغم من أن القوى الكبرى كالاتحاد الأوروبي، الهند، اليابان، روسيا، والولايات المتحدة تضمُّ بمفردها على نصف مجموع سكان العالم، وحوالي 75% من الناتج القومي الإجمالي العالمي و80% من معدل النفقات العالمية على قضايا الدفاع، ولكن المظاهر قد تبدو مختلفة ،فثمة العديد من مراكز القوى، والقليل من هذه الأقطاب دول قومية.

إن أبرز سمات النظام الدولي الحالي أن الدول القومية قد فقدت احتكارها للقوة، فالدولة تواجه تحديات من جميع الاتجاهات، سواء بواسطة المنظمات الإقليمية والدولية على الصعيد الخارجي، أو التنظيمات المسلحة من الداخل أو منظمات المجتمع المدني المتنوعة والمؤسسات، وبذلك فعناصر القوة وتأثيراتها باتت متوزّعة ولم تعد حكرا على الدولة.

وفي هذا العالم تظل الولايات المتحدة أكبر "تجميع فردي للقوة"، فهي تنفق أكثر من 500 مليار دولار سنويا على القوة العسكرية وتصبح أكثر من 700مليار دولار إذا أضيفت نفقات العمليات العسكرية في أفغانستان والعراق، إلى جانب امتلاكها قوى برية وجوية وبحرية على درجة عالية من الكفاءة، ومكانتها كمصدر رئيسي للثقافة والمعلومات والابتكار.ورغم ذلك، ينبغي أن لا يُخفي أن مكانة الولايات المتحدة في العالم قد تراجعت، الأمر الذي أدى إلى تراجع نسبي في التأثير والمكانة الدوليتين.وفي هذا الإطار يمكن إدراج العديد من الملاحظات أبرزها:

- يمثل معدل الناتج القومي الإجمالي الأمريكي 25% من النسبة العالمية ورغم ذلك فإنه معرض للانخفاض مع الوقت، مع الأخذ في الاعتبار التباين في معدل نمو الناتج القومي الإجمالي بين الولايات المتحدة والقوى الآسيوية الصاعدة وبعض الدول الأخرى التي يصل نمو معدل الناتج القومي الإجمالي لها بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف الولايات المتحدة.

- لا يعتبر الناتج القومي الإجمالي المؤشر الوحيد على تراجع الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة؛ فثمَّة تراكم الثورات لدى العديد من الدول مثل الصين والكويت وروسيا والمملكة العربية السعودية والإمارات؛ويرجع هذا التراكم بشكل أساسي إلى صادرات النفط والغاز؛ حيث جلبت لهذه الدول حوالي 3 تريليون دولار وبمعدل نمو سنوي تريليون دولار سنويا، الأمر الذي يجذب الشركات الأمريكية؛ فارتفاع أسعار النفط العالمية التي ترجع إلى تزايد الطلب الصيني والهندي من المتوقع أن تستمر لبعض الوقت ما يعني، أن حجم هذه التراكمات المالية سوف يزداد.

- تواجه الهيمنة الأمريكية تحدّيا في مجالات أخرى كالفاعلية العسكرية، فالقدرة العسكرية تختلف عن معدل الإنفاق العسكري، وقد أوضحت هجمات أيلول / سبتمبر 2001 كيف أن مجموعة لا وزن لها تمكّنت من إحداث نتائج كارثية على الولايات المتحدة..كما أن الأسلحة الحديثة المكلفة قد تبدو غير مفيدة في الصراعات الحديثة؛ حيث استبدلت أراضي المعارك التقليدية بحروب المدن والتي يستطيع فيها مجموعة من الجنود المسلحين تسليحا تقليديا أن يوقفوا ويفشلوا خططا عسكرية مكلفة.

- إن القوة ستزداد انفصالا عن التأثير، والدعوات الأمريكية للإصلاح ستتعرض لمزيد من التجاهل، والمساعدات الأمريكية ستنخفض، وفاعلية العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة ستتقلص أيضا،؛ فالصين تمتلك التأثير على كوريا الشمالية أكثر بكثير من الولايات المتحدة، وقدرة الولايات المتحدة الضغط على إيران بمساندة الدول الأوروبية تقلصت بسبب الدعم الروسي والصيني لإيران.
إن صعود بعض القوى العالمية في فترة الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي لم يكن بمستوى الفاعلية التي تؤدي إلى تغيّرات لافتة في الفواعل الإقليمية والدولية،وبالتالي لم تظهر حالة منافسة حقيقية لواشنطن ويعود ذلك إلى عدة اعتبارات أبرزها:
- إن الفجوة بين القوة الأمريكية وأي منافس آخر محتمل كبيرة جدا.فعلى الرغم من أن الصين قد تصل مع الوقت إلى ناتج قومي إجمالي مماثل لنظيره الأمريكي ،لكن هذه الزيادة ستذهب إلى العدد الهائل من السكان والذي يمثل الفقراء نسبة لافتة منه، كما تشهد الهند تحدّيات ديموغرافية وتعاني من التضخم البيروقراطي ونقص البنية التحتية، وعلى الرغم من أن الناتج القومي الإجمالي للاتحاد الأوروبي أكبر من الولايات المتحدة فإنه لا يتحرك بشكل موحد كدولة واحدة، أما اليابان فتعاني من انكماش عدد السكان وغياب الثقافة التي تؤهلها للعب دور قوة عظمى، فيما روسيا تواجه صعوبات اقتصادية وتناقص في عدد السكان ومشكلات تتعلق بالتماسك الاجتماعي.

- على الرغم من أن إدارة الرئيس جورج بوش تسببت في بعض المتاعب للدول الأخرى إلا أن هذه الدول لم تتصرف على نحو يمثل تهديدا للمصالح القومية الحيوية، وبرغم الشكوك حول الحكمة والشرعية التي تتمتع بها السياسة الخارجية الأمريكية فإنها أدت فقط إلى امتناع الآخرين عن التعاون معها وليس مقاومتها.

- تعتمد العديد من القوى الكبرى على النظام الدولي للمحافظة على الرفاهية الاقتصادية والاستقرار السياسي وبالتالي لا تريد هذه القوى التعرّض لنظام يحقق لها مصالحها القومية، المرتبطة بتدفق السلع والخدمات والبشر والاستثمارات والطاقة والتكنولوجيا وهي أمور تلعب فيها الولايات المتحدة دورا بارزا.

- إن عدم ظهور التعددية القطبية لم يؤد إلى بقاء الأحادية القطبية، بل على العكس فقد انتهت هذه الأحادية، ويعود ذلك إلى ثلاثة اعتبارات الأول: تاريخي والمتعلق بعملية نمو الدول التي تشهد توليد وتراكم الموارد البشرية والمالية والتكنولوجية والتي تؤدي إلى الرفاهية كما تشكل العماد الرئيس للشركات والمؤسسات، ولكن هذه القوى الجديدة لا يمكن إيقافها، ما يثنتج بالتالي عدد أكبر من الفاعلين المؤثرين إقليميا وعالميا.والثاني: متعلق بالسياسة الأمريكية لجهة ما تمَّ تحقيقه وما فشلت فيه، فالولايات المتحدة ساعدت بسياساتها على ظهور مراكز قوى جديدة وأضعفت من موقفها في النظام الدولي.فالسياسة الأمريكية تجاه الطاقة مثلا كان لها دور كبير في نهاية القطبية الأحادية؛ حيث أدى تزايد الطلب الأمريكي على الطاقة بنسبة 20% في السنوات الأخيرة إلى ارتفاع أسعار البترول من 20 دولارًا للبرميل إلى أكثر من 110 دولار للبرميل في أقل من عقد من الزمان،ما تسبب في نقل رؤوس الأموال إلى الدول التي تمتلك هذه الاحتياطات النفطية وبالتالي ساهمت واشنطن في تحويل منتجي النفط والغاز إلى مراكز للقوة الدولية.كما أن السياسة الاقتصادية الأمريكية لعبت دورًا في إرساء التحوّل نحو عالم بلا أقطاب، فالنفقات التي زادت نتيجة الحربين التي شنتهما الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان قد ساهمت في تراجع مركز الولايات المتحدة المالي من فائض في الموازنة عام 100 مليار عام 2001 إلى عجز 250 مليارًا عام 2007.ما أدَّى إلى مزيد من الضغط على الدولار وتحفيز التضخم والمساهمة في تراكم الثروة والقوة في أماكن أخرى من العالم.كما رسَّخت العولمة نظام غياب الأقطاب من خلال التدفقات عبر الحدود والتي تتم بعيدا عن سلطة الدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى تزيد من قوة الفاعلين الآخرين غير الدول كالشركات المتعدية الجنسية.
إن التحوّل في النظام الدولي سوف يترك آثارا سلبية على الولايات المتحدة نتيجة لتعدد مراكز القوى وسعي كل منها للتأثير الأمر الذي سيؤدي إلى صعوبة الوصول إلى توافق.فغياب أقطاب محددين سيؤدي إلى تزايد التهديدات التي تتعرض لها دولة مثل الولايات المتحدة من تنظيمات إرهابية ومن الدول المصدرة للنفط التي قد تخفض صادراتها للولايات المتحدة.ولكن برغم أن غياب القطبية هو أمر حتمي فإن الولايات المتحدة تبقى حتى الآن أكثر قدرة من أي فاعل آخر على تبديل طبيعة النظام الدولي إن أرادت ذلك.

الخلاصة إن غياب القطبية يعقد من الدبلوماسية، فغياب القطبية لا يؤدي فقط إلى تعدد الفاعلين بشكل غير منظم بل إلى غياب الهياكل الثابتة والعلاقات والتي كانت تتسم بها الأحادية والتعددية والثنائية القطبية.كما أن التحالفات في ظل غياب القطبية أيضا ستكون أكثر صعوبة، والعلاقات ستكون انتقائية وموقفية، ويصبح من الصعب تصنيف الدول كأعداء أو أصدقاء وبالتالي تختفي الثنائية الأمريكية "إما معنا أو ضدنا".