24‏/05‏/2008

ماذا بعد اتفاق الدوحة؟

ماذا بعد اتفاق الدوحة؟
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية

ثمة مفارقة وثابتة في تاريخ لبنان السياسي مفادها دوام تعرضه لأزمات وطنية حادة غالبا ما يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي لتفجر الواقع اللبناني الذي يعوم على بحر من التناقضات والتي تجد دائما من يجيد استثمارها ويعرف كيف يستفيد منها،وما جرى مؤخرا لا يعدو كونه انعكاسا لهذا الواقع،فما الذي جرى؟وكيف تمَّ التعامل معه؟ وما هي حظوظ اتفاق الدوحة؟
أولا في الوقائع ثمة ثغرات بل فجوات كبيرة في السياسات التي اتبعت بعد اتفاق الطائف على الصعيدين الداخلي والخارجي،أزمات دستورية متلاحقة يتداخل فيها الدستوري بالطائفي وحتى المذهبي،حلول على قاعدة تقطيع الوقت بأقل الخسائر الممكنة.في المقلب الآخر سياسات خارجية وتحالفات وعلاقات تعكس تباينات الشرائح اللبنانية في نظرتها والتي تتقاطع مع سياسات المحاور العربية والإقليمية التي لا تتقاطع إلا على مصالحها الخاصة وعلى حساب لبنان تحديدا.عدم اتفاق واضح وجلي على وضع لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي وبالتالي دوام بقاء سلاح المقاومة سؤالا مطروحا من قبل الأكثرية وبخاصة بعد عدوان 2006 على لبنان.
بعد اغتيال الرئيس الحريري تغيرات دراماتيكية حدثت وكأنها كانت تنذر بمنعطفات كبيرة في تاريخ لبنان السياسي القادم،وكان ابرز ما في هذه الانعطافات مصير المقاومة وسلاحها بالترافق مع ضغوط المحكمة الدولية الخاصة للبنان،تراكمت المطالب والضغوط الداخلية والخارجية إلى أن وصلت الأمور إلى مكان يصعب التراجع عنه لكلا فريقي المعارضة والموالاة،فكانت مناسبات عدة للصدام المسلح بين الطرفين،إلى أن توجت بقراري الحكومة الشهيرين لتفجر الوضع ولتؤكد الشر المستطير الذي نبه منه أكثر من طرف سياسي لبناني وإقليمي.وفي هذا المجال نذكر الملاحظات التالية ذات الصلة بالصراع القائم حاليا ومن بينها:
- ثمة خلاف وصل إلى حد الصراع حول تحديد موقع لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي وبالتالي تحديد موقف المقاومة من سلاحها بعد القرار 1701 وغيره من القرارات ذات الصلة بالوضع اللبناني.
- ثمة متغيرات كثيرة طرأت على أدوات الصراع ودوافعه ودعائمة ودخول أطراف عربية وغير عربية مباشرة في ألازمة القائمة،وبات الشروط والمطالب أضخم وأعظم بكثير من سابقاتها إبان الحرب الأهلية بين الأعوام 1975 و1990.
- ثمة تداخل وسباق محموم بين مشاريع كبرى في المنطقة انقسم اللاعبون الفرعيون فيها بين مراكز إقليمية ودولية فاعلة لا تتيح للأطراف اللبنانيين التحرك بسهولة في واقع أزمتهم.
- انفجار الأزمة اللبنانية في التوقيت القاتل انتخابات رئاسية أمريكية،تضعضع الحكومة الإسرائيلية وترنح رئيسها أيهود اولمرت، انقسام عربي واضح بعد قمة دمشق بين معتدلين وممانعين. غياب واضح للأطراف الأخرى كالأوروبيين.تهاوي الأمريكيين في المنطقة بدء من أفغانستان مرورا في العراق وصولا إلى لبنان.
- داخليا محتوى النظام السياسي فُصل على مقاسات أطراف بعضها لم يعد موجودا بالمعنى السياسي،وبعضه الآخر أعطي في ظله أكبر من حجمه الواقعي،فيما البعض الآخر تمدد دوره على حساب أطراف آخرين،في الوقت الذي عانت آليات النظام ومنها الدستوري خللا فاضحا وواضحا،في الوقت الذي كانت فيه الطوائف والمذاهب تبحث في هذا الخلل عن فجوات أخرى فيه لتزيد استثماراتها في خلاله وتساعد في تهاويه؛وعليه بات الكل مقتنع في السر قبل العلانية أن الطائف ضاق على مقاس البعض وترهل على البعض الآخر لكن أحدا لم يتجرأ حتى الآن البوح صراحة عما يريد،فالظروف لم تنضج لذلك وبالتالي حوار الدوحة الحقيقي مؤجلا إلى توازنات جديدة تتيح الجهر بما هو غير معلن.
وفي ظل هذا الجو المضطرب جاء التحرك القطري بغطاء من جامعة الدول العربية في محاولة للدخول على حل ألازمة اللبنانية فما الذي تمَّ التوصل إليه في الدوحة تحديدا،وهل يعتبر من الحلول القابلة للحياة عمليا أم أن مستلزمات نجاحه مرتبط بأمور أخرى خارجه عن نطاق أطراف الحوار الحاليين؟
في ظاهر اتفاق الدوحة وباطنه ثمة نصف ربح ونصف خسارة لكلا طرفي المعادلة اللبنانية المعارضة والموالاة،لجهة اولويات النقاط التي تم بحثها أو الاتفاق عليها،فاتفاق فينيسيا الذي تم الذهاب به إلى الدوحة تمت مناقشته وفقا لوجهة نظر المعارضة واولوياتها،فاستبعد موضوع سلاح المقاومة،إلا أن الأكثرية تمكنت من الحصول عمليا على صياغات يمكن تأويلها مستقبلا لجهة اصل البحث في هذا الموضوع لاحقا،وعلية فإن المعارضة لم تقدم تنازلا لكي يسجل نصرا كاملا للموالاة،رغم أن هذا الموضوع هو أصل المشكلة للأكثرية،وعليه فان سلاح المقاومة هو الفتيل القابل للتفجير عند أي منعطف مستقبلا في الحياة لسياسية اللبنانية.
أما في قانون الانتخاب الذي على أساسه سيعاد تركيب النظام السياسي ومنهج سياساته العامة الداخلية والخارجية مستقبلا،فدونه ملاحظات كثيرة من بينها،فهو وان طالب واقتنع به الغالبية في التركيبة الحالية إلا أن ما كان يعترض عليه كل فريق قد تمكن من تعديله وفقا لوجهة نظره،إضافة إلى ذلك إن طريقة الاتفاق عليه هي مخالفة دستورية واضحة من حيث المبدأ،فقوانين الانتخاب ينبغي أن تصدر بقوانين وبالتالي ينبغي أن يكون حر المناقشة في المجلس النيابي وليس خارجه.إضافة إلى ذلك إن ما تم التوافق عليه لجهة تقسيم الأقضية يعتبر جوائز ترضية للطوائف والمذاهب التي تقبض على السلطة حاليا،وبالتالي إن أي مجلس قادم وفقا لهذا النظام سيعيد إنتاج قواعد وكتل نيابية على أساس طائفي ومذهبي وهو بالتالي إعادة لبنان إلى حكم المتصرفيات الطائفية التي كانت سببا في اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1958 و1975 والتي بدأت ظروفها تتكون في العام 2004 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أما العنوان الثالث المتعلق بالحكومة والمتعلق بتوزيع الأحجام الوزارية فقد حققت المعارضة مطلبها عبر أخذ الثلث الضامن أي 11 مقعدا في تركيبة الثلاثين فيما أخذت الأكثرية أغلبية النصف،لكن هذه التركيبة دونها التباسات فارقة،سيما وان صياغات اتفاق الدوحة قد حرمت المعارضة من إمكانية استعمال ثلثها الضامن أو المعطل،فحق الممارسة مشروط بعدم تعطيل عمل مجلس الوزراء،وكذلك بشرط عدم الاستقالة وغيرها،فيما الأكثرية قادرة على إنتاج مراسيم عادية دون المواضيع التي تتطلب أكثرية موصوفة،وفي مطلق الأحوال فان الحكومة القادمة سيكون أبرز مواضيع عملها قانون الانتخاب المتفق عليه مسبقا وبالتالي إن التركيبة المتفق عليها من نوع لزوم ما لا يلزم.
وفيما يتعلق بانتخاب الرئيس التوافقي فأمر آخر،فقائد الجيش الذي اجمع عليه الأطراف علنا واختلفوا عليه ضمنا،فهو في حكم المنتخب الأحد القادم،إلا أن الموضوع ليس في الرئيس فمن المعروف أن رئيس الجمهورية لم يعد له كلمة الفصل في النظام السياسي في اتفاق الطائف، وعل الرغم من إعطائه ثلاث وزراء في الحكومة القادمة فان هذا الحجم لا يجعله مؤثرا من الناحية العملية إلا في ظروف رمزية واستثنائية وبخاصة في بدء ولايته.وآيا يكن الأمر لجهة انتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهورية فان الخاسر الأكبر في فريق المعارضة يعتبر رئيس التيار الوطني الحر،ميشال عون،الرئيس غير المنتخب منذ العام 1988.
وفي هذه القراءة السريعة لنتائج اتفاق الدوحة،ما هي أبعاده وخلفياته والى ماذا سيفضي؟داخليا سيشكل فرصة لهدنة مرتبط زمانها بظروف بملفات خارجة عن قدرة اللبنانيين في التحكم بها،وبالتالي غير محددة أو معروفة الوقائع،لكن أقلها الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستعيد إنتاج الإدارة الجديدة بملفاتها وأولوياتها،إضافة إلى ملف المفاوضات السورية الإسرائيلية الجارية في أنقرة وبالتالي موقع لبنان في هذه المفاوضات وزمن انضمامه إذا استمرت وأنتجت منطلقا ما. بمعنى آخر إن الاتفاق قد أعاد ترتيب حالة من الستاتيكو السياسي الذي كان متفقا عليه قبل انفجار الوضع في الثامن من أيار.
أما خارجيا فيبدو أن اتفاق الدوحة قد حدد معالم مرحلة الرعاية العربية للبنان عبر قطر واتفاق الدوحة مطعما بما بقي من نكهة سعودية عبر الطائف،مقرونا بضبط إقليمي واضح المعالم ومراقبا مراقبة دولية لصيقة.
لقد تعوَّد اللبنانيون العيش في ظل تسويات الممكن بصرف النظر عن منتجها أو الفاعل فيها،لكن الثابت في تاريخ لبنان السياسي أن يتحضّر ويُحضّر لحفلات انفجار داخلي كل عقد ونيف،فهل ستمتد هدنة الدوحة كمثيلتها الطائف،أم أن طوائف لبنان ستجعل دوحة لبنان نارا يغطي مشاريع قادمة إلى المنطقة؟ في كلا الحالين يبدو أن لبنان غير قادر على تحديد موقعه بما يجري حوله وفيه!