30‏/05‏/2008

حدود الرعاية التركية للمفاوضات السورية الإسرائيلية

حدود الرعاية التركية للمفاوضات السورية الإسرائيلية
د.خليل حسين
رئيس المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية

مفارقة الرعاية التركية للمفاوضات السورية الإسرائيلية،تكمن في ظروف انطلاقها وامكانات نجاحها أو على الأقل التوصل إلى بيئة تفاوضية قابلة للحياة بين الجانبين على مستوى سياسي رفيع تنتج شيئا يمكن البناء عليه.فماذا في الظروف؟وما هي امكانات النجاح،في الواقع ثمة ملاحظات كثيرة ذات صلة يمكن الإضاءة عليها ومنها:
- في ظروف الانطلاق الإقليمية ثمة وقائع مغايرة ومختلفة عن السوابق التي تمت فيها لقاءات متعددة ومتكررة بين الجانبين ،أولى المحاولات اللافتة كانت بعد انتهاء حرب الخليج الثانية التي تم فيها تحرير الكويت من العراق،والتي شاركت فيها سوريا بقوات رمزية بأبعاد سياسية،وصورت المفاوضات آنذاك كأحد جوائز الترضية للانخراط السوري في سياق مسار أمريكي طويل للمنطقة،ورغم تهيئة الكثير من العوامل المساعدة كإطار التفاوض المتعدد الأطراف والإغراءات المالية والاقتصادية لم يتمكن الجانبان من التوصل إلى نهايات ثابتة ومؤكدة.
- كما أن ظروف الانطلاقة آنذاك كانت مغايرة للظروف الحالية وبخاصة لجهة أوراق السياسة الخارجية الداعمة للموقف السوري في المفاوضات،وهي متصلة بواقع العلاقات اللبنانية السورية آنذاك عبر تلازم المسارين والمصيرين في عملية التفاوض والنتائج التي يمكن ان تترتب عليها.
- في الرعاية الأولى اجتمعت أمم الأرض وهيئتها بدءا من الدول الخمس الكبرى مرورا بمنظمات إقليمية ودولية وصولا إلى دول ذات وزن مالي اقتصادي على المستوى الدولي، وعلى الرغم من وضوح الرعاية الأمريكية المباشرة وخفوت باقي الأطرف ظلت المظلة الدولية لها نكهة خاصة في رعاية المفاوضات أملا في قطف نتائج سياسية قابلة للتجير الدولي والإقليمي.
في مقابل تلك الوقائع والظروف ثمة ما يعاكسها في ظروف الرعاية التركية والتي يمكن أن تؤثر في النتائج المرجاة على الأقل ممن يرعاها ومن بينها:
- انطلقت المفاوضات بصورة غير مباشرة ويبدو أنها كانت جارية قبل الإعلان عنها بصرف النظر عن مستواها أو نوعيتها أو مداها أو أهدافها ،ثم تم الكشف عنها ليس بداعي الإعلان بقدر ما هو الإحراج لدمشق وهو أسلوب مسبوق اعتاد عليه الطرفان في محاولات سابقة،ورغم ذلك لا تعتبر إشارة مشجعة للراعي التركي الذي يأمل وككل راعي في مثل هذه الظروف يأمل إبقائها طي الكتمان إلى إن تصل الأمور إلى مكان يستثمر عمليا.
- إن الوضع الإقليمي لسوريا في هذه الفترة ليس كسلفه فهي خارج لبنان وقد فقدت عمليا ورقة هامة في آليات التفاوض،وعليه إن قدرات دمشق التفاوضية ستتأثر بهذا الواقع ،ولتفادي تلك الفجوات الاستراتيجية وطدت علاقاتها الاستراتيجية مع طهران لإعادة بعض التوازن حتى في المسارات التفاوضية بصرف النظر عن عدم وضوح نهاياتها.
- ثمة تباين في مرتكزات التفاوض،ففيما تعبر سوريا عن موقفها الواضح بالتمسك بمبادرة السلام العربية المقرة في قمة بيروت 2002،تجرى المفاوضات في اطر يمكن أن توصف خارج السياق الذي تفترضه المبادرة العربية السالفة الذكر،رغم وجود ما تبرره دمشق لهذه الفرضية.
ولو سلمنا جدلا بتجاوز تلك التباينات في الظروف بين الانطلاقة الحالية والسوابق المماثلة لها،ثمة شروط لنجاح الرعاية التركية وما تستلزم من شروط لاحقة لتخطي مبدأ الرعاية إلى التدخل كوسيط عند اللزوم وفي هذا الإطار يمكن إدراج ملاحظات من بينها:
- صحيح أن تركيا بدأت تنسج علاقات خارجية على قاعدة أنها دولة إقليمية كبرى تمكنها من بلورة إطار دبلوماسي للمساعدة في حل مشكلات لها انعكاساتها على الواقع التركي الجيو سياسي،إلا أنها في نفس الوقت ليست قادرة على لعب تلك الأدوار من دون تغطية من أطراف دولية فاعلة في النظام العالمي،وبالتالي افتقدت شرطا ضروريا ولازما لنجاح رعايتها وكما أسلفنا بصرف النظر عن حجم التوقعات والآمال المعقودة على نلك المفاوضات.
- إن مثلث العلاقات التركية مع كل من سوريا وإيران وإسرائيل يعطيها ميزة الانطلاق لكنها ليست كافية فحدود التأثير في مسارات التفاوض وان كانت من نوع الرعاية لا تمتلك قوة الدفع الكافية في منعطفات التعثر،فعلى الرغم من أن الرعاية تتطلب قدرة الضغط المعنوي على الأطراف،إلا أن هذه الحالة ليست متوفرة بالقدر الكافي للدفع باتجاه التواصل.فقدرة أنقرة على جذب سوريا باتجاه المفاوضات وإبعادها عن طهران لا تمتلك مفاتيحه بشكل كاف،في الوقت الذي تمتلك طهران أذرع سياسة خارجية قادرة من خلالها على فرملة أي تجاوز لخطوط تعتبرها مؤثرة في سياق تحالفها مع دمشق ومدى إسقاطاته وتداعياته في الساحة اللبنانية مثلا.في مقابل ذلك ثمة قدرة إسرائيلية لا يستهان بها للتأثير في قدرات تركيا ومثال ذلك استثمارها لموقعها الدولي ومدى قدرته في محاكاة الحنين التركي لدخول الاتحاد الأوروبي الذي يستلزم من وجهة النظر الإسرائيلية رضا تل أبيب على أنقرة ،ما يؤثر على حدود الرعاية التركية قبل الانتقال إلى مرتبات تفاوضية أعلى.
- إن توقيت انطلاقة التفاوض ليس مناسبا لجهة الاستحقاقات في الدول المؤثرة في مثل هذه الحالات،فالإدارة الأمريكية المعنية أولا وأخيرا في هذا الملف وبخاصة من وجهة النظر الإسرائيلية قد دخلت عمليا في كوما الانتخابات الرئاسية،وفي أحسن الأحوال لن تتمكن من التدخل وإعطاء أي دفع إلا في النصف الثاني من العام 2009 بعد ترتيب ملفات سياساتها الخارجية.
- إضافة إلى ذلك إن وضع رئيس الحكومة الإسرائيلية ايهود اولمرت ليس بأفضل حالاته،فهو يعاني من انهيارات سياسية متتالية على قاعدة اتهامات ذات أبعاد قضائية،وهو يترنح وقاب قوسين أو أدنى من السقوط ،الأمر الذي لا يؤهل تل أبيب الولوج في مفاوضات يعتد بها من الناحية المبدئية.
وعليه إذا كانت الأمور تؤخذ على محمل الجد فظروف نجاحها ليست متوفرة أو أقله تستلزم المزيد من الشروط الإضافية،أما وإذا كانت من نوع جس النبض السياسي بهدف تحضير علاجات لملفات أخرى فهي أيضا ليست مستوفية الشروط باعتبار أن بعض الملفات القابلة للمقايضة ليست من النوع القابل للدفع المسبق،وهي من الأمور القابلة للجر في ملفات وتداعيات كثيرة يصعب تصور نتائجها بوضوح ومدى أكلافها إذا ارتبطت بأطراف آخرين.
كثير من اللقاءات والمفاوضات عقدت بين سوريا وإسرائيل،وقليل من نتائجها يمكن البناء عليه،اثنا عشرة جولة ثنائية وأخرى متعددة،ومن ثم لقاءات على مستو سياسي وعسكري عال لم ينتج سوى "وديعة" سرعان ما تنكرت إليها إسرائيل لاحقا رغم تواضع موضوعاتها مقارنة مع الشعارات والآمال التي كانت معلقة على أساس موضوع التفاوض.
من مربط خيل اللاءات الثلاثة عام 1967 انطلق العرب لتحديد موقعهم في مواجهة إسرائيل،ومع انطلاق سباق البدل في مشاريع التسويات سقطت الخيول العربية واحدة تلو الأخرى، ولم يبق منها سوى قلة لا تعرف أين تتجه،أضاعت البوصلة وحُملت رايات السلام شمالا،بينما الجنوب ينتظر،فأين انتم يا عرب؟ وكأنهم في المريخ حتما!