19‏/10‏/2009

الخيارات القانونية لوصول تقرير غولدستون إلى لاهاي

الخيارات القانونية لوصول تقرير غولدستون إلى لاهاي
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
www.drkhalilhussein.blogspot.com


بصرف النظر عن النتيجة النهائية للتقرير ،يعتبر هذا الانجاز سابقة في المحافل الدولية ذات الصلة بالقانون الإنساني الدولي المتعلق بجرائم اسرائيل ضد الفلسطينيين.وبنفس الوقت يعتبر مصير التقرير تحديا حقيقا لمجلس حقوق الإنسان التابع للجمعية العامة للأمم المتحدة كما لكل الهيئات والمنظمات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان.
ففي الوقائع والحيثيات القانونية ،أتت فقرات التقرير المؤلف من 600 صفحة الكثير من القرائن التي تواجه "إسرائيل"، بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.ورغم عدم التناسب في حجم الرد المتبادل بين "الإسرائيليين" والفلسطينيين الذي يعتبر من أسس وقواعد القانون الدولي المتعلق بالمدنيين أثناء الحروب،فقد أشار التقرير وبشكل متناسب بين الطرفين ما يشكل بشكل أو بآخر انحيازا "لإسرائيل" لجهة محاولة الإرضاء بعد الإدانة.
أما الأمر الأكثر أهمية فيه، وهو من ضرورات أي توصية أو قرار يصدره مجلس حقوق الإنسان هو متابعة الموضوع وملاحقته،ولذلك أوصى التقرير مجلس الأمن الدولي بمطالبة "إسرائيل" ببدء تحقيقات "مستقلة وتتفق مع المعايير الدولية" في احتمال ارتكاب جرائم حرب على أيدي قواتها، وتشكيل لجنة من خبراء حقوق الإنسان لمراقبة مثل هذه الإجراءات. وشدَّد على أنه إذا تقاعست إسرائيل عن القيام بذلك؛ فيجب على مجلس الأمن أن يحيل الوضع في غزة إلى مدعي المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
فمجلس حقوق الإنسان لا يملك صلاحية رفع القضية مباشرة إلى المحكمة الجنائية الدولية،فيما مجلس الأمن الدولي هو صاحب السلطان في ذلك،كما له شروطه الخاصة وآلياته المحددة وفقا للنظام الداخلي لمجلس الأمن الدولي وكذلك للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
فإحالة القضية من مجلس الأمن الدولي إلى المحكمة الجنائية تتطلب شروطا عدة،تتعلق أولا وأخير بقرار عنه ذات صفة موضوعية لا إجرائية،أي بمعنى آخر وجوب صدور القرار على الأقل بتسعة أصوات يكون من بينها أصوات الدول الخمس الكبرى،أي لا ينبغي لأية دولة من الخمسة التي تمتلك حق النقض معارضة القرار والتصويت ضده.
كما أنَّ إحالة القضية على المحكمة الجنائية الدولية يعتبر عملا عقابيا للطرف الموجّه ضده (كأشخاص وليس دولة)،والمقصود هنا الضباط الإسرائيليون الميدانيون والقادة الذين أعطوا الأوامر العسكرية ونفوذها،إذ أنَّ المسؤولية لا تقع فقط على الجنود أو الفئات التي نفذت بل القادة العسكريين وحتى السياسيين منهم في بعض الحالات إذا توسَّع التحقيق بذلك.
علاوة على ذلك ،إنَّ رفع مجلس الأمن الدولي القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، مرتبط بأمر آخر ،هو تقرير مجلس الأمن نفسه،أنَّ الدولة التي وُجِه إليها القرار وهي "اسرائيل"، هي ليست قادرة على إجراء التحقيق وفق المعايير الدولية،أو هي ليست راغبة بذلك.باعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية ليست بديلا عن المحاكم الوطنية،وانما تعتبر مكملا ومساعدا للمحاكم الوطنية وفقا لنظامها الأساسي.
في الحالة الأولى، وهو أنَّ القرار ذات صفة موضوعية لا إجرائية، ما يستدعي إجماع الدول الخمسة الكبار على ذلك،وهو أمر بالتأكيد متعذر لجهة رفض الولايات المتحدة الأمريكية التصويت عليه ،باعتبارها بداية قد صوتت ضد التقرير،فكيف سيكون موقفها عند بدء تنفيذ الإجراءات العملية له.إضافة إلى ذلك ثمَّة موقف مبدئي أمريكي في موضوع مجلس حقوق الإنسان وآليات عمله التي تمَّ إقرارها،فقد رفضت المجلس جملة وتفصيلا من أساسه،بكونه مجلسا فرعيا تابعا للجمعية العامة للأمم المتحدة الجهاز الذي لا يمكنها التحكّم بتوصياته ومقرراته كما هو مجلس الأمن على سبيل المثال؛ومن هنا كان طرحها أن يكون المجلس جهازا رئيسا لا فرعيا على غرار الأجهزة الستة للأمم المتحدة ، بحيث يكون لها اليد الطولى في تحديد وسائل وآليات عمله المفترضة.
في الجانب الثاني،وهو اشتمال التحقيق على كل من نفَّذ وأعطى الأمر من ضباط وسياسيين وغيرهم، وهنا تبدو القضية أشدُّ تعقيدا من الوجهة السياسية والقانونية.فالمحكمة الجنائية الدولية هي بجكم نظامها الأساسي وآلياتها القانونية توجّه اتهاماتها إلى الأشخاص بذواتهم الشخصية لا بانتمائهم لدولهم،وبالتالي التهمة توجه إلى "إسرائيليين" وبالتالي لا الدولة "اسرائيل"؛ولا تقتصر القضية هنا بل الموضوع الأساس إذا تعدَّى نطاق التحقيق الرتب العسكرية إلى الرؤساء والقادة السياسيين،فمثلا ماذا لو وُّجِّهت التهمة إلى رئيس مجلس الوزراء "الإسرائيلي" أو وزير الدفاع أو للمجلس الأمني المصغر،وهم جميعهم لديهم حصانات سياسية ودبلوماسية على الأقل في إطار الدولة؟ وكيف سيتم التحقيق معهم في اسرائيل نفسها وفقا للمعايير الدولية؟.
صحيح أنَّ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية،يسقط الحصانة عن القادة السياسيين للدول،ويعتبرهم مسؤولون عن أوامرهم التي تؤدي إلى جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو غيرها،إلا أنّ صعوبة تنفيذ ذلك يبدو امرأ صعبا من الناحية العملية،إذ مهما بلغت قوة القوانين الدولية تبقى سيادات الدول الأكثر حضورا وقوة على الصعيد الدولي وبخاصة الدول ذات الشأن الدولي أو صاحبة العلاقات الإستراتيجية مع من يهيمن على النظام العالمي.وبمقاربة بسيطة،هل سيكون تعامل المحكمة الجنائية الدولية مع احد القادة السياسيين الإسرائيليين في حال إدانته هو نفس التعامل الذي تمّ به مع الرئيس السوداني عمر حسن البشير مثلا ؟ سؤال يصعب الإجابة عليه بالإيجاب!.
أما الجانب الثالث وهو تقرير مجلس الأمن إذا كانت "اسرائيل" غير قادرة أو راغبة،فهل من المتصوّر أن يتجرأ مجلس الأمن ويقرّر ذلك، ثمَّة سوابق في هذا الإطار،في أعقاب مجزرة جنين عام 2002 صدر القرار 1405 عن مجلس الأمن الدولي بناء على لجنة تقصي للحقائق، المضحك المبكي فيه ما ورد في الفقرة الخامسة منه إذ اعتبر "أن موت الفلسطينيين"،إذ استعمل كلمة "موت" ولم يستعمل اقله "قتل"مثلا إن لم نقل مجزرة،وكأن جميع من استشهدوا في المجزرة ماتوا بسبب الرشح أو الزكام أو أي مرض بسيط متعارف عليه!
في المقلب الآخر من الموضوع، إذا لم يتمكن مجلس الأمن لسبب أو لآخر من إحالة القضية على المحكمة الجنائية الدولية،كيف ستتجه الأمور،ثمَّة خيار آخر متعلق بمدّعي المحكمة الجنائية نفسها،وفي هذا الإطار يمكنه التحرّك عفوا إذا كوَّن ملفا فيه قرائن وأدلة وهي بطبيعة الأمر موجودة بكثرة،لكن السؤال يُطرح من جديد، إذا تمكَّن اوكامبو من تخطي الشروط الإجرائية كموافقة قاضي البداية، هل سيحرك القضية عفوا ،أم كما هي السوابق سيغض الطرف عنها،كما حصل في بعض القضايا المتعلقة أيضا بجرائم"اسرائيل" في لبنان؟
ثمَّة عشرات القضايا التي يندى لها جبين الإنسانية التي لم تجد لها مكانا في العدالة الدولية،وكأن الجرائم الدولية ومحاكمها باتت من الشعارات البرّاقة وعدة شغل النظام العالمي في عصرنا الراهن، فالمحاكم الجنائية الدولية بمختلف أنواعها الجنائية الدولية والجنائية الخاصة والمختلطة أيضا لم تصل إلى أحكام ترضي أصحابها ،ولا حتى إلى لوائح ترضي قضاتها أنفسهم.
دول قُسمت ،ومجتمعات أبيدت،وحقوق انتهكت، ولا زالت الدول الكبرى تلهو بلعبة المحاكم الدولية وحقوق الإنسان وجرائمها، ولا نقول ذلك يأسا أو تيئيسا،بقدر ما هو عدم المضي في الإفراط بالتفاؤل.صحيح أنَّ القانون ينشئ الحق،لكن تحصيل الحق يستلزم أيضا القوة،أين نحن العرب والمسلمين من لغة القوة التي نواجه بها في كل قضية صغيرة وكبيرة!