24‏/04‏/2011

نقاب فرنسا وتداعيات حظره

نقاب فرنسا وتداعيات حظره
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ 24-4-2011
www.drkhalilhussein.blogspot.com
في فرنسا بلد الإشعاع والحضارة، ثمّة ست ملايين مسلم اندمج غالبيتهم بثقافة ربما يعتبرها بعضهم، غريبة عن معتقداتهم الدينية،وحاولوا المواءمة والتكيّف بين شروط الاندماج الاجتماعي والثقافي الغربي وبين مقومات عقائد دينية ومورثات وتقاليد اجتماعية خاصة.وبين الحالتين وما فيهما من مصاعب وشظف التكيّف؛ جاء بدء سريان تنفيذ منع النقاب والبرقع في الأماكن العامة ليزيد حالات التوجّس ويرفع منسوب القلق والتوتر النفسي والسلوكي، ما يؤشر على مراحل قادمة ربما قاتمة وتعيد المجتمع الفرنسي إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي حين اشتعلت ضواحي باريس بصدامات دامية وتفجيرات مؤلمة بين قوات الأمن الفرنسي وبيئات اجتماعية جلها إسلامية جزائرية ومغاربية الأصل.
طبعا هي سابقة أوروبية وبالتحديد فرنسية، لكنها لن تبقى كذلك،وربما ستمتد إلى دول ومجتمعات أوروبية أخرى في وقت يسهل الاتهام ولصق الإرهاب والتطرّف بالمسلمين أينما وجدوا سيان في بلاد الغرب أم الشرق. لكن النقاب والبرقع ومنعه ليس بالضرورة يمكن من خلاله رسم صورة السلوك السياسي الفرنسي الداخلي والخارجي،بل سيكون احد مفاتيح تشريع فرنسا على أحداث تعيد بالذاكرة الجماعية الفرنسية لأعمال الانتقام والفعل وردود الفعل.
هي قضية من الصعب فصلها عن سياسات عامة فرنسية انتهجت في سياق متكامل،تستند إلى إعادة الحراك الفرنسي الإقليمي والدولي في غير مكان وزمان.ففرنسا التي انتصرت في ساحل العاج بعزل بغاغبو وإيصال الحسن وتارا صديق الرئيس الفرنسي ساركوزي واشبينه بتزويجه اليهودية الفرنسية قبل وصوله للرئاسة. وكذلك سرعة حراك الرئيس ساركوزي في الأزمة الليبية ودفعه حلف الناتو لتسريع خطواته التدخلية ولو بغطاءات شكلية من قبل مجلس الأمن بالقرارين 1970 و1973،على غرار الدور الفرنسي في تسعينيات القرن الماضي في أزمة كوسوفو.
وإذا كانت السياسة الخارجية الفرنسية تنحو منحا لا يروق للكثيرين في إفريقيا وغيرها،فان سياساتها الداخلية لا تقل غرابة في السنوات الأخيرة.فمن المتواتر بعد الحرب العالمية الثانية وصول اليمين واليسار إلى الحكم دون اختلافات جوهرية ذات شأن في القضايا الداخلية،لكن مع بروز اليمين المتطرف مؤخرا ثمّة كلاما آخرا يعيد خلط الكثير من المفاهيم والمعتقدات والسلوكيات التي ميّزت فرنسا في محيطها الدولي.
اليوم تحاول فرنسا صياغة نسيج سياسي اجتماعي جديد لا يخلو من الغرابة في بلد يدّعي الريّادة في الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان وما يتفرع عنها من قضايا. صحيح ان لفرنسا ومجتمعها العلماني الحق في تشريعات تعبر عن واقع معين،لكن ووفقا لمعايير تدعي العمل بها لا يجوز المضي في سلوك يستشف منه أو يعبر عن تمييز يرقى إلى العنصرية في التعاطي مع قضايا تمس عقائد وموروثات من الصعب فصلها سريعا في حياة بعض الجماعات.
ربما البرقع لا يعني بالضرورة الكثير لبعض مسلمي فرنسا أو غيرها، لكنه سيكون مدخلا وبابا يفتح من خلاله الكثير من القضايا المتعلقة ببعض الأقليات التي تعيش في الغرب بشكل عام. والتي بدورها ستجر واقعا من الصعب تجاوزه في مجتمعات سهلة الاختراق بالابتزاز والاستغلال والتحريض ضد أقليات معينة ومنها المسلمة.
قبل سنتين تقريبا اشتعلت الحرب ضد مآذن الجوامع في سويسرا،وقبلها موجة العداء للمسلمين والعرب في أميركا بعد أحداث 11 أيلول 2001، ماذا نتج عنها سوى المزيد التباعد وازدياد الإصرار على عدم فهم الآخر وعدم الاستعداد لسماعه وعدم الاعتراف به أو حتى بوجود تمايز ما أو مشكلة ما، وفي جميع الأحوال مزيد من العنف ومزيد من التداعيات التي لا نهاية لها.
لا ندّعي القول بعدم وجود خصوصية لكل مجتمع ومنها الغربية وبخاصة الأوروبية،لكن ذلك لا يعطي الحق لهذه المجتمعات ان تدّعي بحريتها المطلقة في فرض معتقداتها وآرائها على شركائهم في المواطنة والمجتمع وان اختلفوا في الدين أو العرق. وبخاصة ان ذلك لن تصل بسالكه إلى مكان ما،بل سيزيد الأمور تعقيدا وستتوارث الأجيال القادمة المزيد من الغربة عن الآخر.
ربما نحن اليوم بحاجة إلى مزيد من فهم الآخر والتفاعل معه ومع متطلياته وخصوصياته،كما ينبغي في نفس الوقت عدم المغالاة في التمسّك ببعض القضايا التي ليست بالضرورة من عقائد الدين، صحيح أننا نعيش في قرية كونية صغيرة، لكن أثبتت الأيام والوقائع ان العولمة لم تستطع تجاوز الكثير من خصوصيات البشر والمجتمعات والثقافات والحضارات.
وبصرف النظر عن أحقية السلوك الفرنسي في قضية البرقع من عدمه،ثمّة تداعيات كثيرة تنتظر المجتمع الفرنسي بمختلف شرائحه وانتماءاته. فتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي هدد سابقا بضرب فرنسا ومصالحها اذا ما أقرّت هذا القانون، كما أن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن نفسه وجَّه سابقا رسالة إلى السلطات الفرنسية يطالبها بسحب القوات الأجنبية من أفغانستان للإفراج عن الرهائن الفرنسيين في مالي. لا شك أن لفرنسا الحق في تبني القوانين التي تناسب علمانية الدولة وحرياتها وقيمها الجمهورية، ولا شك أن كثيرا من المسلمين الفرنسيين لا يعترضون على منع النقاب، ولكن الأكيد أن بعضا من هؤلاء المسلمين قد يصبحون أداة مرنة وسهلة بأيادي من يريدون الانتقام من فرنسا، وهذا ما حصل في سنوات التفجيرات خصوصا أن بعض الضواحي تعج بالناقمين.
لقد بات اليمين المتطرف رقما صعبا في الحياة السياسية الفرنسية، وقد يزداد نفوذه قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة الربيع المقبل. ولا يتردد الكثيرين في الإشارة إلى أن لا شيء يمنع بعد اليوم أن يصل إلى رئاسة فرنسا يميني متطرف، ومن هنا بالضبط يمكن فهم النقاش القائم حاليا حول علاقة الدولة الفرنسية بمسلميها، الذين يُقال إن عددهم ربما فاق 6 ملايين نسمة. ولعلَّ تزامن هذا النقاش مع قانون حظر النقاب والحجاب يفتح الأبواب أمام كل الاحتمالات والمخاطر المحتملة.