18‏/12‏/2011

روسيا وسياسة ملء الفراغ

روسيا وسياسة ملء الفراغ
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الشرق الأوسط من بابه العريض في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي،على قاعدة ملء الفراغ الناجم عن أفول النجمين الفرنسي والبريطاني،بعد سلسلة ثورات عربية أطاحت بأنظمة وبأحلاف إقليمية. اليوم تخرج الولايات المتحدة نفسها من العراق،وان بظروف مختلفة، لكنها متطابقة لجهة الثورات وإعادة تركيب التحالفات،فهل ستنتهج روسيا بوتين،الفراغ المحتمل لإعادة ترتيب أوضاعها؟
في المبدأ،تعتبر روسيا كأي دولة كبرى ذات توجهات عالمية،وقد أعاد الرئيس فلاديمير بوتين، إليها هذه الميزة في خلال الفترتين الرئاسيتين التي قضاهما في الرئاسة،وأودع روسيا فيما يشبه الأيدي الأمينة عبر الرئيس ميديدييف.اليوم وبعد فوز حزب بوتين في الانتخابات التشريعية،بات جاهزا للعودة إلى برنامجه القديم – الجديد،بأوجه وأساليب متعددة،من بينها،اتحاد اورو آسيوي يضم مجمل الدول التي انضمت سابقا إلى اتحاد الدول المستقلة،أو ما سميَّ آنذاك بالكومنولث الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
طبعا،تمتلك روسيا اليوم من المقومات ما يجعلها تمد نفوذها في تلك المناطق الحيوية، لكن بالعودة إلى الكثير من نظريات الجغرافيا السياسية، أو بشكل أدق إلى نظريات"الجيوبولتيك" التي اعتبرت المناطق الأورو آسيوية،المجال الحيوي الأول للسيطرة على العالم،مع إضافات أخرى إليها ممتدة باتجاه الجنوب وبالتحديد منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر وفقا لهذه النظريات قلب العالم،فإن روسيا لن تترك فرصة التطلع إلى منطقة يُعاد تشكيلاتها السياسية بعد مخاض الثورات والانسحابات الأمريكية.
ثمة وقائع ومعطيات متنوعة، تعزز الرؤية - الخيار الروسي،بصرف النظر عن إمكانات النجاح أم الفشل،وبغض النظر أيضا اذا ما كان الانسحاب الأمريكي من العراق سيولد فراغا استراتيجيا يمكن استغلاله روسيا.في المجال الحيوي الأمني خاصة،ثمة تحوّل تركي واضح، تجلى بنشر جزء من الدرع الصاروخي على أراضيها،ما يعطي مزيدا من الأسباب الروسية للتطلع جنوبا حيث الممر الممسوك تركيا باتجاه المياه الدافئة في البحر المتوسط الحلم الدفين لموسكو.علاوة على ذلك وان كان نشر المنظومة قد بُرر تركيا على أنه غير موجه لا ضد موسكو ولا ضد طهران،إلا انه في القراءة الروسية يعني مد يد الناتو وعينه إلى منطقة، تعتبر الأشد حساسية في العالم، لما تختزن من موروثات الاقتصاد والسياسة وغيرها من الدوافع لإشعال حروب باردة ان لم تكن ساخنة.
في المقلب الآخر من القراءة الروسية للمنطقة، ثمة حراك شعبي سوري مربك لموسكو،حاولت في الفترات السابقة التعامل معه بحذر شديد على قاعدة عدم قطع الوصال مع أي من أطرافها،لكن سُجل في الأسبوعين الماضيين تحوّلٍ لافت يرقى إلى مستوى المواقف الإستراتيجية في السياسات الخارجية الروسية، عبر إرسال تعزيزات عسكرية نوعية إلى البحر المتوسط وبالتحديد إلى قاعدة طرطوس،علاوة على تسليم دمشق منظومة صواريخ"ياخون" ذات الأبعاد العسكرية الإستراتيجية في مواجهة احتمال تدخل عسكري من قبل الناتو ضد دمشق.
في المقلب الآخر من منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد في أفغانستان،حسمت واشنطن والناتو وجودهما في أفغانستان حتى العام 2020 في مؤتمر برلين،الأمر الذي سيعزز الإرباك في العقل الباطني الاستراتيجي للقيادة الروسية، لما تحمله هذه المنطقة أيضا من أبعاد كانت محط أنظار موسكو في الحقبة القيصرية مرورا بالسوفيتية وبالتأكيد"البوتينية" اذا جاز التعبير.
يبقى المسرح العراقي وهو بيت القصيد في حفلة الأحلام والأطماع الإقليمية والدولية.فقد كانت موسكو الخاسر الأكبر من احتلال أميركا للعراق في العام 2003،خسارة عقود نفطية قدرت آنذاك بـ 200 مليار دولار،علاوة على إخراجها عنوة من منطقة تعتبر تقليديا إبان فترة الحرب البارد، مسرحا مريحا لها، ومجالا للإطلالة السريعة على الخليج وما يعنيه أميركيا.وما يعزز هذا السلوك الروسي المحتمل، الخروج المدوي لموسكو من شمال أفريقيا وبخاصة لجهة الكعكة النفطية الليبية.
لقد عزز الرئيس فلاديمير بوتين، موقع روسيا في تركيبة النظام العالمي في الفترة الأولى لولايته 2000 – 2004، ثم ما لبث ان نقل موسكو في سياسات هي أشبه بمواجهة واشنطن في بعض تفاصيل السياسات الإقليمية والدولية في الفترة الثانية 2004 - 2008، وحاول انتزاع دور مفترض لموسكو بين الكبار، اليوم يأتي عبر انتخابات ليجدد رؤيته باتحاد قابل للحياة ،بعدما تمكنت روسيا من تركيز اقتصادياتها وتمكنها من إمكانية استيعاب متطلبات هذا الاتحاد بعدما افتقدته في الاتحاد الأول بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وكتلته. فهل ستتمكن من ذلك؟أم ستحتاج إلى أدوات وأذرع أخرى في السياسات الخارجية؟
من حيث المبدأ، وبصرف النظر عن مجمل نظريات الجيوبولتيك التي لم يكن يؤمن بها الاتحاد السوفيتي سابقا،بل حاربها باعتبارها العقل الباطني للنازية الألمانية والشوفينية الايطالية، اليوم تلجأ إليها كل الدول الطامحة والطامعة للعب أدوار عالمية،فكيف اذا كانت منطقة الشرق الأوسط تعتبر من الناحية العملية قلب العالم وعصبه النفطي،فهل ستترك المنطقة لقدرها؟ أم ستكون لكل دولة قراءتها الخاصة؟ .لقد حاربت موسكو السوفيتية بكل ما أوتيت من قوة لمجابهة واشنطن في الشرق الأوسط بعد خروج الفرنسيين والبريطانيين، واليوم ليس لموسكو البوتينية خيارات كثيرة،بل أبرزها إعادة التموضع في منطقة كانت وستظل محركا للغريزة السياسية الروسية.هذا ما لمّح به أكثر من مرة بوتين نفسه في معرض شرح برامجه الرئاسية القادمة!