24‏/12‏/2011

التاريخ السياسي للوطن العربي

التاريخ السياسي للوطن العربي


المؤلف: الدكتور خليل حسين

اسم الكتاب :التاريخ السياسي للوطن العربي

دار النشر: منشورات الحلبي الحقوقية،بيروت ، 2011

جاء في تقديم الدكتور محمد المجذوب للكتاب:
صدر للدكتور خليل حسين ، المجلد الأول للتاريخ السياسي للأقطار العربية، وحمل عنوان "التاريخ السياسي للوطن العربي"،عن منشورات الحلبي الحقوقية في بيروت،وهو يؤرخ لتاريخ الوطن العربي الحديث والمعاصر، بمنهج أكاديمي،يتسم بالموضوعية والتجرّد في قراءة الأحداث واستخلاص عبرها.بقع المؤلف في 766 صفحة من القطع الكبير الفاخر، شكلا ومضمونا.تضمن جزأين،الأول يغطي تاريخ لبنان من زاوية الحروب المتواصلة فيه وعليه.أما الثاني فأرّخ لمجمل الدول العربية منذ نشوئها وحتى يومنا هذا. قدَّم للكتاب المفكر القومي العربي، البروفسور محمد المجذوب، رئيس الجامعة اللبنانية الأسبق،ونائب رئيس المجلس الدستوري اللبناني الأسبق،ورئيس المنتدى القومي العربي. ومما جاء في تقديم البروفسور المجذوب:
يتميز الباحثون في العلوم السياسية، إلى جانب اهتمامهم بالتقميش والتجميع والعرض، بنزعة التعليل والتحليل، ومحاولة الربط بين الأحداث، والتعرّف إلى المسبّبات، واستنتاج الدروس والعِبر. وتلك ميزة تلازم زميلنا الدكتور خليل حسين، صاحب المجلدين عن التاريخ السياسي لأقطار الوطن العربي، وعن القضايا والمشكلات والهموم وعوامل التغيير والصراع في هذا الوطن.
فالوطن العربي كان قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من خضوعه للإمبراطورية العثمانية، شبه موحّد، تراثياً وجغرافياً واجتماعياً. غير أن عوامل التفكيك والتشتيت والتجزئة عمّته بعد ذلك وفرّقته وباعدت بين أقطاره.
وإذا كانت القيادات والزعامات العربية تتحمل قسطاً من المسؤولية المترتّبة على هذا التخلف أو الانحطاط أو التقهقر المزري، فإن أصحاب الحملات والمؤامرات والأحقاد والأطماع الاستعمارية الغربية تتحمل معظم الأقساط الباقية. فالغرب الاستعماري الذي فوجئ بوصول الجيش العثماني إلى أسوار مدينة ڤيينا، وبتمدّد العرب في الأندلس بجامعاتهم ومراكزهم العلمية ومبادئهم وتعاليمهم الروحية والإنسانية، تناسى ثمار الرسالة الحضارية التي حملها العرب إليه لتكون مدماكاً وحافزاً لنهضته وتطوره، وقرر الانتقام ممّن أحسن إليه ونقل إليه علوم الدنيا آنذاك. وكانت نتيجة نكران الجميل سلسلة من الحروب الصليبية الغاشمة، وحملات طرد وتعذيب وإبادة في الأندلس، ومحاولات تدمير وتشويه وتسفيه للمبادئ والقيم واللغة العربية.
وكانت الحرب العالمية الأولى الفرصة المناسبة للإفصاح عن المكنون والمضمر من الأحقاد، وإنجاز ما استُعصي على الغرب، من قبل، من احتلال وهيمنة ونهب للثروات. وتمثل كل ذلك في وعد بلفور، واتفاقيات سايكس - بيكو، وتعزيز نظام الحماية والوصاية، وفرض نظام الانتداب. وكلها، في النهاية، أنظمة مستمدة من أحشاء الاستعمار والإذلال.

ودراسة الزميل الدكتور خليل حسين تشير،إلى المؤامرة الكبرى التي شنّها الغرب الاستعماري على الأمة العربية، والتي أثمرت تجزئة وانقسامات وخلافات ومنازعات بين الأقطار العربية. وكان هذا العرب، كلما لاحت في الأفق بارقة أمل في تحقيق وحدة عربية، شاملة أو جزئية أو مرحلية، يتصدّى لها بكل ما يملك من قوة للحؤول دون قيامها. ولعلَّ التفسير المبسّط لهذا الموقف أو التصرف الغربي إزاء كل محاولة أو مبادرة وحدوية عربية يكمن في فكرة واحدة، هي الخوف أو الهلع من وحدة العرب.
والحقيقة أن فكرة قيام اتحاد يضم الأقطار العربية في إطار تنظيم فدرالي سياسي واحد ليست سوى رغبة تتجاوب مع طموح العرب، وترتبط بفكرة التلاحم الطبيعي والعضوي والقومي الذي يجب أن يسود بين دول تعيش في وطن مشترك، وتنتمي إلى قومية واحدة، وتتحدث لغة واحدة، وتملك تراثاً فكرياً وحضارياً وروحياً مشتركاً، وتتقاسم مصالح مشتركة، وتواجه مصيراً وعقبات وأخطاراً مشتركة.
والوحدة العربية، كمشروع وهدف، تعرّضت لحملات من التجريح أو التنكيل أو الإحباط تستهدف التشكيك في إمكان تحقيقها. غير أن الشعب في كل الأقطار العربية لم يتخلَّ يوماً، على الرغم من المؤامرات والتجارب المريرة، عن هذا الأمل المرتجى، ولم يتوقف يوماً عن المطالبة بإنجازه. والعواطف الجياشة التي يُبديها، في كل المناسبات والأزمات وإزاء الحركات والتيارات والأغنيات والأناشيد القومية (ومنها نشيد «بلاد العرب أوطاني»، وأغنية «الحلم العربي») شاهد إثبات على مشاعره وآماله وتطلعاته الصادقة.
وتطلّع الشعب أو المواطن العربي إلى الوحدة ينطلق من عدة مفاهيم أو حقائق تُمثّل في وجدانه القومي مكاسب وفوائد من شأنه مساعدته على استعادة الأمجاد، وإثبات الذات، ومواكبة التطورات العلمية والحضارية والتقدمية في العالم، والإسهام في ضخّ المزيد من الروحانيات والأخلاقيات والقيم السامية في العلاقات والمعاملات الدولية. ويتجلّى كل ذلك في أمور عدة، أهمها:
1 - إن كل قطر عربي عاجز، بمفرده، ولو ملك الثروات الطائلة والكفايات الهائلة، عن مواجهة الأخطار والصعوبات الداخلية والخارجية، وتحقيق التنمية الكاملة والشاملة، والاستفادة من العقول المبدعة والاختراعات المتلاحقة.
2 - إن البعث الحضاري للأمة العربية، في عصر الدول والتكتلات والأطماع العملاقة، لا يمكن أن يتم ويُؤتي أُكله إلاَّ بالوحدة، فقوى الغرب، المتمثّلة بتجمعاته الإقليمية الواسعة، تسعى دائماً لإجهاض كل نهضة عربية ووأد كل وحدة عربية، لأنها تدرك أن الوحدة تعني قيام دولة عربية قادرة، بما تملك من كثافة سكانية وطاقات إبداعية وثروات طبيعية ومواقع إستراتيجية وتراث فكري وحضاري، على تطوير قدراتها وتجنيد طاقاتها وتعزيز مكانتها وتغيير موازين القوى في العالم.
3 - إن الوحدة ليست عودة إلى ذكريات الماضي المجيد، وليست عملاً نضالياً مرحلياً، وليست مجرد تعاون بين الأقطار العربية في بعض الميادين، وإنما هي عمل ثوري يُعبّر الأوضاع والعقليات ويتفاعل مع هدف ثوري آخر، هو الانخراط في عالم الديمقراطية التي تهدف إلى تركيز السلطة في يد الشعب، وضمان الحقوق والحريات للجميع دون أي تفرقة أو تمييز، واعتبار أن الديمقراطية لم تعد ذات مضمون سياسي فقط، بل أصبحت أيضاً ذات مضمون اقتصادي واجتماعي وثقافي.
4 - إن الوحدة ليست تحرّراً مادياً أو اقتصادياً فقط، وإنما هي أيضاً تحرر نفسي وأخلاقي، وانطلاق حضاري وإبداعي مناقض لآفة التجزئة وما أفرزته من عقليات متحجرة وعلاقات متوترة وأوضاع سياسية واجتماعية متخلّفة.
5 - إن الوحدة ليست، في النهاية، وحدة الدول العربية فقط، وإنما هي في الدرجة الأولى وحدة المواطنين العرب في هذه الدول، الذين يرغبون في التواصل والتعاون والمشاركة في رسم السياسة واستشراف المستقبل وحماية الوجود والعزة والشرف، والتصدي مجتمعين للمخاطر التي تتعرض لها أمتهم.
6 - إن التجارب علّمت الشعب العربي عدم الإصرار على تحقيق الوحدة الفوريّة الشاملة، لأن الظروف والأوضاع والرواسب التي خلفتها عصور الانحطاط والقهر ورعتها قوى الاستعمار، لم تعد تسمح إلاَّ بوحدة على مراحل وفي إطار اتحادي (فدرالي).
7 - إن الوحدة، في الظروف القاسية التي تمر بها الأمة العربية، أصبحت ضرورةً تاريخيةً وانتفاضةً مصيريةً، فإستراتيجية المستعمرين كانت تهدف دوماً إلى منع قيام أية وحدة عربية، لأن هذه الوحدة، إن تحقّقت، ستكون ثورة مزدوجةً: ثورة في الوجود العربي من شأنه إيجاد الحلول الجذرية لمعظم التناقضات المحلية أو الطائفية أو العرقية التي تعرقل تقدمه، وثورةً على أطماع القوى الاستعمارية والصهيونية، من شأنها قلب موازين القوى في العالم، والإسهام في تغيير الواقع العربي المتردي، محلياً ودولياً.

وتحدث زميلنا في دراسته عن الحرب الأهلية التي اكتوى لبنان بنارها مدة خمس عشرة سنة، والتي أذهلت العالم بفجورها وأهوالها، والتي انتهت بتوقيع وثيقة الطائف وتوقّف العمليات الحربية. ويمكننا، في هذه المناسبة، إبداء بعض الملاحظات السريعة:
1 - إن وثيقة الطائف لم تأتِ بحل نهائي للأزمة الكبرى التي عصفت بالبلاد، بل كانت تسويةً سياسيةً تتضمن إطاراً عاماً أو مدخلاً صالحاً للبحث السلمي في الحل النهائي. ومع ذلك فإن البعض يخشى أن تشكّل الوثيقة هدنةً توفّر لمن أضناهم التقاتل فرصةً لالتقاط الأنفاس والإعداد لجولات دموية أخرى. والخشية نابعة من أن النظام السياسي في لبنان قائم على توازنات في الحكم ولا ينطوي على قواعد وآليات وضوابط، ثابتة ومحددة، تسمح بإقامة دولة ترتكز على مؤسسات وأجهزة وشخصيات عادلة ونزيهة.
2 - إن الوثيقة صيغة لا تخلو من بصمات أو خلفيات طائفية. بل إن البعض يرى فيها عملية تكريس دستوري للوضع الطائفي في لبنان. وسئل أحد الزعماء السياسيين يوماً عن رأيه في وثيقة الطائف فأجاب بسرعة بأنها تكرّس الطائفية أكثر من ميثاق العام 1943. وصحيح أن الوثيقة تضمنت وعداً بإلغاء الطائفية السياسية بعد فترة غير محددة من الزمن، وبعد نجاح خطة مرحلية غير واضحة المعالم والنتائج، إلاَّ أنها ناقضت نفسها عندما دعت إلى استحداث مؤسسة كبرى (مجلس الشيوخ) تتمثل فيها جميع العائلات الروحية (أي الطوائف) وتنحصر صلاحياتها في القضايا المصيرية (دون إيراد تحديد لهذه القضايا).
3 - إن الوثيقة لم تحظَ بالتأييد الكامل من كل الأطراف. لقد كانت منذ البداية موضع اعتراض أو تحفّظ ما لبث أن انقلب إلى موضع شكوى وتذمّر على صعيد التطبيق والممارسة. فهناك فئات نكتفي، عند تحليلها لها، بالمآخذ والسلبيات وهناك فئات أخرى تُجري مقارنةً بين المكتوب والمطلوب، فتُقرّ بأهمية الصيغ والنصوص المكتوبة، ولكنها ترى أن أهميتها لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تُعادل أهمية الوفاق النابع من القلب، والمرتكز على حسن النيّة وإرادة العيش المشترك والدائم والخالي من العصبية الطائفية. وفي رأيها أن السوابق في مجال الوفاق الوطني لا توحي بالثقة والاطمئنان.
4 - إن الوثيقة لم تُرضِ طموح الأجيال الصاعدة. فمتطلبات القوى الشابة في كل مجتمع لا تنسجم، غالباً أو بالضرورة، مع تطلعات الأجيال الماضية أو الهرمة. إن لكل جيل همومه وآماله وآفاقه. والصيغ التي يضعها ساسةً لم يكونوا في ماضيهم على مستوى المسؤولية تأتي بعيدةً وغريبةً عن تطلعات الشباب، وحافلةً بالمصالح الشخصية. ولهذا لم يكن من المستغرب وقوف القوى الشابة الواعية من وثيقة الطائف، أو من أي وثيقة أخرى مماثلة، موقف الرافض، أو موقف اللامبالي على الأقل.
إن الشاب اللبناني عانى من شتّى ضروب الإهمال والحرمان، وخصوصاً خلال الحرب الأهلية وهو يعيش اليوم في عصر التحوّلات السريعة والعميقة والمتلاحقة، وفي خضمّ القلق النفسي والوجودي الرهيب الذي أصبح سمةً من سمات العصر، وهو يسمع ويشاهد ما يجري في مختلف أقطار الدنيا من انتفاضات وثورات ضد القهر والظلم، ومن مظاهرات صاخبة تطالب بالمزيد من الحقوق والحريات والضمانات الاجتماعية (وما يجري حالياً في بعض الأقطار العربية من انتفاضات واحتجاجات ثورية يثبت ذلك).
ثم إن المجتمع الذي يتحرك فيه شباب اليوم ليس سوى مجتمع مضطرب، حافل بالتناقضات والتحديات والمآسي، ويتناوب على حكمه جيلٌ بعد جيل من الزعامات التي لا تريد أن تتطور، ولا تسمح للأجيال الشابة بأن تتطور. فكيف بعد ذلك، نريد من هذه الأجيال أن تُبارك صيغةً وفاقيةً تحدّ من طموحها وتُعَزّم أحلامها؟ وإذا كانت الحرب الأهلية قد اتّسمت (أو أريد لها أن تتسم) بطابع طائفي، فلماذا تبدو فترة ما بعد الحرب عاجزةً عن إنقاذ نفسها من هذه الآفة والاتجاه نحو الهموم والمعضلات الاجتماعية والأخطار الخارجية، ما دام الجميع يعترفون بأن الصراع الاجتماعي والخطر الخارجي أخطر من أيّ صراع سياسي؟.

وتحدث الزميل أيضاً في دراسته القيمة عن القضايا العربية المعاصرة. وأهم قضية فيها هي قضية الصراع العربي - الإسرائيلي ومحاولات إجراء مفاوضات مع العدو الإسرائيلي بغرض الاعتراف به ومساومته على إنشاء دولة فلسطينية مصغّرة بحدود العام 1967، أي على جزءٍ يسيرٍ من أرض فلسطين.
نحن نعتقد أنها مناورة أو حيلة أو خدعة مدبّرة للوصول إلى إنهاء القضية الفلسطينية والاعتراف الواضح والصريح بالكيان الصهيوني، أي التخلّي الكامل عن الأجزاء المتبقية من فلسطين التي اغتصبها ذلك الكيان بالتواطؤ والعنف والمجازر والتشريد.
وهنا يُطرح تساؤل: هل يحقّ لأية دولة أو منظمة أو حكومة أو جماعة عربية الإقدام، بإرادتها المنفردة، على مثل هذا التصرف؟.
إن الصراع القائم بين العرب، أصحاب الحق الطبيعي في الأرض الفلسطينية كلها، وبين الإسرائيليين المغتصبين لجزء عزيز من هذه الأرض، ليس نزاعاً عادياً بين دولة ودولة، أو بين أنظمة عربية وكيان إسرائيلي. إنه صراع قومي تمثل الأمة العربية، بتاريخها الطويل وتراثها الحضاري وثقلها البشري وثرواتها الطائلة، الطرفَ الأصيل والأوحد فيه.
وعندما تكون الأمة العربية بأسرها هي الطرف الأصيل في هذا الصراع المتعلق بمصيرها القومي، فإن كل محاولة لإدخال أي تعديل على أساس هذا الصراع أو مساره يجب أن تتم برضاها الكامل. وهذا يعني أن ليس في وسع أي زعيم أو حاكم أو نظام عربي، مهما يقلّ شأنه وتتكدّس إنجازاته وتضحياته، أن يتصرّف بمصير أية قضية قومية دون الرجوع إلى الأمة.
إن الأمة العربية، وليس الحكام وحدهم، هي التي رفضته منذ البداية وحتى الآن، زرع الوجود الصهيوني في قلب الوطن العربي. إن هذه الأمة، وليست الأنظمة السياسية وحدها، هي التي رفضت الهزيمة والاستسلام، وضحّت بالشباب والثروات، وتحمّلت بصبر أيوب في أيام الشدائد، ورضيت بالصمود في أحلك الساعات إن هذه الأمة الواحدة، ضميراً ومصيراً، وليست دولها المتعددة، هي التي فرضت، في مؤتمر الخرطوم الشهير للعام 1967، شعار اللاءات الثلاث بعدم الاعتراف. ولهذا فإن التخلّي عن هذا الشعار القومي الثابت لا يُمكن أن يتمّ (إذا قُدّر له أن يتم) إلاَّ بمحض إرادتها.
إن التخلّي عن جزء من أرض الأمة ليس عملاً من اختصاص الحكام، إنه من صميم صلاحيات الأمة. والتخلّي لا يصبح عملاً مشروعاً ومقبولاً إلاَّ عندما توافق عليه الأمة بمحض إرادتها وكامل وعيها القومي، ولهذا فإن كل اعتراف بحق الصهيونيين في احتلال أرض عربية هو خروج على إرادة الأمة.
إن الأمم أو الشعوب تُستفتى عادةً لتقرير أمور في غاية البساطة، كتغيير السير من اليمين إلى اليسار، أو إجراء تعديل في مادة دستورية، أو إدخال تغييرات طفيفة على تقسيمات إدارية. وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يحق للأمة التي اغتُصبت جزء عزيز من أرضها أن تُفصح، في استفتاء ديمقراطي حرّ، عن رأيها في دعوة البعض إلى الاعتراف بعدوها والتخلّي له عن جزء من أرضها؟.
في العام 1972. تحدث المناضل القومي المرحوم فايز صايغ عن موضوع التنازل فكتب يقول: «إن سلطة التنازل عن أي أرض عربية لا يملكها أي شعب عربي، أو أي جيل من أجيال الأمة العربية. بل إن الشعب الفلسطيني لا يملك سلطة التنازل عن أرض فلسطين (ناهيك عن أيّ أرض عربية)، لأن أرض كل قطر في الوطن العربي هي ملك الأمة العربية جمعاء ،على امتداد أجيالها مدى التاريخ،وبالتالي ان ادعاء أي قطر عربي ،بحق مقايضة مصير جزء من الأرض العربية بمصير جزء آخر إنما هو اعتداء على تراث الأمة العربية جمعاء، وعلى حقوق أجيالها المتعاقبة في كامل التراب العربي، فضلاً عن كونه اعتداءً على حقوق أبناء الجزء المتنازل عنه».
وعندما زار الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، إسرائيل في العام 1977، وأعلن اعترافه بالعدو القومي للعرب، أذاع قادة فصائل الثورة الفلسطينية وثيقةً تضمنت، أولاً مناهضة جميع الحلول الاستسلامية الصهيونية الرجعية، وثانياً رفض قراريٍ مجلس الأمن 242 و338، وجميع قرارات المؤتمرات الدولية التي تقوم على أساس هذين القرارين. وثالثاً التركيز على حق إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أي جزء يتم تحريره من الأرض الفلسطينية المحتلة، دون صلح أو تفاوض أو اعتراف.

إن الإصرار الدائم لبعض العرب، أنظمةً وباحثين، على اللجوء إلى المنظمة العالمية (الأمم المتحدة) للبحث في أروقتها ودهاليزها عن حلّ عادل لقضايانا القومية، وفي طليعتها القضية الفلسطينية دليل واضح على أننا لا نريد أن نتعظ ونعتبر ونقتنع بأن القرارات الصادرة عن هذه المنظمة ليست سوى توصيات عابرة وعاجزة كلياً عن حلّ أيّ صراع قومي ومصيري، وبأن حسم كل صراع يتوقّف، أولاً وأخيراً، على مدى ما يملكه الطرف الراغب في الحسم والحل من إرادة وعزم وقوة.
لقد أصدرت الأمم المتحدة، حتى الآن، عدداً هائلاً من القرارات المتعلقة بقضية فلسطين، فبقيت كلها تقريباً حبراً على ورق. ولم يحدث يوماً أن تمكن قرار دولي من فرض حلّ عادل. فالمقاومة الصامدة الحافلة بالإيمان كانت وما زالت أصدق أنباءً من أي قرار دولي، ولو صدر بالإجماع.
والدرس الذي تعلّمته الجماهير العربية، بعد كل تجاربها المريرة مع أجهزة الأمم المتحدة، هو أن القوانين والأحكام والقرارات والاجتهادات الدولية عاجزة كل العجز، في عالم يسوده منطق القوة والهيمنة ومعيار النفاق والتحيّز، عن تحقيق أي شرط من شروط الحق والعدالة.
ألم تتجاوز الجمعية العامة صلاحياتها الميثاقية في العام 1947 عندما اتخذت قراراً بتقسيم فلسطين؟ فماذا كانت النتيجة؟،
ألم تتحمس تلك الجمعية في العام 1948 وتصدر قراراً بعودة اللاجئين والتعويض عليهم؟ فماذا حلّ بهذا القرار؟،
ألم يتخذ مجلس الأمن بالإجماع في العام 1967 القرار 242؟ فماذا كان مصير هذا القرار بعد أكثر من أربعة عقود؟.
ألم تتخاذل الجمعية العامة وتتراجع في العام 1991 عندما أقدمت، لأول مرة في تاريخها، على اتخاذ قرار، دون حيثيات أو ذكرٍ للمبررات، بإلغاء قرار سابق صادر عنها في العام 1975، ينصّ على أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري؟ فماذا كان موقف الدول الكبرى والصغرى. وخصوصاً الدول العربية، من هذا التصرّف المشين والتلاعب المزاجي بالقرارات الدولية؟.
ألم تتبنَ الجمعية العامة، بأغلبية ساحقة في العام 2004، الفتوى التي صدرت بطلب منها عن محكمة العدل الدولية، وأوصت بوجوب هدم الجدار العنصري الفاصل في فلسطين باعتباره عملاً مخالفاً لأحكام القانون الدولي؟ فماذا كان موقف الأمم المتحدة من إسرائيل (العضو الوحيد فيها الذي قُبلت عضويته بشروط) بعد أن رفضت الاستجابة واستمرت في ارتكاب المخالفة؟،
إن الاعتماد على العوامل الخارجية أو المساعدات الدولية أو المتغيرات المفاجئة لا يحسم وحده أمراً ولا يحل مشكلة. واللجوء إلى الأمم المتحدة، في الظروف والأوضاع الدولية الراهنة، دليل عجز وفقدان ثقة بالنفس، فليس بوسع هذه المنظمة، إن حسُنت النيات، إلاَّ القيام بمحاولة التوفيق بين الأطراف المتنازعة. والتوفيق، إن تمَّ برضانا، لن يعني إلاَّ التسوية. والتسوية ليست حلاً عادلاً للمعضلات القومية والحقوق الثابتة.
والحق في المجالات الدولية لا يتحقق إلاَّ من خلال النضال والصمود والانتصار. والعدالة لا تخرج من زنزانتها الدولية إلاَّ على رؤوس الحراب. وإذا كنا نعتقد أن قرارات الأمم المتحدة هي التي كرّست وجود إسرائيل وأضفت عليها الشرعية، فنحن واهمون. إن إسرائيل وُجدت بإرادة الإمبريالية العالمية ومساندتها المستمرة لخدمة مصالحها. وبين إسرائيل وهذه الإمبريالية، المجسّدة اليوم بالولايات المتحدة، ارتباط عضوي ومصير مشترك. ولنتذكّر دائماً أن الشعب الفلسطيني قد استمدَّ شرعيته من كفاحه المسلح ومناصرة الشعوب المحبة للسلام والعدالة، لا من قرارات المنظمات الدولية. وحرية الجزائر المستقلة وُلدت في ساحة المعركة وليس فوق منابر الهيئات الدولية. والفيتناميون الذين حاربوا، دون كللٍ أو مللٍ، لمدة ثلاثين سنة، عمالقة الإمبريالية والطغيان في العصر الحديث لم يشعروا يوماً بأدنى حاجةٍ إلى تكريس شرعية حقوقهم وكفاحهم عن طريق الأمم المتحدة.
إن الصراع القائم بيننا وبين الصهيونيين وأسيادهم هو، في الحقيقة والواقع، صراع مصير ووجود لا يمكن أن ينتهي، إذا تصفّحنا كتاب التاريخ، إلاَّ بهزيمة إحدى القوتين المتصارعتين، قد يهدأ الصراع حيناً، كما جرى في الحروب الصليبية، لالتقاط الأنفاس وإعادة النظر في المخططات. وقد تتخللّه هدنات ونكسات، وقد يتنكّر له بعض المسؤولين العرب فيتخاذلون وينسحبون من دائرة الصراع. ولكن جذوة الصراع ستبقى ملتهبة ما دام هناك كيان عنصري غريب في أرضنا يهدد وجودنا الحضاري بالخطر، وما دام هناك عربي واحد قادر على التصدّي ومؤمن بحق أمته في العيش بكرامة.
يستسهل البعض بسذاجة عملية الاعتراف والصلح مع الكيان الصهيوني، ويعتبرها مسألة شكلية وموقتة باستطاعة العرب أن يتجاهلوها ويتعايشوا معها إلى أن يصبحوا قادرين على إزالة إسرائيل من الوجود.
إن هذا التفكير مجرد وهم خادع، أولاً لأن إصرارنا حتى الآن على رفض الاعتراف بإسرائيل هو العنصر الشرعي والقانوني والمعنوي الوحيد المتبقي لنا للدفاع عن حقنا والكفاح من أجله. وثانياً لأن توقيع معاهدة صلح مع إسرائيل سيُسفر عن ظهور وثيقة دولية مكتوبة تطلع عليها دول العالم. وهذه الدول ليست على استعداد في المستقبل لتقبّل مبرّراتنا إذا ما عنّ لنا أن نُخلّ بالتزاماتنا الدولية. ثم أنه ليس من الشهامة والفروسية في شيء أن نعترف اليوم بحق إسرائيل في الوجود بيننا وفوق أرضنا ثم نتنكّر غداً لهذا الاعتراف، معلنين ندمنا على ما بدر منًا.
إن أجدادنا مروا بظروف مشابهة، ولكنهم لم يفرطوا في حق ولم يتخاذلوا أمام الصعاب. لقد اضطروا أحياناً إلى الجلاء عن أرضٍ، ولكنهم لم يفكروا أبداً في توقيع وثيقة رسمية تُثبت تنازلهم عن حقهم في الأرض. والمؤرخون يروون عن آخر الملوك العرب في الأندلس أنه، بعد هزيمته واستسلامه، رفض التوقيع على وثيقة يعلن بموجبها تخلّي سلالته العربية عن كلّ حق لها في هذه البلاد. لقد أبى، في الحقيقة، أن يتنازل عن حق ليس من صلاحياته التصرف به. ولعل فكرة الاحتكام إلى الأجيال القادمة والاعتماد عليها في استرداد ما قصرّ جيله في الاحتفاظ به هي التي خامرته عندما فضّل عدم إلزام بني قومه بوثيقة مصيريّة ترهن مستقبلهم.
ومن ناحية ثانية، وكما كتب المرحوم الدكتور هشام شرابي، فإن «مصير الشعوب لا تقرره العلاقات وموازين القوى الآنية، بل القوى الموضوعية وجدلية التاريخ على مراحل زمنية معيّنة. إن حجم إسرائيل في حقيقته الموضوعية أصغر بكثير ممَّا يبدو في هذه اللحظة العابرة. وما يحدّد هذا الحجم ليس العلاقات الخارجية، ولا التقنيّة المتفوقة مؤقتاً، بل الموارد البشرية والمادية والمحيط الذي توجد فيه».

... والمواضيع التي تطرق إليها الزميل الكريم في المجلدين من كتابه أكثر وأشمل من المسائل التي اخترناها وألقينا نظرة عجلى عليها. ولا يسعنا، بعد الإطلاع على الكتاب، إلاَّ أن نُثني على الجهود الحميدة التي بذلها من أجل إعداد كتاب يشتمل، ولو باختصار أحياناً، على التطور السياسي الذي مرَّ به الوطن العربي. وعلى القضايا العربية المعاصرة والملحة التي تؤرق جفون العرب وتهدد وجودهم ومستقبلهم بالخطر في حال تهاونوا أو قصّروا في إيجاد الحلول الحاسمة والعادلة.
ومرة أخرى نُوجّه إلى زميلنا تحية إكبار لحرصه الدائم على معالجة القضايا العربية والدولية بموضوعية وتجرّد، وبأسلوب يتّسم بالمرونة والبساطة. وكل ذلك من أجل تقديم معلومات، واستخراج عبر، وخدمة قضايا الوطن، والدفاع عن الحقوق والحريات في كل بلد. ورجاؤنا أن يستمر في هذا النهج القويم والسليم لإغناء المكتبة العربية بالمزيد من الدراسات الفكرية المفيدة.
محمد المجذوب
بيروت في 11/11/2011