16‏/07‏/2013

تفخيخ المجتمعات العربية بعد تفجير انظمتها


تفخيخ المجتمعات العربية بعد تفجير انظمتها
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 13/7/2013
         بسحر ساحر حكمت معظم الانظمة العربية شعوبها عقودا طويلة دون ظهور تهديد حقيقي لإزالتها. وعلى الرغم من وجود ظروف ذاتية كثيرة تنذر بحراك ضدها، ظهرت فجأة الموجة الاولى من الحراك فأسقطت انظمة كانت تصنف حديدية بتركيبتها الداخلية وتحالفاتها الخارجية.ومفارقة هذا السقوط المريع انه انتشر كالنار في الهشيم، فلم يستهلك وقتا ولم يستنزف قوى اجتماعية كما هو متعارف عليه في علم الثورات أو التغيير أو غيره من المصطلحات
        لكن الأغرب من كل ذلك، ان الاستنزاف حدث بعد التغيير واستهلك طاقات وقوى اكثر مما هو متوقع مقارنة بتجارب كثيرة في غير مكان وزمان في العديد من دول العالم التي مرت بمثل تلك التجارب. فما هي الاسباب وما هي التداعيات ؟ والى أين المآلات في خضم هذا الكم الهائل من الضغوط الداخلية والخارجية على المجتمعات العربية.
       فبعيدا عن نظرية المؤامرات التي نجيد نحن العرب التفنن في التنظير لها، ثمة اسئلة محيرة اضافية عن هذا المنحى الذي مشت فيه حراك المجتمعات العربية. لقد بدأت في تونس فليبيا وسوريا بعد مصر والعراق واليمن ، وكان لبنان السبّاق في ذلك في العام 2005 ولو بصور وأشكال مختلفة ، رافقه في ذلك العديد من الحراكات الخجولة في غير بلد عربي. وما يجمع بينها جميعا حجم الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي دفعتها حتى الآن دون مقابل يذكر.
        انظمة منهارة فُرغت من سلطاتها ومؤسساتها، مئات آلاف القتلى والجرحى، وبالتأكيد مئات المليارات من الدولارات خسائر مباشرة وغير مباشرة،باختصار امة عربية تنتظر قدرها دون التمكن من رده، فماذا بقي الآن من الموجة الاولى؟.  وماذا  ينتظر من الموجة الثانية ؟.
       لقد ادخل حكم الاخوان مصر وأخواتها في نفق مظلم، بشعارات عناوينها الدفاع عن مكتسبات الحكم والسلطة التي ذاقوا طعمها، وبأدوات ووسائل الانقسام المجتمعي الحاد في غير مجتمع عربي. وسط غياب تام للأحزاب السياسية الوازنة وضمور عقائدها وبرامجها ، وفي وقت كثرت وتمددت فيه الاحزاب والحركات الدينية والمذهبية، كل ذلك مترافقا مع تبرم اجتماعي وسياسي لا مثيل له في تاريخ الامة العربية حتى ابان الحكم العثماني وما تلاه من انتداب. باختصار مجتمعات تأكل نفسها دون رادع أو وازع وفي ظروف تُحلل فيه الكبائر كما الصغائر.
       ثمة اشارات واضحة جدا على تفخيخ المجتمعات العربية بمظاهر شديدة الانتشار والتأثير في بيئاتها،كما سرعة استنساخ الوسائل والأدوات التي تعزز الانقسام وتحفز الاقتتال. تحريض طائفي ومذهبي لم يسلم منه مجتمع بدءا بلبنان وسوريا ومصر والعراق ولا يكاد يخلو بلد إلا وبليَّ به. ناهيك عن تحفيز الحس والشعور القبلي،مرورا بتظهير مشكلات الاقليات القومية والعرقية المنتشرة في معظم الدول العربية.
         والأخطر من كل ذلك أيضا تعميم الصور النمطية التي تمارسها معظم الميليشات المتناحرة أو المتصادمة مع الأنظمة، فصور الذبح بعد التكبير، ونمط القاء الناس من سطوح الابنية العالية، مرورا باختطاف رجال الدين وقتلهم ، قد تم استنساخها من الساحة السورية وبدأت تظهر بقوة في الساحة المصرية. ناهيك عن تفريغ القوى الامنية والعسكرية من مهامها ونقلها من حالة الامن بالتراضي إلى الامن بالتراخي كما حدث في لبنان وتتجه اليه مصر حاليا ، وصولا إلى اسلوب الرسائل الملغمة بالسيارات التي اشتهر فيها العراق وبدأ فيها لبنان بعد تعميمها في سوريا. باختصار وسائل وأدوات  تعمم هنا وهناك في مجتمعات تحتضن جميع اسباب الانفجار وصولا إلى التقاتل وحتى التذابح.
        اليوم تمضي المجتمعات العربية بخطى متسارعة نحو الانتحار الجماعي، وفي ذاكرتها الجماعية وعقلها الباطني انها سائرة نحو التغيير.ثمة تخمة فائضة بأسباب وخلفيات التدافع نحو عسكرة العقل العربي وإقناعه بأن آماله لن تتحقق إلا بالقضاء على الخصم الآخر. فإما الكل لي أو لا شيء للآخر. انها معضلة العقل والتفكير والسلوك المجتمعي الذي بات جزءا  من سلوك معتاد في المجتمع العربي.
         لا شك ان مثل تلك الصور النمطية تنذر بتداعيات خطرة ليس على مستوى المجتمعات ، بل أيضا على الأمة وتراثها وحضارتها التي تمثّل الغير بها وتمكن من الوصول إلى بناء دول عصرية قادرة على استيعاب الجميع. اننا فعلا بحاجة إلى معجزة يبدو أنها لن تتحقق قريبا، في ظل تفخيخ مجتمعاتنا بأدوات ووسائل من الصعب تفكيكها قبل ان تتفكك هي نفسها!